• If this is your first visit, be sure to check out the FAQ by clicking the link above. You may have to register before you can post: click the register link above to proceed. To start viewing messages, select the forum that you want to visit from the selection below.

Announcement

Collapse

قوانين المنتدى " التعديل الاخير 17/03/2018 "

فيكم تضلو على تواصل معنا عن طريق اللينك: www.ch-g.org

قواعد المنتدى:
التسجيل في هذا المنتدى مجاني , نحن نصر على إلتزامك بالقواعد والسياسات المفصلة أدناه.
إن مشرفي وإداريي منتدى الشباب المسيحي - سوريا بالرغم من محاولتهم منع جميع المشاركات المخالفة ، فإنه ليس بوسعهم استعراض جميع المشاركات.
وجميع المواضيع تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا يتحمل أي من إدارة منتدى الشباب المسيحي - سوريا أي مسؤولية عن مضامين المشاركات.
عند التسجيل بالمنتدى فإنك بحكم الموافق على عدم نشر أي مشاركة تخالف قوانين المنتدى فإن هذه القوانين وضعت لراحتكم ولصالح المنتدى، فمالكي منتدى الشباب المسيحي - سوريا لديهم حق حذف ، أو مسح ، أو تعديل ، أو إغلاق أي موضوع لأي سبب يرونه، وليسوا ملزمين بإعلانه على العام فلا يحق لك الملاحقة القانونية أو المسائلة القضائية.


المواضيع:
- تجنب استخدام حجم خط كبير (أكبر من 4) او صغير (أصغر من 2) او اختيار نوع خط رديء (سيء للقراءة).
- يمنع وضع عدد كبير من المواضيع بنفس القسم بفترة زمنية قصيرة.
- التأكد من ان الموضوع غير موجود مسبقا قبل اعتماده بالقسم و هالشي عن طريق محرك بحث المنتدى او عن طريق محرك بحث Google الخاص بالمنتدى والموجود بأسفل كل صفحة و التأكد من القسم المناسب للموضوع.
- إحترم قوانين الملكية الفكرية للأعضاء والمواقع و ذكر المصدر بنهاية الموضوع.
- مو المهم وضع 100 موضوع باليوم و انما المهم اعتماد مواضيع ذات قيمة و تجذب بقية الاعضاء و الابتعاد عن مواضيع العاب العد متل "اللي بيوصل للرقم 10 بياخد بوسة" لأنو مخالفة و رح تنحزف.
- ممنوع وضع الاعلانات التجارية من دون موافقة الادارة "خارج قسم الاعلانات".
- ممنوع وضع روابط دعائية لمواقع تانية كمان من دون موافقة الادارة "خارج قسم الاعلانات".
- لما بتشوفو موضوع بغير قسمو او فيو شي مو منيح او شي مو طبيعي , لا تردو عالموضوع او تحاورو صاحب الموضوع او تقتبسو شي من الموضوع لأنو رح يتعدل او ينحزف و انما كبسو على "التقرير بمشاركة سيئة" و نحن منتصرف.
- لما بتشوفو موضوع بقسم الشكاوي و الاقتراحات لا تردو على الموضوع الا اذا كنتو واثقين من انكم بتعرفو الحل "اذا كان الموضوع عبارة عن استفسار" , اما اذا كان الموضوع "شكوى" مافي داعي تردو لأنو ممكن تعبرو عن وجهة نظركم اللي ممكن تكون مختلفة عن توجه المنتدى مشان هيك نحن منرد.
- ممنوع وضع برامج الاختراق او المساعدة بعمليات السرقة وبشكل عام الـ "Hacking Programs".
- ممنوع طرح مواضيع او مشاركات مخالفة للكتاب المقدس " الانجيل " وبمعنى تاني مخالفة للايمان المسيحي.
- ممنوع طرح مواضيع او مشاركات تمس الطوائف المسيحية بأي شكل من الاشكال "مدح او ذم" والابتعاد بشكل كامل عن فتح اي نقاش يحمل صبغة طائفية.
- ضمن منتدى " تعرفون الحق و الحق يحرركم " بالامكان طرح الاسئلة بصيغة السؤال والجواب فقط ويمنع فتح باب النقاش والحوار بما يؤدي لمهاترات وافتراض اجوبة مسبقة.


عناوين المواضيع:
- عنوان الموضوع لازم يعبر عن محتوى الموضوع و يفي بالمحتوى و ما لازم يكون متل هيك "الكل يفوت , تعوا بسرعة , جديد جديد , صور حلوة , الخ ....".
- لازم العنوان يكون مكتوب بطريقة واضحة بدون اي اضافات او حركات متل "(((((((((العنوان)))))))))))) , $$$$$$$$$ العنوان $$$$$$$$$".
- عنوان الموضوع ما لازم يحتوي على اي مدات متل "الــعــنـــوان" و انما لازم يكون هيك "العنوان".


المشاركات:
- ممنوع تغيير مسار الموضوع لما بكون موضوع جدي من نقاش او حوار.
- ممنوع فتح احاديث جانبية ضمن المواضيع وانما هالشي بتم عالبرايفت او بالدردشة.
- ممنوع استخدام الفاظ سوقية من سب او شتم او تجريح او اي الفاظ خارجة عن الزوق العام.
- ممنوع المساس بالرموز و الشخصيات الدينية او السياسية او العقائدية.
- استخدام زر "thanks" باسفل الموضوع اذا كنتو بدكم تكتبو بالمشاركة كلمة شكر فقط.
- لما بتشوفو مشاركة سيئة او مكررة او مو بمحلها او فيا شي مو منيح , لا تردو عليها او تحاورو صاحب المشاركة او تقتبسو من المشاركة لأنو رح تنحزف او تتعدل , وانما كبسو على "التقرير بمشاركة سيئة" و نحن منتصرف.


العضوية:
- ممنوع استخدام اكتر من عضوية "ممنوع التسجيل بأكتر من اسم".
- ممنوع اضافة حركات او رموز لاسم العضوية متل " # , $ , () " و انما يجب استخدام حروف اللغة الانكليزية فقط.
- ممنوع اضافة المدات لاسم العضوية "الـعـضـويـة" و انما لازم تكون بهل شكل "العضوية".
- ممنوع استخدام اسماء عضويات تحتوي على الفاظ سوقية او الفاظ بزيئة.
- ممنوع وضع صورة رمزية او صورة ملف شخصي او صور الالبوم خادشة للحياء او الزوق العام.
- التواقيع لازم تكون باللغة العربية او الانكليزية حصرا و يمنع وضع اي عبارة بلغة اخرى.
- ما لازم يحتوي التوقيع على خطوط كتيرة او فواصل او المبالغة بحجم خط التوقيع و السمايليات او المبالغة بمقدار الانتقال الشاقولي في التوقيع "يعني عدم ترك سطور فاضية بالتوقيع و عدم تجاوز 5 سطور بحجم خط 3".
- ما لازم يحتوي التوقيع على لينكات "روابط " دعائية , او لمواقع تانية او لينك لصورة او موضوع بمنتدى اخر او ايميل او اي نوع من اللينكات , ما عدا لينكات مواضيع المنتدى.
- تعبئة كامل حقول الملف الشخصي و هالشي بساعد بقية الاعضاء على معرفة بعض اكتر و التقرب من بعض اكتر "ما لم يكن هناك سبب وجيه لمنع ذلك".
- فيكم تطلبو تغيير اسم العضوية لمرة واحدة فقط وبعد ستة اشهر على تسجيلكم بالمنتدى , او يكون صار عندكم 1000 مشاركة , ومن شروط تغيير الاسم انو ما يكون مخالف لشروط التسجيل "قوانين المنتدى" و انو الاسم الجديد ما يكون مأخود من قبل عضو تاني , و انو تحطو بتوقيعكم لمدة اسبوع على الاقل "فلان سابقا".
- يمنع انتحال شخصيات الآخرين أو مناصبهم من خلال الأسماء أو الصور الرمزية أو الصور الشخصية أو ضمن محتوى التوقيع أو عن طريق الرسائل الخاصة فهذا يعتبر وسيلة من وسائل الإحتيال.


الرسائل الخاصة:
الرسائل الخاصة مراقبة مع احترام خصوصيتا وذلك بعدم نشرها على العام في حال وصلكم رسالة خاصة سيئة فيكم تكبسو على زر "تقرير برسالة خاصة" ولا يتم طرح الشكوى عالعام "متل انو توصلكم رسالة خاصة تحتوي على روابط دعائية لمنتجات او مواقع او منتديات او بتحتوي على الفاظ نابية من سب او شتم او تجريح".
لما بتوصلكم رسائل خاصة مزعجة و انما ما فيها لا سب ولا شتم ولا تجريح ولا روابط دعائية و انما عم يدايقكم شي عضو من كترة رسائلو الخاصة فيكم تحطو العضو على قائمة التجاهل و هيك ما بتوصل اي رسالة خاصة من هالعضو.
و تزكرو انو الهدف من الرسائل الخاصة هو تسهيل عملية التواصل بين الاعضاء.


السياسة:
عدم التطرق إلى سياسة الدولة الخارجية أو الداخلية أو حتى المساس بسياسات الدول الصديقة فالموقع لا يمت للسياسة بصلة ويرجى التفرقة بين سياسات الدول وسياسات الأفراد والمجتمعات وعدم التجريح أو المساس بها فالمنتدى ليس حكر على فئة معينة بل يستقبل فئات عدة.
عدم اعتماد مواضيع أو مشاركات تهدف لزعزعة سياسة الجمهورية العربية السورية أو تحاول أن تضعف الشعور القومي أو تنتقص من هيبة الدولة ومكانتها أو أن يساهم بشكل مباشر أو غير مباشر بزعزعة الأمن والاستقرار في الجمهورية العربية السورية فيحق للادارة حذف الموضوع مع ايقاف عضوية صاحب الموضوع.


المخالفات:
بسبب تنوع المخالفات و عدم امكانية حصر هالمخالفات بجدول محدد , منتبع اسلوب مخالفات بما يراه المشرف مناسب من عدد نقط و مدة المخالفة بيتراوح عدد النقط بين 1-100 نقطة , لما توصلو لل 100 بتم الحظر الاوتوماتيكي للعضو ممكن تاخدو تنبيه بـ 5 نقط مثلا على شي مخالفة , و ممكن تاخد 25 نقطة على نفس المخالفة و ممكن يوصلو لل 50 نقطة كمان و هالشي بيرجع لعدد تكرارك للمخالفة او غير مخالفة خلال فترة زمنية قصيرة.
عند تلقيك مخالفة بيظهر تحت عدد المشاركات خانة جديدة " المخالفات :" و بيوصلك رسالة خاصة عن سبب المخالفة و عدد النقط و المدة طبعا هالشي بيظهر عندكم فقط.


الهدف:
- أسرة شبابية سورية وعربية مسيحية ملؤها المحبة.
- توعية وتثقيف الشباب المسيحي.
- مناقشة مشاكل وهموم وأفكار شبابنا السوري العربي المسيحي.
- نشر التعاليم المسيحية الصحيحة وعدم الإنحياز بشكل مذهبي نحو طائفة معينة بغية النقد السيء فقط.
في بعض الأحيان كان من الممكن أن ينحني عن مسار أهدافه ليكون مشابه لغيره من المنتديات فكان العمل على عدم جعله منتدى ديني متخصص كحوار بين الطوائف , فنتيجة التجربة وعلى عدة مواقع تبين وبالشكل الأكبر عدم المنفعة المرجوة بهذا الفكر والمنحى , نعم قد نشير ونوضح لكن بغية ورغبة الفائدة لنا جميعا وبتعاون الجميع وليس بغية بدء محاورات كانت تنتهي دوما بالتجريح ومن الطرفين فضبط النفس صعب بهذه المواقف.



رح نكتب شوية ملاحظات عامة يا ريت الكل يتقيد فيها:
• ابحث عن المنتدى المناسب لك و تصفح أقسامه ومواضيعه جيداً واستوعب مضمونه وهدفه قبل ان تبادر بالمشاركة به , فهناك الكثير من المنتديات غير اللائقة على الإنترنت .وهناك منتديات متخصصة بمجالات معينة قد لا تناسبك وهناك منتديات خاصة بأناس محددين.
• إقرأ شروط التسجيل والمشاركة في المنتدى قبل التسجيل به واستوعبها جيدأ واحترمها و اتبعها حتى لا تخل بها فتقع في مشاكل مع الأعضاء ومشرفي المنتديات.
• اختر اسم مستعار يليق بك وبصفاتك الشخصية ويحمل معاني إيجابية ، وابتعد عن الأسماء السيئة والمفردات البذيئة ، فأنت في المنتدى تمثل نفسك وأخلاقك وثقافتك وبلدك ، كما أن الاسم المستعار يعطي صفاته ودلالته لصاحبه مع الوقت حيث يتأثر الإنسان به بشكل غير مباشر ودون ان يدرك ذلك.
• استخدم رمز لشخصيتك " وهو الصورة المستخدمة تحت الاسم المستعار في المنتدى " يليق بك و يعبر عن شخصيتك واحرص على ان يكون أبعاده مناسبة.
• عند اختيارك لتوقيعك احرص على اختصاره ، وأن يكون مضمونه مناسباً لشخصيتك وثقافتك.
• استخدم اللغة العربية الفصحى وابتعد عن اللهجات المحكية " اللهجة السورية مستثناة لكثرة المسلسلات السورية " لانها قد تكون مفهومة لبعض الجنسيات وغير مفهومة لجنسيات أخرى كما قد تكون لكلمة في لهجتك المحكية معنى عادي ولها معنى منافي للأخلاق أو مسيء لجنسية أخرى . كذلك فإن استخدامك للغة العربية الفصحى يسمح لزوار المنتدى وأعضائه بالعثور على المعلومات باستخدام ميزة البحث.
• استخدم المصحح اللغوي وراعي قواعد اللغة عند كتابتك في المنتديات حتى تظهر بالمظهر اللائق التي تتمناه.
• أعطي انطباع جيد عن نفسك .. فكن مهذباً لبقاً واختر كلماتك بحكمة.
• لا تكتب في المنتديات أي معلومات شخصية عنك أو عن أسرتك ، فالمنتديات مفتوحة وقد يطلع عليها الغرباء.
• أظهر مشاعرك وعواطفك باستخدام ايقونات التعبير عن المشاعر Emotion Icon's عند كتابة مواضيعك وردودك يجب ان توضح مشاعرك أثناء كتابتها ، هل سيرسلها مرحة بقصد الضحك ؟ او جادة أو حزينه ؟ فعليك توضيح مشاعرك باستخدام Emotion Icon's ،لأنك عندما تتكلم في الواقع مع احد وجها لوجه فانه يرى تعابير وجهك وحركة جسمك ويسمع نبرة صوتك فيعرف ما تقصد ان كنت تتحدث معه على سبيل المزاح أم الجد. لكن لا تفرط في استخدام أيقونات المشاعر و الخطوط الملونة و المتغيرة الحجم ، فما زاد عن حده نقص.
• إن ما تكتبه في المنتديات يبقى ما بقي الموقع على الإنترنت ، فاحرص على كل كلمة تكتبها ، فمن الممكن ان يراها معارفك وأصدقائك وأساتذتك حتى وبعد مرور فترات زمنية طويلة.
• حاول اختصار رسالتك قدر الإمكان :بحيث تكون قصيرة و مختصرة ومباشرة وواضحة وفي صلب مضمون قسم المنتدى.
• كن عالمياً : واعلم أن هناك مستخدمين للإنترنت يستخدمون برامج تصفح مختلفة وكذلك برامج بريد الكتروني متعددة ، لذا عليك ألا تستخدم خطوط غريبة بل استخدم الخطوط المعتاد استخدامها ، لأنه قد لا يتمكن القراء من قراءتها فتظهر لهم برموز وحروف غريبة.
• قم بتقديم ردود الشكر والتقدير لكل من أضاف رداً على موضوعك وأجب على أسئلتهم وتجاوب معهم بسعة صدر وترحيب.
• استخدم ميزة البحث في المنتديات لمحاولة الحصول على الإجابة قبل السؤال عن أمر معين أو طلب المساعدة من بقية الأعضاء حتى لا تكرر الأسئلة والاستفسارات والاقتراحات التى تم الإجابة عنها قبل ذلك.
• تأكد من أنك تطرح الموضوع في المنتدى المخصص له: حيث تقسم المنتديات عادة إلى عدة منتديات تشمل جميع الموضوعات التي يمكن طرحها ومناقشتها هنا، وهذا من شأنه أن يرفع من كفاءة المنتديات ويسهل عملية تصنيف وتبويب الموضوعات، ويفضل قراءة الوصف العام لكل منتدى تحت اسمه في فهرس المنتديات للتأكد من أن مشاركتك تأخذ مكانها الصحيح.
• استخدم عنوان مناسب ومميِّز لمشاركتك في حقل الموضوع. يفضل عدم استخدام عبارات عامة مثل "يرجى المساعدة" أو "طلب عاجل" أو "أنا في ورطة" الخ، ويكون ذلك بكتابة عناوين مميِّزة للموضوعات مثل "كيف استخدم أمر كذا في برنامج كذا" أو "تصدير ملفات كذا إلى كذا".
• إحترم قوانين الملكية الفكرية للأعضاء والمواقع والشركات، وعليك أن تذكر في نهاية مشاركتك عبارة "منقول عن..." إذا قمت بنقل خبر أو مشاركة معينة من أحد المواقع أو المجلات أو المنتديات المنتشرة على الإنترنت.
• إن أغلب المنتديات تكون موجهه لجمهور عام ولمناقشة قضايا تثقيفية وتعليمية . لذلك يجب ان تكون مشاركتك بطريقة تحترم مشاعر الآخرين وعدم الهجوم في النقاشات والحوارات. وأي نشر لصور أو نصوص أو وصلات مسيئة، خادشة للحياء أو خارج سياق النهج العام للموقع.
• المنتدى لم يوجد من أجل نشر الإعلانات لذا يجب عدم نشر الإعلانات أو الوصلات التي تشير إلى مواقع إعلانية لأي منتج دون إذن او إشارة إلى موقعك أو مدونتك إذا كنت تمتلك ذلك.
• عدم نشر أي مواد أو وصلات لبرامج تعرض أمن الموقع أو أمن أجهزة الأعضاء الآخرين لخطر الفيروسات أو الدودات أو أحصنة طروادة.
•ليس المهم أن تشارك بألف موضوع فى المنتدى لكن المهم أن تشارك بموضوع يقرأه الألوف،فالعبرة بالنوع وليس بالكم.
• عدم الإساءة إلى الأديان أو للشخصيات الدينية.
•عند رغبتك بإضافة صور لموضوعك في المنتدى ، احرص على ألا يكون حجمها كبير حتى لا تستغرق وقتاً طويلاً لتحميلها وأن تكون في سياق الموضوع لا خارجه عنه.
•الالتزام بالموضوع في الردود بحيث يكون النقاش في حدود الموضوع المطروح لا الشخص، وعدم التفرع لغيره أو الخروج عنه أو الدخول في موضوعات أخرى حتى لا يخرج النقاش عن طوره.
• البعد عن الجدال العقيم والحوار الغير مجدي والإساءة إلى أي من المشاركين ، والردود التي تخل بأصول اللياقة والاحترام.
• احترم الرأي الآخر وقدر الخلاف في الرأي بين البشر واتبع آداب الخلاف وتقبله، وأن الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية.
• التروي وعدم الاستعجال في الردود ، وعدم إلقاء الأقوال على عواهلها ودون تثبت، وأن تكون التعليقات بعد تفكير وتأمل في مضمون المداخله، فضلاً عن التراجع عن الخطأ؛ فالرجوع إلى الحق فضيلة. علاوة على حسن الاستماع لأقوال الطرف الآخر ، وتفهمها تفهما صحيحا.
• إياك و تجريح الجماعات أو الأفراد أو الهيئات أو الطعن فيهم شخصياً أو مهنياً أو أخلاقياً، أو استخدام أي وسيلة من وسائل التخويف أو التهديد او الردع ضد أي شخص بأي شكل من الأشكال.
• يمنع انتحال شخصيات الآخرين أو مناصبهم من خلال الأسماء أو الصور الرمزية أو الصور الشخصية أو ضمن محتوى التوقيع أو عن طريق الرسائل الخاصة فهذا يعتبر وسيلة من وسائل الإحتيال.
• إذا لاحظت وجود خلل في صفحة أو رابط ما أو إساءة من أحد الأعضاء فيجب إخطار مدير الموقع أو المشرف المختص على الفور لأخذ التدابير اللازمة وذلك بإرسال رسالة خاصة له.
• فريق الإشراف يعمل على مراقبة المواضيع وتطوير الموقع بشكل يومي، لذا يجب على المشاركين عدم التصرف "كمشرفين" في حال ملاحظتهم لخلل أو إساءة في الموقع وتنبيه أحد أعضاء فريق الإشراف فوراً.
See more
See less

قصة الحضارة (ول ديورانت)

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • #21
    رد: قصة الحضارة (ول ديورانت)


    3- النحت


    خاض النحت في تلك الحقبة معركة مريرة في محاولة للاعتراف به فناً هاماً كبيراً. وكانت مهمته قد اقتصرت لعهد طويل على أن تكون زخرفية أو تزيينية. وفي عهد لويس الرابع عشر أقيمت التماثيل لتضفي زينة وبهاء على القصور الفخمة والحدائق الشاسعة. أما الآن فقد قل الاهتمام بالنحت لأن الولع بالبناء قد استنفد أغراضه كما استنزف فرنسا، وقبع الأغنياء في مبان أصغر حجماً، ولم تجد التماثيل الضخمة لها مكاناً في قاعات الاستقبال أو النوم. وشكا المثالون من ان الأكاديمية الملكية للرسم والنحت منحت معظم جوائزها للرسامين. واقترح بيجال أن يكون هناك مثال ملكي على غرار الرسام أو المصور الملكي، وأيد بشخصه حملة طائفة سان ميشيل لكسر التقليد الذي جرى عليه العمل وهو تكريم الرسامين وحدهم بمثل هذه المهمة. وانصرف المثالون على كره منهم إلى زخرفة البيوت بقطع صغيرة وبالزهريات والنقوش البارزة، وسعوا إلى منافسة رسامي الأشخاص بأن يشكلوا الجسم الفاني في صورة خداعة من البرونز أو الحجر الذي لا يبلى، ما داموا يتقاضون الأجر. ولما تهيأ لبعض هؤلاء المثالين مزيد

    من الفرص للعمل اختاروا طراز الروكوكو الرشيق الطبيعي اللعوب المرح على حين ظلوا يحبذون وقار الخطوط الكلاسيكية.
    وكما هو الحال مع الرسامين والحرفيين مال فن النحت إلى أن ينموا في أسرات بعينها. وساعد نيقولا كوستو أستاذه أنطوان كويسيفوكس في تزيين القصور الملكية في مارلي وفرساي، وصمم الشخصيات العظيمة، رامزاً إلى أنهار فرنسا، وهي الآن في البلدية دار البلدية في ليون. ولا يزال تمثاله "النزول من الصليب" في كنيسة نوتردام دي باريس، و "الراعي الصياد" واحداً من اثنا عشر تمثالاً رائعاً تغالب الزمن والجو في حدائق التويللري. ونحت غليوم كوستو الأول الأخ الأصغر لنقولا، تمثالاً من المرمر لماري لزكز نسكا، مثل تمثال جونو(4) (زوجة جوبيتر في الأساطير الرومانية) كما نحت تمثال "جياد مارلي" القوية (1740-1745) لذلك القصر أساساً، ولكنها الآن متمردة على اللجام في المدخلين الغربي والشرقي لقصر الكونكورد. أما ابنه غليوم كوستو الثاني، فقد حفر للدوفين مقبرة في كاتدرائية سنس.
    وأنجبت مدينة نانسي أسرة أخرى من الفنانين فورث جاكوب سجسبرت آدم أبناءه الثلاثة النحت والعمارة، وقضى لمبرت سجسبرت آدم عشر سنوات في الدرس والتحصيل في روما، عاد بعدها إلى باريس، حيث تعاون مع أخيه الأصغر نقولا سباستيان في إقامة نافورة "نبتيون وامفتريت" (إله وإلهة البحر) ف يحدائق فرساي ثم قصد إلى بوتسدام حيث حفر لفردريك الأكبر-هدية من لويس الخامس عشر-مجموعتين من الرخام-صيد الحيوان وصيد السمك-لقصر سان سوسي. ثم رجع نقولا سباستيان إلى نانسي وشاد مقبرة كثرين أو بالنسكا في كنيسة نوتردام دي بون سيكور، وثمة أخ ثالث، وهو فرانسوا بلتازار جسبار، أسهم في تزيين عاصمة ستانسلاس.
    وهناك أسرة ثالثة من النحاتين بدأت بالمثال فيلبوكافييري الذي غادر لإيطاليا في 1660 ليعمل مع ابنه فرانسوا شارل في خدمة لويس الرابع عشر.
    وثمة ابن آخر هو جاك كافييري الذي بلغ بعبقرية الأسرة إلى الذروة متفوقاً على كل معاصريه في أشغال البرونز. وتنافست القصور الملكية كلها تقريباً في الإفادة من فنه في زمانه. وفي قصر فرساي اشترك مع ابنه فيليب في المدفأة في جناح الدوفين وفي صنع قاعدة برونزية من طراز الروكوكو لساعة الملك الفلكية المشهورة الآن. وتعد التركيبات والسنادات البرونزية التي صنعها للأثاث أثمن وأغلى قيمة من الأثاث نفسه(5).
    وارتضى آدم بوشاردون-الذي أسماه فولتير "فيداس" فرنسا(6) (نحات أغريقي في القرن الخامس ق.م)-ارتضى تماماً كل القواعد الكلاسيكية التي نادى بها راعيه كونت دي كايلوس. وجد لعدة سنين مناناً لتمثال بيجال خيل لهذا الأخير أنه غلب على أمره. وأورد ديدرو ذكر بوشاردون في قوله "لم أدخل قط إلى مرسم (ستوديو) إلا خرجت منه بشعور من القنوط سيطر علي لعدة أسابيع"(7)ورأى ديدرو أن تمثال "الحب-كيوبيد"(8)الذي صنعه بوشاردون مكتوب له الخلود، ولكنه لا يكاد يتلظى بنار الحب، وخير منه النافورة التي أقامها المثال نفسه في شارع جرينل في باريس، وهي تحفة رائعة في جلالها الكلاسيكي وعظمتها وفي 1749 عهدت إليه المدينة بصنع تمثال فارس للملك لويس الخامس عشر، وأكب على العمل فيه لمدة تسع سنين، وصبه في 1758، ولكن لم يمهله القدر ليراه قائماً وطلب إلى السلطات البلدية، وهو على فراش الموت 1762، أن تكل إلى بيجال إكمال المشروع، وهكذا اختتمت المنافسة التي طال أمدها بين هذين المثالين، فيما ينبئ عن الإعجاب والثقة بينهما، ونصب التمثال في ميدان لويس الخامس عشر، ثم جاءت الثورة الفرنسية فحطمته 1792 باعتباره رمزاً بغيضاً.
    ونبذ جان بابتست ليمويين كل القيود والقواعد الكلاسيكية، لأنها تحكم على النحت بالفناء. لماذا لا يعبر الرخام أو البرونز-مثل صور الألوان المائية أو الزيتية عن الحركة والوجدان والضحك والفرح أو الحزن-مما تجرأت التماثيل الهللينية على أن تعبر عنه؟ وبهذه الروح صمم ليمويين
    مقبرتي كاردينال فليري والرسام بيير مينارد لكنيسة سان روش، وكذلك في تمثال مونتسكيو الذي نحته لمدينة بوردو، أبرز المثال المؤلف "روح للقوانين" ساخراً مكتئباً شكاكاً، وسطاً بين سناتور روماني وفيلسوف إقليمي يسخر من أساليب الباريسين في حياتهم. وأصبحت تلك البسمة العابرة هي العلامة المميزة للعديد من التماثيل النصفية التي صنعها ليمويين بأمر من الملك لكثير من رجال فرنسا البارزين. وانتصر هذا الأسلوب التعبيري الممتع على كلاسيكية بوشاردون، وانتقل إلى بيجال وباجو وهودون وفالكونيه في عصر من اعظم عصور النحت في فرنسا.

    bestfriends
    Infinity and eternity

    Comment


    • #22
      رد: قصة الحضارة (ول ديورانت)

      4- الرسم


      كان الرسامون هم أصحاب اليد الطولى بين الفنانين آنذاك. وعكست سيطرة بوشيه مرة أخرى نفوذ النساء وتأثيرهن على الفنون، وأحست مركيزة بمبادور أن الرسامين قد أضاعوا كثيراً من الوقت مع أبطال الرومان وقديسي المسيحية وآلهة الإغريق، وقد آن الأوان لينظروا إلى فتنة الأحياء من النساء في أبهى حللهن وتورد خدودهن، ويبرزوا بالخطوط والألوان رشاقة العصر التي لم يسبق لها مثيل في تقاطيع الوجوه، وفي الثياب وفي العادات وفي كل الكماليات في حياة الأقلية الثرية. وكانت المرأة يوماً خطيئة، وهي تعلن أنها لا تزال خطيئة، لكن لا شيء إلا أن تكون أكثر إغراء وفتنة. إنها ثأرت لنفسها من تلك القرون المرعبة التي أذلتها فيها الكنيسة ودمغتها بأنها أس البلاء، ومصدر اللعنة. وسمح لها بدخول جنة لا يغشأها إلا الخصيان بفضل عذرية أم الإله فقط. وليس ثمة شيء ينم في جرأة أكبر على اضمحلال الديانة في فرنسا من زحزحة السيدة العذراء عن الفن الفرنسي.
      وحل الملك والأرستقراطية ورجال المال محل الكنيسة في رعاية الفن. وفي باريس أصبحت أكاديمية سان لوك للرسامين منافساً ومستحثاً للأكاديمية الملكية للفنون الجميلة المحافظة المتمسكة بالقديم. وفي الأقاليم نشأت أكاديميات إضافية في ليون ونانسي ومتز ومرسيليا وتولوز وبور وكلبرمنت فراند وبو وديجون وريمس. وفضلاً عن جائزة روما السنوية وضعت اثنتا عشرة مسابقة وجائزة، بعثت في دنيا الفن حركة دائبة واهتياجاً شديداً، وفي بعض الأحيان كان الملك أو غيره من رعاة الفن، يواسون من لم يفوزوا في هذه المسابقات بشراء بعض لوحاتهم أو منحهم بعض المال الذي يكفل لهم الإقامة لبعض الوقت في إيطاليا.
      وعرض الرسامون لوحاتهم في الشوارع، وفي بعض الأعياد الدينية كانوا يثبتونها في الستائر التي تتدلى من نوافذ الأتقياء في الطرق التي يمر بها الموكب الديني. ورغبة في تعويق ما بدا للفنانين المعترف بهم أنه نهج غير ملائم، استأنفت الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة في 1737 وبعد انقطاع ثلاث وثلاثين سنة، إقامة المعرض العام للرسم والنحت المعاصرين في "القاعة المربعة" في متحف اللوفر. وهذا المعرض السنوي أو الذي كان يقام كل عامين بعد 1751 أصبح في أواخر أغسطس وطوال سبتمبر حدثاً مثيراً في الحياة الفنية والاجتماعية في باريس، وفي دنيا الأدب، وجعل الصراع بين المحافظين في الأكاديمية والمتمردين داخلها أو خارجها، من الفن معركة تنافس معارك الحديث عن الجنس بل معارك الحرب الحقيقية في أحاديث الناس في العاصمة. واحتقر أنصار الخطوط البسيطة المحتشمة غير المبالغ في زخرفتها، والتهذيب الذي يعاون على الإصلاح-كما كانوا هم أنفسهم موضع احتقار-أنصار اللون والتجريب والابتكار والحرية. وأصبح النقد الفني عملاً ناجحاً. وكانت "تأملات في فن الرسم" للكونت دي كابوس تقرأ في إسهاب على الملأ في الأكاديمية. وروى جريم أنباء المعارض لقراء رسائله. وتخلى ديدرون عن هجومه على المسيحية ليصبح واحداً من أشد الفنيين معارضة في ذاك العصر. وأثار الحفارون على الخشب والمعادن مثل جاك لي بلون ولورنت كارز الهياج بنشر نسخ مطبوعة من الأعمال المشهورة وتزيين الكتب بالصور، وإنتاج روائع من عملهم هم أنفسهم. وكان لي بلون أول من بدأ الحفر بالألوان في 1720.
      ولم يكسب الفنانون قط من قبل، اللهم إلا في مجال الفنون الدينية، مثل هذا الجمهور المتحمس، أو مثل هذه الرعاية على نطاق واسع. ويأت الرسام الآن يوجه نشاطه إلى العالم بأسره.


      أ - في حجرة الانتظار


      ارتفع عدد كبير من الرسامين إلى قمة المجد في تلك الحقبة، حتى أنه ليشق علينا هنا مجرد ذكرهم، ولسوف نعرض في تفصيل أكثر لبوشيه وشاردان ولاتور، ولكن هناك من قد يزعجهم إغفالنا ذكرهم.
      فهناك الرسام المبرز جان فرنسوا دي تروي، ولكنه كانت تعوزه الحيوية، وكان رسمياً إلى درجة لا يصلح معها أن يكون عظيماً. وأحبه الجميع، ووافق إلى حد مبير على أن يستخدم ملامح وجهه وكأنها ملامح وجه السيد المسيح "آلام المسيح في البستان(9)" ووجد في إغراء السيدات لذة أكثر منها في رسمهن، وترك وراءه كثيراً من القلوب الكسيرة المحطمة والأعمال المشوهة، وزخرف فرنسوا ليمويين (ويجب ألا تخلط بينه وبين المثال جان بابتست) عقد قاعة هركيول في قصر فرساي بنحو 142 شكلاً ضخماً، ونقل إلى تلميذه بوشيه فن إحلال اللون الوردي الذي تؤثره مدام دي بمبادور محل اللون الأسمر المائل للحمرة في لوحات رامبرانت واستبق شارل أنطوان كوبيل، وهو ابن وحفيد لرسامين، شاردان في رسم مشاهد الحياة اليومية وأحداثها، وقد التقينا به رساماً للوصي، وفي 1747 أصبح الرسام الأول للملك لويس الخامس عشر.
      وقد سر فردريك الأكبر باقتناء لوحته "سيدة أمام المرآة" لقصر سان سوسي، ولا يزال اللوفر يعرض لوحته "الحب والأميرة فاتنة الجمال التي أحبها كيوبيد" من نسيج الجوبلان المنقوش، وهي تركيب نفيس من طبيعة بشرية وقماش.
      وحظي جان مارك ناتيير بشعبية ورواج في رسم الأشخاص لأنه عرف، عن طريق الوضعة (كيف يكون وضع المرء أمام الرسام) واللون وحركة الضوء، كيف يخلص الجالسين أمامه من العيوب أو التشويهات التي أصابتهن بفعل الوراثة أو أحداث الحياة، حتى أن كل السيدات اللاتي رسمهن، فيما عدا واحدة، سررن حين وجدن أنفسهن في لوحاته، فاتنات مغريات كما اعتقدن دائماً في أنفسهن. ولوحته "مدام دي بمبادور" معلقة في فرساي، بشعرها الجميل الملون بلون خفيف، وعينيها الوديعتين اللتين لا تكادان تكشفان عن لهفتها على السلطان والسيطرة وتنافس الملوك والملكات على الظفر بالفنان ناتيير. فقد رسم ماري لزكزنسكا سيدة برجوازية تشرع في القيام بنزعة في الريف(10)وأنصف كل الإنصاف جمال أدليد(11) ابنة الملكة. وعندما زار بطرس الأكبر باريس رسم ناتيير لوحتين له ولزوجته القيصرة، ودعاه بطرس للانتقال إلى روسيا فأبى، فما كان من القيصر إلا أن حمل اللوحتين دون أن ينقده أجراً. وأحضر جاك أندريه أفيد المولود في الفلاندروز بعض لوحات فلمنكية واقعية تصور الناس كما هم، ولا بد أن ميرابو الأكبر جزع عندما رأى نفسه كما رآه أفيد فصوره(12). ولكنها على أية حال من أعظم لوحات هذا القرن.

      وعلى كل هؤلاء السادة الجالسين في حجرة الانتظار-حتى على بوشيه وشاردان-نجد جريم وديدرو يؤثران كارل فانلو، وهو سليل أسرة كبيرة من الرسامين تحمل اسم فانلو، نعرف منهم تسعة بأسمائهم. ولد في نيس 1705. واصطحبه معه رفيقه الرسام جان بابتست إلى روما حيث درس بالأزميل والفرشاة معاً. وفي باريس فاز بجائزة روما 1724، ثم قضى في إيطاليا فصلاً دراسياً آخر، عاد بعده إلى فرنسا وأراضي الأكاديمية وأغضب بوشيه، بأتباعه كل القواعد الأكاديمية. وحيث أنه أفزع كل جهده وقضى كل وقته في الاشتغال بفنه، ولم يدخر منه شيئاً ليتعلم القراءة والكتابة والعادات القويمة والحديث المهذب، فإن مدام بمبادور نفرت منه ف شيء من الاشمئزاز(13)بأنه "وحش مزعج" ومع ذلك عهدت إليه برسم (مناقشة إسبانية). ولفترة وجيزة ارتضى مزاج العصر، ورسم سيدات متشحات بأردية ملتصقة بأجسامهن، ولكنه سرعان ما ركن إلى الرزانة والهدوء في حياة أسرية نموذجية، فخوراً بزوجته البارعة المصقولة ولوعاً بابنته كارولين. وفي 1753 اشترك مع بوشيه في زخرفة قاعة المجلس الرائعة في قصر فونتنبلو، وبلغ درجة كبيرة من الشهرة إلى حد أنه عندما اتخذ مقعده في الكوميدي فرانسيز، بعد مرض عضال كاد يودي بحياته، نهض الحاضرون وحيوه وصفقوا له مظهرين بهذه العلاقة الوثيقة بين الفن والأدب في هذا العصر الذي تميز بثقافة عالية.
      وسجل جان بابتست أودري رحلات الصيد الملكية في أعمال النقش والرسم على القماش. واختارته الملكة معلماً لها. وكانت تتولاها الدهشة والعجب حين تراقبه وهو يعمل. وزودت بعض قطعه المنقوشة نساجي القماش بتوجيهات ونماذج ممتازة يهتدون بها في عملهم، وسرعان ما عين أودري مديراً للمصنع الملكي في يوفيه، فلم يجد هناك إلا الفوضى والتدهور، فأعاد تنظيم العمل في حزم وشدة، وأثار همم العمال بحماسته؛ وصمم لهم سلسلة من قطع النسيج المزدان بالرسوم، موضحاً بصور الحيوانات المبهجة قصص لافونتين الخرافية. وهناك أيضاً وضع الرسم التمهيدي للمجموعة الأخاذة من النساء والوحوش المعلقة في اللوفر، في "ديانا دي بورتيير". وتملكت النساجين في الجوبلان الغيرة من النجاح الذي أصابه مصنع بوفيه، فاقنعوا الملك بنقل أودري إلى المصنع القديم، وهناك أفنى نفسه في صراع مرير لحمل النساجين على قبول الألوان التي وضعها. وفي الوقت نفسه أسهم في كل من بوفيه وباريس في تدريب المواهب والقدرات المتشعبة لدى أكثر فناني منتصف القرن في فرنسا امتيازاً وتألقاً، وأكثر من نال منهم تعنيفاً قاسياً.


      ب - بوشيه




      1703 - 1770


      استمع إلى ديدرو وهو يتأمل في لوحات بوشيه العارية: أية ألوان، وأية تشكيلة، وأية وفرة في المواد والفكار! إن هذا الرجل توفر لديه كل شيء إلا يصدق. إن انحطاط الذوق واللون، وأسلوب التركيب، والشخصية والتعبير، كل هذا تبع خطوة بخطوة انحلال الخلق.... وماذا عسى هذا الرجل أن يرسم إلا ما تصوره في خياله؟ وماذا يمكن أن يتخيل رجل يقضي حياته برفقة نساء المدينة؟..... إن هذا الرجل
      لا يمس بفرشاته إلا ليبرز الأرداف والصدور. إنه لا يدرك ما هو الجمال.... فإن الكياسة والأمانة والبراءة والبساطة أصبحت كلها غريبة عليه. إنه لم ير الطبيعة لحظة واحدة قط، وعلى الأقل الطبيعة التي تدخل البهجة على نفسي، وعلى نفسك، مثل طفل كريم المولد، أو امرأة ذات وجدان حي. إنه مجرد من الذوق.... والواقع إنه في تلك اللحظة بعينها، عين الرسام الأول للملك (1765)(14)".
      ويحتمل ألا يكون بوشيه قد اطلع على هذا النقد قط لأنه كان موجهاً إلى قراء جريم الأجانب. فلنلق نحن نظرة على الفنان دون نية مبيتة للحقد عليه أو الإساءة إليه.
      كان بوشيه ابناً صميماً من أبناء باريس. وكان أبوه يشتغل بوضع التصاميم، يملك محلاً بالقرب من اللوفر، ولقن ابنه فرنسوا مبادئ الرسم والنحت، وإذ أظهر الفتى استعداداً وموهبة فقد تتلمذ على النقاش لورنت كارز ثم على الرسام فرنسوا اليمويين. وحيث اشتغل برسم المشاهد للأوبرا، فإنه اجتمع هناك بنفر من الممثلات وبنات الفرقة الموسيقية. وانغمس في مباذل عهد الوصاية، بقدر ما أتاحت له إمكاناته(15)ويروي لنا إنه وقع مرة في حب رومانتيكي مع بائعة فاكهة جميلة اسمها روزيت، وبدا له أنه قد تجسدت فيها البساطة والطهارة معاً، فاتخذ منها نموذجاً للوحة لمريم العذراء، أفرغ فيها كل ما تبقى له من تقوى طفولته وصباه. ولكنه، وهو لم يكمل بعد هذه اللوحة انزلق إلى اتصال جنسي غير شرعي، وحين حاول أن يكملها أفلت من الوحي والإلهام، كما أفلتت من روزيت. ولم يسترجع قط لحظات هذا الخيال الرقيق اللطيف(16).
      وتطورت مهارته ونمت بسرعة تحت إرشاد ليمونيين. وفي هذا المرسم تعلم شيئاً من نزعة كوريجيو إلى الأشكال النسوية ذات التقاطيع الكلاسيكية والرقة الناعمة. وفي قصر لكسمبرج درس اللوحات الزيتية المتألقة على القماش التي كان روينز قد حول فيها الحياة لماري مديتشي إلى ملحمة من اللون "وعظمة الشباب". وفي 1723، وهو في سن العشرين فاز بجائزة رومه التي أهلته للإقامة الكاملة في باريس لمدة ثلاث سنوات، مع راتب قدره 300 جنيه، ثم أربع سنوات في روما. وإنا لنحصل على صورة حياة الطالب في عهد الوصاية إذا علمنا أن رفاق الفائز بهذه الجائزة حملوه على الأكتاف وطافوا به حول ميدان اللوفر.
      وفي 1727 رافق كارل فانلو إلى إيطاليا. ويقول مدير الأكاديمية الملكية الفرنسية في روما وجد "للشاب الصغير المدعو بوشيه.... جحراً صغيراً في غرفة، وأسكنه فيه، وأخشى ألا يزيد حقيقة عن جحر، ولكنه على الأقل سيقيم تحت سقف(17). ولكن لم يكن لزاماً على الشاب المتواضع، كما وصفه المدير، دوماً أن ينام في هذا الجحر، لأنه وجد كثيراً من المضاجع ترحب به في روما. وإنه لمن علاءم تغير الذوق إنه لم يبد ولعاً بأعمال رافاييل أو ميكل أنجيلو، ولكنه عقد أواصر الصداقة مع تيبولو (رسام فينيسي 1696-1770).
      ولما عاد إلى باريس (1731) استمر يوقد الشمعة من طرفيها (يمسك بالعصا من وسطها)، ونادراً ما كان يقنع بشيء إلا المعرفة المباشرة بنماذجه، ومع ذلك وجد فسحة من الوقت ليرسم بعض لوحات رائعة مثل "اغتصاب يوروبا" في الأساطير اليونانية (أميرة فينيقية أحبها زيوس واختطفها) وهي من بين عروضه التي لا تحصى لشكل المرأة. وخيل إليه في 1733 أنه وقع على فينوس نفسها في نموذجه جين بوزو، وعلى الرغم من انه أحس "بأن الزواج لا يلتئم معه"(18)فإنه اتخذ منها زوجة، ولم يرع عهد الزوجية إلا قليلاً. وكالت له هي بنفس الكيل. ومن المحتمل أنها جلست أمامه ليرسم لوحة "رينوو آرميد(19)" التي كسبت له العضوية الكاملة في أكاديمية الفنون الجميلة (1734). وحينذاك عهد إليه لويس الخامس عشر برسم مناظر سارة في حجرة نوم الملكة التي كانت لا تزال تتمتع بحبه، وعند إعادة افتتاح المعرض 1737 اتسعت شهرة الفنان وكثر رعاة فنه. ولم يذق بعد ذلك طعم الفاقة، ولم يعد له منافس.
      وتخصص بوشيه في رسم "العاريات" وحتى زواجه لم يكن قد تريث طويلاً إلا نادراً مع امرأة واحدة ليكشف شيئاً أكثر من بشرتها. ولكنه كان قد وجد أن ذلك المظهر الخارجي ممتع بلا حدود، وبدا أنه عقد العزم على رسمه من كل الأركان والزوايا، وفي كل الأشكال والأوضاع، من الشعر الأشقر الحريري الناعم إلى الأقدام العارية التي لم تنتعل قط. وكان بوشيه هو الروكوكو قلباً وقالباً.
      ولكنه كان أكثر من ذلك. وعلى الرغم من ان النقاد المتأخرين عابوا عمله من الناحية الفنية، فإنه كان بالفعل فناناً حاذقاً في التأليف واللون والخط، على أنه ف بعض الأحيان تعجل في العمل، ولم يعط الفن حقه رغبة في سرعة الحصول على الأجر، وهلل كثير من المعاصرين إعجاباً بروح التأثيرية الثورية في لوحاته وخصوبة خياله والرشاقة البسيطة في خطوطه. وقال ديدرو الذي ناصبه العداء، "لم يعرف أحد قدر ما عرف بوشيه، فن الضوء والظل(20)وكاد أي فرع من الرسم والتصوير ألا يروغ من مهارته. إن هؤلاء الذين لا يعرفون منا إلا بعض لوحاته الزيتية وقطعه المصورة على القماش ليدهشون إذ يعلمون أن "شعبية بوشيه ترجع إلى رسوماته قدر ما ترجع إلى لوحاته الزيتية(21). وكانت رسوماته مادة ثمينة طيلة حياته، وتنافس في الحصول عليها مشاهير جامعي الرسومات. وكانت تشتري لتستخدم مساند أو حوامل، وتعلق في حجرات النوم والجلوس على الجدران، وكانت من عجائب الاقتصاد-نقرة في الخد تعبر عنها نقطة أو بقعة صغيرة وبسمة يطبعها خط، وكل بريق وحفيف التنورات الحريرية ينبثق في إعجاز من قطعة من الطباشير. ومن المحقق أنه ليس من أجل الثروة وحدها، ولكن بفضل العبقرية والخيال المتفجرين فيه، يضيئان عينيه ويقودان يديه، أكب بوشيه على العمل عشر ساعات يومياً في مرسمه، تاركاً بصماته على كل شيء يلمسه تقريباً. وفضلاً عن ألف لوحة، رسم بوشيه المراوح وبيض النعام والخرف والرصائع والستائر والأثاث والمركبات ومناظر المسرح وجدران وسقوف المسارح. وقصدت كل باريس النشيطة لترى الزخرفة التي أعدها خلفية (لباليه نوفير" الأعياد الصينية" 1754. ولم يكن به ميل شديد إلى المناظر الطبيعية، لأنه كان سفير أفروديت إلهة الحب والجمال إلى اللوفر، ومع ذلك احتفظ بشخصياته البشرية في الغابات والحقول، بجوار المياه الفوارة والأطلال الظليلة وتحت السحب البيضاء في السماء الزرقاء، وشمس دافئة تغري بحرارة الدم وتطريها. وربما ظن المرء أن مشاهد الحياة اليومية لا تلائمه، ومع ذلك رسم لوحة "منظر أسرة" وأبرز-وكأنما أراد أن يحرر نفسه من عبودية الجمال-فناء المزرعة وحظيرة الماشية وبرج الحمام، وعربية اليد، والأنقاض في الفناء الخلفي، والحمير ترزح تحت أحمال من الأوعية والآنية التي تحدث قعقعة. واستكمالاً لذخيرته أصبح أعظم مصمم لرسوم النسيج في هذا القرن.
      وفي 1736 دعاه أودري إلى مدينة بوفيه ليضع تصميمات للنساجين هناك حيث بدأ بأربعة عشر رسماً لمناظر قروية إيطالية(22). وقد لاقت هذه الرسوم نجاحاً كبيراً إلى حد أنها نسجت اثنتا عشرة مرة على الأقل قبل وفاته. ثم انتقل إلى موضوع أكثر نموذجية "قصة الأميرة الفاتنة"-خمس استار تعلق على الجدران، شكلتها مدام بوشيه، وهي من التحف الرائعة في فن القرن الثامن عشر. وتوج أعماله بست قطع من النسيج المزدان بالرسوم والنقش أطلق عليها "الحياة الريفية الكريمة"(23) إحداهما وهي "صائد الطير" تمثل حبيبين فاتنين من أروع ما أخرج من حرير والصوف. وشكا النقاد من أنه بسبب أودري وبوشيه أصبح النسيج المزدان بالنقوش أقرب شبهاً باللوجات الزيتية، وأنه فقد خصائصه المميزة. ولم يأبه لويس الخامس عشر بهذا كثيراً، لأنه عندما توفي أودري (1755) رقى بوشيه إلى رئيس مصانع الجوبلان.
      وفي الوقت نفسه حظي الفنان المنتصر الظافر برعاية بمبادور المتقدة حماسة وغيرة. فزخرف لها قصر "المنظر الجميل" وصمم أثاثه. وللمسرح الذي سعت به إلى الترفيه والتسرية عن الملك رسم المناظر وابتكر الملابس ورسم لها عدة لوحات آية في الجمال الأخاذ والرقة يحار الناظرون إليها في الحكم عليها. وإن الاتهام بأن بوشيه لم يصل قط إلى ما وراء الجسد قد سقط الآن وأخرس، فإنه لم يهيئ لنا إن نرى كثيراً من مفاتن جسد العشيقة قدر ما هيأ لنا أن نلمس مناقب الذكاء والرقة التي حببتها إلى الملك، والاهتمام بالثقافة الذي جعل منها معبودة الفلاسفة، والذوق الفني النسوي الرفيع في الثياب الذي أضفى في كل يوم فتنة جديدة على مفاتن الجسد العانية. ويفضل هذه اللوحات ولوحة. الرحلة-لاتور "استطاعت بمبادور تذكير الملك في هدوء بالجمال الذي ولى والفتنة الأرق التي بقيت. وربما استخدمت بمبادور كذلك لوحات بوشيه الحسية الشهوانية في إرضاء رغبة الملك الجنسية القوية. ولا عجب إذن في أنها جعلت من بوشيه صديقاً أثيراً لديها، ووفرت له جناحاً في اللوفر، وتلقت عنه درساً في النقش، وبحثت معه مشروعاته في زخرفة قصورها، والارتقاء بالفنون. ورسم لها (1753) لوحتين من أعظم لوحاته الشروق والغروب"(24)وفي كلتا اللوحتين، بطبيعة الحال، كانت الأشكال البشرية تفوق الشمس بهاء وبريقاً.
      وعمر بوشيه بعد بمبادور، وبعد الحرب الفاجعة مع إنجلترا وفردريك الأكبر، وظلت أحواله في ازدهار إلى سن السابعة والستين حيث وافته المنية. وتكاثر عليه التكليف بعمل اللوحات، وأصبح ثرياً، ولكن لم تقل حماسته وغيرته في العمل عن ذي قبل، وطهر ثروته بالبذل والسخاء. وكان عربيداً محسناً خيراً، لا يكل ولا يمل من الفسق والدعارة ولكنه دائماً أبدا مرح ودود، "لطيف كريم غير متحيز، ينأى بنفسه عن الأحقاد الدنيئة..... به مناعة ضد التلهف الحقير على كسب المال"(25)وكان متعجلاً في عمله إلى حد لم يبلغ معه قمة الامتياز. وأطلق لخياله عنان الحرية إلى درجة لم يلمس معها جوانب الحقيقة والواقع. وأبلغ رينولدز أنه ليس في حاجة إلى نماذج، وأنه يؤثر الرسم من الذاكرة، ولكن ذاكرته جاءت بأشكال مثالية. ولما لم يصوب له الواقع ذاكرته، فإنه بات مهملاً في رسمه مبالغاً في ألوانه. واتهمه جريم وديدرو وآخرون بأنه أخطأ فحسب الظرف واللطف جمالاً، وأنه هبط بجلال الفن إلى مجرد زخرفة سطحية ذات مظهر خداع، وبأنه افسد أخلاق العصر بإعلاء قيمة مفاتن الجسد. وعاب عليه ديدرو واستنكر ابتسامته المتكلفة وتصنعه... وشامات الجمال، واللون الأحمر على الخدود... ونساءه العابثات، ورجاله الفاسقين الشهوانيين وأولاد باخوس وسلينوس غير الشرعيين (إلها الخمر والعربدة في الأساطير اليونانية)(26)ومات بوشيه وهو يعمل في مرسمه تاركاً على الحامل لوحة لم يكملها "تزين فينوس" وكأنما يتحدى بها ديدرو. وعندما سمع ديدرو بموت الفنان أحس بالندم وقال "لقد أسأت إلى بوشيه كثيراً بكلامي عنه، وإني لأكف الآن عن الحديث عنه.(27)ولنكتف نحن بهذا القدر.
      bestfriends
      Infinity and eternity

      Comment


      • #23
        رد: قصة الحضارة (ول ديورانت)

        جـ - شاردان




        1699 - 1779


        كم اختلف عالم بوشيه عن دنيا شاردان-أي تباين بينهما في مفاهيم الجمال وفي الخلق والذكاء! كانت هنا تقريباً حرب طبقية، ثورة الطبقة المتوسطة ضد الأبيقورية المسرفة المبذرة عند رجال المال والأرستقراطية والحاشية. ولد جان مابتست سيمفون شاردان برجوازياً، وظل برجوازياً قانعاً، وصور الحياة البرجوازية في إخلاص بالغ. وكان أبوه معلم نجارة ذا مكانة عالية في نقابته، يمتلك داراً في شارع السين على الضفة اليسرى من النهر، ولما كان يظن أن أبنه جان سيخلفه في مهنته، فإنه لم يعن بتعليمه في المدرسة قدر عنايته بتدريبه على الأعمال اليدوية. وأسف شاردان على ما فاته من تعليم وعلى ضآلة ما حصل منه، ولكن هذا منعه من ارتياد مجالات الفن القديمة، فولى وجهه وفرشاته شطر الأشياء التي حوله في المصنع والبيت. وسرعان ما أحب الرسم وتلهف على التصوير، وسمح له والده بالالتحاق بمرسم بيير جاك كيز، ثم بتسجيل اسمه رساماً في البلاط الملكي.
        ولم يكن الشاب سعيداً هناك، فإن النماذج التقليدية التي طلب إليه أن ينسخ عنها بدت بعيدة بشكل مخيف عن الحياة التي عرفها وألفها. وعندما طلب إليه جراح صديق لوالده أن يعد له لافتة تعلن عن مهنة الحلاق الجراح، وتبرز أدواتها، فإن جان-وربما تذكر عند ذاك شعار الرسام اتو لجرسانت-رسم لافتة ضخمة تمثل رجلاً جرح في مبارزة، يقوم على العناية به جراح ومساعده، ومن حسن التدبير أضاف إلى هذا سقاء وشرطياً وبعضاً من حرس الليل، ومركبة، وامرأة تحدق النظر من نافذتها، وحشداً من المتفرجين يحملقون من فوق الرؤوس-كل أولئك في منظر رائع عن الصخب والإيماءات والإثارة. وغضب الجراح ورأى أن يلقي باللافتة عرض الحائط، ولمنها جذبت انتباه المارة ونالت استحسانهم إلى حد كبير إلى درجة أن الجراح استبقاها على بابه، ولم نسمع بعد ذلك شيئاً عن شاردان، حتى كان عام 1728، حين حظيت بإطراء خاص، لوحته "السمكة" ولوحته "الخوان" (البوفيه)-طبق فضي فيه فاكهة-في معرض في الهواء الطلق في ميدان الدوفين. ودعاه بعض أعضاء الأكاديمية ليطلب الانضمام إلى عضويتها. ودبر أن يعرض بعض من لوحاته هناك غفلاً من اسمه، فأعلن من رأوها أنها تحف رائعة، ونسبوها إلى فلمنج، ثم اعترف شاردان بأنه صاحبها، فاستنكروا هذه الخدعة، ولكنه على أية حال فاز بعضوية الأكاديمية (1728).
        وفي 1731 خطب مرجريت سنكتار التي وعده أبواها بصداق كبير، ولكن في فترة الخطوبة مني الوالدان بخسائر جسيمة وفارقا الحياة، تاركين مرجريت لا تملك شروى نقير، وتزوجها شاردان على الرغم من ذلك، وهيأ لهما أبوه مسكناً في الطابق الثالث من منزل كان قد اشتراه حديثاً على ناصية شارع دي فور وشارع البرنسيس. وهناك أقام الفنان مرسمه الذي كان أيضاً مطبخه، فقد اختار الآن بصفة نهائية أن يرسم الحياة الهادئة ومشاهد الحياة اليومية. وأصبحت الخضر والفاكهة والسمك والخبز واللحم كل الأشياء التي تبعثرت في أنحاء الغرفة، نماذج لفرشاته تارة، وصنوف قائمة طعامه تارة أخرى.
        وافتتن شاردان بالأشكال والألوان المتغيرة في الأشياء العادية، ورأى فيها خصائص في لبيئة والتركيب والضوء قلما تلحظها العين الغافلة. فإن جانبي التفاحة أو خديها كانا بالنسبة له يحملان طابعاً رومانتيكياً مثل تورد وجنتي العذراء، وبريق السكين فوق مفرش المائدة الأخضر تحداه أن يمسك به في حركته السريعة، ويحاول تثبيته في فنه. وأبرز هذه الأشياء الصغيرة البسيطة في أمانة وتبصر، وبراعة فنية في اللون والمناسيب والضوء والظل، مما لم يتيسر إلا لقلة من الفنانين أن يبلغوه. وإننا لننظر إلى هذه الأشياء الطبيعية الميتة، ونحس بأنها حية وإننا لم نرها رؤية صادقة قط من قبل، وإننا لم نتحقق قط من تعقيد أشكالها وتفردها، ومن الفروق الدقيقة بين ظلال ألوانها، ولم يجد الشعر فقط في إناء من الأزهار أو عنقود من العنب، بل في مرجل قديم محطم، وفي جوزة، وفي قشرة برتقالة، وفي فتات كسرة من الخبز. ففي هذه كلها شعر دائماً كما كان الفلمنكيون والهولنديون قد عرفوا من قبل، ولكن من في فرنسا بوشيه وبمبادور خامره يوماً شعور بوجود هذا الشعر. وكان جمال هذه الأشياء بطبيعة الحال في عين الرائي أو المشاهد أو بالأحرى في نفسه. إن شعور شاردان القوي وبصيرته النافذة-وفقره-كل أولئك هو الذي جعل من مخزن حفظ الأطعمة قصيدة غنائية، ومن قائمة الطعام ملحمة شعرية.
        وكل إنسان يعرف هذه القصة-أو الأسطورة؟-كيف انساق شاردان إلى رسم الأشكال البشرية. إنه سمع ذات يوم صديقه أفيد يرفض 400 جنيه أجراً لرسم لوحة لأحد الأشخاص، فعجب شاردان أشد العجب، وهو معتاد على الجور الضئيلة، لهذا الرفض. فما كان جواب أفيد إلا أن قال "هل تظن أن رسم إنسان سهل مثل رسم مرق التوابل (الصلصة).(28). وكانت سخرية لاذعة، ولكن مفيدة. إن شاردان كان قد ضيق مجال موضوعاته تضييقاً شديداً، وسرعان ما كان يمكنه أن يشبع رغبات زبائنه وعملائه في الأطباق وألوان الطعام، وعقد العزم على رسم الأشخاص، وكشف في نفسه عن عبقرية في رسم الأشخاص في رقة وتعاطف، وكان هو الذي هيأ لهذه العبقرية أن تخمد. وقبل التحدي من فوره. ورسم لوحة لصديقة أفيد نفسه، "المتفاخر"(29). وأتبعها بلوحة أحسن منها "دار لعب الورق". ولكن هنا أيضاً كان التفوق والامتياز في الملابس لا في الوجوه. وفي لوحة "الطفل والخذووف (النحلة)" خطا شاردان خطوته الثانية: اليدان بشعتان بعض الشيء، ولكن الوجه ينبئ عن عقل سليم. ووجد هذا الاعتناق الرقيق منفذاً في رسمه للبنات، كما هو الحال في التحفتين الرائعتين اللتين تضمهما مجموعة روتشيلد: "بنت تلعب تنس الريشة"، وأخرى "تتسلى بتناول غذائها".
        إن شاردان لم ير في النساء الأغراء الباسم الذي أثار بوشيه، بل رأى فضائل وخصائص الزوجية والأمومة التي هي عماد الدولة، وهي التي تقودها إلى طريق الخلاص. ومع شاردان دخلت سيدات الطبقة المتوسطة مجال الفن الفرنسي، وحصلت على حقها فيه. إن هذا الفنان عرفها وأحبها في كل ما تقوم به من خدمات جليلة آسرة: إحضار الطعام من السوق، سحب الماء، تقشير السلجم، لف الصوف، العناية بالمريض، تحذير التلميذ من إهمال واجبه أو التهرب منه، أو كما أبرز شاردان في أشهر لوحاته "الخير والبركة"(30) الإمساك عن الطعام حتى تكف صغرى البنات، ويداها الصغيرتان مضمومتان، عن الصراخ والبكاء ويشيع في وجهها ابتسام الرضا، ورأى المرأة دائماً في ملابس البيت، غير متبرجة، في حركة دائبة، تخدم زوجها وأولادها من الفجر وصلاة الصباح إلى أن يأووا جميعاً في أمان إلى فراشهم ويتدثروا. وإننا لنرى من خلال لوحات شاردان باريس وهي أكثر حكمة وأكبر عقلاً من الحاشية، لا تزال متعلقة بالأخلاقيات القديمة والعقيدة الدينية التي وفرت لها عوناً روحياً. وهذا هو أعظم فن نفعاً وصحة في كل تاريخ الفن.
        إن هذه الصور التي يهلل لها العالم الآن لم تلق إلا رواجاً محدوداً جداً آنذاك، ولم تأت للفنان إلا بفرنكات معدودة تقيم أوده في بساطة قانعة. ولم يساوم مع عملاءه، وباع اللوحات بأي ثمن عرضوه عليه تقريباً, ولما كان يعمل في بطء وكد وجد، فإنه أنهك نفسه في فقر نسبي، على حين أن بوشيه استنفد جهده في يسر ورخاء. ولما توفيت زوجته الأولى بعد أربعة أعوام فقط من الزواج، آل مسكنه إلى حالة شديدة من الفوضى وسوء النظام. وكأنه مسكن طالب، ألح عليه أصدقائه أن يتزوج ثانية، ولو ليحظى بيد امرأة رشيقة وسيدة تعيد النظام إلى بيته. وتردد تسع سنين ثم تزوج الأرملة مرجريت بوجيه. وهو في بساطة زواج مصلحة. وجاءت له مرجريت بصداق متوسط، يشمل بيتاً تملكه (13 شارع البرنسيس)، فانتقل إليه. حيث وضعت خاتمة لفقره وعوزه، وكانت سيدة فاضلة وزوجة شديدة التدقيق. وتعلم هو أن يحبها شاكراً ممتناً.
        وزيادة في معونته من الناحية المالية خصص له الملك (1752) راتباً قدره 500 جنيه، وعينته الأكاديمية (1754) أميناً للصندوق فيها، وسرعان ما عهدت إليه بترتيب اللوحات المقدمة إليها في قاعات العرض فيها، ولكنه لم يصلح لهذه المهمة مطلقاً، ولكن زوجته ساعدته فيها. وفي 1756 أقنع صديق نقاش-هو شارل نيقولا كوشان الثاني-ماريني بأن يخصص لشاردان غرفة مريحة في اللوفر. وهذا هو كوشان نفسه الذي كان تواقاً إلى إبعاد شاردان عن تكرار صور المطبخ، فحصل له على تكليف برسم ثلاث لوحات، لتوضع (فوق الباب) لقصر ماريني. فأخرج شاردان في جد واجتهاد (1765) "خصائص الفن" وخصائص الموسيقى(32) ثم حصل على تكليف آخر برسم لوحتين شبيهتين لقصر مدام دي بمبادور "المنظر الجميل". ولسوء الحظ لم يدفع المبلغ الموعود للوحات الخمس حتى عام 1771.
        وفي نفس الوقت كان الفنان تتقدم سنه ويفقد مهارته. ففي 1767 نرى ديدرو الذي كان قد رحب بعمله وأثنى عليه بوصفه "روح الطبيعة والحقيقة" يقول في أسى وأسف "إن شاردان رسام ممتاز لمشاهد الحياة اليومية، ولكنه يذوي ويذبل(33)". وكانت لوحات لاتور المرسومة "بالبستل" تأخذ بمجامع الألباب في باريس. وفي غمرة المنافسة أخذ شاردان نفسه الطباشير والورق وأدهش لاتور حين أبدع لوحتين بالبستل لشخصه. وهما من أعظم الإنتاج وروعة واتقاناً وكمالاً في اللوفر. إحداهما تمثله في قلنسوة قديمة ضيقة مزدوجة العقد على رأسه، والعوينات (النظارة) في أعلى أنفه، ورباط عنق مربوط بإحكام حول عنقه. وأبرزت الأخرى نفس الزي ونفس الوجه مملوءاً بالدهشة والشخصية، بالإضافة إلى قناع يظلل عينيه اللتين يشكو فيهما ألماً. وأشهر من هاتين، لوحة البستل التي أبدعها لزوجته الثانية، وهي آنذاك في الثامنة والستين: وجه كريم جميل، أخرجه بمهارة متسمة بالحب. وتلك هي اللوحة التي يقع عليها اختيارنا لتكون تحفة شاردان ورائعته.
        وكانت خاتمة مظفرة لحياة فذة شريفة كريمة. ولسنا في حاجة إلى تصوير شاردان رجلاً بريئاً من زلات البشر، فالحق أنه هو نفسه أيضاً، وقد وخزته أشواك الحياة وأساءت إليه الأحقاد، كان في مقدوره أن يقاوم بالانفجار في الغضب وفي قارص الكلام، ولكنه لما فارق الحياة في 1779، فإن أحداً في دنيا الفن الباريسي الحاسدة الحاقدة المفترية، لم يجد كلمة سوء عدائية يقولها فيه. بل إن نظام الحكم المنهار نفسه بدا أنه تحقق من ان شاردان قد كشف بأسلوب فني لم يبزه فيه أحد في زمانه، عن فرنسا، التي هي فرنسا الحقيقية التي لا تزال سليمة بارئة من السقام، تلك الدنيا المستترة، دنيا الكد الخالص والولاء للأسرة، مما يمكن أن يبقى ويعمر-ويساعد فرنسا على البقاء-بعد قرن من الفوضى والثورة. وكما قال ديدرو "كان شاردان أعظم ساحر لدينا"(33).
        bestfriends
        Infinity and eternity

        Comment


        • #24
          رد: قصة الحضارة (ول ديورانت)

          د - لاتور




          1704 - 1788


          إن نزعات الذوق المتقلبة لا تقدم اليوم إكليل الغار في فن الرسم الفرنسي في القرن الثامن عشر، إلى بوشيه أو إلى شاردان، بل تقدمه إلى موريس كانتان دي لاتور.
          وهو أكثر الشخصيات الثلاث إمتاعاً وتشويقاً، لأنه مزج رذائله وفضائله باستهتار شيطاني، وساق العالم المرتعد بأسره إلى زاوية، وطلب كما فعل ديوجنيس، إلى ملك أن يبتعد عن طريقه. وكان نزاعاً إلى جمع المال في جشع شديد، مغروراً وقحاً متغطرساً، عدواً لدوداً وصديقاً متقلباً عميقاً مزهواً مثل رجل عجوز يخفى سني عمره أو يفاخر بها، وكان أميناً صريحاً، بخيلاً، ومحسناً مسرفاً وساذجاً أنيساً، وطنياً ملتهباً حماسة وغيرة، يحتقر الألقاب، ومن ثم رفض لقب النبالة الذي عرضه عليه الملك. ولكن هذا كله لا يتصل بالموضوع، فإنه كان أعظم رسام في عصره، وأعظم مصور بالبستل في تاريخ فرنسا.
          وجلس لويس الخامس عشر يوماً إلى لاتور ليرسمه، فاستاء الملك وجرحت كبرياؤه لكثرة ما ردد الفنان من عبارات المديح والثناء على الجانب، وقال له "ظننت أنك فرنسي". فأجاب لاتور "لا يا مولاي، أنا من سانت كانتان في بيكاردي(34)" (مقاطعة في شمال فرنسا كانت يوماً جزءاً من الفلاندرز). انه ولد هناك لأب موسيقار موسر، أراد له أن يكون مهندساً، ولكن الوالد آثر أن يكون رساماً، فأنبه الوالد على ذلك، وهرب موريس وهو في الخامسة عشرة إلى باريس ثم ريمس ثم كمبراي، يرسم اللوحات هنا وهناك، وفي كمبراي دعاه أحد الدبلوماسيين الإنجليز إلى لندن ضيفاً عليه فيها. وذهب إليها موريس، وهنا جمع مالاً وقضى وقتاً سعيداً مستمعاً بالحياة، وعاد إلى باريس وتظاهر بأنه رسام إنجليزي. وكانت روزاليا كارييرا في باريس في عام 1721 وكان وجهاء القوم، ابتداء من الموصى إلى أحداث محدثي الثراء، يفتشون عن لوحاتها المرسومة بالبستل. ووجد لاتور أن مثل هذه الرسوم بالأقلام الملونة تلتئم مع مزاجه القلق، أكثر من الزيت الذي يحتاج إلى جهد وجلد. وقضى عدة سنين يحاول ويجرب ويخطئ، حتى تعلم أن يحقق وينجز بالطباشير ظلالاً ودقة في اللون والتعبير مما لم يتسن لأحد من رسامي الأشخاص في زمانه أن يباريه فيها.
          وعندما عرض بعض لوحاته في معرض 1737 بدأ رسامو الزيت يوجسون خفية من منافسة أقلام البستل لهم. وكانت لوحته الثلاث المرسومة بالبستل حديث معرض 1740. وكانت لوحته رئيس مدينة ريو في رداء الحاكم الأسود وعباءته الحمراء "هي التي فازت بالجائزة في معرض 1741. أما لوحته التي رسمها للسفير التركي فقد تكاثر عليها الجمهور المعجب في 1742. وسرعان ما طالبت دنيا الأناقة التي تهفو دوماً إلى كل ما هو مستحدث، بالتحول إلى طباشير، وأصبح صدام لاتور مع الملك حدثاً تاريخياً. ذلك أن الفنان بدأ بالاعتراض على الحجرة إلى اختيرت ليجلس الملك فيها أمامه ليرسمه، لأن الضوء كان ينفذ إليها من كل جانب، قائلاً "ماذا تتوقع من أن أفعل في هذه المشكلة؟" فأجاب الملك "لقد اخترت هذه الحجرة المنعزلة خصيصاً، حتى لا يعكر صفواناً أحد". فرد عليه لاتور بقوله "لم أكن يا سيدي أعلم أنك لست سيداً في دارك". وفي مناسبة أخرى عبر الفنان عن أسفه لأن فرنسا لا تملك أسطولاً ضخماً، فاعترض الملك في خبث "فما بال فرنيه الذي صور مناظر البحر يعج بالسفن(35)" ولما علم لاتور أن الدوفين أبلغ أنباء مضللة كاذبة عن مسألة معينة، ابتدره في رفق "وهكذا ترى كيف أنه من السهل على أناس أمثالكم أن يقعوا في حبائل المخادعين المختالين"(36).
          وعلى الرغم من صراحته اللاذعة المزعجة، منحته الأكاديمية عضويتها الكاملة 1746-التي هي بمثابة شهادة امتياز وتفوق. ولكن في 1749، نتيجة سعي حثيث من الرسامين بالزيت، قررت الأكاديمية ألا تقبل مزيداً من رسوم البستل. وفي 1753 شكا أحد مصوري اللوحات الزيتية "من أن دي لاتور ارتقى برسم البستل إلى درجة قد تثير النفور من اللوحات الزيتية" ورد لاتور كيد الشاكي في نحره بالحوافز والروائع.
          وكان له منافس في البستل، وهو جان بابتست برونو الذي كان يؤثره ليمونيين وأودري وغيرهما من الأكاديميين على دي لاتور، فطلب هذا إلى برونو أن يرسمه (لاتور شخصياً) فقبل برونو وأخرج له تحفة رائعة، وأجزل العطاء له دي لاتور الأجر، ولكنه رسم بعد ذلك نفسه في لوحة من أعظم اللوحات الذاتية المعروفة روعة وإبرازاً للشخصية والذات ودبر مع شاردان أن تعرض اللوحتان كلتاهما جنباً إلى جنب في معرض 1751. وأجمع كل الذين شاهدوهما أن اللوحة الذاتية تفضل لوحة برونو, ولا تزال اللوحة الذاتية التي رسمها لاتور لنفسه تبتسم ابتسامة النصر في متحف اللوفر.
          وهناك أيضاً اللوحة التي تحدى بها بوشيه وهي لوحة البستل الوحيدة التي عرضها 1755. وأفلتت الفرصة منه تقريباً. فحين وجهت إليه الدعوة ليرسم أشهر سيدة في المملكة أجاب "أرجو أن تتفضلوا بإبلاغ مدام دي بمبادور أنني لا أخرج لأرسم". وكانت تلك طريقته في جلب الحظ والمال، مثل إيقاع الفريسة في الشرك، بالتراجع، وتوسل إليه أصدقاؤه أن يقبل، فأرسل كتاباً ينبئ بأنه سيحضر، ولكن شريطة ألا يقطع عليه أحد سير العمل. ولما وصل نزع وقاء حذائه، وخلع الحذاء، ونزع شعره المستعار عن رأسه ورقبته (ياقته) وغطى رأسه بقلنسوة حريرية، ثم بدأ يرسم. وفجأة فتح الباب ودخل الملك. فاحتج لاتور قائلاً: لقد وعدتني يا سيدي أن يظل الباب مغلقاً "فضحك الملك ورجاه أن يستأنف عمله، ولكنه رفض" يستحيل علي أن أطيع جلالكم. سأعود عندما تكون السيدة وحدها... لا أحب أن يقاطعني أحد. فانسحب الملك، وأكمل الفنان الجلسة، ومن أشهر صورتين لمدام دي بمبادور، نجد أن اللوحة التي رسمها لاتور أعمق من تلك التي أنتجها بوشيه، وأقل إشراقاً في اللون، واتقاناً في اللمسات الخيرة والتفاصيل، ولكنها أكثر نضجاً من حيث التعبير وإبراز الشخصية. ولا ريب أن لاتور رسم المركيزة، بإيحاء منها، باعتبارها راعية للفن والموسيقى والأدب والفلسفة، وعلى أريكة قريبة منها قيثارة، وفي يدها بعض صفحات موسيقية، وعلى المنضدة كرة أرضية، وحقيبة أوراق من نفش يديها، وقصة فولتير "هنرياد" وكتاب مونتسكيو "روح القوانين" والمجلد الرابع من موسوعة ديدرو.
          وعندما فرغ لاتور من اللوحة طلب عليها أجراً قدره 48 ألفاً من الجنيهات. وعلى الرغم من تبذيرها وإسرافها فإنها رأت أن المبلغ المطلوب مبالغ فيه بعض الشيء، وأرسلت إليه 24 ألف جنيه ذهباً. وفكر لاتور في رد المبلغ. فسأله شاردان إذا كان يعرف ثمن اللوحات الموجودة في نوتردام، بما فيها روائع برون ولي سير، فأجاب لاتور سلياً، وقدر شاردان جملة تكاليفها بمبلغ 12 ألف جنيه. وأعاد لاتور النظر في تقديره وقبل المبلغ الذي أرسلته بمبادور (24 ألفاً). أليه، بصفة عامة كان يطالب بالجر تبعاً لثروة الجالسين أمامه، فإذا اعترضوا ردهم خائبين، وربما كان هناك بعض استثناءات لفولتير وروسو ودالمبرت، حيث أعجب بالفلاسفة من كل قلبه، وأقر صراحة بتجرده من الإيمان الديني.
          وربما كانت أجوره المرتفعة سبباً في اشتداد الطلب عليه من جميع الأنحاء. وعن طريقه عرفنا الشخصيات القيادية في عصره، وأصبح قمة ف الرسم بالبستل، فأبدع لوحات جميلة رائعة للملكة ولولي العهد الصغير، والدوفين المتظاهر بالرزانة والاحتشام(38)، ولاكامارجو راقصة الباليه الأولى، وحاول أن يرسم لروسو لوحة يبدو فيها لطيفاً عاقلاً حكيماً(39)، وفي أحد أعماله البالغة الروعة رسم موريس دي ساكس القائد الوسيم المنتصر على الجيوش والسيدات(40)، وأبرز في لوحة رسمها لصديقه الرسام جان رستوت شعلة النشاط ونضارة الحياة في عينيه(41). ولبس الخز والمخرمات والشعر المستعار استعداداً لصورة ذاتية معلقة الآن في أميان. وعلى الرغم من عادته الخشنة ونزواته غير المشروعة، وحالاته النفسية المتقلبة التي لا ضابط لها، فقد كان موضع الترحيب في قصور الأرستقراطية، في ندوة مسيو دي لابوبلنيير في باسي، وفي صالون مدام جيوفرين. وكان يرتبط بأواصر الصداقة بمشاهير كتاب عصره، بل حتى الرسامين والمثالين الذين نظروا إلى نجاحه بعيون حاسدة-فانلو، شاردان، جريز، بيجال، باجو. ومنحه الملك معاشاً إضافياً ومسكناً في اللوفر. ولا بد أن الرجل كان، فوق كل شيء، محبوباً.
          ولم يتزوج لاتور قط. ولكنه لم يتنقل كثيراً بين أحضان السيدات كما فعل بوشيه وكان له عشيقة، هي الآنسة فل Mlle Fel التي ساعد غناؤها على نجاح أوبرا روسو "عراف القرية". وتضايق منها جريم لأنها لم تبادله الحب، ولكنها أقبلت على لاتور من كل قلبها. وذكر هو لها بالعرفان والشكر كل ما وفرت له من أسباب الراحة والتسلية حتى إنه ظل يشرب نخبها وهو في الثمانين من عمره. وكان إخلاصها له شيء من العزاء والسلوى حين تقدمت به السن فتصلبت أصابعه وغشى بصره. ودفع ثمن الرخاء والرغد الذي نعم به وهو في ذروة مجده، بما لقي من إذلال طال أمده في سني شيخوخته واضمحلال صحته, إنه عمر بعد أن تلاشت عبقريته، وسمع النقاد يتحدثون عنها، وكأنما أدركها الفناء.
          وعندما قارب الثمانين ترك مسكنه في اللوفر، ليعيش في الهواء الطلق في أوتي Auteuil. وأخيراً عاد إلى مسقط رأسه. واستقبلت سانت كانتان ابنها السخي المبذر بطلقات المدافع ودق النواقيس والهتافات الشعبية. وعمر في هذه البلدة الهادئة أربع سنوات أخرى وذبل عقله النشيط إلى مس خفيف غير مؤذ من الجنون، فأصبح يتمتم بشيء من فلسفة وحدة الوجود (الله والطبيعة شيء واحد، والكون المادي الإنسان مظاهر للذات الإلهية)، ويعبد الله والشمس معاً، ويحلم بالثورة مؤملاً في قيامها. وفارق الحياة قبل قيامها بعام واحد. وقبل أيدي خدمه وهو في النزاع الأخير.
          bestfriends
          Infinity and eternity

          Comment


          • #25
            رد: قصة الحضارة (نشاط الذهن -> صناعة الكلام)

            نشاط الذهن -> صناعة الكلام



            الفصل العَاشِر




            نشاط الذهن




            1- صناعة الكلام


            الآن أصبحت اللغة الفرنسية هي اللغة الثانية لكل متعلم ومثقف في أوربا، وواسطة الاتصال والتفاهم المعترف بها في الدبلوماسية والعالمية، وكان فردريك الأكبر يستخدمها بانتظام، اللهم إلا في التحدث إلى قواته. وألف جيبون أول كتاب له باللغة الفرنسية، واتجه تفكيره لبعض الوقت إلى أن يكتب بها مؤلفه المعروف "اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها". وفي 1784 أعلنت الأكاديمية الألمانية عن مسابقة ذات جائزة لمن يكتب أحسن موضوع يوضح أسباب التفوق والتبريز، ونشرت مطبوعاتها بالفرنسية. وكانت الأسباب الرئيسية لهذا التفوق هو المنزلة السياسية السامية لفرنسا في عهد لويس الرابع عشر ونشر القوات الفرنسية للغتهم في الأراضي الوطيئة وألمانيا والنمسا وأسبانيا، وعلو مكانة الأدب الفرنسي في القارة، بشكل لا نزاع فيه (وقد يكون لإنجلترا تحفظات على هذا)، وشعبية المجتمع الباريسي بوصفه مدرسة للدراسات الثقافية والنشاط الاجتماعي، تنهل منها النخبة الممتازة في أوربا، ثم الرغبة في إحلال لغة أحدث وأكثر مرونة محل اللغة اللاتينية في علاقات الأمم بعضها ببعض، وقيام الأكاديمية الفرنسية بتنقية اللغة وتقسيمها عن طريق قاموسها، ولم تصل قط لغة وطنية أخرى ما بلغته الفرنسية من دقة وتنوع، ومن قوة وسحر في العبارة، ورشاقة ووضوح في الأسلوب. وكان ثمة بعض الخسارة في هذا الانتصار: ذلك أن النثر الفرنسي ضحى بالصراحة البريئة عند مونتاني والحيوية الدافقة القاسية الصادرة عن القلب عند رابليه. وأصاب الشعر الفرنسي الوهن والضعف في سجن القواعد التي وضعها بوالو، وانزلفت الأكاديمية نفسها-حتى أيقضها ديكلوس بعد انتخابه 1746-إلى شكليات غامضة وضآلة مبعثها الجبن والحذر.
            وكانت حرية الفكر والكلام النسبية في عهد الوصاية الخطير قد شجعت على مضاعفة عدد المؤلفين والناشرين والمكتبات. واندس من يطبعون وينشرون ويبيعون الكتب في كل مكان، حتى على الرغم من أنه يتقدم القرن، أصبحت هذه التجارة خاسرة، وكان في باريس وحدها منهم كلهم تقريباً فقراء معدمون. وانتشرت المكتبات في كثير من المدن، وكان في بعضها حجرات للمطالعة مفتوحة للجماهير، نظير رسم دخول ضئيل (40 سو) وقل أن كان التأليف مهنة كافية لكسب القوت، ولذلك كانت تكمل عادة بعمل آخر، فكان كريبيون الأكبر كاتباً لدى موثق عقود، وكان روسو ينسخ الموسيقى. واستطاع نفر قليل من مشاهير الكتاب أن يبيعوا إنتاجهم لقاء ثمن عال. ولما أعسر موريفو بسبب انهيار نظام لو، استطاع أن يصلح ماليته ويسترد ثروته برواياته ومسرحيته "ماريان"، وقبض روسو، وهو عادة فقير، خمسة آلاف جنيه عن كتابه "اميل". وكان حق الطبع القانوني الوحيد هو الترخيص الملكي بالنشر وكان في هذا حماية للمؤلف من السطو على كتابه في فرنسا، ولكن ليس من السطو وطبعه خارجها، وكان هذا الترخيص يمنح لمن يكفل المراقبون الرسميون خلو كتابه مما يسئ إلى الكنيسة أو الدولة. وكان يمكن للأفكار الجديدة أن تتخطى هذه العقبة بإخفاء مادة الكتاب أو الهرطقة في أسلوب مقنع. فإذا لم تنجح هذه الخدعة، فقد يعمد المؤلفين إلى إرسال المخطوط إلى أمستردام أو جنيف، أو أية مدينة أجنبية أخرى، ليطبع هناك بالفرنسية ويوزع في الخارج، ويتداول سراً في فرنسا.
            وأدى اتساع الطبقة الوسطى وانتشار التعليم وتجمع المفكرين في باريس إلى خلق جمهور متلهف على الكتب، ونهضت مجموعة كبيرة من المؤلفين لتلبية هذا المطلب وإشباع هذه الرغبة. وأثار ضعف الدولة في عهد لويس الخامس عشر وانهيار الإيمان الديني، المناقشات الشفوية والخطية في المسائل السياسية والفلسفية. وإذ كرهت الأرستقراطية تلك الملكية التي حدث من سلطتها، كما كرهت الكنيسة التي كانت تساند الملكية، فإنها استمعت بآذان صاغية ذات مصلحة إلى نقد الحكومة والعقيدة كلتيهما، وانضمت الطبقة المتوسطة العليا إلى الأرستقراطية في إصغائها لهذا النقد، أملاً في تغيير يحقق لها المساواة الاجتماعية مع طبقة النبلاء.
            وفي هذا الجو الجديد حقق المؤلفون والكتاب مكانة قلما تيسرت لهم قبل القرن الثامن عشر أو بعده. وقوبلوا بالترحيب في الصالونات حيث تحدثوا وأيدوا آراءهم بكل ما أوتوا من فصاحة وبيان. واستقبلوا في قصور ذوي الألقاب ما داموا لم يجرحوا كبرياءهم أو يسيئوا إليهم. وكان أصحاب المال يستضيفونهم ويكرمون وفادتهم، وفي بعض الأحيان يسكنونهم في قصورهم، مثل ما فعل بوبيلنيير، وأصبحوا برغم فقرهم قوة في الدولة. قال ديكلوس في 1751 "إن إمبراطورية رجال الفكر، من بين كل الإمبراطوريات، أوسعها امتداداً، دون أن تكون مرئية. إن أصحاب السلطة يأمرون، ولكن رجال الفكر يحكمون. وعلى المدى البعيد... إن عاجلاً أو آجلاً، سيتغلب الرأي العام أي شكل من أشكال الاستبداد والحكم المطلق أو يغلبه"(1) (وفي 1751 لم يكن قد تم التوصل بعد إلى الأسلوب الذي يتحقق به تشكيل الرأي العام تشكيلاً محكماً بالمال أو عن طريق الحكومة).
            وإذا رحب جمهور متزايد بالكتاب الفرنسيين، وحفزهم مئات المتنافسين اليقظين، وحررهم ضعف العقيدة، واستحثهم زهو الطباعة وخيلاؤهم، فإنهم دفعوا إلى المطبعة بسيل من الرسائل والنشرات والأبحاث والنقد اللاذع والمقالات والمذكرات، و التاريخ والقصص والمسرحيات والقصائد والأبحاث الدينية والفلسفية، والكتابات الإباحية الداعرة والأدب المكشوف، مما حطم كل أغلال الرقابة وقيودها، واكتسح كل مقاومة، وغير عقل فرنسا وعقيدتها وحكومتها بل إلى حد ما عقل العالم وعقيدته وحكوماته. ولم يحدث قط أن وجد في الأدب من قبل مثل هذا الذكاء الحاد أو المزاج الرقيق أو هذا التهريج الماجن أو هذا السخف المهلك، وتصدعت كل القواعد التقليدية في الكنيسة والدولة تحت ضغط الهجمات التي شنتها تلك الأقلام الحادة، المسمومة أحياناً، المغمورة أو المجهولة عادة.
            إن الرسائل الخاصة نفسها أصبحت قناعاً شائعاً. فما من سيدة أو رجل إلا نقح رسائله وأعاد كتابتها وصقلها وتأنق فيها أملاً في أن يطالعها أكثر من شخص الذي أرسلت إليه فتتألق أمام العيون وتكون متعة لقارئيها، كذلك نجحوا أحياناً في أن تكون رسائلهم "كتابات ممتازة" أي قطعاً من الأدب. وبسبب حبهم للحديث والمناقشة فإنهم تحدثوا على الورق إلى الأصدقاء أو الأعداء الغائبين عنهم، بشكل طبيعي وكأنما يخاطبونهم وجهاً لوجه، وبكل الحماسة والحيوية اللتين تدور بهما أحاديثهم حول المائدة في الصالونات. ولم تكن تلك الرسائل تتضمن مجرد توافه الأخبار الشخصية، بل كانت في معظم الأحوال نقاشاً في السياسة والأدب والفن، وكانت في بعض الأحيان نثراً-لغة المجتمع-يزخر بالسجع الذي كثيراً ما يأتي عفو في الفرنسية، مع أكبر الأمل في إطراء القارئ لها، وهكذا كان فولتير يدخل السرور على قلوب أصدقائه بسلسلة القصائد التي يبعث بها إليهم، مما كانت تفيض به قريحتهم الوقادة وفنه الرشيق.
            وآذن عصر الخطابة بزوال، لأن فرنسا القرن الثامن عشر خشيت أن يتولاها السأم والضجر حتى لو استمعت إلى بوسويه آخر (أسقف وخطيب واعظ في القرن السابع عشر). ولكن الخطابة ستعود مع قيام الثورة. وكانت كتابة "المذكرات" لا تزال سائدة، لأنها باعتبارها رسائل إلى الأعقاب والأجيال القادمة. احتفظت بشيء من سحر المكاتبات وفتنتها. وفي نهاية الحقبة، وفي 1755 وصلت إلى المطبعة مذكرات البارونة مدام دي ستال لوني قد فارقت الحياة 1750، وقد أعادت هذه المذكرات إلى الأذهان ذكريات عهد الوصاية وأمسيات دي سكو. وهنا كما يقول جريم، كانت سيدة نافست فولتير نفسه بامتيازها وبراعتها في النثر(2).



            2- المسرح


            تفوقت المسارح على الصالونات من حيث المكانة التي احتلتها في باريس، وما حظيت به من حب وإقبال بين الباريسيين. ويقول فولتير لمارمونتيل: "إن المسرح أعظم مهنة سحراً وفتنة، ففيه يكسب المرء بين عشية وضحاها جاهاً ومالاً، وإن رواية واحدة تأتي لصاحبها بالثروة والشهرة"(3). وكانت هناك في الأقاليم مسارح لا بأس بها، وكان ثمة تمثيل مسرحي خاص في بيوت الأغنياء، بعض المسرحيات أمام الملك والحاشية في فرساي. ولكن التحمس للروايات في باريس بلغ حد الجنون والحمى والجدل والشجار أو الابتهاج والسرور. واحتفظت "الكوميدي فرنسيز" في "المسرح الفرنسي" بأعلى الدرجات في الموضوع والأداء، ولكن الجماهير الغفيرة كانت تقصد إلى "مسرح الإيطاليين" ومسرح "الأوبراكوميك".
            وتألفت كل هذه المسارح، ودار الأوبرا في "الباليه رويال" من قطاعات فسيحة بها عدة صفوف من المقصورات والمقاعد للقلة التي يفوح منها شذا العطر، أما جمهور المشاهدين الأقل تبرجاً وثراء فكانوا يقفون تحت الشرفات الداخلية، (على الأرض) التي نسميها خطأ. "الأوركسترا" ولم توضع فيها مقاعد حتى جاءت الثورة. وكان نحو 150 من المتحمسين المتأنقين الذين يدفعون أجراً أكبر، ويجلسون على خشبة المسرح، يحيطون بالممثلين من ثلاثة جوانب. وقد استنكر فولتير هذه العادة، لأن هذا كان يعوق الممثلين ويفسد المنظر. "لما كانت معظم رواياتنا لا تعدو أن تكون حواراً طويلاً، فإن التمثيل المسرحي لا يكون له وجود، أو إذ وجد بداً سخيفاً(4)وتساءل كيف يتسنى لممثل مسرحي أن يمثل على مثل هذا المسرح مشهد بروتس ثم أنطوني وهما يخطبان في أهل روما بعد قتل قيصر؟ وكيف يمكن "للروح" المسكين في هملت أن يسترق النظر من خلال هذه الهياكل العظيمة المتمتعة بامتياز الجلوس على خشبة المسرح؟ إنه ليكاد يكون من المتعذر تمثيل أي من روايات شكسبير في مثل هذه الظروف(5)وكان لاعتراضات فولتير القوية، التي أيده فيها ديدرو وغيره، أثرها فما وافى عام 1759 حتى كانت خشبة المسرح في فرنسا قد أخليت من المتفرجين.
            ولقي فولتير نجاحاً أقل في حملاته لتحسين الوضع الديني للممثلين. وكانت مكانتهم الاجتماعية قد تحسنت، فكانوا يترددون على دور الأرستقراطية، وفي كثير من الحيان كانوا يمثلون بناء على طلب الملك. ولكن الكنيسة استمرت في اتهامها للمسرح بأنه مدرسة للفساد والفضائح والعمال المخزية، وذهبت إلى أن كل الممثلين بطبيعة الحال محرومون من الكنيسة، وحرمت دفنهم في الأرض المخصصة للمؤمنين-وهي تشمل كل المقابر في باريس وأشار فولتير إلى هذا التناقض:
            إن الممثلين يتقاضون أجوراً من الملك، في الوقت الذي تحرمهم فيه الكنيسة. ويصدر إليهم أمر الملك بالتمثيل كل مساء، بينما تحظر عليهم الديانة أن يمثلوا إطلاقاً، وإذا امتنعوا عن التمثيل زج بهم في السجن (كما حدث عندما أضرب ممثلو جلالته عن العمل) فإذا مثلوا ألقي بهم (عند موتهم) في البالوعات. إننا نبتهج ونسر بهم، ونعترض على دفنهم معنا، ونرحب بهم على موائدنا بينما نغلق أبواب مقابرنا دونهم(6).
            وكانت أدريين ليكوفرير أعظم الممثلات الفرنسيات في زمانها مثلاً واضحاً لهذه المتناقضات في حياتها ومماتها. إنها ولدت في 1692 قرب ريمس وجاءت إلى باريس في العاشرة من عمرها، وأقامت قرب "المسرح الفرنسي" وكثيراً ما شقت طريقها إليه، ثم قلدت في البيت الممثلات اللاتي أعجبت بهن وهي واقفة على أرض المسرح تحت الشرفات. وفي سن الرابعة عشرة نظمت فرقة من الهواة قاموا بالتمثيل على مسارح خاصة. وأعطاها الممثل "لي جراند" دروساً، وهيأ لها مكاناً في فرقة تمثل في ستراسبورج. وقامت بالتمثيل في الأقاليم لعدة سنوات، كما فعل موليير، وانتقلت من دور إلى دور، ومن قصة غرام إلى أخرى دون ريب. وهفت نفسها إلى الحب، فلم تصادف إلا الداعرين الفجرة، وتركها اثنان منهما على التعاقب حاملاً، ورفضا الزواج منها. وفي سن الثامنة عشرة وضعت بنتاً. وفي الرابعة والعشرين وضعت بنتاً أخرى. وفي 1715 عادت إلى باريس، والتقى بها هناك فولتير الشاب، وكان لها لبعض الوقت أكثر من صديق(7). وفي 1717 أصبحت السيدة الأولى في "المسرح الفرنسي" الذي كان مأواها ومبعث إلهامها في شبابها.
            ولم تكن مثل معظم الممثلات الشهيرات بارعة الجمال، بل كانت بدينة، وكانت قسمات وجهها غير متناسقة، ولكنها تميزت برقة تفوق الوصف في جلستها ووقفتها وحركتها وعاداتها، وموسيقى مغرية في صوتها، وبريق من الشرر والاحساس في عينيها السمراوين، وتعبير متحرك كريم في وجهها. وكان كل تصرف منها يعبر عن شخصيتها. ورفضت أن تتبع الأسلوب الخطابي الذي كان قد أصبح تقليداً سائداً في التمثيل في فرنسا في المسرح الطويل المستطيل الشكل في المسارح القديمة. وعقدت العزم على أن تمثل دورها وتنطلق بعباراتها على خشبة المسرح كما تتحدث في الحياة الواقعية، اللهم إلا في إخراج الحروف من مخارجها والإبانة في اللفظ، ورفع درجة الصوت، مما هو لنقل كلماتها إلى أبعد مكان يوجد فيه الجمهور. إنها في فترة عملها القصيرة حققت ثورة أو انقلاباً في فن التمثيل المسرحي. وتحقق هذا أيضاً في عمق شعورها، وقدرتها على نقل انفعالات الحب أو رقته، وكل العطف أو الرعب في أي مشهد مأساوي. وتفوقت في الفن الشاق، فن الإصغاء المعبر اليقظ حين يتكلم الآخرون.
            وامتدحها الشيب، أما الشبان فقد وقعوا في غرامها. وهام بحبها الشاب شارل أوجسطين دي قريول كونت أرجنتال الذي كان مقدراً أن يصبح "ممولاً ومدعماً بنقوده" لفولتير ووكيلاً له، وجزعت والدة شارل لهذا خشية أن يعرض على أدريين الزواج فتقبل، فأقسمت الأم أن تبعث بولدها إلى المستعمرات، وعندما سمعت الممثلة بهذا أرسلت إلى مدام دي قريول (22 مارس 1721) وتؤكد لها أنها لن تشجع الشاب على الاتصال بها أو تبادل الرسائل معها: "سأكتب إليه بأي شيء يرضيك. ولن أراه بعد الآن إذا كنت ترغبين في ذلك. ولكن لا تهدديه بإرساله إلى أقصى الأرض. وسيعمل كل ما يبعث في قلبك الرضا والارتياح، ويضفي عليك الشهرة والمجد، وما عليك إلا أن توجهي مواهبه وقدراته وتنمي فضائله لتؤتى ثمارها(8).
            وكانت آدريين على حق، فإن دارجنتال فاز بعضوية برلمان باريس، وفي سن الخامسة والثمانين، حين كان يقلب النظر في الأوراق التي تركتها والدته، عثر على هذه الرسالة التي لم يكن يعرف عنها شيئاً من قبل.
            واستمتعت آدريين بدورها بنشوة الحب كما عانت من الهجران والصدود. وكان الأمير الشاب موريس السكسوني كثيراً ما يتردد على المسرح الذي تعمل فيه، ولم يكن بعد قد انفتحت أوداجه زهواً بانتصاراته، ولكنه كان وسيماً عاطفياً خيالياً حتى أنه عندما أقسم على الإخلاص والولاء لها مدى حياته ظنته فارس أحلامها الذي طال انتظارها له، وإذا وصل الأمر بالرجال إلى وعد بالإخلاص مدى الحياة، فإنهم يحيون ويموتون عدة مرات مثل القطط (بسبع أرواح). ورضيت به عشيقاً (1721)، وعاشا لفترة من الزمن يرشقان كؤوس المحبة والإخلاص إلى حد أن باريس قارنتهما بقمريات لافونتين الحبيبات. ولكن الجندي الشاب الذي أصبح لتوه "قائد معسكر" راوده الحلم بأن يكون ملكاً، وقد رأيناه يسارع إلى كورلند (جزء من تلقيا الحالية) طمعاً في الحصول على التاج فيها، وكان نصف الأموال التي حملها معه من مدخرات آدريين.
            فتسلت عن فراقه بتأسيس "صالون" في بيتها. ولم يكن غير ذي عائد فكري لها إنها كانت قد تعلمت رشاقة راسين وأفكار موليير، حتى أصبحت من خيرة سيدات فرنسا ثقافة وعلماً، ولم يكن أصدقاؤها من المعجبين العابرين، ولكنهم رجال ونساء أحبوا عقلها. فقصد فونتيل وفولتير ودارجنتال والكونت دي كايلوس بانتظام إلى دارها لتناول العشاء، ووجد بعض السيدات الأنيقات من ذوات الألقاب والأحساب متعة في الانضمام إلى هذه الجماعة المتألقة.
            وفي 1728 عاد الجندي الذي لم يواته الحظ ولم يتحقق أمله إلى باريس.
            وكان البعاد قد خفف من لوعة حبه. وتبين أن آدريين كانت تكبره آنذاك بأربعة أعوام حيث كانت في السادسة والثلاثين وعرض كثير من السيدات الثريات أن يشاركنه مضجعه، وكان الدم الملكي يجري في عروق إحداهن مثله تقريباً، وهي لويز دي لورين دوقة بويون حفيدة بطل بولندة النبيل جان سوبيسكي، وكانت تختال في جرأة أمام موريس في مقصورتها في المسرح الفرنسي، إلى حد أن آدريين ولت وجهها شطر هذه المقصورة، حين كانت تلقي في شيء من التوكيد بعض أبيات غاضبة من رواية راسين "Phedre" "لست واحدة من هؤلاء السيدات الوقحات اللائي تعلمن، وهن يلقين ظلالاً من الجريمة على مظهر الوئام الهادئ الوادع، إن يكن صفيقات إلى حد لا يستشعرن معه الخجل من سوء تصرفهن"(9).
            وفي يولية 1729 أبلغ سيمون بوريه، القسيس رسام المنمنمات الآنسة ليكفرير أن رسولين مقنعين من إحدى سيدات البلاط عرضا عليه أن يعطي الممثلة بعض أقراص السم لقاء 6600 جنيه إذا قام بالمهمة. فأخطرت آدريين الشرطة بذلك. فقبضوا على القسيس وأجروا معه تحقيقاً دقيقاً. ولكنه صمم على أقواله. وكتبت آدريين إلى مدير الشرطة رسالة رائعة تطلب منه إطلاق سراح القسيس: "إني تحدثت إليه، وجعلته يتحدث إليّ كثيراً لوقت طويل، وأجاب دائماً إجابات محكمة ذكية، ليس لأني أرغب في أن يكون ما قال صحيحاً. فإن لدي مزيداً من الأسباب التي تحملني على أن أتمنى أن يكون مخبولاً. آه: أليس إلى الله وحده أتوسل ان يغفر له؟ ولكن إذا كان بريئاً فأرجو أن نفكر يا سيدي إلى أي حد يجدر بي أن أهتم بمصيره. لا تلق بالاً إلى مهنتي أو مولدي وأصلي، ولكن حاول متفضلاً أن تستشف حقيقة نفسي التي بين جنبي، وكم هي صادقة مخلصة، وقد كشفت لك عن سريرتها. بجلاء ووضوح في كتابي هذا(10).
            وأصر الدوق دي بويون على أية حال، على احتجاز القسيس، ثم أفرج عنه بعد بضعة شهور، وظل مصراً على أقواله. ولسنا ندري حتى يومنا هذا مبلغ صدق روايته.
            وفي فبراير 1730 بدأت الآنسة ليكوفريير تعاني من إسهال يزداد سوء يوماً بعد يوم. وظلت تمثل أدوارها على المسرح، ولكن في أوائل مارس حملوها من المسرح مغمى عليها. وفي 15 مارس مثلت، وهي تلتقط آخر أنفاسها "جوكاست" في رواية فولتير "أوديت" وفي يوم 17 مارس لزمت الفراش، وصارت تنزف نزيفاً مميتاً من أمعائها، ولم يعد الماريشال يزورها، ولكن فولتير ودارجنتال فقط هما اللذان سهرا على العناية بها في هذه الخاتمة الفاجعة المذلة، وفاضت روحها في 20 مارس بين ذراعي فولتير.
            وحيث كانت آدريين قد رفضت الشعائر الأخيرة للكنيسة(11). فإن القانون الكنسي حرم دفنها في الأرض المخصصة للمؤمنين، واستأجر أحد الأصدقاء اثنين من حملة المشاعل ليحملا جثمانها في عربة أجرة لدفنه سراً على ضفاف السين، فيما أصبح فيما بعد شارع بورجون. (في نفس العام 1730 دفنت الممثلة الإنجليزية آن أولدفيلد باحتفال عام في كنيسة وستمنستر.) وفي 1730 نظم فولتير قصيدة (موت الآنسة ليكوفرير يستنكر فيها المعاملة المهينة في دفنها بهذه الطريقة: "تأثرت كل القلوب، مثل قلبي، بالأسى والفجيعة. وإني لأسمع كل الفنون الذاهلة تولول من حولي، وهي تذرف الدمع. أن ملبومين (ربة المأساة) قضت نحبها، ماذا عساكم تقولون أيها الأعقاب رجال الغد إذا علمتم بهذا الأذى الأليم المدمر الذي ألحقه أناس قساة بلا قلوب بهذه البائسة التي تخلى عنها أصدقاؤها؟ لقد حرموا من الدفن من إذا كانت في اليونان القديمة لأقاموا لها مذبحاً في الهيكل. لقد رأيتم يقدسونها ويزدحمون حولها. إنها لا تكاد تموت متى تصبح محرمة، لقد سحرت ألباب العالم، ثم ها أنتم تعاقبونها، كلا، لن تكون هذه الضفاف بعد الآن دنسة، إنها تضم رفاتك، وستكون هذه المقبرة الحزينة معبداً جديدا لنا، نمجده في ترانيمنا، وتضفي عليه ظلالك قدسية".
            وكان أعظم كاتب مسرحي في ذاك العصر، بطبيعة الحال، فولتير. وكان له منافسون كثيرون، من بينهم بروسبو جولتون دي كربيون، وهو معمر عجوز كان ينبغي له أن يفارق الحياة منذ أمد طويل. وكان كربيون قد أنتج فيما بين عامي 1705 و1711 روايات ناجحة ثم اقتنع بالفشل المحتوم لروايته "اجزرسيس" 1714، وهنا كانت نهايته، وكان قد انقطع عن التأليف، وبات يعاني الفقر، ويجد بعض السلوى في مسكن على السطح مع مجموعة لطيفة من عشر كلاب وخمسة عشر قطاً وبعض الغرابيب السود. وفي 1745 أنقذته مدام دي بمبادور بمعاش ووظيفة عاطلة (يقبض راتباً ولا يؤدي عملاً)، واتخذت التدابير الطبع مجموعة أعماله في مطبعة الحكومة. وقصد إلى فرساي ليقدم لها الشكر. ولما كانت هي مريضة، فقد استقبلته وهي ملازمة الفراش، فلما انحنى ليقبل يدها دخل لويس الخامس عشر، فصاح ابن السبعين "مولاتي، لقد وقعت الكارثة، إن الملك فاجأنا معاً"(12). وسر الملك بومضة الذكاء وسرعة البديهة وانضم إلى بمبادور في حثه على إكمال روايته "كاتيلين وكان قد أهملها وشهدتها مدام بمبادور والحاشية، ونال العرض الأول الاستحسان (1748). واهتز كربيون طرباً من جديد لما أصاب من شهرة ومال. وفي 1745 وهو في الثمانين أخرج آخر رواياته. وعمر بعد ذلك ثمان سنين، سعيداً بحيواناته.
            ولم يطب فولتير نفساً بظهور منافس له من بين القبور، ولكن كان عليه أيضاً أن يواجه في الملهاة منافسه ماريفو المتعدد الجوانب الشديد الانفعال إن بيير كارل دي شمبلين دي ماريفو أصبح هجاءً حين رأى بمحض الصدفة، حبيبته ذات السبعة عشر ربيعاً تطبق عملياً مفاتنها المغرية أمام المرآة. ودق قلبه مؤقتاً فقط، لأن والده كان المدير الثري لدار سك النقود في ريوم، وكم من شابه أو غادة تاقت نفسها لتكون زوجة بيير. وتزوج من أجل الحب، وأدهش باريس حين عاش حياة جنسية طابعها الرصانة والاعتدال. وانضم إلى صالون مدام دي تنسان، وربما تعلم فيه الدعابة المرحة، والعبارة الرشيقة الإحساس الرقيق، وانتقل كل أولئك إلى رواياته، وتميزت به مسرحياته.
            وأول نجاح أصابه ماريفو هو رواية "آرليكان يصقله الحب" التي عرضت لمدة أثنتا عشرة ليلة متوالية على "مسرح الإيطاليين" 1720. وبقدر ما كان يحصل عليه من أجور، فقد معظم أمواله عند انهيار بنك لو. ويروي إنه استرد ثروته بقلمه(13)، حيث كتب سلسلة من رواياته الملهاة (الكوميديا) أمتعت باريس بمرحها اللطيف وحبكتها البارعة، وأشهرها "لعبة الحب والحظ". وقد هاجمت اعتزام زوجين (أربعة أشخاص، رجلان وامرأتان) اعتزاماً متزامناً، ولكن غير متفق عليه، أن يختبرا إخلاص الخطيب الذي لم تقع عليه العين بعد، عن طريق تبادل الزي والشكل بين سيد وخادم وسيدة وخادمة، في سلسلة من المصادفات السخيفة المضحكة، مثل منديل ديزدمونة (في رواية عطيل). وسر نساء باريس أكثر مما سر رجالها بالمآزق التي يتورط فيها الحب في هذه الرواية وبما فيها من عاطفة رقيقة. وهنا أيضاً كما هو الحال في قصر فرساي، وفي الصالونات، وعند واتو وبوشيه، تحكمت المرأة، وكان لها القول الفصل، وحل تحليل المشاعر محل مشاكل السياسة وبطولات الحرب، وتخلت الملهاة الرجولية عند مولبير عن مكانها أمام الملهاة الأنثوية التي سيطرت على المسرح الفرنسي (معترضة الطريق) إلى أيام سكرايب وديماس الابن وساردو.


            3- القصة الفرنسية


            إن ماريفو هذا هو نفسه الذي أضفى على القصة في فرنسا شكلاً جديداً. وفي 1731 أصدر الجزء الأول من "حياة ماريان". وتقبلها القراء قبولاً حسناً. واستمر يقدم أجزاء أخرى عام 1741، حتى بلغت أحد عشر جزءاً، ولم يكملها (ولو أنه عمر حتى عام 1763)، لأن هدفه لم يكن أن يقص حكاية بقدر ما كان أن يحلل شخصية، وبالذات شخصية المرأة، وبصفة خاصة في الحب. ولم يكن ثمة شيء رائع أخاذ أكثر من المشهد الافتتاحي، عصابة من اللصوص تسطو على مركبة للبريد والمسافرين، وتقتل كل من فيها، باستثناء ماريان التي عاشت لتقص القصة في شيخوختها.
            وتحتفظ البطلة والمفروض أنها مؤلفة القصة، بعدم ذكر اسمها، وهذا عمل كيدي، إلى النهاية. وتحمل المخطوطة إلى صديق لها مع تحذيره "لا تنس أنك وعدتني ألا تبوح باسمي أبداً" أنا أود ألا يعرفني أحد إلا أنت"(14).
            ولما كان أبوها من بين الضحايا، فقد تولى تربيتها رجل برجوازي محسن كريم، حتى أصبحت بائعة في محل لبيع ملابس النساء. وازدادت فتنة وجمالاً إلى حد أثار مسيو دي كليمال. وصار يقدم لها هدايا صغيرة ثم هدايا ثمينة، وأخيراً طلب يدها جزاء ما قدم. ولكنها رفضته، وأعادت إليه هداياه بعد ترددات يصفها ماريفو في ذكاء لطيف. وكان جديراً بنا أن نقول إنها في نفس الوقت كانت قد التقت بابن أخي كليمال، وهو مسيو دي فالفيل، الذي كان أقل من عمه مالاً وأصغر منه سناً. ومهما يكن من أمر فإن فالفيل يترك ماريان معلقة، لما يقرب من ألف صفحة، وينصرف إلى سيدة أخرى. وهنا ختام قصة ماريفو.
            تلك هي القصة النفيسة في فرنسا القرن الثامن عشر، التي لم تنافسها إلا قصة "اتصالات خطيرة" التي كتبها كودرلوس دي لاكلوس (1782). إنها أعادت إلى الأذهان قصة مدام دي لاقاييت "الأميرة دي كليف (1678)، ولو إنها تكاد لا تعادلها في رقة الشعور وجمال الأسلوب، ولكن بزتها في تحليل الدافع والعاطفة، وهنا نجد امرأة، مثل باميلا عند ريتشاردسن، تحتفظ بشرفها لأهميته في سوق الزواج، إنها تدرك أنه ليس لدى المرأة إلا قيمة هزلية فانية، لتقدمها تأييداً لأحادية الزواج للرجل الذي يتجه إلى تعدد الزوجات. وتلك صورة أكثر تهذيباً من الصورة التي أخرجها ريتشاردسن، الذي بدأ قصة باميلا بعد تسع سنين من ماريان وربما تأثر بها. وفي مقابل ذلك نجد أن قصة ريتشاردسن "كلاريسا (1747)" ساعدت روسو في "هلواز الجديدة".
            وعكس ماريفو خلق الطبقة المتوسطة القوي الحذر، على حين أولع كربيون الابن بفسق الأرستقراطية وفجورها الطائش. وكانوا يطلقون عليه "كربيون المرح" تمييزاً له عن أبيه "كربيون المكتئب" (الذي قال عن ابنه إنه أسوأ إنتاجه الكبير). نشأ كلود بروسبر جولبوت دي كربيون في باريس في عصر الوصاية الذي رجحت أخلاقه التعليم الجزويتي الذي تلقاه كلود، ولعدة سنين شارك أباه سكنه فوق السطح وغربانه وكلابه وقططه. وفي 1734 وهو في سن السابعة والعشرين اشتهرت قصته "المنزلق على السطح". ومن الجائز أن يكون هذا لقب كل أبطاله وعنوان كل كتبه، لأن الحب فيها-كما قال شامفورت-هو مجرد "ملامسة سطحين"(15). ووقعت أحداث القصة في اليابان، ولكنها كانت نقداً لاذعاً أو هجاءً صريحاً للكنيسة والدولة في فرنسا، وللدوقة دي مين الصغيرة (الفتاة الجميلة)، إلى حد أن الكاردينال فليري أبعد الكاتب-كلود كربيون-عن باريس لمدة خمس سنوات.
            ولما عاد المؤلف أصدر في 1740 أسوأ رواياته سمعة "الأريكة"، وقد أبعد من أجلها ولكن لمدة أقصر. ووقعت الأحداث في "أجرا" ولكن الأخلاقيات كانت باريسية. إن السلطان تولاه الضجر والسأم، ويريد قصصاً يسري عنه. ويتفضل رجل الحاشية الشاب أمانزي، فيرى كيف أنه تجسد فيما مضى من الزمان على هيئة أريكة، ويعود بذاكرته إلى بعض الخطايا التي ابتلى بها زنيرك الأريكة. وتعاقبت أحداث الزنى في تفصيل متزايد. ووجد كربيون متعة بالغة في قصته (Almohid and Mochles) وهما بعد أن أطنيا في التفاخر بعفتهما وطهارتهما، يعترفان بأن أفكارهما غير عفيفة مثل سلوك سائر البشر، ويخلصان إلى أنه لا يمكن أن يكون في الفعل إثم أكبر منه في التفكير، ومن ثم فانهما يوائمان بين الفعل والقول. وتلك، على أية حال، استثنائية. فان نساء كربيون يتطلبون عادة جزاء (عملاً) مالياً عن أقوالهن، ومن ثم أحصت "أميناً" بعناية ما حصلت عليه من مال، ولم تستجب لرغبة حبيبتها إلا بعد أن تأكدت كل التأكد إنه لم يخطئ في العملية الحسابية.(11)
            ولقي الكاتب ما كان مقدراً له من نجاح. ووجد قراء في عدة لغات أسرفت كلها في تصرفات شاذة. واعترف لورنس ستيرن بأنه تأثر بقصص كربيون. وفضلها هوراس وولبول على قصص فليدنج. وكان مفهوم الرجل الفاضل العفيف توماس جراي عن الجنة والنعيم "أن يقرأ إلى الأبد قصصاً جديدة من تأليف ماتريفو وكربيون"(17). وجاءت من إنجلترا على عجل السيدة هنريتا ستافورد، وأصبحت خليلة كربيون، وأم ولده، ثم زوجته ويروون أنه جعل من نفسه زوجاً مثالياً لها(18). وفي 1752 انضم إلى الكسيس بيرون زشارل كوللي في تأسيس "الكاف-الكهف، وهو ناد للموهوبين المرحين الذين اشتهروا بالبعد في الوقار والمزاح. وفي 1759 عين "بدليل الخلف" رقيباً ملكياً على الأدب. ولما توفي والده في 1762، بعد أن أبطأ به الموت إلى حد مثير، ورث ابنه معاشه. "والأمور بخواتيمها".
            وفقدت كتب كربيون شعبيتها قبل وفاته بزمن طويل. ولكن في الوقت نفسه كان أحد رجال الدين العلماء المثقفين قد كتب قصة لا تزال حية مؤثرة إلى يومنا هذا. وكانت حياة أنطوان فرنسوا بريفوست دي أجزيل، المعروف باسم الراهب بريفوست، متعددة الألوان مرهقة مثل سير الحياة التي أبدعها قلمه. إنه ولد في أرتوا في 1697، وتعلم في مدارس اليسوعيين، ثم أصبح راهباً مبتدئاً في طائفة اليسوعيين (1713)، وتركهم ليلتحق بالجيش، وارتقى إلى رتبة ضابط، ووقع في شراك الحب، وخاب فيه أمله وتحطم قلبه، وأصبح راهباً بندكتياً (1719)، ثم قسيساً 1726، وقد بعث على الدهشة والعجب أن نقول إنه منذ ذلك الوقت اعتمد في حياته كل الاعتماد على قلمه.
            وكان بريفوست، حتى قبل أن يهجر حياة الدير، قد كتب قصة رومانسية "مذكرات ومغامرات رجل ذي حيثية"، نشرت الأجزاء الأربعة الأولى منها 1728 في باريس، وبعد عام قضاه في إنجلترا قصد إلى هولندة، وفي 1730 بدأ ينشر قصة ثانية "الفيلسوف الإنجليزي، أو تاريخ مستر كليفلند، الابن الطبيعي لكروامول "وهي من أوائل القصص التاريخية،
            وكتبها في ثمانية مجلدات في السنوات التسع التالية. وفي 1731 نشر المجلدات الخامس والسادس والسابع من "المذكرات" سالفة الذكر ونشر المجلد السابع على حدة في باريس 1731 تحت اسم "مغامرات الفارس دي جرييه ودي مانون ليسكو" (تأليف مسيود). وحظرت الحكومة الفرنسية تداوله، ومن ثم أقبل عليه الناس إقبالاً شديداً متزايداً. ويقال "إنه في باريس لقي رواجاً كبيراً، وتهافت الناس عليه كما يندفعون إلى النار"(19)
            وقصة مأنون موضوعة في قالب قبيح غير مصقول من التظاهر والإدعاء، فثمة اثنتا عشرة بغياً في مركبة في طريقهن إلى ميناء الهافر لترحيلهن إلى أمريكا. والمركيز-الرجل ذو الحيثية المجهول، والمفروض أنه يدون المجلدات السبع من المذكرات، يأسر قلبه جمال إحدى الفتيات التي وصف وجهها فيما بعد "بأنه يمكن أن يعيد العالم إلى الوثنية"(20). ويرى كذلك فارس دي جرييه البائس الوحيد الذوق يحدق النظر باكياً في خليلته السابقة، مانون، ويستبد به الحزن والأسى لأنه مفلس ولا يستطيع أن يتبعها إلى منفاها، وتتحرك مشاعر المركيز ويتأثر تأثراً مزدوجاً فيعطي دي جرييه أربعة جنيهات ذهباً؛ مكنت الفارس من مصاحبة مانون إلى لويزيلنا. ويراه المركيز في كاليه بعد ذلك بعامين، ويأخذه إلى داره. أما بقية المجلد الصغير فهي رواية دي جرييه لقصة حبه.
            وكان شاباً نموذجياً كريم المحتد، مبرزاً في كل شيء في الكلية في اميان، وكان في عزم أبويه أن يلحقاه بطائفة الفرسان في مالطة. وفي غمرة آمالهم العريضة "جعلاني أضع الصليب"(21). ولكن مانون مرت أمامي ودخلت حياتي، وتغير كل شيء. وكانت آنذاك في الخامسة عشرة وهو في السابعة عشرة، "ولم تكن قد تنبهت بعد إلى الفرق بين الجنسين". وعجل وهو هذا التطور المكبوت على الفرار. وتبلغه مانون أنها أرسلت إلى اميان ضد رغبتها لتندمج في سلك الراهبات، فيعرض عليها أن يخلصها من هذا، ويهربان إلى باريس، وبدا أن إعجابهما المتبادل كان عقداً وميثاقاً كافياً"، وتحللنا من مراسم الكنيسة، ووجدنا أننا أصبحنا رجلاً وزوجة، دون أن نفكر في هذا أو نتنبه له، ويكشف أخوه أمره ويقبض عليه ويعيده إلى والده الذي يخبره بأن مانون أصبحت بالفعل خليلة للسيد "ب" أحد رجال المصارف. ويرى دي جرييه أن يذهب ليقتل السيد "ب" فيحبس الوالد ابنه، ويأتي أحد الأصدقاء تيبرج، ويؤكد الزعم بأن مانون خليلة السيد "ب" ويحث دي جورييه على الانتظام في سلك الكهنوت، ويلتحق الشاب بمعهد سان سلبيس اللاهوتي، ويصبح راهباً. "وظننت أني تطهرت تماماً من دنس الحب، ويذهب بعد عامين لحضور امتحان عام ومناظرة في السوربون، فيفاجأ بمانون بين الحاضرين، وتشق عي طريقها إليه، وتعترف بخيانتها، ولكنها تقسم إنها لم تقترف الخطيئة مع السيد "ب" إلا لتوفر المال لدي جرييه. ويهربان من جديد.
            ويتخذ الحبيبان مسكناً في ضاحية شبو، ويعيشان حياة باذخة على مبلغ الستين ألف فرنك الذي حصلت عليه مانون من السيد "ب". ويأمل دي جرييه بعد فصله من سلك الرهبنة وعودته إلى الفروسية، أن يحصل من أبيه على الصفح والمال أو أن يرث مال أبيه بعد موته. ويسطو عليهما أحد اللصوص فيسلبهما مالهما. ويجدان أنهما أصبحا معدمين بين عشية وضحاها. وأدركت آنذاك أن الإنسان قد يحب المال دون أن يكون بخيلاً.. لقد عرفت مانون.... ومهما كانت مخلصة وفية مغرمة بي في وقت الرخاء، فلا يمكن الاعتماد عليها في وقت الشدة. إنها اهتمت كثيراً بالمتعة والثروة لتضحي بهما من أجلي"(22). وهو يحبها أكثر من حبه للشرف. ويسمح لاخوتها أن يعلموه الغش في لعب الورق فيكسب بعض المال، ولكنه يتعرض للسرقة مرة أخرى. وتهجره مانون إلى رجل فاجر عجوز ثري، وتركت له رسالة تقول فيها "إني أعمل لأجعل فارس غنياً سعيداً". وينضم إليها في مؤامرة لابتزاز المال من هذا الرجل العجوز، وينجحان ويختفيان ثم يقبض عليها، وتوضع هي في الملجأ العام باعتبارها بغياً، ويرسل هو إلى الدير. ولكنه يهرب منه بإطلاق النار على حارس البوابة: ويقترض نقوداً ويرشو القائمين على الأمر في الملجأ ليسهلوا لمانون سبيل الهرب، وتقطع على نفسها عهداً بحبه إلى الأبد.
            ولما نفد رصيدهما من المال، أجازت لوريث غني أن يتخذها خليلة، ويقبض عليها ثانية، ويقنع والد جرييه السلطات الرسمية بترحيلهما ويحاول دي جرييه إنقاذهما في الطريق، فلما عجز عن ذلك أبحر معها إلى نيو أورليانز، وهناك تعلمت أن تحتمل مرارة الفقر، وأن تكون مخلصة كل الإخلاص لدي جرييه، ويعودان إلى ممارسة الشعائر الدينية، ولكن ابن حاكم المستعمرة يهيم بحبها. ولما كان مانون ودي جرييه قد أهملا أن يعقدا عقداً شرعياً بالزواج، فإن الحاكم مارس حقه في أن يزوجها من أي فرد في المستعمرة، ومن ثم أمرها أن تقبل ابنه زوجاً لها. وأردى دي جرييه لابن قتيلاً في مبارزة، ويهرب الحبيبان إلى الفيافي والقفار سيراً على الأقدام. وبعد مسيرة عدة أميال مرهقة، تسقط مغشياً عليها وتفارق الحياة، "وقضيت يومين وليلتين لا تفارق شفتاي وجه عزيزتي مانون ويديها". وحفر بيديه جدثاً لها ويواريها التراب، ويرقد على القبر ليقضي نحبه هو الآخر. ولكن صديقه الطيب تيبرج، الذي قدم في نفس الوقت من فرنسا، يعثر عليه، ويصحبه ثانية إلى كاليه، إلى المركيز ليروي حكايته.
            وأصبحت "مانون ليسكو" معيناً لا ينضب لقصص حب مبللة بالدموع. فإن أية امرأة، ولو لم تكن "محطمة القلب" تذرف الدمع على موت مانون وحزن دي جرييه، مغتفرة لها حيلها المالية، وله جرائمه الخسيسة. وضرب بريفوست على نغمة جديدة حين نسب إلى بطله وبطلته أخطاءً كثيرة إلى هذا الحد، وجعلها أخطاء حقيقية، حين كشف عن حب مانون الطاغي للذة والمتعة، وقدرة حبيبها على التطفل والغش والسرقة والقتل. وهي طراز عتيق للبطلة، وهو بالتأكيد مثال جديد للبطل. وربما بلغ الكتاب قدراً أكبر من القوة لو أن دي جرييه ترك ليموت على قبر مانون.
            وربما روى بريفوست القصة بمثل هذا الإحساس والعاطفة لأنه هو نفسه كان لديه الحماسة والغيرة اللتان تجلتا في دي جرييه. ومن ثم كانت القصة سيرة حياته قبل أن تكون حادثاً. ولم يكن تافهاً متطفلاً، ترجم إلى الفرنسية روايات ريتشاردسن الثلاث الضخمة، وزادت تلك الترجمات من تهافت فرنسا على ريتشاردسن، وهو تهافت كان له مظهر مختلف عند روسو وديدرو. وترجم كتاب مدلتون "حياة شيشرون"، وكتاب هيوم "تاريخ إنجلترا"، وكتب عدة قصص أقل شأناً، وعدة مجلدات عن "التاريخ العام للرحلات". وفي أمستردام في 1733، وقع في غرام عشيقة رجل آخر. ولما نمى إليه أن البندكتيين استصدروا أمراً بسجنه، هرب إلى إنجلترا مصطحباً هذه السيدة معه. وفي لندن كسب عيشه بإعطاء دروس خاصة. وفي 15 ديسمبر قبض عليه بتهمة قدمها ضده أحد تلاميذه بأنه زيف ورق نقدية من ذات الخمسين جنيهاً-وهي جريمة عقوبتها القانونية الإعدام. وسرعان ما أطلق سراحه لأسباب مجهولة. وعاد إلى فرنسا (1734) وانضم من جديد إلى طائفة البندكت. وفي 1753 عين في دير سان جورج-دي جين.
            وأدى موته بعد عشر سنين من ذلك إلى أسطورة ترويها حفيدته بيف لسانت بيف وكأنهما حقيقة، تلك هي أنه أصيب بالسكتة أثناء سيره في غابات شانتيللي، وأن طبيباً ظن أنه مات فقام بتشريحه ليقف على سبب الوفاة، وأن بريفوست كان لا يزال حياً، ولكن فحص الجثة هو الذي أودى بحياته(23). هذه القصة مرفوضة اليوم بصفة عامة(24).
            وكان تأثير بريفوست كبيراً. إنه أسهم في تشكيل رواية روسو "هلواز الجديدة"، وحرك ديدرو الحاد الذهن الرقيق القلب ليكتب مسرحيات باكية عاطفية. كما اتخذ هذا التأثير مثالياً في قصة "بول وفرجيني" للكاتب برناردين دي سانت بيير. وبرز التأثير من جديد في "غادة الكاميليا" لديماس الابن. ولعبت دوراً في الحركة الرومانسية، إلى أن قدم فلوبرت "مدام بوفاري" (1857). ولا تزال مانون تحيا وتموت في الأوبرا.


            4- حكماء أقل شأناً


            ونعود إلى الكلام عن راهب آخر، وينبغي علينا في هذه المرة أن نوفيه حقه. فقد رأينا كيف أن شارل ايريني كاستل راهب سان بيير، روع الدبلوماسيين في أوترخت بكتابه "مذكرة في حفظ السلام على الدوام". (1712). وهي التي أسرت لب روسو وكان كلاهما كما رأينا، بعرض على نادي "أنترسول" خليطاً من أفكار وإصلاحات تقدمية إلى حد أن الكاردينال فليري أحس بأنه مضطر إلى إغلاق النادي إنقاذاً للدولة (1731). فماذا كانت هذه الأفكار؟
            إن شارل هذا، على غرار كثير من الثائرين المتمردين، قد اكتسب ذهنه حدة ومضاء بفضل التعليم اليسوعي. إنه لم يطل به الوقت ليطرح العقيدة السائدة جانباً، وعلى الرغم من إنه ظل يعلن اعتناقه الكثلكة، فإنه ألحق بها أذى ماكراً في "مقالة ضد الإسلام"، حيث أن ما أورد فيها من حجج-مثل فولتير في كتابه "محمد"-يمكن تطبيقه بسهولة على المسيحية التقليدية. وواضح أن "تفسيره المادي" للمعجزات المزعومة التي قال بها البروتستانت والمنشقون والمسلمون" قصد به المثل التشكك في المعجزات الكاثوليكية.
            وفي 1717 ثم في 1729 أعاد نشر "مشروع السلام الدائم" بعد التوسع فيه. وناشد ملوك أوربا، ومن بينهم سلطان تركيا، أن يعقدوا ميثاقاً مقدساً يمكن أن يكفل بالتبادل ممتلكاتهم الحالية، وأن تنبذ الحرب وسيلة لتسوية الخلافات الدولية، وأن يخضع هذه الخلافات لاتحاد أوربي تكون له قوة فرض قبول القرارات التي يصدرها. وصاغ نموذجاً لدستور لهذا الاتحاد، مع القواعد التي يمكن اتباعها في إجراءات اجتماعات هذا الاتحاد. وحدد الأنصبة المالية التي تخصصها كل من الدول الأعضاء للاتحاد، ولم يكن أحد ليتوقع تنبؤه بأن مؤتمر فيينا 1715، سيشكل، على هذه الأسس "حلفاً مقدساً" للإبقاء دوماً على النظم الملكية والإقطاعية، وإخماد الحركات الثورية.
            ولم يكن ثمة صعوبات يمكن أن تزعزع ثقة الراهب المرن السريع التكيف، فأقر، في عبرة دينية الإيمان بالتقدم، وفي كتابه "ملاحظات على التقدم المستمر في العقل العالمي" (1737) أعلن، قبل كوندورسيه بزمن طويل، إمكان بلوغ الجنس البشري مرتبة الكمال غير المحدود بفضل قوة العقل في رجال العلم والحكومات. إنه فوق كل شيء قال وهو مستغرق في التفكير والتأمل، بأن الجنس البشري وفقاً لمراجع موثوقة، لا يزيد عمره على سبعة أو ثمانية آلاف سنة، ومن ثم فإنه لا يعدوا أن يكون في مرحلة "طفولة العقل"، فما الذي لا نتوقعه منه في شبابه النشيط بعد ستة آلاف سنة، وفي الازدهار الرائع في مرحلة نضج الجنس البشري بعد مائة ألف عام من الآن؟(25).
            إن سان بيير بمشكلتنا الحديثة: تلك هي أنه بينما خطت العلوم والمعرفة خطوات واسعة في طريق التقدم، لم يحدث في مجال الأخلاق أو السياسة تقدم متكافئ مع تلك الخطوات، إن المعرفة تزود الرذيلة بالوسائل والأدوات بقدر ما تهذب الأخلاق وتعمل على تنويرها. وكيف ننحو بنمو المعرفة نحو تقويم أخلاق الأفراد والأمم؟ وفي رسالته "مشروع لتحسين أوضاع حكومات الدول والبلوغ بها إلى درجة الكمال" (1737) اقترح سان بيير تأسيس "أكاديمية سياسية" تتألف من اعظم الرجال عقلاً وحكمة في البلاد، وتكون بمثابة هيئة استشارية للوزراء في الدولة في كل ما يتعلق بالإصلاح الاجتماعي والخلقي. وقدم عدة اقتراحات محددة: تعليم عام تحت إشراف الحكومة (لا الكنيسة)، تسامح ديني، زواج رجال الدين، توحيد القوانين الفرنسية، قيام الدولة برعاية الصالح العام والنظام الاجتماعي، وأخيراً زيادة الإيرادات القومية عن طريق الضرائب التصاعدية على الدخول والتركات(26). وفي 1725 أضاف الراهب إلى اللغة الفرنسية لفظة "الإحسان أو عمل الخير" ليميز الروح الإنسانية التي آثرها على الصدقات التي تقترن بفكرة التنازل والتلطف في النظام القديم. ووضع قبل هلفشيوس وبنتام بزمن طويل مبدأ المنفعة: ذلك "أن قيمة أي كتاب
            أو قاعدة أو نظام أو عمل تقاس بعدد وعظمة الملذات والمتع الفعلية التي تحققها، وما ينتظر أن تحققها في المستقبل، لأكبر عدد من الناس(27). وبدا معظم الأفكار الأساسية عند الفلاسفة استهلالاً أو مقدمة لسان بيير، بل للأمل في ملك مستنير، كعامل من عوامل الإصلاح. وكان سان بيير بكل بساطته وسذاجته وأطنابه، أحد الأذهان التي حملت بذور عصر الاستنارة.
            ولا بد أن شارل بينو ديكلوس قد ازدرى الراهب سالف الذكر لأنه خيالي واهم لا يتفق مع ذهن واقعي. ولد في دينان بمقاطعة بريتاني، واحتفظ حتى النهاية بالشخصية الجادة الحذرة العنيدة التي تميز بها البريتون. وكان ابناً لوالد برجوازي ميسور ماتت في السنة الأولى بعد المائة، فاستطاع أن يقضي شبابه الطائش في باريس في عهد الوصاية. وتلقى تعليمه العالي عند اليسوعيين وبنات الهوى، وانغمس في حماقات الشباب أيما انغماس. وزاد من حدة ذكائه في المقاهي، ومكنت له شهرته بسرعة البديهية من ارتياد المجتمع والصالونات، وزاد من شهرته بقصة "تاريخ البارونة دي لوز" (1741) التي كادت أن تكون اتهاماً لله. إن البارونة تصد كل هجوم على أمانتها الزوجية، ولكنها تستسلم لحاكم فاسق فاسد، لتنقذ حياة زوجها المتورط في مؤامرة ضد الملك. وتغتصب البارونة مرتين. وفي سورة غضب جنوني تصرخ "أيها الرب القاسي، كيف استحق كراهيتك لي هل لأن الفضيلة كريهة لديك؟(28)".
            وعلى الرغم من مغزى هذا الكتاب وما تضمنه من إثارة جنسية انتخب ديكلوس للأكاديمية (1746) بفضل نفوذ مدام دي بمبادور. واشترك بحيوية ونشاط في أعمالها، وأعاد تنظيمها، وربط بينها وبين أدب العصر وفلسفته ربطاً بعث فيها الحياة. وفي 1751 خلف فولتير في وظيفة مؤرخ لملك وفي 1754 سعى لانتخاب دالمبرت لعضوية الأكاديمية، وفي 1755 انتخب سكرتيراً دائماً لها، وظل الروح المسيطرة عليها حتى وفاته. وكسب الأكاديمية إلى جانب الأفكار المتحررة. ولكنه رثى وأسف لتهور دي هولباخ وهلفشيوس وديدرو "إن هذه العصبة من الملحدين الصغار سوف تنتهي باقتيادي إلى كرسي الاعتراف".
            وإنا لنذكره بصفة خاصة من اجل كتابه "نظرات في الخير والشر في هذا القرن" (1750) وهو يتضمن تحليلاً هادئاً دقيقاً مفصلاً عن الأخلاقيات والشخصية الفرنسية. وكتبه قبل أن يبلغ الخامسة والأربعين، واستهله بوقار حكيم خَرِفْ "لقد عشت، وأود أن أعيش لأكون ذا نفع لمن سيعيشون". ويأسف "لأن أعظم الشعوب حضارة ومدنية ليست كذلك أكثرها تمسكاً بالفضيلة": إن أسعد الفترات هي تلك التي لا تعتبر فيها الفضيلة حسنة أو ميزة، وإذا بدأ اعتبارها كذلك، فإن العادات بالفعل تتغير. وإذا أصبحت هدفاً للسخرية فتلك هي آخر مراحل الفساد(29).
            وفي رأيه أن "أكبر نقيصة في الرجل الفرنسي أن له على الدوام شخصية شبابية، ومن ثم فهو في الغالب أنيس لطيف، وقلما يكون راسخاً متزناً، ويكاد لا يمر بسن النضج، بل ينتقل من الشباب إلى عجز الشيخوخة..... فالرجل الفرنسي هو طفل أوربا(30)-مثلما أن باريس هي ملعبها. ولا يتعاطف ديكلوس كل التعاطف مع عصر العقل الذي يحس أنه دوامة تعصف حوله" "لست متأكداً من إني أحسن الظن كثيراً بهذا القرن، ولكن يبدو لي أن تخمراً معيناً في العقل يتجه نحو التطور والنمو في كل مكان(31)". إننا في هذه الأيام ننتقد كثيراً في عنف بالغ التحيز والتحامل وربما قضينا عليهما إلى حد كبير. إن التحيز ضرب من القانون العام السائد بين البشر... وفيما يتعلق بهذا الموضوع. لا أملك إلا أن أنحى باللائحة على الكتاب الذين يريدون مهاجمة الخرافة (وقد يكون من البواعث النافعة الجديرة بالثناء إذا تمت المناقشة على أساس فلسفي). فيقرضون أسس الأخلاق ويضعفون روابط المجتمع... والنتيجة المؤسفة لهذا على قرائهم، هي أن يصبح الشباب مواطنين سيئين ومجرمين مخزين، وأن ينتاب الشقاء الذين يتقدم بهم العمر(32).
            وكان جريم المراسل الباريسي للشخصيات الأجنبية وواحداً من كثير ممن استاءوا من هذا التشهير الرقيق بالفلسفة، الصادر من رجل نهل من منابع كثيرة "إذا كان المرء مجرداً من الشعور فاسد الذوق ، فليس له أن يتحدث عن الأخلاق ولا عن الفنون(33). ولكن جريم كان يزاحم ديكلوس في الظفر بالحظوة لدى مدام دي ابيناي، وإن مذكرات هذه السيدة الرقيقة لنصور ديكلوس فظاً مستبداً إذا تمكن، شديد التهور إذا غلب على أمره. ولكن جريم هو الذي أعد هذه المذكرات للنشر. وإذا كان لنا أن نصدق هذه الصفحات العتيقة الباكية فإن مدام ابيناي طردت من بيتها هذا العربيد الخائن. وهام رجل الأكاديمية العلامة على وجهه بحثاً عن مضاجع وأراض أخرى، وأخيراً رحل عن هذا العالم وهو في السابعة والستين.
            وكان لوك دي كلابيير مركيز دي فوفينارج أجدر بالحب. وفي سن الثامنة عشرة التحق بالجيش ثملاً يحب بلوتارك وبالطموح إلى ارتقاء مدارج المجد في خدمة الملك. واشترك في مغامرة الماريشال دي بل أيل المنكوبة في حملة بوهيما 1741-1743. وفي الانسحاب المهلك من براغ تجمدت رجلاه، وحارب في دتنجن 1743. ولكن اعتلت صحته إلى حد إنه ترك الجيش بعدها. وسعى إلى الحصول على منصب دبلوماسي، وكاد أن يظفر ببغيته بفضل مساعدة فولتير لولا أن مرض الجدري شوه وجهه. وبدأ بعده يضعف، وانتابه سعال مزمن قتال أقعده عن ممارسة أي عمل.
            وأصبحت الكتب عزاءه، وشغله الشاغل. وكان يقول "فوق كل شيء، إن أحسن الأشياء هي أكثرها شيوعاً، فإنك تستطيع أن تشتري ذهن فولتير مقابل كراون واحد"(34)وحذر من الحكم على الكتب بثقل وزنها، فإن خير المؤلفين قد يتحدثون أكثر مما ينبغي وكثير منهم غامضون إلى حد يبعث السأم والضجر. والوضوح يزين التفكير العميق"(35). وكان مؤلفه الذي دفع به إلى المطبعة 1746 يقع في خمس وسبعين صفحة مقدمة في التعرف على الروح الإنسانية"، وأعقبه "607 من التأملات والحكم" في 115 صفحة. وبعد ذلك بعام واحد، وفي فندق حقير في باريس، قضى نحبه، وهو في الثانية والثلاثين، وهو يمثل موزار وكيتس في الفلسفة الفرنسية.
            وقال فوفينارج "إن للفلسفة أنماطها وأشكالها، مثل الملابس والموسيقى والعمارة(36)" وقبل بضع سنين قليلة من إضفاء روسو المثالية على الطبيعة والمساواة، صور فوفينارج "الطبيعة بأنها صراع وحشي من أجل الغلبة والسيطرة"، و "المساواة" على أنها وهم وخداع: السائد بين الملوك، وبين الشعوب، وبين الأفراد، أن الأقوى يرتب لنفسه حقوقاً على الأضعف، ونفس القاعدة متبعة بين الحيوانات والكائنات غير الحية، وهكذا يجري كل شيء في الكون بالعنف. وهذا النظام الذي نعيبه بشيء من شبهة العدل، هو أعم وأثبت وأهم قانون في الطبيعة(37).
            إن كل الناس غير أحرار وغير متساوين:
            ليس حقاً أن المساواة قانون من قوانين الطبيعة. إن الطبيعة لم تجعل الأشياء متساوية. وإن قانونها الأساسي هو الإخضاع والتبعية.... ومن ولد ليطيع، فسوف يطيع حتى وهو متربع على العرش(38).
            أما بالنسبة للإرادة الحرة، فهي أيضاً أسطورة أو خرافة "فليست الإرادة هي العلة الأولى لأي تصرف أو عمل، بل إنها المنبع الأخير". وإذا أوردنا المثل التقليدي على الإرادة الحرة، وهو أنك تستطيع أن تختار هذا أو ذلك أ أو ب "بمحض إرادتك" فإن فوفينارج يرد "إني إذا اخترت ب فإن هذا بسبب أن الحاجة إلى الاختيار تقفز إلى تفكيري في اللحظة التي تجول ب بخاطري فيها(39). والإيمان بالله أمر لا مفر منه ولا غنى عنه، على أية حال. وأحس فوفينارج بأنه عن طريق هذا الإيمان وحده يمكن أن يكون للحياة وللتاريخ معنى غير الصراع الدائم والهزيمة في النهاية(40).
            وأبرز معالم فلسفة فوفينارج دفاعه عن العواطف، ولا ينبغي القضاء عليها لأنها أصل الشخصية والعبقرية وكل قوة التفكير ونشاطه. "الذهن عين النفس المبصرة، ولكن ليس قوتها، لأن قوتها تكمن في القلب أي في العواطف. إن أكثر العقول استنارة لا يمدنا بالقوة على العمل والإرادة(41).... والأفكار العظيمة تنبع من القلب... وربما كنا مدينين للعواطف بأعظم منجزات العقل(42).. إن العقل والوجدان يستشير كل منهما الأخر ويكمله بالتناوب، وهذا الذي يستشير أحدهما ويغفل الآخر، إنما يحرم نفسه في حمق وغباء من بعض الموارد التي منحنا إياها من أجل سلوكنا(43).
            وأقر فوفينارج أن حب الذات عام بين الناس، ولكنه رفض اعتباره رذيلة، حيث أنه الضرورة الأولة من ضرورات قانون الطبيعة الأول: حفظ الذات. كما أن الطموح ليس رذيلة، بل أنه حافز "إن حب المجد والعظمة هو الذي يصنع ما تحرزه الأمم من تقدم ونجاح(44). ويضيف أن المرء غير أهل للمجد والعظمة إذا لم يع قيمة الوقت(45). ومهما يكن من أمر فإن هناك رذائل يجب أن تكبح جماحها القوانين والمبادئ الأخلاقية وإن فن الحكومة ليكمن في توجيه الرذائل إلى الخير العام(46). وهناك أيضاً فضائل حقيقية "إن أولى أيام الربيع أقل روعة وفتنة من نمو الفضيلة في الشباب(47).
            وعلى الرغم من تسليم فوفينارج بآراء هوبز ولاروشفوكو، ومن تجربته للشر في حياته، فإنه احتفظ بإيمانه بالجنس البشري. قال صديقه مارمونتل: "إنه عرف الحياة ولم يحتقرها. إنه، وقد كان صديقاً للناس، اعتبر الرذيلة محنة وسوء حظ، يبتلي الناس بهما لا جريمة. وحلت الشفقة في قلبه محل الاحتقار والبغض... إنه لم يذل إنساناً قط... إن هدوءاً لم يتبدل أخفى آلامه عن أعين أصدقائه. وما كنا في حاجة لاحتمال المحنة، إلا أن تكون لنا فيه أسوة حسنة، فإنا ونحن نرى رباطة جأشه، ما كنا لنجرؤ على إظهاره حزنناً وشقائنا أمامه(48).
            ووصفه فولتير بأنه "أتعس الناس حظاً وأكثرهم هدوءاً(49).
            إن من أكرم مظاهر الأدب الفرنسي في القرن الثامن عشر. ذلك العطف السابغ والعون الودي اللذين حبا بهما فولتير "نبي العقل" فوفينارج نصير بسكال و "القلب". إن الفيلسوف الشاب أعلن عن إعجابه "برجل يشرف قرننا، رجل لا يقل عظمة وشهرة عن أسلافه"(50). وكتب إليه الرجل العجوز الأكبر منه سناً في لحظة من لحظات التواضع: "لو أنك كنت قد رأيت التور قبل مولدك ببضع سنين، فلربما اكتسبت كتاباتي قيمة أكبر(51)إن أفصح قطعة في مجلدات فولتير المائة هي ما قال في تأبين فوفينارج عند تشييع جنازته(52).


            5- مونتسكيو




            1689 - 1755




            أ - الرسائل الفارسية


            وجد فولتير أنه من العسير عليه أن يحب مونتسكيو لأن مؤلفه "روح القوانين" (1748) اعتبر بصفة عامة أعظم إنتاج عقلي في هذا العصر. وظهر كتاب حين بلغ صاحبه التاسعة والخمسين، وكان ثمرة خمسين عاماً من التجربة والخبرة، وأربعين عاماً من الدرس والبحث وعشرين عاماً قضاها في تأليفه.
            ولد شارل لويس دي سيكوندا بارون دي لابريد ودي مونتسكيو، في لابريد بالقرب من بوردو وفي مقاطعة مونتاني، في 18 يناير 1689. وكان يفاخر مبتهجاً بأنه من سلالة هؤلاء القوط، وهم الذين بعد أن غزوا الإمبراطورية الرومانية، "أسسوا الملكيات وأقاموا صرح الحرية هنا وهناك في كل مكان"(53)إنه انتسب على أية حال إلى "نبلاء السلاح ونبلاء الرداء" كان أبوه كبير القضاة في جوين، وكان الصداق التي قدمته أمه قصر لابريد وأرضها. وفي ساعة مولده تقدم إلى بوابة القصر سائل مسكين، فأدخلوه وأطعموه وجعلوا منه عراباً للطفل (أي أباه في العماد)، زعماً منهم بأن شارل لن ينسى الفقراء أبداً(54). وتربى طوال السنوات الثلاث الأولى من عمره بين فلاحي القرية، وأرسل في سن الحادية عشرة إلى مدرسة طائفة الأورتوريين في جويللي على بعد عشرين ميلاً من باريس.. ثم عاد إلى بوردو في سن السادسة عشرة ليدرس القانون. وفي سن التاسعة عشرة حصل على درجته العلمية في القانون.
            وفي 1713 مات أبوه، وكان شارل آنذاك في الرابعة والعشرين من عمره، تاركاً له ممتلكات واسعة وثروة متوسطة. وكان يتحدث بصراحة عما "يملك من أرض وعن اتباعه" وسوف تراه تمسك بشدة بالنظام الإقطاعي. وبعد ذلك بسنة دخل برلمان بوردو عضواً وقاضياً. وفي 1716 أوصى له عمه-الذي كان قد اشترى رياسة البرلمان-بثروته ومنصبه، وقد دافع مونتسكيو فيما بعد عن "بيع المناصب" باعتباره "عملاً حسناً في الدول الملكية، لأنه يجعل من واجب أبناء الأسرات العريقة أن ينهضوا بالمهام التي قد لا يحصلون عليها عن طريق الدوافع النزيهة غير المغرضة وحدها(56). وبينما كان يتولى رياسة البرلمان قضى معظم وقته في الدرس والبحث، فأجرى تجارب وقدم أبحاثاً في الفيزياء والفسيولوجيا إلى أكاديمية بوردو، وخطط "تاريخاً جيولوجياً للأرض" لم يكتبه قط ولكن المادة التي جمعها له شقت طريقها إلى كتابه "روح القوانين".
            وكان في الثانية والثلاثين حين ملأ أبصار وأسماع باريس في عهد الوصاية بأروع كتبه. إنه أغفل ذكر اسمه على كتابه "الرسائل الفارسية" (1721) لأنه ضم بين دفتيه قطعاً لا يليق صدورها عن قاض. وربما أخذ فكرته عن كتاب جيوفاني مارانا "جاسوس السيد الكبير" (1684) الذي نقل فيه جاسوس تركي وهمي للسلطان، في بذاءة تلفت النظر، عقائد المسيحيين الفاسدة وسلوكهم في أوربا، والمفارقات المضحكة أو القاتلة بين ما يعلنون وما يفعلون، وثمة أسلوب شبيه في تصوير الحضارة الغربية كما يراها الشرقيون، استخدمه أديسون في سبكتاتور"، وكان شارل دفرسني "تسليات جادة وهازلة" قد تصور تعليقات أحد أبناء سيام في باريس، كما أن نيقولا جيوددقيل كان قد أبرز العادات الفرنسية كما يراها أحد هنود أمريكا، وكانت ترجمة جالاند لكتاب "ألف ليلة وليلة" (1704- 1717) قد زادت من شغف الفرنسيين بالحياة الإسلامية، كذلك فعلت المحاضرات المصورة عن رحلات سير جون شاردان وجان تافرنيه. كما أنه من مارس إلى يوليه 1721 لفت السفير التركي أنظار باريس بفتنة زيه وأساليبه الغريبة. من أجل ذلك كله كانت فرنسا مستعدة لتلقى "الرسائل الفارسية". وبيع من هذا الكتاب ثمان طبعات على مدى عام واحد.
            وقدم مونتسيكيو "الرسائل" على أنها مكتوبة بقلم ريكا وأوزبك، وهما سائحان فارسيان في فرنسا. ومراسليهما في أصفهان. إن هذه الرسائل لن تعرض فقط نقاط الضعف والأهواء والتحيز عند الفرنسيين، ولكنها كشفت أيضاً عن حماقات السلوك والمعتقدات الشرقية من خلال الكتاب أنفسهم.
            وحين يسخر القارئ من هذه العيوب والأخطاء، فليس أمامه إلا أن يتقبل عن طيب خاطر السخرية من عيوبه وأخطائه هو. وقد مست هذه العيوب والأخطاء مساً رقيقاً. ومن ذا الذي يغضب لهذه الأفكار الساخرة غير المقصودة، أو الطعنات بسيف مغلف بطريقة مهذبة؟ وفوق ذلك تضمنت بعض الرسائل أسراراً أو رسائل شخصية سارة من حريم أوزبك في أصفهان. من ذلك أن زاكي أي محظيته تكتب لتبلغه بما تعاني من آلام مبرحة لغيابه عنها. كما أن ريكا تصف مفهوم سيدة مسلمة عن الجنة بأنها مكان يكون فيه لكل سيدة فاضلة مجموعة من الرجال الوسيمين المكتملي الرجولة، وهنا يطلق مونتسكيو لقلمه العنان في سرد التفاصيل في أسلوب الطيش الذي اشتهر به عهد الوصاية.
            وكان من غير المستطاع، اللهم في فترة خلو العرش هذه، أن تتفادى الهرطقات السياسية والدينية في الرسائل عين الرقيب والمؤاخذة الرسمية. لقد قضى الملك القديم نحبه، والملك الجديد ما زال صبياً، والوصي رجل متسامح مرح مبتهج. وعند ذاك استطاع مونتسكيو أن يجعل الفارسيين الذين أوردهم في رسائله يسخرون من حاكم "ساحر" جعل الناس يعتقدون أن الورق نقود (كان نظام لو قد انهار.(57)) كما استطاع أن يفضح فساد الحاشية، وخمول النبلاء المبذرين وسوء إدارة أموال الدولة، وأن يمتدح جمهوريات اليونان وروما القديمة، والجمهوريات الحديثة في هولندا وسويسرا. يقول أوزبك "إن الملكية نظام شاذ غير سوي، ينزلق إلى حكم استبدادي مطلق"(58) (انظر فيما بعد رأياً مخالفاً).
            وفي الرسائل من 11-14 يوضح أوزبك طبيعة الإنسان ومشكلة الحكم بالتحدث عن سكان الكهوف (التروجلوديون) الذين يتخيلهم عرباً انحدروا من التروجلودييين الذين وصفهم هيرودوت(59)وأرسطو(60)بأنهم قبائل همجية عاشت في أفريقية (قبل التاريخ). وكان تروجلوديو أوزبك يكرهون كل تدخل حكومي. ومن ثم قتلوا كل حاكم مفكر، وعاشوا في جنة من الحرية التامة "اتركه ليعمل" واستغل كل بائع حاجة المستهلك ورفع سعر منتجاته. وإذا اغتصب رجل قوي زوجة رجل ضعيف، فليس ثمة قانون أو حاكم يلجأ إليه. وأفلت القتل والاغتصاب والسلب والنهب دون عقاب، اللهم إلا الاقتصاص الخاص بالعنف، وإذا عانى سكان النجاد من الجفاف تركهم سكان الوهاد يموتون جوعاً، وإذا عانى هؤلاء من الفيضان تركهم سكان النجاد يهلكون. ومن ثم فنيت القبيلة، وبقى على قيد الحياة أسرتان بفضل الهجرة، وتبادلتا العون، ونشأتا أطفالهما على التمسك بالدين والفضيلة واعتبرتا أنهما أسرة واحدة، واختلطت قطعانهما دائماً تقريباً.(61)ولما زاد عددهم وجدوا أن أعرافهم غير كافية-لحكمهم فاختاروا ملكاً وخضعوا للقوانين. وانتهى أوزبك إلى أن الحكومة ضرورية ولكنها تعجز عن تأدية مهمتها إذا لم تكن قائمة على الفضيلة في الحاكم والمحكومين..
            وكانت الهرطقات الدينية في الرسائل أكثر ترويعاً وتنفيراً من الهرطقات السياسية. ويرى أوزبك أن الزنوج يتصورون أن الإله أسود وأن الشيطان أبيض. ويوحي (مثل زينوفون) بأنه إذا كانت المثلثات تتحدث عن اللاهوت، فلا بد أن للإله ثلاث أضلاع وثلاث نقاط حادة. ويعجب أوزبك من ساحر آخر يسمى البابا، يحث الناس على الاعتقاد بأن الخبز ليس خبزاً وأن الخمر ليس خمراً، وألف شيء من هذا الطراز.(62)ويسخر من الصراع بين اليسوعيين والجانسينيين. وأفزعته محاكم التفتيش في أسبانيا والبرتغال، حيث "يتسبب الدومنيكان في إحراق الناس كما يحرق القش".(63)ويسخر من المسابح وثياب الرهبان الفضفاضة. وهو يتساءل كم تعمر البلاد الكاثوليكية في منافسة مع الشعوب البروتستانتية، لأنه يرى أن تحريم الطلاق وعزوبة الراهبات والرهبان سوف يعوقان ازدياد السكان في فرنسا وإيطاليا وأسبانيا (قارن إيرلندة في القرن العشرين) ويقدر أوزبك، على هذا المعدل، أن الكاثوليكية في أوربا لن تعمر أكثر من 500 سنة أخرى(64) . أضف إلى هذا أن هؤلاء الرهبان الخاملين الذين يزعمون انهم مستعصمون زاهدون يستولون على كل ثروة الدولة تقريباً. إنهم عصبة من البخلاء يأخذون دائماً ولا يعطون أبداً. إنهم باستمرار يكنزون دخولهم لتكون مصدر قوة. وتصاب هذه الثروة بالشلل، فلا تتداول ولا تستغل في التجارة أو الصناعة أو المصانع"(66)ويقلق أوزبك التفكير في أن كفار أوربا الجهلة الذين يعبدون المسيح بدلاً من عبادة الله والإيمان بحمده سيكون مصيرهم النار، ولكن يراوده بعض الأمل في أنهم في النهاية سيعتنقون الإسلام ويُنقذون(67).
            وفي تخيل رمزي جليل يتأمل أوزبك في الإلغاء (1685) مرسوم هنري الرابع للتسامح المعروف بمرسوم نانت.
            أنت تعلم ياميرزا كيف أن بعض وزراء الشاه سليمان (لويس الرابع عشر) دبروا خطة لإرغام الأرمن في فارس (الهيجونوت) على مغادرة المملكة أو الدخول في الإسلام (الكثلكة)، اعتقاداً منهم بأن إمبراطوريتنا ستظل ملوثة ما دامت تحتضن هؤلاء الكفار... إن اضطهاد مسلمينا الغيورين لهؤلاء الكفار عبدة النار اضطرهم إلى الفرار زرافات إلى الهند الشرقية، وبذلك حرم فارس من هذا الشعب الجاد النشيط. ولم يبق أمام هذا التعصب الأعمى إلا شيء واحد هو تدمير الصناعة، حتى تنهار الإمبراطورية (فرنسا 1713)، حاملة معها تلك الديانة التي أرادوا لها النهوض والتقدم.
            وإذا كان الحوار النزيه غير المتحيز ممكناً يا ميرزا، فلست متأكداً من أنه من الخير للدولة أن تكون بها عدة ديانات مختلفة... والتاريخ زاخر بالحروب الدينية، ولكن... ليس تعدد الديانات هو الذي أدى إلى الحروب، بل روح التعصب الذي يشجع الديانة التي تعتقد أنها في صعود(68).
            إن الأفكار التي تضمنتها الرسائل الفارسية تبدو لنا الآن مبتذلة عتيقة. ولكنها كانت للمؤلف حين عبر عنها، مسألة حياة أو موت، وعلى الأقل مسألة سجن أو نفي. إنها الآن عتيقة لأننا كسبنا معركة الحرية في التعبير عن الآراء. إن الرسائل الفارسية فتحت الطريق، لهذا استطاع فولتير بعد ذلك بثلاث عشرة سنة أن يصدر "رسائل عن الإنجليز" ويلقي ضوءاً إنجليزياً على حطام فرنسا. وأعلن هذان الكتابان عن عصر الاستنارة. وعمر مونتسكيو وحريته بعد كتابه، لأنه كان من طبقة النبلاء، ولأن الوصي على العرش كان متسامحاً، كما ارتفعت بعض أصوات الاستنكار وسط التهليل والإعجاب، ومع ذلك لم يجرؤ على الإفصاح عن اسمه وهو المؤلف. وذهب دارجنسون الذي انتقد هو نفسه الحكومة فيما بعد إلى أن "هذه التأملات وأفكار لا يستطيع أن يأتي بها رجل ذكي بسهولة، ولكن ينبغي على الرجل الحصيف الحذر ألا يسمح بطبعها". وأضاف ماريفو الحريص "يجدر أن يضن الإنسان بمجهوده في مثل هذه الموضوعات" وقال مونتسكيو "عندما حظيت إلى حد ما بتقدير الجمهور فقدت تقدير الطبقات الرسمية، وواجهت ألفاً من ألوان الاستخفاف والاستهزاء"(69).
            وعلى الرغم من كل شيء قصد مونتسكيو إلى باريس ليرشف كؤوس الشهرة في المجتمع وفي الصالونات. وفتحت له الأبواب مدام دي تنسان ومركيزة لمبرت ومركيزة ديناند. ولما كان قد ترك زوجته وراءه في لابريد فلم يكن من العسير أن يقع في شراك الغرام مع سيدات باريس. وتطلع إلى آفاق بعيدة، فتاقت نفسه إلى ماري آن دي يوربون أخت الدوق دي بوربون الذي أصبح رئيساً للوزارة في 1723. ويروي من أنه ألف من أجلها شعراً منثوراً "معبد الحب" (1725) عامراً بنشوة الوجد والهيام، وخفف من وطأة خلاعة هذا الشعر بادعائه أن القصيدة مترجمة عن اليونانية، ومن ثم حصل على ترخيص ملكي بطبعها. وبذل المساعي وبخاصة عن طريق مدام دي ري، لينضم إلى الأكاديمية، فاعترض الملك بأنه غير مقيم في باريس. فأسرع إلى بوردو وتخلى عن رياسته لبرلمانه، وانضم إلى مجمع الأربعين الخالدين (1728).
            وفي أبريل قام برحلة استغرقت ثلاثة أعوام زار فيها بعض أجزاء إيطاليا والنمسا والمجر وسويسرا وأراضي الراين وهولندة، وإنجلترا. التي قضى فيها ثمانية عشر شهراً (نوفمبر 1729-أغسطس 1731) وهناك عقد أواصر الصداقة مع تشسترفيلد وغيرهم من وجوه القوم، واختير عضواً في الجمعية الملكية في لندن، وانضم إلى البنائين الأحرار (الماسونية)، واستقبله الملك جورج الثاني والملكة كارولين، وحضر جلسات البرلمان، وأولع بما ظنه الدستور البريطاني. وعاد أدراجه إلى فرنسا شديد الإعجاب-مثل فولتير-بالحرية، ولكن ما لمسه من مشاكل الحكومة زاد من رصانته واتزانه. وآوى إلى لابريد، وحول متنزهه إلى حديقة إنجليزية، وتفرغ-فيما عدا زيارات طارئة إلى باريس-لأبحاثه وكتاباته التي شغلت بقية أيام حياته.


            ب- لماذا سقطت روما


            في 1734 أصدر مونتسكيو، دون توقيع، ولكن معترف به عند الجمهور، "نظرات في أسباب عظمة الرومان وسقوطهم". وكان قد دفع بالمخطوطة إلى عالم يسوعي، ووافق على حذف ما يمكن أن يثير ريب الكنيسة. ولكن الكتاب لم يجد، وما كان له أن يجد النجاح الذي صادفته "الرسائل الفارسية" لأنه لم يتضمن أية بذاءات أو أية أشياء تجافي الاحتشام، بل كان يعالج موضوعاً قديماً معقداً وكان محافظاً نسبياً في سياسته ولاهوته. ولم يستسغ المتطرفون (الراديكاليون) التوكيد على أن يكون الانحطاط الخلقي سبباً للاضمحلال القومي، ولم يكونوا مستعدين ليقدروا عمق التقدير والحكمة الرائعة في عبارات مثل "أن الذين لم يعودوا يرهبون القوة في مقدورهم أن يظلوا على احترامهم للسلطة".(70)وتعتبر هذه الرسالة الصغيرة الآن محاولة رائدة في فلسفة التاريخ، ورائعة من روائع النثر الفرنسي تعيد إلى الأذهان ذكرى بوسويه ولكنها تضيف الروعة إلى الوقار.
            إن الموضوع جذب نظر المؤرخ الفيلسوف لأنه انتظم السلسلة الكاملة لحضارة عظيمة من الميلاد إلى الفناء، وعرض في نظرة شاملة وتفصيل رائع إحدى عمليات التاريخ الأساسية-وهي عملية الفناء أو الانحلال الذي يبدو أنه قدر محتوم أن يعقب كمال التطور في الأفراد والديانات والدول. وكان ثمة اشتباه في أن فرنسا بعد انقضاء القرن العظيم، قد دخلت في فترة طويلة من الاضمحلال في الإمبراطورية والأخلاق والأدب والفن. إن الثالوث المدنس: فولتير وديدرو وروسو-لم يكن قد بدأ بعد إنهم يتحدون التفوق الفكري والعقلي في القرن السابع عشر. ولكن جراءة العصر الجديد المتزايدة برزت في حقيقة أن مونتسكيو، وفي إيضاحه وشرحه لمجرى التاريخ لم يدرس إلا الأسباب الأرضية، وطرح جانباً في هدوء اللهم إلا لمحات من الإجلال الطارئ، العناية الإلهية التي نجدها في كتاب بوسيويه "بحث في تاريخ العالم" قد اتجهت بكل الأحداث إلى نتائج محتومة بقضاء هذه العناية الإلهية. ورأى مونتسكيو أن يفتش عن قوانين التاريخ، مثلما كان نيوتن يبحث عنها في الفضاء: "ليس الحظ هو الذي يحكم العالم، كما نرى من تاريخ الرومان... فثمة أسباب عامة معنوية أو مادية، تعمل عملها في كل مملكة، ترفعها أو تحافظ عليها أو تطيح بها، وكل ما يحدث خاضع لهذه الأسباب. وإذا كان ثمة سبب خاص يعينه، مثل النتيجة الطارئة لمعركة ما هو الذي قضى على دولة ما، فهناك سبب هام جعل سقوط هذه الدولة ينتج عن معركة واحدة. وصفوه القول إن الحركة العامة نجر معها كل الأحداث الخاصة غير المتوقعة(71).
            وبناء على هذا اختزل مونتسكيو وهبط بدور الفرد في التاريخ. فالفرد مهما عظمت عبقريته لا يعدو أن يكون أداة "الحركة العامة". ولا ترجع أهميته إلى قدرته الفائقة بقدر ما ترجع إلى التقائه مصادفة مع ما أسماه هيجل "روح العصر" فلو أن قيصر وبومبي فكرا مثل ما فكر كاتو (سعياً في الإبقاء على سلطة السناتور الروماني) فربما انتهى آخرون غيرهما إلى نفس أفكارهما. وعند ذاك كانت الجمهورية التي كان مقدراً عليها الفناء لأسباب داخلية، تنساق إلى الانهيار على أيد أخرى"(72).
            ولكن القدر ليس توجيهاً روحياً أو باطنياً، وليس قوة ميتافيزقية. انه مجموعة معقدة من عوامل تنتج "الحركة الرئيسية". والمهمة الأساسية للمؤرخين الفلسفيين، في رأي مونتسكيو، هي الكشف عن كل عامل من هذه العوامل وتحليله وتبيان فعاليته وعلاقته. ومن ثم كان سقوط روما (في نظره) يرجع أولاً إلى التحول من جمهورية توفر لها توزيع السلطات وتوازنها، إلى إمبراطورية تصلح أكثر ما تصلح لحكم بلاد تابعة لها، ولكنها تركز كل الحكم في مدينة واحدة في يد رجل واحد، مما يدمر حرية ونشاط المواطنين والأقاليم. ويمرر الزمن انضمت أسباب أخرى إلى هذا السبب الرئيسي: انتشار الخنوع والخمول بين الجماهير، رغبة الفقراء في أن تعولهم الدولة، ضعف الأخلاق بسبب الثروة والترف والفسق والفجور، تدفق الغرباء الذين تشكلهم التقاليد الرومانية والذين كانوا مستعدين لبيع أصواتهم لمن يدفع أكبر ثمن، فساد رجال الإدارة المركزيين والمحليين، خفض قيمة العملة، فداحة الضرائب، هجر المزارع، استنزاف الحيوية العسكرية بسبب الديانات الجديدة وطول أمد السلم، وفشل النظام العسكري وسيطرة الجيش على الحكومة المدنية، إيثار الجيش تنصيب الأباطرة أو خلعهم عن حماية الحدود من هجمات المتبربرين.... ومن الجائز أن مونتسكيو-على عكس توكيد بوسويه على العوامل الخارقة للطبيعة-لم يقم وزن كبير لتغيير الديانات، الذي أكده جيبون سبباً أساسياً لانهيار الإمبراطورية.
            ولكن مونتسكيو كان دوماً يعود إلى ما أعتبره العامل الرئيسي في اضمحلال روما-وهو التحول من الجمهورية إلى الملكية, ذلك أن الرومان غزوا بفضل مبادئهم الجمهورية، كثيراً من الشعوب، ولكن في الوقت الذي حققوا فيه هذا، لم تقو الجمهورية على الصمود، وتسببت في الاضمحلال مبادئ الحكم الجديد وهي مخالفة لمبادئ الجمهورية(73). ومهما يكن من شيء فأننا عدنا إلى الفصل السادس لنتفحص المبادئ الأساسية أو الوسائل التي قهرت بها الجمهورية الرومانية "كل الشعوب" نجد مجموعة منوعة غريبة: الخداع، نقض المعاهدات، العنف والقوة، العقوبات الصارمة، بذر بذور الشقاق بين العدو ليسهل قهره تدريجياً، (فرق تسد)، نقل السكان من مكان إلى مكان بالقوة، تعكير جو الحكومات المناهضة ومحاولة القضاء عليها بتقديم المساعدات للثورات الداخلية ورشوة القائمين بها. وغير ذلك من الإجراءات المألوفة لدى رجال الدولة. واستخدم الرومان حلفاءهم في القضاء على أعدائهم، وسرعان ما استداروا ليدمروا هؤلاء الحلفاء(74)وواضح-أن مونتسكيو-ناسباً هذا الوصف للمبادئ الجمهورية أو مزدردا ميكافيللي في جرعة واحدة-اعتبر في الفصل الثامن عشر، الجمهورية مثلاً أعلى للعظمة، ورثى الإمبراطورية منزلقاً بهيجاً للانحلال. ومع ذلك اعترف بفساد السياسة في الجمهورية وبالعظمة السياسية للإمبراطورية في ظل "حكمة نرفاء، ومجد تراجان، وبسالة هادريان وفضائل الاثنين الانطونينيين"(75)وهنا وجه مونتسكيو كلاً من جيبون ورينان إلى تسمية هذه الحقبة "أكرم وأسعد حقبة في تاريخ الحكومة". ولدى هؤلاء الملوك الفلاسفة وجد مونتسكيو أيضاً أخلاق الرواقين التي فضلها بصراحة ووضوح على الأخلاق المسيحية، وانتقل إعجاب مونتسكيو بالرومان في عهد الجمهورية إلى الفرنسيين المتحمسين للثورة، وأسهم في تغيير الحكومة الفرنسية، والنظم العسكرية والفنون في فرنسا.
            ووقع في الكتاب بعض أخطاء في عمل علمي عجل به ضغط الوقت والرغبة في إنجاز مهمة أضخم. فلم يكن مونتسكيو في بعض الأحيان مدققاً في استخدام النصوص القديمة. من ذلك، على سبيل المثال أنه أخذ الفصول التي كتبها ليفي عن "نشأة روما" على أنها تاريخ، على حين أن فاللا وجلارونوس وفيكو رفضوا هذه الرواية على أنها أسطورة. ويبخس مونتسكيو من قيمة العوامل الاقتصادية وراء سياسة جراتشي وقيصر، ولكن في نقابل مواطن الضعف هذه، فأن نظرة أوسع لا بد أن تحيط ببلاغة الكتاب وقوته وتركيز أسلوبه، ويعمق التفكير وأصالته، ومحاولة المؤلف الجريئة في أن يرسم في صورة واحدة ارتفاع وسقوط حضارة كاملة، ويرتفع بالتاريخ من مجرد سجل للتفاصيل إلى تحليل النظم ومنطق الأحداث. وهنا كان ثمة تحد للمؤرخين، كان على فولتير وجيبون أن يسعيا لمواجهته، كما كان هنا تلهف على فلسفة للتاريخ قد يحاول مونتسكيو نفسه، بعد جيل من الكد والجد أن يتبعه بكتاب "روح القوانين".


            جـ- روح القوانين


            مضت أربعة عشر عاماً بين ظهور كتاب "النظرات" وكتاب "روح القوانين" بدأ مونتسكيو أروع أعماله هذا حوالي 1729، وهو في سن الأربعين. وكان موضوع روما حصيلة جانبية أو ثانوية إعتراضية.وفي 1747 حين بلغ السادسة والخمسين لقي من العمل نصباً وكأن به ميلاً إلى تركه، "كثيراً ما شرعت في هذا الكتاب، وكثيراً ما طرحته جانباً. وقذغت بالأوراق التي كتبتها ألف مرة."(76)وأهاب بالموزيات ربات الفنون والعلوم أن يرعينه ويساعدنه: "إن الدرب طويل، ولقد أضناني الأسى والإرهاق، أدخلن على قلبي البهجة والفتنة اللتين تدفعان بي إلى السير في الطريق، لقد عرفتهما يوماً، ولكنهما الآن تخلتا عني أنتن لستن مقدسات مطلقاً، إلا حين تتولين قيادنا، عن طريق اللذة والسرور، إلى الحكمة والحق"(77). ولا بد أن هؤلاء الربات استجبن لندائه، لأنه واصل العمل. ولما انتهت المهمة في خاتمة المطاف اعترف بتردده واعتداده بنفسه وزهوه: لقد سلكت طريقي نحو الهدف دون إعداد خطة. ولم أعرف أية قاعدة ولا شواذ وما عثرت على الحقيقة إلا لافتقادها ثانية. ولكن عندما وقعت على الأصول والمبادئ ذات مرة وأتاني كل ما كنت أفتش عنه، وفي غضون عشرين عاماً، وجدت أن العمل قد بدأ وخطا خطوات ثم أشرف على الاكتمال، حتى أنجز... وإذا صادف هذا العمل نجاحاً، فأني سأكون مديناً به لعظمة الموضوع وجلاله. ومهما يكن من أمر، فلست أظن أني كنت مفتقراً إلى العبقرية كل الافتقار, ولما رأيت كم من عظماء الرجال في فرنسا وألمانيا طرقوا هذا الموضوع قبلي، تملكتني الحيرة إعجاباً بهم، ولكن لم أفقد شجاعتي ولم يزايلني الإقدام، وقلت مع كوريجيو "وأنا أيضاً رسام"(78).
            وعرض المخطوطة على هلفشيوس وهبنولت وفونتبيل، ورأى هذا الأخير أن البحث يفتقر إلى طلاوة الأسلوب الفرنسي.(79)وتوسل هلفشيوس إلى المؤلف ألا يسيء سمعته الطيبة بوصفه متحرراً بنشر كتاب يتساهل إلى هذا الحد مع كثير من المعتقدات المحافظة المتمسكة بالقديم(80). وقرر مونتسكيو أن هذه التحذيرات غير ذات موضوع، وتقدم للطبع. ولما كان يخشى الرقابة الفرنسية فانه أرسل المخطوطة إلى جنيف، وهناك صدر الكتاب 1748 في مجلدين، دون ذكر اسمه. وحين كشف رجال الدين الفرنسيون عن هرطقاته شجبوه وصدر أمر الحكومة بمنع تداوله في فرنسا. وفي 1750 تولى مالشرب-منقذ دائرة المعارف فيما بعد-شئون الرقابة، رفع الحظر عن الكتاب، وسرعان ما شق طريقه وصدرت منه وعشرون طبعة في عامين، وسرعان ما ترجم إلى لغات أوربا المسيحية.
            وكانت العنونات على أيام مونتسكيو توضيحية حقاً، دقيقة غالباً. ولذا سمى كتابه "في روح القانون" أو "في العلاقات التي يجب أن تقوم بين القوانين وبين دستور كل حكومة، والعادات والمناخ والديانة والتجارة، وغيرها". وكان بحثاً في العلاقات بين القوى المادية والأنماط الاجتماعية، وفي العلاقات المتبادلة بين مكونات الحضارة. وحاول أن يضع الأساس لما يمكن أن نسميه الآن علم الاجتماع العلمي": أي-على غرار البحث في العلوم الطبيعية-التمكن من الوصول إلى نتائج محققة يمكن إثباتها، تلقى الضوء على المجتمع الحاضر، إلى تنبؤات مشروطة للمستقبل، وكان عسيراً بطبيعة الحال، على رجل واحد أن يتمه مع قصر العمر، والأوضاع الحالية للأثنولوجيا (علم الأعراق البشرية) والتشريع والتأريخ.
            وبمعنى أدق، كانت فكرة مونتسكيو أن روح القوانين "-أي أصلها وطبيعته ونزعتها-إنما يحددها أولاً مناخ البلاد وتربته، ثم فسيولوجية الشعب واقتصاده وحكومته ودينه وخلقه وعاداته. وبدأ بتعريف عريض: إن القوانين بأوسع معانيها وأكثرها تعميماً هي العلاقات الضرورية التي تنشأ عن طبيعة الأشياء وواضح أنه أراد أن يأتي "بالقوانين الطبيعية" في العالم المادي، والاطرادات القياسية في التاريخ، تحت مفهوم عام واحد. وعلى غرار جروشيوس وبوفندروف وغيرهما ممن سبقوه، ميز مونتسكيو بين عدة أنواع من القوانين: 1-القانون الطبيعي، الذي عرفه بأنه "عقل إنساني، بقدر ما يحكم شعوب الأرض بأسرها"(81)أي "الحقوق الطبيعية" لكل الناس بوصفهم كائنات وهبت عقلاً. 2-قانون الأمم في علاقاتها بعضها ببعض. 3-قوانين سياسية تحكم العلاقات بين الفرد والدولة. 4-القانون المدني علاقات الأفراد بعضهم ببعض.
            وذهب مونتسكيو إلى أنه في الأطوار الأولى للمجتمع البشري كان العامل الحاسم في القوانين هو التضاريس الأرضية: أهي غابة أم صحراء أم أرض منزرعة؟ أهي أرض داخلية أم ساحلية؟ أهي جبال أم سهول؟ وما هو نوع التربة وطبيعة الغذاء الذي تنتجه؟ وصفوة القول أن المناخ أول العوامل وبالدرجة الأولى أقوى العوامل في تحديد اقتصاد الشعب وقوانينه (وشخصيته القومية). (إن بودين في القرن السادس عشر سبق مونتسكيو إلى هذا التوكيد الأولى كما تبعه فيه بكل في القرن التاسع عشر). تأمل على سبيل المثال الفوارق المناخية، ونتيجة لها الفوارق البشرية، بين الشمال والجنوب:
            إن الناس أكثر نشاطاً وحيوية في الأجواء الباردة... وهذا التفوق في القوة لا بد أن ينتج آثاراً مختلفة: وعلى سبيل المثال جرأة أكبر، أي مزيداً من الشجاعة، وشعوراً أكبر بالتفوق، أي رغبة أقل في الانتقام، وشعوراً أكبر بالأمن أي مزيداً من الصراحة وقدراً أقل من الارتياب ومن الدهاء السياسي والمكر. لقد شهدت الأوبرا في لإنجلترا وفي إيطاليا حيث رأيت نفس الروايات ونفس الممثلين، ومع ذلك فإن نفس الموسيقى حدثت آثاراً متباينة في كل من الأمتين، فإحداهما فاترة رابطة الجأش، والثانية نشيطة منتعشة مبتهجة... وإذا نحن سافرنا إلى الشمال لالتقينا بأناس قلت رذائلهم وكثرت فضائلهم... وإذا نحن اقتربنا من الجنوب لتخيلنا أننا نبتعد كل الابتعاد عن حدود الأخلاق، حيث تؤدي أقوى الانفعالات والأهواء إلى شتى أنواع الجرائم، حيث يبذل كل إنسان أقصى الجهد، إذا واتته الظروف، أن يحقق رغباته الجامحة...".
            وفي البلاد الحارة نجد الماء الموجود في الدم يضيع إلى حد كبير بسبب العرق، ومن ثم يجب تعويضه بسائل مماثل، وللماء هناك فوائد جمة، وقد تعمل المشروبات القوية على تخثير كريات الدم الذي يتبقى بعد تبخر الرطوبة المائية. أما في البلاد الباردة فالماء المختلط بالدم قليلاً ما يفقد بالعرق، ومن ثم يجدر أن يستفيدوا من المشروبات الروحية التي بدونها قد يتخثر الدم... ومن ثم نجد أن تحريم الشريعة الإسلامية للخمر يلائم بلاد العرب. والقانون الذي حرم على القرطاجيين شرب الخمر قانون مناخي. ومثل هذا القانون لا يصلح للبلاد الباردة حيث يبدو أن المناخ يفرض عليهم لوناً من الإدمان على المسكرات بشكل عام... وينتشر شرب الخمر على قدر البرودة والرطوبة في الجو(82). أو تأمل العلاقة بين المناخ والزواج: إن الإناث في البلاد الحارة يكن صالحات للزواج في سن الثامنة أو التاسعة أو العاشرة... ويهرمن في سن العشرين، ومن ثم فإن عقلهن لا يقترن بجمالهن. وإذا تطلب الجمال السيطرة والتسلط أفسد العقل هذا المطلب. وإذا تحلين بالعقل تجردن من الجمال.. ومن ثم ينبغي أن تكون هؤلاء السيدات في حالة من التبعية، لأن العقل في الشيخوخة لا يمكن أن يوفر السيطرة التي لم يستطع حتى الشباب والجمال أن يحققاها. ولهذا كان طبيعياً إلى أبعد الحدود في هذه البلاد، إذا لم يكن ثمة قانون يمنع، أن يترك الرجل زوجة ليتزوج بأخرى وأن يباح تعدد الزوجات.
            وفي المناخ المعتدل. حيث تحتفظ النساء بمفاتنهن على أكمل وجه، وحيث يتأخر بلوغهن سن النضج، وينجبن في مرحلة متقدمة من الحياة، نجد أن الشيخوخة أزواجهن تتبع شيخوختهن إلى حد ما، وحيث أنهن كن يتمتعن بقدر أكبر من العقل والمعرفة عند الزواج (أكبر من مثيلاتهن في الأقاليم شبه المدارية)، فإن هذا يستوجب وجود نوع من المساواة بين الجنسين، وقانون الاقتصار على زوجة واحدة تبعاً لذلك. وهذا هو السبب في أن الإسلام (مع نظام تعدد الزوجات) دخل بسهولة واستقر في آسيا بقدر ما امتد بصعوبة إلى أوربا، وأن المسيحية استقرت في أوربا وتحطمت في آسيا. وقصارى القول، هذا هو السبب في أن الإسلام أحرز مثل هذا التقدم في الصين، على حين لم تتقدم المسيحية إلا قليلاً(83).
            وعند هذه النقطة يتبين مونتسكيو أنه أحل المناخ محل العناية الإلهية عند بوسويه، ويسارع فيضيف إكراماً للرب، احتراساً منقذاً: إن عقول البشر على أية حال خاضعة للعلة الأسمى، الله، الذي يفعل ما يشاء، ويخضع كل شيء لإرادته. وظن بعض اليسوعيين أن مونتسكيو قد عراه الخجل.
            وسرعان ما تابع تعميماته الطائشة. ففي "الشرق"، (تركيا وإيران والهند والصين واليابان) يرغم المناخ على حجاب النساء وعزلتهن لأن (الهواء الحار يثير الشهوات) وقد يعرض تعدد الزوجات وأحاد به الزواج على حد سواء للخطر إذا أطلق اختلاط الجنسين كما هو الحال في (بلادنا في الشمال حيث عادات النساء فاضلة بطبيعتها وحيث العواطف هادئة، وحيث يتسلط الحب على القلب تسلطاً وديعاً سوياً إلى حد أن أقل قدر من الحزم والحكمة يكفي لتوجيهه وقيادته)(84). إنها لمتعة أية متعة أن تعيش في مثل هذه الأجواء التي تبيح الحديث وحيث الجنس اللطيف البالغ للفتنة يبدو أنه يزين المجتمع، وحيث الزوجات اللاتي تقتصر الواحدة منهن نفسها على إسعاد رجل واحد، ويسهمن في إدخال السرور والبهجة على الجميع(85)).
            والعادات والأعراف نتائج مباشرة للمناخ أكثر من القوانين، لأن القوانين ينبغي أن تحاول في بعض الأحيان مقاومة آثار المناخ. وذلك أنه بتقدم الحضارة تتحكم الضوابط الأخلاقية أو القانونية-وينبغي لها أن تتحكم-في العوامل المناخية، مثال ذلك عزل المرأة وحجابها في الشرق. ويهدف أحكم المشرعين إلى موازنة (الأسباب الطبيعية). والعادات والأعراف وظيفة الزمان والمكان، وليس ثمة عادة أو عرف خطأ أو صواب أو أنه الأفضل في حد ذاته. والعرف، في الجملة خير قانون، لأنه تكيف طبيعي بين الشخصية والموقف، ويجدر بنا أن نتأنى ونسير بخطى وئيدة في تغيير العادة والعرف. وتأبى العادة أن تتبدل بالقانون عادة(86).
            وحيث أن المواطن يحدد العادة التي تحدد بدورها الخلق القومي فإن شكل الحكومة لا بد أن يختلف من كان إلى مكان تبعاً لهذا المركب الثلاثي. وهي تتوقف بصفة عامة على مدى سعة الرقعة الحكومية: فالجمهورية تنسجم مع رقعة صغيرة من الأرض، يستطيع زعماء المواطنين فيها أن يجتمعوا للتشاور وللتداول أو العمل، فإذا اتسعت الرقعة تطلبت مزيداً من الحروب، وخضعت للحكم الملكي. وتتحول الملكية إلى استبدادية إذا حكمت رقعة شاسعة أكثر مما ينبغي لأن السلطة الاستبدادية وحدها هي التي تستطيع المحافظة على خضوع حكام المقاطعات لسلطانها(87). ويجدر أن تركز الملكية على (الشرف)، أعني أنه يجب تصنيف سكانها في مراتب، كما يجب أن يكون مواطنوها متحمسين غاية التحمس لألقاب الشرف والأوسمة وتفضيلهم أو إيثارهم بالحظوة. أما الجمهورية فيجدر أن تقوم على نشر (الفضيلة) على أوسع نطاق، ويعرف مونتسكيو الفضيلة على طريقته الخاصة بأنها (حب الإنسان لبلده-أعني حب المساواة(88).
            وقد تكون الجمهورية أرستقراطية أو ديموقراطية تبعاً لطريقة حكمها: هل يتولاه قسم من المواطنين أو كلهم. ويعجب مونتسكيو بفنيسيا (البندقية) كجمهورية أرستقراطية. وبمدن الدول القديمة على أنها ديموقراطية وهو يعلم ولكن يتجاهل أن المواطنين المحررين ليسوا إلا أقلية. ويمتدح الحكم الذي أقامه وليم بن في أمريكا. ويمتدح في حماسة أكبر إنشاء المناطق الشيوعية الدينية التي أسسها اليسوعيون في باراجواي(89). والحق يقال على أية حال إن الديموقراطية الأمينة الحقة لا بد أن تحقق المساواة الاقتصادية والسياسية معاً، وأن تنظم المواريث والمهور، وتعمل على فرض الضريبة التصاعدية على الثروات(90). أن خير تلك الديموقراطيات هي التي يعترف فيها مواطنوها بعجزهم عن تحديد السياسة التي تنتهجها بلدهم، ومن ثم يقرون السياسة التي يحددها ممثلوهم الذين انتخبوهم. وينبغي على الدولة الديموقراطية أن تهدف إلى المساواة ولكن يمكن أن تدمرها روح المساواة المتطرفة، حين يسعد كل مواطن أن يكون في مستوى أولئك الذين اختارهم ليأتمر بأمرهم... وإذا كان هذا هو الوضع فلن تقوم للفضيلة قائمة في الجمهورية. فهنا يكون المواطنون راغبين كل الرغبة في ممارسة مهام الحكام الذين لا يعود أي توفير أو احترام. وهنا يكون الاستخفاف بمداولات السناتو، ومن ثم لا يكون هناك احترام لأعضائه، ولا احترام لكبر السن، وإذا انعدم التقدير والاحترام لكبر السن انعدم تبعاً لذلك الإذعان للوالدين أو الأزواج والامتثال للرؤساء.
            وسرعان ما تتفشى هذه الظاهرة. إن الناس إذ يصابون بهذا البلاء محاولين التستر على فسادهم، يسعون إلى إفساد من وضعوا ثقتهم فيهم... وعندئذ يقتسمون الأموال العامة فيما بينهم، فإذا استثاروا بإدارة الأمور بالإضافة إلى تكاسلهم وتراخيهم، انصرفوا إلى مزج فقرهم بشيء من لهو الترف(91).
            وهكذا يقول البارون، مردداً قول أفلاطون عبر ألفين من السنين: تنقلب الديموقراطية إلى فوضى. ثم إلى دكتاتورية، ثم تنهار.
            وهناك في مونتسكيو أجزاء كثيرة تحبذ الجمهورية الأرستقراطية، ولكنه خشي الاستبدادية التي ذهب إلى إمكان قيامها في الديموقراطية إلى حد أنه كان يريد الصبر عليها أو تحملها إذا كانت هذه الجمهورية تحكم وفقاً لقوانين راسخة. ويعالج أقصر فصول كتابه الحكم المطلق الاستبدادي وهو يتألف من ثلاث مقالات قصيرة: "إذا أراد متوحشوا لويزيانا ثماراً قطعوا الشجرة من جذورها ليجمعوا الثمار، وهذا رمز للحكومة الاستبدادية(92)" أي أن الحاكم المستبد يستأصل أعظم الأسرات كفاية ومقدرة ليحمي قوته وسلطانه. وكانت الأمثلة التي أوردها لهذا شرقية بشكل يطمئن إليه، ولكن كان من الواضح أنه يخشى نزوع ملكية البوربون إلى الاستبداد، حيث كان الكاردينال ريشيليو ولويس الرابع عشر قد دمرا قوة الأرستقراطية السياسية. وتحدث عن ريشيليو وكأنه "مأخوذ بحب السلطة المطلقة(93)". أنه كره أشد الكراهية بوصف كونه نبيلاً فرنسياً، أن يهبطوا بمكانة طبقته إلى مجرد أفراد في الحاشية الملكية، واعتقد أن بعض القوى المتوسطة الخاضعة التابعة، ضرورة لحكومة صحيحة وكان يعني بهذه القوى النبلاء مالكي الأرض والحكام الوراثيين، وكان ينتسب إلى كليهما. ومن ثم دافع النظام الإقطاعي بتفصيل شديد (1753 صفحة)، مضحياً بوحدة كتابه وتناسقه. إن مونتسكيو هو الوحيد من بين فلاسفة فرنسا في القرن الثامن عشر الذي امتدح نظام العصور الوسطى، واتخذ من لفظة "قوطي"، تعبيراً عن الثناء والإطراء. وفي الصراع الذي استمر طوال حكم لويس الخامس عشر بين الملكية والبرلمانات اتخذ الحكام الذين يعدون للمعركة مصنعاً للحجج والأسانيد في "روح القوانين".
            إن نفور مونتسكيو من الحكومة المطلقة مطية للحكم المطلق أدى به إلى تحبيذه حكومة مختلطة: فيها ملكية وأرستقراطية وديموقراطية معاً-ملك ونبلاء وجمعية عامة. ومن هنا كان أشهر آرائه، نظرية الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في الحكومة(94). فالسلطة التشريعية تسن القوانين لكن لا تتولى تنفيذها، وتتولى السلطة التنفيذية القيام على تنفيذها ولكن لا تسنها. وتقتصر السلطة القضائية على تفسيرها. "وتضم السلطة التشريعية مجلسين، مجلس يمثل الطبقات العليا، وآخر بمثل العامة. وهنا يتحدث البارون ثانية.
            في مثل هذه الدولة يوجد دائماً أناس يتميزون بحكم مولدهم وثرواتهم وألقابهم، فإذا تساووا وخلطوا بعامة الشعب، فلا يكون لهم إلا صوت واحد مثل الباقين، فإن الحرية العامة تكون بمثابة استرقاق لهم، ومن ثم يفقدون اهتمامهم بمساندة الحكم، وتكون معظم القرارات الشعبية في غير مصلحتهم. ويجدر أن يتناسب نصيبهم مع سائر امتيازاتهم في الدولة، وهذا يحدث فقط حين يشكلون هيئة في الدولة يكون لها الحق في مقاومة إساءة استعمال الشعب للسلطة في الدولة، كما يكون للشعب الحق في مقاومة أي اعتداء على حرية الشعب. ومن هنا تكون السلطة التشريعية في أيدي النبلاء وأيدي الذين ينتخبهم الشعب، على أن يكون لكل هيئة اجتماعية ومداولاتها منفصلة عن الأخرى، ولكل صلاحياتها وآراؤها(95)".
            وتكون كل من الهيئات الثلاث وكل من المجلسين رقيباً بعضهم على بعض، وبهذه الطريقة المعقدة تلتئم حريات المواطن مع حكمة الحكومة وعدالتها ونشاطها.
            وكانت هذه الأفكار عن الحكومة المختلطة قد انحدرت إلى مونتسكيو من دراسته لهارنجتون وألجرنو وسيدني ولوك، ومن الخبرة التي اكتسبها في لإنجلترا. إنه ذهب إلى أنه وجد هناك مثله الأعلى مهما كان منقوصاً، في ملكية تكبح جماحها ديموقراطية في مجلس العموم، كما يكبح جماح مجلس العموم الأرستقراطية في مجلس اللوردات. وظن أن المحاكم في إنجلترا هي بمثابة كابح مستقل لجماح البرلمان والملك وامتدح ما كان قد رأى في إنجلترا رقابة نشتسترفيلد وغيره من النبلاء ولكنه مثل فولتير استخدم هذا الشكل المثالي حافزاً لفرنسا. ولا بد أنه عرف أن المحاكم الإنجليزية ليست مستقلة تمام الاستقلال عن البرلمان، ولكنه ذهب إلى أنه من الخير لفرنسا أن تفكر في الأخذ بحق المتهمين في إنجلترا تحقيق عاجل، أو إطلاق سراحهم بكفالة، ومحاكمتهم أمام محلفين من طبقتهم، مع تحدي الاتهام، وإعفائهم من التعذيب، ولكنه رأى كذلك "ألا يدعى النبلاء للمثول أمام المحاكم العادية بل أمام قضاة من نفس طبقتهم في هيئتهم. "إنهم كذلك لهم الحق في محاكمتهم أمام نظرائهم(96)".
            إن مونتسكيو أصبح محافظاً أكثر فأكثر مع تقدمه في السن. إن روح المحافظة على القديم رسالة والتزم في الشيخوخة، كما أن الراديكالية، (التطرف) رسالة نافعة في الشباب، والاعتدال هبة وخدمة في أواسط العمر، ومن ثم كان لنا دستور في ذهن أمة، بما فيه من سلطات ذات وقيود وضوابط متبادلة وعرف مونتسكيو الحرية مع كل تمجيد لها بوصفها الهدف الصحيح للحكومة، بأنها" حق كل إنسان في عمل ما تجيزه القوانين فإذا أتى مواطن شيئاً تحرمه القوانين، فإنه لا يعود يتمتع بالحرية. لأن سائر المواطنين يمكن أن يكون لهم نفس الصلاحية(97)". واتفق مع زميليه جاسكون ومنتاني، على استنكار الثورات. "إذا ثبت شكل الحكومة واستقر منذ أمد بعيد، وبلغت الأمور حداً معيناً من الثبات والاستقرار، فإنه من الحكمة تقريباً أن تترك الأمور كما هي، لأن الأسباب-هي غالباً معقدو أو غير معروفة-التي هيأت لها الصمود والثبات، سوف تستمر في الإبقاء عليها (أي على هذه الحكومة(98)).
            ورفض فكرة المساواة في الملكية أو السلطة ولكنه فكر، مثل جراتسي في تركيز ملكية الأرض: "من الأرض التي تكفي لتغذية أمة... لا تكاد تحصل عامة الشعب على ما يقوت أسره... فإن رجال الدين والأمير والمدن وعظماء الرجال وبعض البارزين من المواطنين يصبحون دون أن يحسوا ملاكاً لكل الأرض التي تبقى غير منزرعة. وتهجر الأسرات التي دمرت مزارعها، والرجل الكادح معدم فقير. وفي هذا الوضع يجدر بالهيئة الحاكمة أن توزع الأرض بين الأسرات المحتاجة وتوفر لها المواد والأدوات اللازمة لإصلاحها وزراعتها، وينبغي أن يستمر التوزيع ما دام هناك من يتسلمها(99).
            واستنكر زراعة الأرض من أجل جباة الضرائب لحساب رجال المال الخصوصيين، واستنكر الرق بشدة في حماسة أخلاقية وتهكم لاذع(100). واعترف بالضرورة الطارئة للحرب، وامتد بمفهوم الدفاع إلى إجازة-المسارعة إلى الاستيلاء على الأراضي: إن حق الدفاع الطبيعي قد ينطوي أحياناً بالنسبة لدولة ما على ضرورة الهجوم، كما يرى بعضهم على سبيل المثال أن حفظ السلام قد يمكن دولة أخرى من تدمير هذا السلام، وعندئذ يكون غزو هذه الأمة الأخيرة هو السبيل الوحيد للحيلولة بينها وبين تدمير السلام(101).
            ولكنه استنكر سباق التسلح: ولقد ساد الاضطراب من جديد كل أوربا، فأصاب أمراءها وأغراهم بحشد قوات هائلة، ولهذا مضاعفاته، ويصبح بالضرورة معدياً، فإنه إذا شرع ملك في زيادة قواته، فإن الباقين بطبيعة الحال يحذون حذوه. ومن ثم لا نجني من هذا ألا الدمار الشامل(102).
            وعلى الرغم من أنه قدر الروح الوطنية أكبر تقدير إلى حد أنه سوى بنها وبين الفضيلة، إلا أنه راوده في بعض الأحيان حلم مبادئ أخلاقية أرحب أفقاً: "إذا علمت أن ثمة شيئاً نافعاً لشخصي ولكنه يضر بأسرتي، فينبغي علي ألا أقدم عليه، وإذا علمت أن ثمة شيئاً نافعاً لشخصي، ولكنه يضر بأسرتي، وليس لوطني، فيجدر بي أن أحاول أن أنساه، وإذا رأيت أن شيئاً ذا فائدة لوطني، ولكنه يضر بمصلحة أوربا والجنس البشري فلا بد أن أعتبره جريمة رسمية(103)".
            إن غاية ما يصبو إليه من مبادئ أخلاقية وديانة خفية هو مذهب الرواقيين القدامى: "لم توجد قط مبادئ أكثر منها التئاماً مع الطبيعة البشرية ولا أقوم منها لبناء المواطن الصالح... وإذا استطعت أن أتخلى عن المسيحية لحظة لوصفت القضاء على مذهب زينون مؤسس مذهب الرواقيين محنة من بين المحن التي ابتلى بها الجنس البشري... إن هذا المذهب وحده هو الذي صنع المواطنين، وهو وحده الذي صنع عظماء الرجال وهو وحده الذي صنع الأباطرة. وإذا نحينا جانباً الحقائق التي كشف عنها لحظة، وفتشنا في الطبيعة كلها فإننا لن نجد شيئاً أسمى من الانطوانيين، حتى ولا جوليان نفسه (وهو إطراء انتزع مني أرجو ألا يجعلني شريكاً في جريمة الردة).
            كلا، لم يوجد قط منذ عهده أمير أجدر بحكم الجنس البشري(104). وواضح أن مونتسكيو حرص في "روح القوانين" على مسالمة المسيحية. إنه اعتراف بوجود الله-فأي حمق أفظع من قضاء وقدر أعمى خلق كائنات ذكية(105). ولكنه تصور هذا العقل الأسمى كما عبرت عنه قوانين الطبيعة، وهو لا يتدخل فيها مطلقاً. قال فاجيه "إن الله بالنسبة لمونتسكيو هو روح القوانين(106)"، وقبل المعتقدات الخارقة للطبيعة دعامة ضرورية لقانون أخلاقي لا يلتئم مع طبيعة الإنسان. "ومن الخير أن يكون هناك بعض كتب مقدسة لتكون شريعة مثل القرآن عند المسلمين، وكتب زرادشت عند الفرس، والفيدا عند الهنود، والكتب القديمة عند الصينيين. وإن الشرائع الدينية تكمل القوانين المدنية، وتحدد مدى السيطرة الاستبدادية(107)". وينبغي أن تكون الدولة والكنيسة رقيبة كل منهما على الأخرى، كما ينبغي أن تظل كل منهما منفصلة عن الأخرى. وهذا التفريق الكبير بينهما هو أساس هدوء الأمم(108)". ودافع مونتسكيو عن الدين ضد بيل(109). ولكنه أخضعه، مثل أي شيء آخر لتأثير المناخ والخلق القومي: "إن حكومة معتدلة هي أصلح ما يكون للعالم المسيحي، والحكومة المستبدة أصلح للعالم الإسلامي. وإذا اختيرت ديانة تلائم مناخ بلد ما، تتعارض مع مناخ بلد آخر فإن هذه الديانة لن تقوم في هذا البلد الثاني، وإذا أدخلت كان مآلها النبذ والرفض(110).... والمذهب الكاثوليكي أكثر ما يكون توافقاً مع الملكية، والبروتستانتية مع الجمهورية.... وإذا انقسمت المسيحية لسوء الحظ إلى كثلكة وبروتستانتية، فإن أهل الشمال يعتنقون البروتستانتية، على حين يظل أهل الجنوب متمسكين بالكاثوليكية. والسبب واضح. فإن أهل الشمال يتمسكون، وسيظلون يتمسكون إلى الأبد بروح الحرية والاستقلال، وهذا ما لا يتمتع به أهل الجنوب. فإن الديانة التي لا يكون لها رئيس بارز هي أكثر ملاءمة لهم(111).
            وعلى حين سلم مونتسكيو بمزايا الدين إجمالاً فإننا نراه يسهب في نقده، واستنكر شراء رجال الدين في فرنسا(112). ودون "أفظع احتجاج على محاكم التفتيش في إسبانيا والبرتغال، لوقف إحراق المهرطقين، وحذرهم من أنه "إذا تجرأ أحد في الأجيال القادمة أن يثبت أن الناس في أوربا في عصرنا كانوا متحضرين، فإنه لا بد أن يمثل أمام القضاء ليثبت أنهم كانوا متبربرين(113)" وسخر بوصفه قوطياً محباً لوطنه، من عصمة البابا من الخطأ وألح في أن تكون الكنيسة خاضعة للسلطة المدنية، واتخذ بالنسبة للتسامح الديني موقفاً وسطاً: "إذا كان للدولة مطلق الحرية في اعتناق أو نبذ أي دين جديد، فينبغي أن ترفضه، فإذا اعتنقته وجب عليها أن تتسامح معه(114). ومع كل احترامه للرقيب ظل مونتسكيو عقلانياً "فالعقل هو أكمل وأكرم وأجمل ملكتنا(115)". وماذا يقدم عصر العقل شعاراً أفضل من هذا؟.


            د - النتيجة


            ما أسرع ما اعترف الناس "بروح القوانين" حدثاً ضخماً في الأدب الفرنسي، ولكن النقاد تلقفوه عن اليمين وعن الشمال. فالجانسنيون واليسوعيون، وهم على طرفي نقيض عادة، اتفقوا على مهاجمته على أنه رفض ماكر خبيث للمسيحية. وقالت جريدة "أخبار الكنيسة" وهي لسان حال أتباع جانسن: "إن الجمل المعترضة التي يضعها المؤلف ليقول لنا أنه مسيحي تؤكد لنا توكيداً هزيلاً أنه كاثوليكي، وإن المؤلف ليسخر من سذاجتنا إذا حسبناه على غير ما هو عليه". وختم المحرر حديثه بنداء وجهه إلى السلطات المدنية باتخاذ إجراء ضد الكتاب(116). واتهم اليسوعيون مونتسكيو باتباعه فلسفة سبينوزا وهوبز، بافتراضه وجود قوانين في التاريخ مثلما هي في العلوم الطبيعية، ولم يترك مجالاً لحرية الإرادة. ودافع الأب برتييه في صحيفة "تريفو" اليسوعية عن أن الحق والعدل مطلقان، وليسا نسبيين تبعاً للمكان والزمان، وإن القوانين يجب أن ترتكز على مبادئ عامة من الله، لا على تنوعات المناخ والتربة والعرف والخلق القومي(117) ورأى منتسكيو أنه من الحكمة أن يصدر في 1750 "دفاعاً عن روح القوانين"، تتصل فيه من الحاد والمادية والجبرية، وأكد من جديد مسيحيته. ولكن رجال الدين ظلوا غير مقتنعين.
            وكان الفلاسفة الناشئون في ذات الوقت مستائين، حيث اعتبروا روح القوانين كتيباً في المحافظة على القديم، واستاءوا من روعه العارض واعتدال إصلاحاته المقترحة، ومفهومه الهزيل الفاتر على التسامح الديني(118). وكتب هلفشيوس إلى مونتسكيو يعنفه على تركيزه السديد على أخطار التغيير الاجتماعي والمصاعب التي تعترضه(119). أما فولتير الذي كان يعد كتابه عن الفلسفة التاريخ في البحث "في الأعراف"، فإنه لم يكن متحمساً لعمل مونتسكيو. ولم يكن قد نسي معارضة السيد الرئيس لانضمامه إلى الأكاديمية بقوله: عار على الأكاديمية أن يكون فولتير عضواً فيها، وسيكون العار عليه يوماً ما ألا يكون عضواً فيها(120)".
            وتوقف نقد فولتير تحت ضغط الظروف، وتحول إلى إطراء غير متحمس واعتراض بأن مونتسكيو كان مبالغاً في تأثير المناخ. ولاحظ أن المسيحية نشأت في أرض اليهود الحارة، وأنها لا تزال مزدهرة في النرويج القارصة البرد، ورأى أنه من الأرجح أن إنجلترا تحولت إلى البروتستانتية لأن آن بولين كانت جميلة، لا لأن هنري الثامن كان فاتراً(121). وإذا كانت روح الحرية نشأت-كما ذهب إليه مونتسيكو، في الأقاليم الجبلية، فكيف تفسر قيام الجمهورية الهولندية القوية، أو "حق اعتراض"، اللوردات البولنديين (وفي القاموس الفلسفي) دون صفحات كثيرة تتضمن أمثلة تدل على أن للمناخ بعض الأثر، ولكن للحكومة أثراً كبر منه مائة مرة ولكن للديانة والحكومة معاً، أثراً أكبر من هذا بكثير(122)). إننا لنسأل الذين يؤمنون بأن المناخ يفعل كل شيء (لم يزعم مونتسكيو هذا) لماذا يقول الإمبراطور جوليان في رسائله إن الذي سره في الباريسيين هو خلقهم الوقور وعاداتهم الصارمة، ولماذا نرى الباريسيين الآن، دون أدنى تغيير في المناخ، أطفالاً لعوبين هازلين، وهو أمر تعاقبهم عليه الحكومة وتسخر منهم من أجله، وفي نفس الوقت، كما أنهم هم أنفسهم يسخرون، في لحظة تالية من سادتهم ويهجونهم هجاء لاذعاً(123).
            ووجد فولتير الجواب:
            إنه الانقباض أو الاكتتاب، وهو عكس ما يرددونه في كثير من الإستشهادات والحكم والمثال، ولكنه دائماً الحقيقة تقريباً... "فالناس في المناطق الحارة جبناء مثل العجائز، أما في المناخ البارد فهم شجعان مثل الشبان". "إننا يجدر بنا أن نكون على حذر من أن بعض القضايا العامة. تفلت منا، وما كان في مقدور أحد أن يجعل من سكان لابلند أو الأسكيمو محاربين على حين أن العرب فتحوا في ثمانين عاماً من الأقاليم ما فاق فتوحات الإمبراطورية الرومانية بأسرها(124).
            ثم يمتدح فولتير "روح القوانين" فيقول: "بعد أن أقنعنا أنفسنا على هذا النحو بأن الأخطاء كثيرة في ، "روح القوانين..." وأن هذا العمل ينقصه النهج، كما تعوزه خطة العمل والنظام، فقد يليق بنا أن نتساءل ما الذي أضاف عليه هذه القيمة الكبيرة، وأدى إلى شهرته العظيمة. إنه في المقام الأول مكتوب بذكاء عظيم، على حين أن من ألفوا في هذا الموضوع كانت كتاباتهم مملة تبعث على السأم والضجر. وعلى هذا الأساس رأت إحدى السيدات (مدام دي ديفان) وهي تتمتع بذكاء مثل ذكاء مونتسكيو أن الكتاب هو "الذكاء في القوانين"، وهو أصح تعريف له. وثمة سبب أقوى وهو أن الكتاب يعرض وجهات نظر أو آراء عظيمة ويهاجم الطغيان والخرافة والضرائب الفادحة... إن مونتسكيو كاد أن يكون على خلاف مع العلماء لأنه ليس عالماً، ولكنه كان دائماً على حق تقريباً ضد المتعصبين ومتعهدي الرقيق. أن أوربا مدينة له بالشكر والامتنان على الدوام(125).
            وأضاف في موضع آخر: "إن الإنسانية كانت قد ضيعت أعمالها المجيدة (من أجل الحرية) واستردها مونتسكيو(126).
            واتفق النقد المتأخر مع فولتير إلى حد كبير على حين اعترض على مبالغاته(127). حقاً إن أسلوب الكتاب كان ضعيفاً، مع قليل من المنطق في ترتيب الكتاب وتسلسل موضوعاته ونسيان للفكرة الأساسية التي تحكم الربط بين أجزائه. وفي تحمس مونتسكيو ليكون عالماً، يجمع الحقائق ويفسرها، لم يعد فناناً. أنه ضيع الكل في الأجزاء، بدلاً من تنسيق الأجزاء في كل منسق. وكان قد قضى في جمع مادة الكتاب أكثر من نصف عمره، وكتبه في نحو عشرين عاماً، وأساء التأليف المتقطع إلى وحدة الكتاب، وتسرع في الوصول إلى أحكام عامة من أمثلة قليلة ولم يفتش عن أمثلة تنقضها-مثال ذلك أيرلندة الكاثوليكية في الشمال البارد ومن ثم يجب أن تكون بروتستانتية وتخلى من منهجه حين قال: "لقد وضعت المبادئ الأولى ووجدت أن الحالات الخاصة لا بد أن تكون صحيحة بالضرورة بشكل طبيعي، وأن تاريخ كل الأمم ليس إلا نتائج لهذه المبادئ "فهذا هو خطر تناول التاريخ بفلسفة يثبتها عن طريق هذا التاريخ وعند جمع مادة الكتاب قبل مونتسكيو كل بيانات السائحين دون تحقيق ولا تدقيق، وفي بعض الأحيان أخذ الخرافات والأساطير على إنها تاريخ، بل أن ملاحظاته المباشرة كان يمكن أن تكون خاطئة، ومن ذلك أنه رأى "فصلاً بين السلطات" وفي حكومة إنجلترا على حين أنه كان من الواضح أن السلطة التشريعية هناك كانت تغطي على السلطة التنفيذية.
            وإلى جانب هذه الأخطاء لا بد أنه كان للكتاب مزايا أدت إلى الترحيب به وتأثيره. إن فولتير حدد أسلوبه بحق، على أن الأسلوب أيضاً عانى من شظايا المعلومات لا المعلومات الكاملة المستوفاة. وأولع مونتسكيو بالفصول القصيرة وربما كان هذا وسيلة للتركيز، مثال ذلك الفصل الذي كتبه عن الحكم الاستبدادي المطلق، مما أدى إلى التقطع وعدم الترابط مما عوق تدفق الفكرة. وربما كان جزء من عدم استيفاء البحث راجعاً إلى تفاقم ضعف بصره مما اضطره إلى الإملاء بدلاً من الكتابة. وعندما كان يتمتع بكامل قوته وحيويته حقق في عبارات قوية واضحة بعضاً من الإشراق والروعة في الرسائل الفارسية. ويروي فولتير أن في "روح القوانين من العبارات الساخرة أكثر مما يليق بكتاب في القانون. يقول مونتسكيو "إن الناس فينيسيا مقترون غاية التقتير إلى حد أنه من أجل المومسات وحدهن يستطيع الرجال أن يغادروا البيت ومعهم نقود(128)". وهذا، على الرغم من كل شيء، أسلوب وقدر معتدل هادئ وهو في بعض الأحيان غامض ولكنه يعوض عن حل الألغاز.
            وكان مونتسكيو متواضعاً كما كان مصيباً في أنه أرجع جزءاً من قيمة الكتاب إلى موضوعه وهدفه. أنك لكي تعثر على قوانين في القوانين، وعلى نظام في تنوعها تبعاً للمكان والزمان، ولكي تعمل علة تنوير الحكام والمصلحين عن طريق دراسة مصادر التشريع وحدوده بالنسبة لطبيعة ومكان الدول والناس-فهذا عمل جليل ضخم تقتضي ضخامته وجلاله الصفح عن الزلات. وأخفق هربرت سبنسر في نفس هذا العمل بعد ذلك بمائة وثمانية وأربعين عاماً، وعلى الرغم من عدد كبير من المعاونين في البحث، وبسبب نفس الرغبة في استخلاص أحكام عامة، ولكن كلنا المحاولين كأننا زيادة في الحكمة. ولكن كتاب مونتسكيو كان. أفضل وهناك الناس سبقوه ولم يكن هو البادئ بالتأليف في هذا الموضوع، ولكنه عجل بوضع المنهج التاريخي بقوة للدراسة المقارنة للنظم. ولقد سبق فولتير في وضع فلسفة للتاريخ مستقلة عن الأسباب الخارقة للطبيعة وبلغ آفاقاً واسعة ونزاهة في الرأي لم يبلغها فولتير. إن بيرك أطلق على مونتسكيو "أعظم عبقرية نورت هذا العصر(130)واعتبره بين تين أعقل وأحكم وأكثر الرجال اتزاناً في هذا العصر(131)ورأى هوراس ورلبول أن روح القوانين أحسن كتاب ظهر على الإطلاق(132)وقد لا يكون هذا صحيحاً ولكنه أحسن كتاب ظهر في هذا الجيل.
            لقد أنهك هذا الكتاب مؤلفه. وكتب إلى أحد الأصدقاء: أعترف لك أن هذا الكتاب قتلني. سأخلد إلى الراحة ولن أعمل شيئاً بعد الآن(133) وعلى الرغم من ذلك استمر يدرس ويبحث. وكان يقول "الدراسة بالنسبة لي هي خير علاج لكل خيبة أمل في الحياة. ولم أجد ضيقاً إلا فرج من كرته ساعة قضيتها في القراءة(134).
            وزار باريس من حين لآخر وسعد بشهرته هناك التي كانت تضارع شهرة فولتير آنذاك (1748). ويقول رينال لقد جذب كتاب روح القوانين انتباه كل الشعب الفرنسي. إننا نجده في مكتبات علماءنا ودارسينا وعلى منضدة زينة سيداتنا وعند كل شبابنا المتأنق(135)ورحبوا بالمؤلف من جديد في الصالونات واستقبلوه في البلاط الملكي، ولكنه قضى معظم الوقت في لابيرد حيث قنع بأن يكون سيداً عظيماً. وسر الإنجليز بالكتاب أيما سرور حتى أنهم طلبوا من أعداداً وفيرة. وفي سنيه الأخيرة كاد أن يصاب بالعمى، وكان يقول "يبدو لي أن الأثير الخفيف من البصر الذي بقي لي ليس إلا فجر اليوم الذي تغلق فيه عيناي إلى الأبد(136)وفي 1754 قصد إلى باريس لإنهاء إيجار بيته هناك، ولكنه أثناء تلك الزيارة أصيب بالتهاب رئوي وقضى نحبه في 10 فبراير 1755 وهو في السادسة والستين وتناول الأسرار المقدسة الكاثوليكية. وكان الأديب الوحيد الذي شيع جنازته هو ديدرو وهو من أتباع مذهب اللاأدرية(137)وذاع صيته وامتد أثره على مر القرون. وكتب جيبون: "على مدى أربعين عاماً منذ صدور روح القوانين لم يقبل الناس على قراءة كتاب أو نقده أكثر منه. وليست روح البحث والتحقيق التي أثارها أقل مآثر الكاتب علينا(138)" وكان جيبون وبلاكستون وبيرك من بين من أفادوا من روح القوانين وعظمة الرومان واضمحلالهم وعده فودريك الأكبر أحسن كتاب بعد كتاب الأمير، ورأت كثرين الكبرى أنه ينبغي أن يكون كتاب الصلوات اليومية لدى الملوك(139)واقتبست فقرات منه للرجال الذين عينتهم لمراجعة القوانين الروسية. ولم ينقل واضعوا مسودة الدستور الأمريكي عن مونتسكيو نظرية فصل السلطات فحسب بل استبعاد أعضاء الوزارة من الكونجرس كذلك وتضمنت كتاباتهم كثيراً من الاقتباسات من الكتاب. وأصبح روح القوانين الكتاب المقدس عند الزعماء المعتدلين في الثورة الفرنسية تقريباً ونشأ عن كتاب عظمة الرومان واضمحلالهم بعض إعجابهم بالجمهورية عند الرومان. ويقول فاجيه أن كل الأفكار الحديثة العظيمة بدأت بمونتسكيو(141) وعلى مدى جيل من الزمان كان مونتسكيو، لا فولتير، هو صوت العقل وبطله في فرنسا.
            bestfriends
            Infinity and eternity

            Comment


            • #26
              رد: قصة الحضارة (ول ديورانت)

              طبعاً واكيد بعد ماخلص بس بدي روح شوي على الرياضة ماعد فيني
              وبكرا انشألله بكفي الموضوع اذا عجبكون
              bestfriends
              Infinity and eternity

              Comment


              • #27
                رد: قصة الحضارة (ول ديورانت)

                بس سؤال
                الدراسة من الكتاب ولا من الملخص؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
                يا رب تعبت طوال الليل و لم اصطد شيئا----------لكن لأجل كلمتك ألقي شبكتي

                Comment


                • #28
                  رد: قصة الحضارة (ول ديورانت)

                  بس سؤال
                  الدراسة من الكتاب ولا من الملخص؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
                  ليدي من الكتاب والموضوع طويل كتير
                  وانا حابب نزل الكتاب كلو
                  bestfriends
                  Infinity and eternity

                  Comment


                  • #29
                    رد: قصة الحضارة (ول ديورانت)

                    اصبح انا انسحبت و مارح قدم المادة لأن كل ما بدرس من الكتاب ما بيطلع معي شي
                    حظا أوفر في الدورة القادمة
                    يا رب تعبت طوال الليل و لم اصطد شيئا----------لكن لأجل كلمتك ألقي شبكتي

                    Comment


                    • #30
                      رد: قصة الحضارة (ول ديورانت)

                      الفصل الحادي عشر
                      فولتير في فرنسا
                      1- في باريس
                      1729-1734
                      لدى عودة فولتير من إنجلترا في أواخر عام 1728 أو أوائل عام 1729 اتخذ مسكناً مغموراً في حي سان جرمان-ان لي-على بعد 11 ميلاً إلى الشمال الغربي من باريس، وحشد أصدقاءه لينشروا أنباء غير رسمية عن إلغاء قرار نفيه من فرنسا ثم من العاصمة، ونجحوا في هذا، بل في استعادة معاشه الملكي كذلك. وما حل شهر أبريل حتى ظهر فجأة، وأخذ يجول خلال العاصمة. وفي أحد الاجتماعات سمع أن العالم الرياضي كوندوا مين حسب أن من يشتري كل أوراق "اليانصيب" التي تصدرها باريس لا بد أن يحقق ثراء، فأسرع فولتير واقتراض نقوداً من رجال المصارف من أصدقائه. واشترى كل الوراق، فكان ما تنبأ به العالم الرياضي، ولكن المراقب العام للحسابات رفض الدفع، فرفع فولتير دعوى أمام القضاة وكسب القضية وتسلم المبلغ(1) وفي أخريات عام 1729 قطع 150 ميلاً في ليلتين ونهار واحد من باريس إلى نانسي ليشتري أسهماً في مشروع دوق اللورين، وعادت عليه هذه المغامرة بأرباح طائلة. وهكذا أعان فولتير مدبر الأعمال المالية فولتير الشاعر الفيلسوف.
                      نراه في 1730 مرة أخرى في باريس مفتوناً إلى حد الجنون بالمغامرات والمشروعات، وكان لديه عادة عدة أعمال أدبية قيد الإنجاز في وقت واحد، يتنقل من واحد إلى الآخر، ولذة الهوى في التنقل، دون أن يضيع وقتاً. وكان آنذاك يكتب رسائل عن الإنجليز وتاريخ شارل الثاني عشر "موت الآنسة ليكوفرير"، والصفحات الأولى في الغادة العذراء. وذات يوم 1730 اقترح عليه زوار الدوق دي ريشيليو وهم يتحدثون عن جان دارك أن يكتب لها تاريخاً، ولم يكونوا بعد في فرنسا قد اعترفوا بها قديسة حامية لفرنسا. وبدا للمفكر الحر فولتير أن العناصر الخارقة للطبيعة في أسطورة جان دارك تشد انتباهه إلى معالجة تاريخها معالجة فكاهية. فتحداه ريشيليو أن يحاول ذلك، وكتب فولتير المقدمة في تلك الليلة، ولم تكن مرثيته في ليكوفرير قد نشرت بعد، ولكن صديقه الأخرق نيقولا ثيوريو كان قد قرأها على الملأ على أوسع نطاق. وأستأنفت الأصوات اللاهوتية البغيضة طنينها المزعج حول رأس فولتير.
                      وفي 11 ديسمبر وكأنما كان فولتير ظمآناً إلى كسب الأعداء، أخرج قصته لوسيوس جينيوس بروتوس الذي أطاح طبقاً لرواية ليفي بعرش الملك تاركينيوس وأسهم في إقامة الجمهورية الرومانية، وأنكرت المسرحية على الملوك قدسيتهم وعدم جواز انتهاك حرماتهم، ونادت بحق الشعب في تغير حكامه. وشكا الممثلون من أن الرواية خالية من فكرة الحب ووافقت باريس على أنها بدعة خرقاء سخيفة. وسميت المسرحية بعد عرضها 16 مرة. وبعد اثنتين وستين عاماً أعيد تمثيلها من جديد، لأن باريس كانت آنذاك تواقة إلى مشاهدة مقصلة لويس السادس عشر.
                      وفي نفس الوقت كان فولتير قد حصل على ترخيص ملكي بنشر "تاريخ شارل الثاني عشر ملك السويد". وهنا كان الموضوع لا يكاد يسيء إلى لويس الخامس عشر أو الكنيسة، كما يسر الملكة، لأن الرواية تناولت موقف أبيها ستانسلاس بشكل لائق كريم. وظهرت طبعة من 2600 نسخة في الوقت الذي ألغى فيه الترخيص الملكي دون سابق إنذار، وصودرت كل النسخ فيما عدا واحدة احتفظ بها فولتير. واحتج فولتير لدى حامل الأختام فأبلغ أنه قد حدث تغيير في السياسة الخارجية مما كان لزاماً معه إرضاء غريم شارل الثاني عشر وضحيته، وهو أوغسطس "القوي" الذي ما زال ملكاً على بولندة. وقرر فولتير أن يتجاهل أمر الحظر وانتقل متنكراً إلى روان وباشر طبع تاريخه سراً. وفي أكتوبر 1731 تداوله الناس في حرية مطلقة وأقبلوا على قراءته وكأنه قصص.
                      وذهب بعض النقاد إلى انه محشو بالخيال، واسماه بعض المؤرخين الواسعي الاطلاع رومانسية "في أسلوب مشرق بارع في السرد القصصي، ولكنه غير دقيق في التفاصيل(2)ولكن فولتير كان قد أعد الكتاب على طريقة الباحث المدقق إنه لم يطلع على وثائق الدولة فحسب بل إنه كذلك توقف ليستقي المعلومات من مصادرها الأصلية: الملك السابق ستانسلاس، ماريشال دي ساكس دوقة مالبرو، بولنجيروك، آكسل سبار (الذي اشترك في معركة نارفا) فونسيكا (طبيب برتغالي كان يعمل في تركيا أثناء وجود شالر هناك) والبارون فابريس (سكرتير شارل سابقاً). وأكثر من هذا فإن فولتير كان قد أقام فترة مع البارون فون جورتز وزير شارل ذي الحظوة لديه. وربما حول إعدام البارون 1719 نظر فولتير إلى دراسة أسد الشمال "وفي 1740 أشار جوران برج الذي كان قسيس شارل إلى الأخطاء التي وقع فيها فولتير، وقام فولتير بتصويب هذه الخطاء في الطبعات اللاحقة. وكانت هناك أخطاء أخرى وبخاصة في الوصف التفصيلي للمعارك. وجادل النقاد المتأخرون(3)في أن فولتير بالغ في تقدير شارل على "إنه الرجل الأكثر استثناء وخرقاً للعادة الذي ظهر على الأرض" وجمع في شخصيته بين أعظم مناقب أسلافه. ولا عيب فيه ولا ينغص عليه حياته إلا أنه جمع بين هذه المناقب في إفراط زائد(4)وربما تخفف الكلمة الأخيرة من حدة النقد، فقد أوضح فولتير أن شارل جاوز الحد وافرط في التحلي بهذه المناقب البطولية حتى أصبحت عيوباً وعددها، ومنها التبذير والتهور والقسوة وعدم القدرة على المغفرة والصفح. كما أوضح كيف أن أخطاء الملك قد أضرت بالسويد. وانتهى إلى أن شارل "كان رجلاً شاذاً استثنائياً لا رجل عظيماً(5)"وعلى أية حال لم يكن الكتاب عملاً ثقافياً فحسب، بل عملاً فنياً كذلك-من حيث التركيب والشكل والحيوية والأسلوب-وسرعان ما أقبل كل المتعلمين في أوربا على قراءة شارل الثاني ملك السويد وذاعت شهرة فولتير إلى حد لم يسبق له مثيل.
                      وأصبح فولتير بعد عودته من روان (5 أغسطس 1731) ضيفاً مقيماً على الكونتيس دي فونتين مارتل في قصرها بالقرب من "الباليه رويال"، وقد وجدت في رفقته سعادة بالغة حتى ظلت تؤويه وتطعمه حتى مايو 1733 وترأس في حيوية شديدة ولائم العشاء الأدبية التي كانت تقيمها، ومثل المسرحيات وبخاصة مسرحياته هو على مسرحها الخاص. وفي أثناء إقامته هناك كتب نص "أوبرا شمشون" لرامو-وهو ملحن فرنسي في القرن الثامن عشر (1732)-ومن المحتمل أنه شهد من مقصورة الكونتيس في "المسرح الفرنسي" سقوط روايته "اريفيل" (1732) كما شهد النجاح الباهر الذي لقيته مأساة زائير (13 أغسطس 1732) فكتب إلى صديق له: "ما مثلت رواية بمثل الروعة التي مثلت بها زائير في عرضها الرابع. وكم وددت لو أنك كنت معي لتشهد أن الجمهور لم يسخط على صديقك، وظهرت في المقصورة، واتجهت كل الأيدي بالتصفيق لي، فأستحيت وخبأت نفسي. ولكني أكون مرائياً إذا لم اعترف لك بأني قد اهتزت مشاعري وتأثرت كثيراً(6).
                      وظلت هذه المسرحية أحب مسرحياته إليه حتى النهاية. إنها كلها ليس لها وجود الآن، قضى عليها تغير الأذواق والأمزجة والأسلوب، ولكنا بجدر بنا أن نبعث إحداها على الأقل من قبرها، لأنها لعبت جميعاً دوراً مثيراً كبيراً في حياته. وزائير طفلة مسيحية أسرها المسلمون في صباها في الحروب الصليبية، وأنشئوها على العقيدة الإسلامية، وهي لا تعرف إلا القليل عن فرنسا اللهم إلا أنها مسقط رأسها، وهي الآن غادة فاتنة في حريم السلطان أوروزمان في بيت المقدس. وهام السلطان وهامت هي به حباً. وفي مستهل الرواية كانت على وشك أن تصبح زوجة له. وتؤنبها أسيرة مسيحية أخرى اسمها فاتيما على نسيانها أنها كانت مسيحية. وفي رد زائير توضيح لأثر الجغرافيا في تحديد العقيدة الدينية: "إن أفكارنا وعاداتنا وعقيدتنا الدينية إنما الأعراف والتقاليد والنزعة القومية السائدة في أيامنا الأولى. فإذا رأت النور على ضفاف نهر الكنج لعبدت أوثان الهند، وإذا ولدت في باريس لكن مسيحية. وأنا الآن مسلمة سعيدة. إننا لا نعرف إلا ما تلقناه إن أبدى الأبوين اللذين يتوليان تربيتنا وتعليمنا هي التي تنقش على قلوبنا الغضة تلك الأحرف التي ينقحها الزمن ويصقلها. وتعمل القدرة على تثبيتها عميقة في عقولنا، ولا يقدر على محوها إلا الله(7).
                      ويصور فولتير أوروزمان رجلاً يتحلى بكل الفضائل بشكل واضح إلا الصبر. إن المسيحيين ليصعقون ويذهلون إذ يرون مسلماً وقوراً مهذباً مثل المسيحيين. وتتولى السلطان الدهشة إذ يرى مسيحية فاضلة، ويرفض أن يحتفظ بحريم، ويعد بالاقتصار على زوجة واحدة. ولكن فولتير كان منصفاً لشخصياته المسيحية كذلك، فهو ينظم أبياتاً عامرة في جمال الحياة المسيحية الحقة. وهناك أسير مسيحي آخر هو نير ستام، وقع في الأسر في طفولته كذلك، ونشأ مع زائير، وفك أساريره حين تعهد بالرجوع ليفتدي بالمال عشرة من الأسرى، ويذهب ثم يعود ليدفع مبلغ الفدية المطلوب من ماله الخاص. ويكافئه أوروزمان بإطلاق سراح مائة لا عشرة فقط من المسيحيين. ولكن نير ستام بحزن لأن زائير ولوسنيان لم يكونا من بين من أطلق سراحهم، ومكان هذا الملك بيت المقدس (1186-1187). وتناشد زائير السلطان أوروزمان أن يطلق سراح لوسنيان، فيجيبها إلى طلبها. إن الملك العجوز يعتبر زائير في منزلة ابنته ونير ستام في منزلة ابنه. إنها الآن موزعة بين حبها للسلطان الكريم وولائها لأبيها وأخيها وعقيدتهما المسيحية. ويهيب بها لوسنيان أن تتخلى عن السلطان والإسلام معاً: "أواه يا أبنتي، فكري في الدم الزكي الذي يجري في عروقك، دم عشرين ملكاً كلهم مسيحيون مثلي، دم الأبطال، دم المدافعين عن العقيدة، دم الشهداء والقديسين. إنك لا تعرفين مصير أمك، إنك لا تعرفين أنه في نفس اللحظة التي ولدت فيها ذبحها أولئك المتبربرون الذي تعتنقين دينهم البغيض على مرأى مني. إن أخوتك والشهداء الأعزاء يمدون إليك أيديهم من السماء، يريدون أن يحتضنوا أختاً لهم. آه يا ابنتي! تذكريهم! إن الرب الذي خنث عهده، لفظ النفس الخير من أجلنا ومن أجل البشر جميعاً. انظري إلى الجبل المقدس الذي قتل عليه مخلصنا، والمقبرة التي نهض منها ظافراً منتصراً. في كل طريق تمشين فيه سترين خطوات الرب، هل تنكرين خالقك؟ زائير:... يا إلهي العظيم... تكلم يا أبتاه ماذا أفعل؟ لوسنيان:... أذهبي عني العار والحزن بكلمة منك، وقولي أني مسيحية. زائير: إذن يا إلهي، أنا مسيحية.....
                      لوسينان: أقسمي بأنك ستحفظين هذا السر الخطير.
                      زائير: اقسم لك على ذلك(8).
                      ولما علم نير ستام بإصرارها على الزواج من أوروزمان، راوده التفكير في قتلها، ولكن رق قلبه، وألح في قبولها التعميد فوافقت، وبعث إليها برسالة يحدد فيها مكان وزمان الاحتفال بتعميدها، وحسب أوروزمان الذي لم يكن يدري أن نير ستام أخوها، إنها رسالة حب وغرام، ويفاجئ زائير في الموعد المضروب، ويطعنها. ثم يكتشف أن العشيقين المزعومين ليسا إلا أخاً وأختاً، فينتحر.
                      إن حبكة الرواية موضوعة ببراعة، مبسوطة بطريقة مسرحية متماسكة وهي تمثل في شعر سلس موسيقي. وإننا لندرك من خلال القطع العاطفية التي تبدو الآن ثقيلة مبالغاً فيها، والسبب في أن باريس أغرمت بزائير وأوروزمان، وفي أن الملكة الصالحة الحزينة ذرفت الدمع عند تمثيل المسرحية للحاشية في فونتنبلو. وترجمت المسرحية إلى الإنجليزية ومثلت بسرعة في إنجلترا وإيطاليا وألمانيا. ونودي آنذاك بفولتير أعظم شاعر على قيد الحياة في فرنسا، وخلفاً صالحاً لطورني وراسين. ولكن هذا لم يرق في عيني جان بابتست روسو، وهو شاعر فرنسي مقيم في المنفى في بروكسل، فحكم على زائير بأنها "مسرحية تافهة فاترة... مزيج كريه من التدين والفجور". فرد عليه فولتير شعراً في معبد الذوق" يشهر فيه بروسو ويمجد موليير.
                      وبلغ فولتير ذروة المجد وعانق النجوم، ولكنه لم يكف عن العمل. ففي شتاء 1732-1733 درس الرياضيات كما درس نيوتن، مع ضحيته مستقبلاً موبرتوي Moupertuis، وأعاد كتابة "ايريفيل Eriphile" ونقح زائير وشارل الثاني عشر، وجمع مادة كتابه "قرن لويس الرابع عشر" ووضع اللمسات الأخيرة على كتابه "رسائل عن الإنجليز" وأخرج مسرحية أخرى (أليد) كما كتب أشياء صغيرة لا تحصى: رسائل، قصائد مدح، اقتراحات، بعض الحكم الساخرة، بعض أغاني الحب-وكلها تتسم بالظرف في نظم رقيق مصقول. وعندما ماتت مضيفته السخية، مدام دي فونتين مارتل، انتقل إلى داره في شارع (لونج بزان) واشتغل بتصدير القمح. ومذ جمع بين التجارة والقصص، فإنه التقى (1732) بالسيدة جبرييل اميلي لي تونلييه دي برتيل مركيزة دي شاتيليه، وارتبطت حياته بحياة السيدة الفذة المغامرة حتى وافاه الأجل المحتوم.
                      وكانت آنذاك في السادسة والعشرين (وهو في الثامنة والثلاثين)، وكانت حياته بالفعل حافلة متعددة الجوانب فهي ابنة البارون دي برتييه، ولذلك تلقت تعليماً غير عادي. حتى أنها في سن الثانية عشر تعلمت اللاتينية والإيطالية وغنت غناء رخيماً، وعزفت على البيان الصغير، وبدأت في سن الخامسة عشرة تترجم الإلياذة إلى الفرنسية شعراً، وأضافت إلى هذا اللغة الإنجليزية ودرست الرياضيات على يدي موبرتوي. وفي التاسعة عشرة تزوجت المركيز فلورنت كلود دي شاتيليه لومونت، وكان في الثلاثين من العمر. وأنجبت له ثلاثة أطفال. ولكن فيما بعد هذا لم يكن للواحد مبهماً يرى الآخر إلا لماماً، حيث كان هو عادة مشغولاً مع فرقته، أما هي فبقيت قريبة من الحاشية وقامرت بمبالغ طائلة، وجربت الحب. فلما هجرها عشيقها الأول تناولت سماً، وأنقذوها على كره منها بواسطة عقار مقيء، واحتملت في رباطة جأش جربتها من قبل، هجران عشيق ثان هو الدوق دي ريشيليو، لأن كل فرنسا عرفت قصة تقلبه بين النساء.
                      والتقى فولتير بالمركيزة على مائدة العشاء فلم ينزعج، بل سرته قدرتها على التحدث في الرياضيات والفلك والشعر اللاتيني. ولم تكن مفاتنها طاغية لا سبيل إلى مقاومة إغرائها، ولكن سيدات أخريات أسرفن، في وصفها. استمع إلى مدام دي فان وهي تقول: (امرأة ضخمة متحفظة لا أوراك لها، صدرها هزيل؛... ذات ذراعين ضخمين ورجلين كبيرين، وقدمين ضخمتين، ورأس صغير جداً، وقسمات حادة، وأنف محدد وعينية صغيرتين خضراوين تميلان إلى الزرقة. سمراء البشرة أسنانها رديئة(9)" واتفقت معها المركيزة دي كريكي فقالت "إنها عملاقة-ماردة، ذات قوة جبارة، وكانت فضلاً عن ذلك آية في القبح والبشاعة، وكان جلدها في لون مبشرة جوزة الطيب الداكنة، إنها تشبه في جملتها جندياً طويل القامة قبيح الصورة. ومع ذلك تحدث فولتير عن جمالها(10)". أن سانت لامبرت الوسيم احبها سراً عندما كانت في الثانية والأربعين. وليس لنا أن نثق في رأي السيدات بعضهن في البعض الآخر. وقد تبين من صورها الشخصية أن اميلي كانت طويلة القامة مسترجلة، ذات جبهة مديدة ونظرة متعجرفة، ولم تكن قسمات وجهها غير جذابة، وقد نشعر بشيء من الاطمئنان إذا علمنا أن (لها صدراً شهوانياً ولكنه راسخ(11)).
                      ويمكن أن تكون أميلي قد كان فيها ما يكفي من الرجل ليكمل المرأة في فولتير. ومهما يكن من أمر فإنها لجأت إلى كل الحيل والوسائل الأنثوية لتصلح ما أفسد الدهر من جمالها-مستحضرات التجميل والعطور والمجوهرات والحلي والمخرمات. وسخر فولتير من ولعها بالتزين. ولكنه أعجب بتحمسها للعلوم والفلسفة. فهنا سيدة استطاعت حتى في غمرة الصخب والضوضاء في باريس وفرساي أن تنسحب من مائدة القمار، لتدرس نيوتن ولوك، إنها لم تقرأ نيوتن فحسب بل أنها استوعبته كذلك زهي التي ترجمت قوانين نيوتن إلى الفرنسية، ووجد فولتير أنه من اللائق أن يتخذ من نفس المرأة رفيقة دراسة وعشيقة في وقت معاً. وفي 1734 اعتبر بنفسه بالفعل الرجل الذي ترتضيه عشيقاً لها: (يا إلهي! أية لذة ومتعة أجدها بين ذراعيك كم أنا سعيد بالإعجاب بالمرأة التي أحبها(12)!
                      bestfriends
                      Infinity and eternity

                      Comment


                      • #31
                        رد: قصة الحضارة (ول ديورانت)

                        الله يعطيك العافية اليان بس انو

                        طوبى للرحماء
                        محلى ليالي ليالي الحب والقمر يسهر معانا
                        وكل نجمة في السما تبارك هوانا


                        سوا


                        bestfriends
                        Infinity and eternity

                        Comment


                        • #32
                          رد: قصة الحضارة (ول ديورانت)

                          2- رسائل عن الإنجليز


                          في عامي 1733 و1734 نشر فولتير بعد عناء شديد أول إسهامه في عصر الاستنارة، وكان عبارة عن 24 رسالة موجهة من إنجلترا إلى تييريو





                          وترجمت إلى الإنجليزية وصدرت في لندن (1733) رسائل متعلقة بالأمة الإنجليزية. ولكن كان في طبع الأصول في فرنسا مغامرة بحرية المؤلف وصاحب المطبعة كليهما. وخفف فولتير من بعض الأجزاء، وحاول أن يحصل على أذن من الحكومة بطبع البقية، فرفضوا منحه الترخيص، وهنا لجأ ثانية إلى نشرها سراً في روان. وحذر الناشر جور من تسرب أية نسخة للتداول لبعض الوقت على الأقل، ولكن في أوائل 1734، وصلت عدة نسخ إلى باريس تحت عنوان "رسائل فلسفية". وحصل أحد القراصنة الناشرين على نسخة، وأصدر منها طبعة كبيرة العدد دون على فولتير. وفي نفس الوقت كان فولتير ومدام دي شاتيليه قد قصدا إلى قصر مونتحي بالقرب من أوتون على مسافة 190 ميلاً من باريس ليحضرا حفل زفاف ريشيليو.
                          وبدأ الكتاب بأربع رسائل عن جماعة الكويكرز الإنجليزية، وأوضح فولتير أن هؤلاء الكويكرز ليس لهم تنظيم كنسي ولا قساوسة ولا أسرار ولا قرابين مقدسة، مع ذلك مارسوا الشعائر المسيحية في إخلاص وإيمان أكثر من أي مسيحيين عرفهم. ووصف أو تخيل زيارة قام بها لواحد منهم وقال: "سألت واحداً منهم: سيدي العزيز، هل عمدوك؟ فأجاب "لا لم أعمد لا أنا ولا أخوتي". وصحت في وجهه: عجباً كيف يكون هذا إذن أنتم لستم مسيحيين! فأجاب في صوت هادئ خفيض يا بني، لا تقسم، نحن مسيحيون" "ونحن نحاول أن نكون مسيحيين صالحين، ولكننا لا نرى أن المسيحية مجرد ماء بارد مع قليل من الملح على الرأس وعارضته. (يا إلهي! لا تتحدث بهذا الضلال! هل نسيت أن يوحنا عمد المسيح؟) فرد قائلاً: يا صاحبي، لا تقسم بعد ذلك، إن يوحنا عمد المسيح ولكن المسيح لم يعمد أحداً... ونحن أتباع المسيح لا أتباع يوحنا فقلت له: (وا حسرتاه أيها المسكين جزاؤك الحريق في بلاد محاكم التفتيش وسألني (هل أجروا لك عملية ختان؟).
                          فأجبته (لم يكن لي شرف الختان).
                          فقال: (حسناً، أنت مسيحي دون ختان، وأنا مسيحي دون تعميد)
                          وقال الكويكرز إن التعميد مثل الختان من العادات السابقة على المسيحية وقد أبطلها إنجيل السيد المسيح الجديد. ثم استطرد فولتير يتحدث عن الحرب )لن نذهب أبداً إلى الحرب، لا لأننا نخشى الموت، بل لأننا لسنا ذئاباً ولا نموراً، ولا كلاباً نحن رجال مسيحيون. أن إلهنا الذي أمرنا نحب أعداءنا يقينا لا يريد منا أن نعبر البحر لنقتل أخوة لنا، لمجرد أن السفاحين الذين يرتدون ثياباً في لون الدم وقبعات عالية ترتفع إلى قدمين يجندون المواطنين بينما يحدثون جلبة باثنتين من العصي ممدتين على جسم حمار. وبعد النصر تتألق لندن كلها في الأضواء وتلتهب سماؤها بالألعاب النارية وطلقات المدافع، على حين نرثي في صمت للمذبحة التي أدت إلى مثل هذا الابتهاج العام(13).
                          لقد أوذيت فرنسا أيما إيذاء، وكادت أن تدمر نفسها لمحاولتها فرض عقيدة واحدة على جميع الفرنسيين. وأسهب فولتير في وصف التسامح بالنسبة للخلافات الدينية في إنجلترا. "هذه بلد الطوائف. والرجل الإنجليزي، باعتباره حراً يسلك إلى السماء الطريق الذي يختاره.(14)ووازن فولتير بين أخلاق رجال الدين الإنجليز وأقرانهم الفرنسيين. وهنأ الإنجليز بأنهم ليس لديهم رهبان. إن الإنجليز ليحمدون الله ويشكرونه على أنهم بروتستانت حين يعلمون أن الشبان الفرنسيين المعروفين بفسقهم وفجورهم يرقون إلى مناصب الأساقفة والمطارنة بفعل الدسائس، ويؤلفون الأغاني الرقيقة ويقيمون ولائم العشاء الباذخة كل يوم تقريباً، ويطلقون على أنفسهم أنهم خلفاء الرسل.(15)وفي الرسالة الثامنة أدار فولتير الخنجر إلى صدر الحكومة في فرنسا: "إن الأمة الإنجليزية وحدها هي التي عرفت كيف تحدد سلطة الملوك بوقوفها في وجههم... وأخيراً أقامت هذه الحكومة الرشيدة، وفيها يتمتع الملك بكل القوة والسلطة في أن يفعل الخير، على حين تغل يداه عن الإتيان بأي شر أو سوء. (وهنا يردد فولتير عبارة مشهورة مأثورة عن رواية فنليون "تليماك". إن إقرار الحرية في إنجلترا تطلب ثمناً غالياً ولا ريب، فقد أغرق صنم الحكم الاستبدادي المطلق في بحر من الدماء، ولكن الإنجليز لا يرون أنهم اشتروا القوانين العادلة الصالحة بثمن باهظ، فهناك أمم أخرى مرت بمحن وأوقات عصيبة لا تقل عما عاناه الإنجليز، ولكن الدماء التي أريقت دفاعاً عن قضية الحرية لم تكن إلا تثبيتاً لعبوديتها(21).
                          إن حق التحقيق في قانونية حبس التهم في إنجلترا يحرم السجن دون قضية محددة، ويتطلب محاكمة علنية، بواسطة المحلفين، أما في فرنسا فهناك "الأوامر السرية المختومة". وقبل مونتسكيو بأربعة عشر عاماً، رأى فولتير "فصل السلطات في الحكومة الإنجليزية وامتدحه وبالغ فيه، كما رأى تنسيق العمل بين الملك ومجلس اللوردات ومجلس العموم. وأشار فولتير إلى أنه لا يمكن فرض ضرائب إلا بموافقة البرلمان" "وأنه لا يعفي أحد من ضرائب معينة... لأنه نبيل أو كاهن."(17)وفي إنجلترا يشتغل صغار أبناء النبلاء بالتجارة وبمختلف المهن، أما في فرنسا فإن التاجر غالباً ما يسمعهم يتحدثون عن مهنته في ازدراء واحتقار، حتى يبلغ به الحمق إلى حد الشعور بالخزي والعار من الاشتغال بالتجارة. ولست أدري أيهما أنفع للدولة-نبيل نتأنق يعرف بالضبط متى يصحو الملك من نومه أو يأوى إلى فراشه، ويستشعر العظمة حين يقوم بدور العبد الرقيق... أو رجل أعمال (مثل فوكنر مضيف فولتير في لندن، يثري وطنه ويصدر الأوامر من مكتبه إلى سورات والقاهرة، ويسهم في إسعاد العالم بأسره(18) وأخيراً في قطعة تضمنت برنامجاً لفرنسا ذهب فولتير إلى: أن الدستور الإنجليزي بلغ قمة التفوق وكان من نتيجة ذلك أن كل الناس استعادوا حقوقهم الطبيعية، على حين أنهم محرمون منها في سائر الملكيات تقريباً. وهذه الحقوق هي الحرية الكاملة في أشخاصهم وفي ممتلكاتهم: حرية الصحافة حق المحاكمة بناء على نص صريح في القانون، وحق كل إنسان في اعتناق العقيدة التي يرتضيها دون إزعاج.(19)
                          ولا بد أن فولتير عرف أن فريقاً من الناس فقط هم الذين تمتعوا بهذه الحقوق الطبيعية "وأن الحرية الشخصية لم تتحر من خطر الرقابة الصحفية، وأنه كانت هناك حدود وقيود على حرية الكلام في الدين وفي السياسة، وأن المنشقين والكاثوليك كانوا مستبعدين من الوظائف العامة. وأنه كان من الميسورة في إنجلترا رشوة القضاة ليتجاهلوا القانون. إن فولتير لم يدون وصفاً نزيهاً لواقع إنجلترا, أنه كان يستخدم إنجلترا سوطاً يحرك به الثورة في فرنسا ضد ظلم الدولة أو الكنيسة. أن كون كل هذه الحقوق تقريباً أصبحت الآن قضية مسلماً بها في البلدان المتحضرة يضفي على ما أنجزه القرن الثامن عشر روعة وجلالاً.
                          ولا يقل عن هذا أهمية في أثره على الفكر الحديث امتداح فولتير لبيكون ولوك ونيوتن. إنه قال عن بيكون الذي اتهموه وجرحوه ما حكم به بولنجيزوك على مالبرو "إنه رجل بلغ من العظمة حداً لا أستطيع معه أن أتذكر هل كان له أخطاء أم لا"(20)ثم أردف يقول" إن هذا الرجل العظيم بيكون هو أبو الفلسفة التجريبية لا من أجل التجارب التي قام بها، بل بما وجه من نداءات قوية للنهوض بالبحث العلمي. وتلك هي الفكرة التي حدت بديدرو ودالمبرت إلى القول بأن بيكون هو أول من أوحى إليهم بدائر المعارف التي وضعوها.
                          وخصص فولتير لجون لوك كل الفصل الثالث عشر تقريباً. إنه لم يجد فيه مجرد علم العقل بدلاً من أسطورة النفس، بل وجد فلسفة كامنة كاملة حتى أنه بإرجاعه كل المعرفة إلى الشعور، حول الفكر الأوربي عن الإلهام الإلهي إلى الخبرة الإنسانية، باعتبارها المصدر الوحيد للحقيقة وأساسها. ورحب برأي لوك في أنه يمكن تصور إن المادة يمكن تمكينها من التفكير وغصت بهذه العبارة بالذات حلوق رجال الرقابة الفرنسية، وكان لها أثراً كبير في الحكم على الكتاب وإدانته. ويبدو أنهم تنبئوا فيها بمادية لامتري وديدرو. ورفض فولتير أن يسلم نفسه إلى المادية، ولكنه عدل عبارة ديكارت "أنا أفكر إذن أنا موجود" إلى "أنا جسم وأنا أفكر ولا شيء غير هذا".
                          وأشارت الرسالة الرابعة عشرة على الفرنسيين أن يتخلصوا من ديكارت وينصرفوا إلى دراسة نيوتن. إن حكم الرأي العام في إنجلترا على هذين المفكرين هو إن أولهما كان حالماً والثاني حكيماً. وقدر فولتير أعظم تقدير إضافات ديكارت إلى الهندسة، ولكنه لم يستسغ الدوامات الكونية عند ديكارت. إنه أقر بأن ثمة شيئاً وهمياً غامضاً، أو على الأقل مخدراً في مقالات نيوتن عن الكرونولوجيا القديمة (تقسيم الزمن إلى فترات وتعيين تاريخ الأحداث) وسفر الرؤيا، وأوحى فولتير بشكل لطيف بأن نيوتن كتب هذه المقالات ليعزي البشرية عن تفوقه البالغ عليها(21)إنه وجد أن نيوتن ما زال عويصاً يصعب فهمه، ولكن اجتماع الرجال البارزين في الحكومة وفي ميدان العلوم لتشييع جنازته ترك في نفسه أثراً عقد معه العزم على دراسة قوانين نيوتن، وعلى أن يكون رسول نيوتن إلى فرنسا، وهنا أيضاً غرس فولتير بذور دائرة المعارف وعصر التنوير.
                          وأخيراً صدم فولتير الفكر الديني في فرنسا بنقد لاذع وجهه إلى آراء بسكال. إنه لم يقصد تضمين هذا في رسائله، فليس لهذا علاقة بإنجلترا، ولكنه كان قد أرسله من إنجلترا إلى تيير 1728، فألحقه الناشر اللص بالرسائل باسم رقم 25، وكانت النتيجة أن الجانسنيين-الذين قدسوا بسكال إلى حد العبادة، وسيطروا على برلمان باريس-، فاقوا الآن اليسوعيين (الذين لم يحبوا بسكال قط) في استنكار فولتير وشجبه وكان فولتير غير قابل أساساً للاتفاق مع بسكال حيث كان في هذه المرحلة (اللهم إلا في رواياته) عقلانياً متشدداً لم يكن قد وجد بعد مجالاً للوجدان في فلسفته. وكان لا يزال شاباً ممتلئاً حيوية ونشاطاً ينعم بالحياة وسط محنه البطولية، ومن ثم عارض التشاؤم الجزع الكئيب عند بسكال "ولسوف أتجاسر فأقوم بدور الجنس البشري ضد هذا المبغض للشر المهيب"(22)ورفض "رهان" بسكال (أي أنه من الأحكم أن نراهن على وجود الله لا العكس) باعتباره عملاً صبيانياً يجافي الحشمة والوقار... إن اهتمامي بالاعتقاد بشيء ليس برهاناً على أن هذا الشيء موجود"(23)ولم يعرض بسكال الرهان (على أنه برهان) وسلم بأنه ليس في مقدورنا أن نفسر الكون أو نعرف قدر الإنسان، ولكنه أرتاب في أننا نستطيع من هذا الجهل أن نستنتج صدق قانون الإيمان المسيحي الذي جاء به الرسل. كما أنه لم يحس في هذا العصر المرح المفعم بالحيوية بأي تعاطف مع تطلع بسكال إلى الراحة والدعة، حيث نادى بأن الإنسان "خلق ليعمل... فعدم العمل وعدم الوجود سيان بالنسبة للإنسان(24)".
                          وليست "ملاحظات على أفكار بسكال" أفضل ما كان يمكن أن تجود به قريحة فولتير. أنه لم يكن قد أعدها للنشر، ولم يكن لديه الفرصة لمراجعتها وتنقيحها. وقضت الأحداث اللاحقة-مثل زلازل لشبونة-على نضارة تفاؤله الفتي. وعلى الرغم من هذا الملحق غير المدروس وغير الجدير بالاعتبار، فإن "الرسائل الفلسفية" كانت أحد المعالم البارزة في الأدب الفرنسي والفكر الفرنسي. فهنا لأول مرة ظهرت الجمل الموجزة الدقيقة والوضوح المبين والذكاء المرح والتهكم اللاذع، وأصبح كل هذا منذ الآن طابعاً أدبياً مميزاً يتجاوز ويتجاهل الحرص على إنكار اسم المؤلف. إن هذا الكتاب، وكتاب الرسائل الفارسية حددا أسلوب النثر الفرنسي من عهد الوصاية إلى عصر الثورة. وفوق هذا فإنها أحكمت حلقة من أقوى الحلقات في الربط بين المفكرين الفرنسيين والإنجليز، وهي كما قدر بكل "أهم حقيقة إلى حد بعيد في تاريخ القرن الثامن عشر"(25)إنها كانت بمثابة إعلان حرب ومخطط شن حملة. وقال روسو عن هذه الرسائل إنها قامت بدور كبير في إيقاظ عقله. ولا بد أن آلافاً من شباب فرنسا دانوا لها بمثل هذا الفضل. وقال عنها لافاييت أنها صيرته جمهورياً وهو في التاسعة من عمره. ورأى هين "إنه لم يكن لزاماً على رقيب المطبوعات أن يصادر هذا الكتاب حيث كان لا بد من قراءته بغير هذا الإجراء"(26).
                          وأحست الكنيسة والدولة والملك والبرلمان أنهم لم يعودوا يطيقون صبراً على مثل هذه الجراح الكثيرة في صمت، فأرسل صاحب المطبعة إلى سجن الباستيل، وصدر أمر سري مختوم بالقبض على فولتير أينما وجد. وفي 11 مايو ظهر أحد رجال الشرطة يحمل أمراً بالقبض عليه. ولكن من المحتمل أن موبرتوي ودار جنتال كانا قد حذرا فولتير فغادر فرنسا قبل ذلك بخمس ة أيام. وبناء على أمر البرلمان في 10 يونيه أحرق كل ما وجد من نسخ الكتاب بيد مأمور التنفيذ العام في فناء قصر العدل باعتباره عملاً شائناً ينافي الدين والخلاق القومية ويتعارض مع احترام الواجب للسلطات العامة.
                          وقبل معرفة المركيزة دي شاتيليه بوصول فولتير سالماً إلى اللورين كتبت إلى صديق لها: "أنا لا أطيق صبراً على مجرد علمي بأنه في السجن وهو في مثل هذه الصحة والعافية وقوة الخيال. وأنا لا أحبذ ذلك مطلقاً". وأجمعت هذه السيدة والدوقة دي بشيليو وغيرهما من السيدات ذوات المكانة الرفيعة أمرهن على العمل معاً للحصول على عفو عنه. ووافق حامل الأختام على إلغاء أمر القبض إذا أنكر فولتير تأليفه للكتاب. لكن تلك كانت خدعة لأنه كان على علم اليقين أن فولتير هو المؤلف. وكان حامل الأختام هذا أحد موظفي الحكومة الذين لطفوا من حدة الرقابة من آخر بالأعضاء عما في الكتاب من مآخذ. ووافق فولتير فوراً على إنكار أنه المؤلف. وهذه كذبة بيضاء من الممكن الصفح عنها بسهولة. فضلاً عن أن الكتاب الذي برئ من تأليفه وزع دون موافقته. وكتب فولتير إلى الدوقة دي ايجوبون:
                          يقولون إنه يجب أن أتراجع... بكل سرور.. سأعلن أن بسكال على حق دائماً وأن القساوسة مهذبون وديعون منزهون عن الغرض "وإن الرهبان ليسوا متغطرسين ولا منصرفون إلى تدبير الدسائس، ولا حقراء وأن محاكم التفتيش المقدسة هي انتصار الإنسانية والتسامح(27).
                          والغي أمر القبض على شرط أن يبقى فولتير بعيداً عن باريس. فتنقل من قصر إلى قصر قرب حدود المدينة ورحب النبلاء الذين لم يتمسكوا كثيراً بأهداف الدين، كما لم يميلوا مطلقاً إلى الحكومة الملكية المركزية المستبدة وتلقى الدعوة بالإقامة في بلاط هولشتين مع معاش قدرة عشرة آلاف فرنك سنوياً ولكنه رفض(28)وفي يوليه أوى إلى قصر مدام دي شاتيليه في سيري في شمبانيا. وهناك وهو الضيف الذي يتحمل نفقات عشيقته وزوجها بدأ أسعد سني حياته.
                          bestfriends
                          Infinity and eternity

                          Comment


                          • #33
                            رد: قصة الحضارة (ول ديورانت)


                            3- أنشودة الحب في سيري




                            1734-1744


                            سيري الآن قرية عدد سكانها 250 شخصاً في مقاطعة المارن الأعلى في شمال شرقي فرنسا على بعد بضعة أميال من اللورين، وصفتها مدام دنيس ابنة أخي فولتير 1738 بأنها منعزلة موحشة على بعد أربعة فراسخ من العمران في منطقة لا يرى المرء فيها شيئاً غير الجبال والأراضي غير المنزرعة(29)وربما أحبها فولتير لأنها بقعة هادئة حيث يستطيع أن يتفرغ فيها لدراسة العلوم وكتابة التاريخ والفلسفة، وتنساه الحكومة الفرنسية, أما إذا لاحقته فإنه يستطيع الانطلاق منها هرباً إلى اللورين في ظرف ساعة واحدة.
                            وكان القصر طللاً متهدماً من مخلفات القرن الثالث عشر. قلما أقام فيه آل شاتيليه ولم يكن يصلح للسكنى منذ أمد بعيد، ولم يهتم المركيز بإصلاحه، أو لم يكن لديه المال لهذا الغرض، فأقرضه فولتير 40 ألف فرنك بفائدة قدرها 5% للقيام بالإصلاحات اللازمة ولم يطالب المركيز قط بسداد هذا القرض. وأعدت بعض غرف شغلها فولتير، وأمر ببناء جناح جديد، وأشرف على ترميم بقية القصر. وفي نوفمبر وصلت المركيزة ومعها مائتا حقيبة من الأمتعة، وعدلت من إصلاحات فولتير بما يتناسب مع ذوقها الخاص، وأقامت هناك-وهي التي كانت قضت معظم سني شبابها بين الحاشية الملكية أو قريباً منها-منصرفة إلى الدراسة مع زوجها وعشيقها في وقف معاً. وأقام المركيز اللطيف نعها ومع فولتير بين الحين والحين حتى 1740، محتفظاً لنفسه في لباقة بشقة خاصة به وبمواعيد خاصة لتناول الطعام وحده. وبعد ذلك قضى معظم وقته مع كتيبته. وكانت دهشة فرنسا وإعجابها بكياسة الزوج أقل منها بإخلاص العشيقين.
                            وفي ديسمبر عادت مدام شاتليه إلى باريس وزارت الدوقة رويشيليو في معتقلها، وأقنعت الحكومة بإلغاء الأمر بإقصاء فولتير عن العاصمة (2 مارس 1735) فقصد إلى باريس وأقام فيها عدة أسابيع مع خليلته، ولكن ماضيه لاحقه، فإن أجزاء من شعره الفاجر كان يتناقله الناس. ولم يتمالك هو نفسه قراءة بعض قطعه القوية على أصدقائه. كما نشر أحد الناشرين اللصوص "رسالة إلى أورانيا"، وكان فولتير قد كتبها قبل ذلك بخمس عشر سنة، وقد هاجم فيهس المسيحية، فأنكر أنه مؤلفها بطبيعة الحال ولكنها كانت تحمل بصمات أسلوبه وفكره. ولم يصدق إنكاره أنه المؤلف، فهرب ثانية إلى اللورين، ومنها في حيطة وحذر إلى سيري. وتلقى من الحكومة تأكيدات عن طريق غير مباشرة بأنه إذا ظل هناك دون أن يرتكب أية مخالفة أخرى فلن يعكر صفوه أحد. ولحقت به مدام دي شاتيليه مع ابنتها وابنها ومعلمهما، وكان طفلها الثالث قد مات. وهنا أخيراً بدأ شهر عسل فلسفي.
                            وكان لكل من الفيلسوفين مجموعة غرف خاصة به على جانبي القصر. وكانت شقة فولتير تتكون من حجرة انتظار ومكتب ومكتبة وحجرة نوم وكسيت وجدران بنسيج من المخمل الأحمر المنقوش، وازدانت باللوحات التي اقتنى منها فولتير مجموعة ثمينة منها لوحة من رسم تيشيان وعدة لوحات من رسم تنيير، كما كان هناك تماثيل فينوس وكيوبييد وهركيوليز، ولوحة كبيرة لصديقها الجديد الأمير فردريك ولي عهد بروسيا. وعلى حد تعبير مدام جرافيني، كانت النظافة التامة في هذه الحجرات إلى حد "يمكن معه تقبيل الأرض"(30)أما جناح المركيزة فكان مختلفاً عن هذا ذوقاً: اللون أصفر الفاتح واللون الأزرق الباهت مع لوحات من رسم فيرونيز وواتو، وصورة السقف وأرضيته من الرخام، ومائة من الصناديق والزجاجات الصغيرة والخواتم والمجوهرات وأدوات الزينة متناثرة هنا وهناك في حجرة ملابسها الصغيرة. وبين مجموعتي الغرف كانت هناك قاعة كبيرة أعدت لتكون معملاً للفيزياء والكيمياء، فيها مضخات هواء ومقاييس حرارة وأفران وبوتقات ومنظار مقرب (تلسكوب) ومجهر (ميكروسكوب) ومنشورات وبوصلات وموازين. وكان هناك عدة غرف للزوار، لم تكن مؤثثة تأثيثاً جيداً. وعلى الرغم من القماش المنقوش على الجدران كانت رياح الغابات تتسلل إلى القصر من خلال الشقوق والنوافذ والأبواب. وكان لزاماً لتدفئة هذا القصر إلى حد مقبول وجود 36 مدفأة تستهلك في اليوم الواحد ستة (كوردات) من الخشب (الكورد=28 قدماً مكعباً من الخشب). ويمكن أن نتخيل عدد الخدم اللازمين له، أضف إلى ذلك مسرحاً لأن فولتير كان يحب أن يمثل وبخاصة في رواياته هو أنه ليؤكد لنا أن المركيزة كانت ممثلة بارعة، وكان الضيوف والمعلم والخدم يحيطون بشخصيات الرواية، ويغنوا بالأوبرا، أحياناً لأن المركيزة (كما يؤكد فولتير مرة أخرى) كان صوتها ملائكياً. كما كان هناك عروض لمسرح العرائس وعروض بالفانوس السحري، قرنها فولتير بتعليقات أغرقت الحاضرين في الضحك.
                            ولكن اللهو كان طارئاً أما العمل فكان نظاماً يومياً. وكان العاشقان عادة، يعملان منفصلين كل في نطاقه، ولو أنهما تعاونا أحياناً في العمل، وقلما كان الواحد منهما يرى الآخر في أثناء النهار إلا في وجبة الطعام الرئيسية عند الظهر تقريباً. وكان المركيز يترك المائدة قبل أن يبدأ الحديث. وغالباً ما أنسل فولتير أيضاً إلى مكتبه تاركاً الآخرين يتسامرون. وكان له هناك أدوات مائدته الخاصة به لأنه يتناول طعامه وحده أحياناً. وإنا لنرى قلبه بحق محدثاً ممتعاً ممتلئاً بالحيوية، ويمكن أن يكون محط الأنظار ومبعث الحياة في أي اجتماع يشهده، ولكنه كان يكره الحديث التافه. وكان يقول "هذا الوقت الذي نقضيه في الحديث يزعجني كثيراً ويجدر بنا ألا نضيع دقيقة واحدة، إن أكثر ما نضيع هو الوقت(31)وكان يخرج أحياناً لصيد الغزال حباً في الرياضة.
                            وجدير بنا أن لا نصور الرفيقين الفيلسوفين على انهما ملاكان، فيمكن أن تكون السيدة الجافة مستبدة بل قاسية بخيلة بعض الشيء عنيفة مقترة مع خدمها وكانت تحتج إذا نقدهم فولتير أجراً أكبر، ولم يكن بها استحياء من شيء في جسمها، فلم تكن تأبه كثيراً لخلع ملابسها جميعاً أمام سكرتيرهما لونجشامب، أو تكليفه بصب الماء الساخن عليها وهي في الحمام. وكانت تطلع خفية على الرسائل التي يكتبها ضيوفها أو ترد إليهم، وليس لدينا دليل على هذا إلا شهادة سيدة أخرى(33) أما فولتير فكان له مئات الأخطاء التي ستكتشف في الوقت المناسب. كان شاعراً مزهواً وكان سريع الغضب والتجهم كأنه طفل، وكثيراً ما هاجم عشيقته وتشاجر معها، وما كان هذا الشجار على أية حال إلا سحب صيف تؤكد سادة أيامهما، وسرعان ما كان فولتير يعود إلى هدوئه وابتسامته وابتهاجه. وما كان يمل الحديث عن سعادته وعن حبه لرفيقته بطريقته الهادئة. ونظم لها مائة قصيدة حب قصيرة كل منها تصوير بارع في فن محكم. وكانت إحدى هذه الدرر الأدبية مع خاتم من حجر كريم نقشت عليه صورته: "بنقش يبرز هذه القسمات ليقع عليها بصرك. أنظري إليها لتقري عيناً بها. أما صورتك فهي منقوشة في أعماق قلبي بيد صناع أكثر حذقاً وبراعة.(34)".
                            أما هي فقالت لا أطيق فراقه لمدة ساعتين دون أن يمزقني الألم(35).
                            ومن بين العشيقين الفيلسوفين كانت هي أكثر انصرافاً إلى العلم وانكباباً عليه منه. ونفذت قانون سيادة المرأة غير المسطور في إخفاء مخطوطة كتاب فولتير "قرن لويس الرابع عشر" الذي لم يكمل بعد، ووجهته بشدة إلى دراسة العلوم بوصفها الدراسة الحقة لرجل العصر الحديث. ووصفتها مدام دي جرانيني، وكانت ضيفاً عليها في 1738، بأنها أكثر مثابرة على أبحاثها العلمية من فولتير، حيث كانت تقضي معظم النهار وجزءاً كبيراً من الليل في مكتبها. وفي بعض الحيان حتى الساعة الخامسة أو السابعة صباحاً.(36)وكان موبرتوي يأتي من حين إلى سيري ليتابع دروسه لها في الرياضيات والفيزياء. وربما كانت هذه الزيارات بالإضافة إلى إعجاب المركيزة السافر بسعة علم موبرتوي، هي التي أثارت الغيرة في قلب فولتير الشديد الحساسية، فأدت إلى الملاكمة والشجار بينهما في برلين.
                            وهل كانت دي شاتيليه عالمة باحثة حقاً، أم أنها اتخذت من العلم سبيلاً للأناقة ومجاراة مقتضيات العصر. ورأت مدام دي ديفان وبعض سيدات أخريات أن دراستها وأبحاثها كانت مجرد مظهر كاذب، وزعمت المركيزة دي كريكي :أن الجبر والهندسة اقتربا بها من حافة الجنون، على حين أن تحذلقها وكلفها الشديد بموضوع دراستها جعلاها لا تحتمل. والواقع أن ذهنها تشوش بكل ما تعلمته أو عرفته(37)ولكن استمع إلى مدام دي جرافيني وهي تصف لنا جلسة في سيري.
                            "في هذا الصباح قرأت علينا ربة البيت عملية هندسية لمؤلف إنجليزي حالم... وكان الكتاب باللغة اللاتينية؛ وقرأته علينا بالفرنسية، وترددت لحظة عند كل عبارة، وكأني بها تتفهم العمليات الهندسية، ولكن لا، إنها ترجمت بسهولة المصطلحات الهندسية والأرقام والألفاظ الغريبة، ولم تتوقف في شيء. ألا يثير هذا الدهشة حقاً؟(38).
                            وأكد فولتير لتييريو أن مدام دي شاتيليه كانت تعرف الإنجليزية جيداً، وأنها عرفت كل المؤلفات شيشرون الفلسفية، وكانت مولعة جداً بالرياضيات والميتافيزيقا(39). وذات مرة بزت العالم الفيزيائي وعضو الأكاديمية دي ميران في مناقشة عن الطاقة الحركية(40)وقرأت شيشرون وفرجيل في الأصل اللاتيني وأريستو وتاسو بالإيطالية، ونيوتن بالإنجليزية، وعندما زار الجاروتي سيري تحدثت معه بالإيطالية. وكتبت ولكن لم تنشر كتاباً من ستة مجلدات عن دراسة "سفر التكوين"، مبنية على أعمال الربوبيين الإنجليز عرضت فيه للمتناقضات والأشياء البعيدة الاحتمال والأعمال غير الأخلاقية والأفعال الظالمة في الكتاب المقدس. وكانت رسالتها عن السعادة بحثاً أصيلاً عن أسس السعادة، حيث رأت أن هذه الأسس هي الصحة والحب والفضيلة والانغماس الذاتي العقلاني، ثم طلب العلم والمعرفة. وترجمت قوانين نيوتن من اللاتينية إلى الفرنسية، وأشرف على طبعها كليرو، ونشرت بعد وفاتها بست سنوات (1756). وألقت عرضاً موجزاً لنظام العالم نشر في 1759 وأعلن فولتير ربما من قبيل الشهامة والود، أنه يفوق كتابه "مبادئ فلسفة نيوتن" (1738)(41)وعندما أعلنت أكاديمية العلوم (1738) عن جائزة لأحسن بحث عن طبيعة النار وانتشارها، ودخل فولتير المسابقة كتبت هي سراً البحث وقدمته دون ذكر اسمها، وكتبته في الليل لتخفيه عن فولتير (حيث أتى في بحثي عارضت كل آرائه تقريباً(42)) ولم يفز أي منهما بالجائزة التي حصل أولر. ولكن الأكاديمية طبعت مقاليهما، وامتدح كل منهما مقال الآخر في نشوة الحب العقلي.
                            ومن أجل موضوعه هو، قام بعدة تجارب بعضها في معمله وبعضها في مسبك في شومون المجاورة(43)ودرس فولتير التلكس وكان قاب قوسين أو أدنى من اكتشاف الأوكسجين(44). ونراه في مايو 1737 يكتب إلى الراهب موسينو في باريس يطلب إليه كيميائياً للحضور إلى سيري لقاء مائة جنيه سنوياً مع الإقامة الكاملة. ولكن كان على هذا الكيميائي أيضاً أن يتلو القداس في أيام الآحاد والعطلات في كنيسة القصر(45). أته من جانبيه آمن الآن بالعلم وحده. وكتب في 1741 ينبغي أن نعتقد في صحة ما تكشف عنه لنا عيوننا وما تكشف عنه الرياضيات. أما فيما عدا هذا فيجدر أن نكتفي بالقول بأننا لا نعرف(46). فالفلسفة كانت تعني عنده آنذاك خلاصة العلم:
                            وبهذا المعنى استخدم فولتير الإصلاح في مؤلفه "مبادئ فلسفة نيوتن أملا في الترخيص الملكي بنشره، ولكنه لم يجب إلى طلبه، وظهرت منه طبعة في أمستردام (1738) دون موافقته. وصدرت طبعته هو هناك في عام 1741، وكانت عبارة عن مجلد ضخم يضم 440 صفحة، نموذجاً رائعاً لما يسميه الفرنسيون "دون تعمد الانتقاض من قدره" تبسيطاً، أي محاولة فهم العويص الصعب منه إلى أكبر حد ممكن. وأضاف المشرف على الطبع عنواناً فرعياً وضع ليكون في متناول الجميع. وغير الراهب ديفتنون هذا العنوان الفرعي في نقد غير ودي إلى "عويص على كل الناس" وعلى النقيض من ذلك امتدح الجميع الكتاب بل أن اليسوعيين تقبلوه بقبول حسن في صحيفة تريفو(47). وهنا طردت الجاذبية الكونية التي كشفها نيوتن دوامات ديكارت من أذهان الفرنسيين. وشمل كتاب فولتير عرضاً لبصريات نيوتن، وتحقق من التجارب في معمله الخاص، وحاول إجراء تجارب أخرى من عندياته، وحاد عن طريقه قليلاً، ليؤكد اتساق فلسفة نيوتن مع الإيمان بالله. وفي نفس الوقت أكد شمولية القانون في العالم المادي.
                            وعلى الرغم من كل هذه الجهود لم يكن فولتير روح رجل العلم ولا تحديداته وقيل أنه أخفق في أن يكون رجل علم. وينبغي بنا أن نرجح القول بأنه كان شخصاً ثرياً متعدد الجوانب إلى حد لا يستطيع معه أن ينصرف إلى العلم كل الانصراف بصفة نهائية. أنه استخدم العلم وسيلة لتحرير العقل، حتى إذا تم له ما أراد انصرف إلى الشعر والمسرحية والفلسفة بأوسع معانيها، والإنهماكات الإنسانية في الشئون الأساسية في عصره "يجب أن نهيئ الطريق في حياتنا لكل أساليب المعرفة والوجدان ونفتح أمامها الأبواب لتنفذ إلى نفوسنا، فإذا لم تتبدد هذه شذر مذر فإن هناك مكاناً فسحاً لكل شيء(48)" وهكذا كتب في ذاك الوقت (1734) بحث في الإنسان ردد فيه إلى حد كبير آراء بوب في نفس الموضوع، حتى إلى درجة إجازة فكرة غير فولتيرية "كل شيء صواب(49)". ونظم في هذه السنوات معظم غادة أورليان (جان دارك). وربما كان هذا انتجاعاً لبعض الراحة من عناء نيوتن. وشرح فلسفته في رسالة في الميتافيزيقا، وقد رأى من الحكمة أن يحجم عن نشرها.
                            وكانت رسالة فذة مثل سائر إنتاجه، وبدأها بأن تخيل نفسه زائراً وافداً من كوكب المشتري إلى كوكب المريخ، ومن ثم رأى أنه لا يتوقع منه أن يوفق بين آرائه وبين ما جاء به الكتاب المقدس. وحط رجاله بين كفار جنوب أفريقية. وينتهي إلى أن الإنسان حيوان أسود الجلد شعره شبيه بالصوف، ثم ينتقل إلى الهند ليجد أناساً صفر اللون ذوي شعر سبط غير مجعد، فيستنتج أن الإنسان جنس يتألف من عدة أنواع متميزة لا تنحدر كلها من أصل أو سلف واحد(50)ويحكم من مظاهر النظام في العالم ومن التركيب الهادف ذي المعنى في أعضاء الحيوان بأن هناك رباً ذكياً يصمم أو يركب صور الجميع. ولا يرى دليلاً على وجود نفس خالدة غير فانية في الإنسان، ولكنه يشعر بأن إرادته حرة. وقبل هيوم وآدم سميث يزمن طويل نرى فولتير يستمد روح الأخلاق من التعاطف بين الناس بعضهم مع بعض، وقبل هلفشيوس وبنتام بزمن طويل أيضاً نرى فولتير يحدد الفضيلة والرذيلة بما هو مفيد وغير ضار بالمجتمع(51)وسنعود إلى هذه الرسالة فيما بعد.
                            وكم اختلفت هذه الرسالة عن الشعر المرح الذي نظمه فولتير في تاريخ جان دارك وأنا إذا فتحنا الملحمة الساخرة اليوم فلا بد لنا أن يقفز إلى ذاكرتنا أن الكلام الفرنسي والأدب الفرنسي كانا أكثر تحرراً آنذاك منهما في النصف الأول من القرن العشرين. ولقد رأينا نموذجاً في الرسائل الفارسية للحاكم مونتسكيو، بل أن ديدرو كان أكثر حرية لا في الجواهر المنظومة فحسب، بل في جاك المؤمن بالقضاء والقدر كذلك. فإذا قورنت جان دارك بهذين الكتابين كما نشرها أخيراً فولتير 1756، لوجدناها معتدلة بشكل محمود. ومن المحتمل أن الأصل الذي جرى تداوله سراً كان أقرب إلى أسلوب رابليه، ودافع كوندرسيه الوقور الرزين عن القصيدة وروى أن مالشرب وهو أحد كبار موظفي الحكومة الفرنسية حفظها عن ظهر قلب(52)، ووجد في القسم الحادي والعشرين من القصيدة بعد بحث مجهد، بعض أبيات معتدلة في فسقها وشهوانيتها يمكن التجاوز عنها مثل الصور الشبيهة بها عند آريوستو، وقد عوض عنها بقطع كثيرة تقدم وصفاً رائعاً وسرداً بارعاً، وكان فولتير مثل كثير من الفرنسيين في زمانه يرى في جان دارك بنتاً فلاحة بريئة ساذجة، وربما كانت ابنة غير شرعية استسلمت للخرافات واعتادت سماع (الأصوات)، وارتاب في أن فرنسا كان لا بد أن تنقذ من الغزو الإنجليزي حتى ولو لم تولد هي قط. وفيما عدا هذا ومع التسامح في بعض الأخطاء التاريخية، فإنه روى القصة بأمانة مع تمليحها ببعض الدعابة ومال الملك برأسه نحو جان الباسلة التي لا تهاب شيئاً، وقال في صوت مهيب يرهبه الجميع إلا هي وحدها، أنصتي إلى ياجان، إذا كنت عذراء حقاً فأقسمي اليمين، فأجابت: مولاي العظيم، أصدر أوامرك الآن إلى الأطباء الحكماء الخبيرين بأسرار النساء ونظاراتهم على أنوفهم، ورجال الدين والصيادلة وكبيرات الممرضات الخبيرات ليجتمعوا على الفور للفصل في الأمر، فليدققوا النظر ويروا ومن هذا الجواب الحكيم عرف شارل أنها ملهمة تلقت وحياً، وأنها تتمتع بنعمة العذرية المقدسة المباركة، ثم قال الملك حسناً يا ابنة السماء، ما دامت تعرفين كل شيء فأخبريني ماذا حدث بيني وبين زوجتي في الفراش في الليلة الماضية؟ أتوسل إليك تحدثي بصراحة، فقالت جان لا لم يحدث شيء، فدهش الملك وركع وصاح بصوت عال: أنها معجزة، ثم رسم علامة الصليب وانحنى احتراماً وإجلالاً(53).
                            وقرأ فولتير على ضيوفه مقطعاً أو مقطعين من جان دارك رغبة في تسليتهم، وليبعث الدفء في أمسيات الشتاء الباردة. وكانت مدام دي شاتيليه تحتفظ بالمخطوطة الضخمة في حرز أمين، وسمح فولتير في استخفاف وإهمال بتداول بعض الأجزاء بين أصدقائه ونسخ بعضها وتناقلها المجتمع غير المهذب على نطاق أوسع مما كان من الحكمة أن يكون. وكان الخوف من أن تقاضيه الحكومة الفرنسية-لا بسبب فحش القصيدة بل بسبب الهجاء اللاذع في بعض أجزائها للرهبان واليسوعيين والأساقفة والبابوات ومحاكم التفتيش-من بواعث القلق والهموم التي أقضت مضجعه وعكرت عليه صفة حياته.
                            وكان فولتير أكثر جدية ووقاراً في الزير Alzler "التي بدئ بعرضها بشكل يدعو إلى المساعدة والابتهاج على المسح الفرنسي في 27 يناير 1736. وحققت التاريخ المسرحي بارتداء الثياب التي كانت سائدة في الزمان والمكان المحددين لأحداث الرواية-الغزو الأسباني لدولة بيرو وسلبها ونهبها. ويتوسل الفاريت الحاكم الأسباني للبلد المغلوب على أمره إلى المنتصرين أن يضعوا حداً لقسوتهم فيقول "نحن سوط العذاب الذي نصب على هذه الدنيا الجديدة، نحن عابثون جشعون ظالمون... نحن المتبربرون وحنا هنا أنا المتوحشون السذج البسطاء، ولو أنهم عنيفون بطبيعتهم، فانهم شجعان بواسل مثلنا، ولكنهم يفوقوننا في الميل إلى الخير وطيبة النفس(54). وصفقت باريس لهذه الرواية لمدة عشرين ليلة متوالية ودفعت 53.640 جنيهاً، وتنازل فولتير عن نصيبه من دخل الرواية للممثلين.
                            وفي 8 أغسطس 1736 تلقى فولتير أول رسالة من فردريك ملك بروسيا، ومن هنا بدأت مراسلات مشهورة وصداقة فاجعة. وفي نفس العام نشر قصيدة "الرجل الدنيوي" وكأنما كانت رداً مسبقاً على رسالة روسو "بحث في الفنون والعلوم" (1751) أن فولتير ضاق ذرعاً بالحالمين الواهمين الذين يضفون المثالية على الإنسان البدائي غير المتمدن الودود الصاعد "أو يحبذون الرجوع إلى الطبيعة" هرباً من الانفعال وتوتر الأعصاب والنفاق والخداع في الحياة الحديثة. إنه هو نفسه كان مستريحاً وسط ما يعاني من بلايا ومحن، ورأى أنه كان عليه لزاماً عليه أن يقول كلمة طيبة في المدنية إنصافاً لها. إنه لم يجد أية فضيلة أو ميزة في الفقر، أو أي انسجام بين الجراثيم والحب وربما كان البدائيون شيوعيين، وهذا فقط لأنهم لم يكونوا يملكون شيئاً. وإذا إتسموا بالاعتدال والقصد والرزانة فما ذاك إلا لأنهم لم يكن لديهم خمور "وأنا من جانبي أحمد للطبيعة الحكيمة أنها من أجل سعادتي أنجبتني في هذا العصر الذي يحط من قدره نقادنا الذين تعروهم الكآبة والانقباض. إن هذا الزمن الدنس ملائم كل الملائمة لحياتي فأنا أحب الترف والبدخ بل الحياة الناعمة وكل الملذات والفنون على اختلاف أنواعها، والنظافة والذوق والزينة والزخرفة وبدا له كل هذا مفضلاً لديه بشكل واضح على جنات عدن "أبي العزيز آدم، اعترف أنك ومدام حواء كانت لكما أظفار طويلة سوداء بما فيها من أقذار، وان شعره كما كان أشعث أغبر إلى حد ما.... وعبثاً حاول العلماء أن يعينوا مكان جنة عدن... إن جنة الأرض هي التي أعيش فيها أنا الآن.
                            ولم ترق في أعين رجال الدين الصورة التي رسمها فولتير لآدم وحواء، وأصروا على أن سفر التكوين تاريخ صحيح، ولم يقروا فولتير على ما جاء به عن أظافر آدم وشعر حواء، وتعالت الأصوات مطالبة بالقبض على شيطان سيري الكافر. وحذره الأصدقاء مرة ثانية، فاعتزم الرحيل. وفي 21 ديسمبر 1736 غادر سيري واميلي، قاصداً بروكسل متنكراً في زي التاجر ريفول. وسخر المعجبون به هناك من تنكره ومثلوا مسرحية آلزير تكريماً له. وحذر جان بابتست أهل بروكسل من أن فولتير جاء إليهم ليبشر بالإلحاد، فانتقل إلى ليدن حيث احتشدت الجماهير لرؤيته، ثم إلى أمستردام حيث أشرف على طبع كتابه عن نيوتن، وساور المركيزة آنذاك الخوف من أنه لن يعود إليها مطلقاً، فكتبت إلى دار جنتال: "منذ أسبوعين فقط كنت أتعذب لعدم رؤيته لمدة ساعتين اثنتين، وكنت أكتب إليه من غرفتي إلى غرفته، ومضى الآن أسبوعان لا أعرف أين هو ولا أعرف ماذا يفعل... أنا في حالة يرثى لها(55)وأخيراً عاد (مارس 1737) وهو يقسم انه لولا حبه لها لما أقام في فرنسا التي تلاحقه وتطارده على هذا النحو.
                            وفي مايو 1739 عاد العشيقان إلى بروكسل حيث استخدم فولتير كل مواهبه القانونية وغيرها في قضية تتعلق بممتلكات المركيزة. ثم قصد هو وزوجها إلى باريس حيث قدم فولتير روايتي محمد وميروب إلى مسرح الكوميدي فرانسيز، وحيث رأت السيد شاتيليه في المطبعة مجلداتها الثلاثة عن "قوانين الفيزياء" وفي هذه الدروس "تهربت من فولتير ونيوتن كليهما مؤثرة عناصر الوجود الأولية في فلسفة ليبنتز. وفي سبتمبر عادوا إلى سيري، ثم قصدوا بعدها إلى بروكسل لإقامة طويلة، ومنها في سبتمبر 1740 أسرع فولتير إلى كليف Cleves لأول لقاء له مع فردريك، وكان قد أصبح ملكاً، ورفض أن يدعو أميلي معه. وفي نوفمبر قطع مسافة 150 ميلاً مرهقة قاصداً برلين ليقوم بمهمة دبلوماسية للكاردينال فليري، وسنعود إلى تفصيل هذه المهمة فيما بعد. وذهبت أميلي في نفس الوقت إلى فونتنبلو حيث بذلت جهداً كبيراً في الحصول على إذن لفولتير بالإقامة في باريس، أن سيري أصبحت عبثاً لا يطاق. وفي 23 نوفمبر كتبت إلى دار جنتال: لقد لقيت جزاء سنمار على كل ما فعلت في فونتنبلو، لقد ذللت كل العقبات، وحصلت لفولتير على حق العودة إلى بلده دون قيد أو شرط، ووفقت بينه وبين الوزارة، ومهدت الطريق لقبوله في الأكاديمية، وصفوة القول أني في ثلاثة أسابيع أستطعت أن أعيد إليه كل ما فقده في ستة أعوام. فهل تعلم كيف كافاني على مثل هذا الإخلاص والغيرة؟ أنه أبلغني في رسالة جافة أنه قصد إلى برلين، وهو يعلم علم اليقين أنه يحطم قلبي ويعذبني عذاباً لا يوصف... لقد انتاباني الحمى... وآمل أن أفارق الحياة وشيكاً... وهل تصدق أن الفكرة التي تستبد بعقلي حين أحس بأن الحزن سيقتلني، هي فكرة الأسى العميق الذي ينتاب فولتير لموتى؟... أني لا أطيق أن أفكر في أن ذكراي سوف تسبب له يوماً الشقاء والألم، ويجدر بكل اللذين أحبوه أن يكفوا عن لومه.
                            وانتزع فولتير نفسه من جو النفاق الملكي ليلحق بعشيقته، وفي طريق عودته بعث إلى فردريك برسالة يوضح فيها وجهة نظره في الموضوع:
                            " إني أترك ملكاً عظيماً يكرم ويشجع فناً أعجب به إلى حد التأليه، لألحق بسيدة لا تقرأ إلا ميتافيزيقا وولف المسيحي (شارح ليبنتز). أني أنتزع نفسي من أعظم حاشية إمتاعاً وإيناساً في أوربا من أجل قضية قانونية. أني لم أترك حاشيتك الفاتنة الجديرة بالحب لأتنهد وأتأوه مثل أحمق معتوه بين يدي امرأة، ولكن هذه المرأة يا مولاي هجرت من أجلي كل شيء، مما يتخلى سائر النساء عن أصدقائهن من أجله. أنني أسير فضلها في كل شيء أن الحب غالباً ما يكون سخيفاً مضحكاً، ولكن الصداقة الخالصة والود الصافي لهما حقوق يرتبط المرء أكثر مما يرتبط بأوامر الملك(56).
                            والتقى ثانية بأميلي في بروكسل التي أصبحت بلدهما الثاني بسبب طول الإجراءات في قضيتها. وفي مايو 1741 شهدا العرض الأول لرواية محمد في ليل، ولقيا ترحيباً حماسياً. وعادا إلى بروكسل مزهوين مبتهجين، ولكن عكر صفوهما شعور بأن جذوة الغرام قد بدأت تنطفئ. وكان حبها لا يزال قوياً. ولو أن جوهر هذا الحب كان الرغبة في السيطرة والتسلط. ولكن شعلة الحب عند فولتير بدأت تتحول إلى قلمه. وفي يولية 1741 اعتذر لها عن غيرته التي أخذت تذوي وتذبل: "إذا وددت أن أستمر على الحب فعليك أن تعيدي إلى مسافات من زمان الحبيبين، أعيدي إلى إذا كان في مقدورك، فجر الحياة، وهي في غسق المساء، نحن نموت مرتين، وأنا الحظ هذا جيداً. إنه موت لا يطاق أن نتوقف عن الحب ونحن جديران به، أما توقف الحياة نفسها فهو أمر تافه لا قيمة له".
                            وفي أغسطس 1742 قصدا إلى باريس ليشهدا العرض الأول لرواية "محمد" في المسرح الفرنسي. وكان فولتير قد سعى للحصول على إذن رسمي من الكاردينال فلبري بتمثيلها، فأجابه إلى طلبه. وكان هذا العرض الأول (19 أغسطس) الحدث الأدبي لذاك العام، وشهده كثير من الحكام ورجال الدين والشعراء بالإضافة إلى الجمهور الذي اكتظ به المكان. وبدا أن الجميع راضون على المسرحية باستثناء نفر من رجال الدين الذين زعموا أن الرواية ليست إلا "هجوماً عنيفاً على المسيحية" وانضم فريرون وديفونتين وغيرهم إلى هذه الشكوى. وعلى الرغم من أن الكاردينال أحس بأن هؤلاء النقاد يسيئون إلى قضيتهم، فإنه بعث إلى فولتير برسالة سرية ينصحه فيها بسحب الرواية، وتم هذا بعد العرض الرابع من إقبال شديد على الرواية. وعاد فولتير وأميلي أدراجهما إلى بروكسل، وقد استبد بهما الغضب لخيبة أملهما.
                            وهل كانت رواية "محمد" هجوماً على المسيحية؟ ليس الأمر إلى هذا الحد. أنها كانت تهاجم التعصب العمى والتزمت ولكنها صورت الرسول في صورة غير ودية ربما أثلجت صدور المسيحيين الأبرياء من التاريخ ومن سوء النية فيه. أنه صور الرسول مخادعاً تعمد أن يدرس دينه الجديد إلى عقول قوم سذج ويستغل أيمانهم في استثارة هممهم في القتال، ويغزو مكة، بإصدار أمره إلى نصيره المتعصب سعيد بقتل الشيخ زبير الذي يقاوم هذا الغزو وعندما يتردد سعيد يؤنبه محمد في عبارات بدت لبعض المستمعين وكأنها تعريض برجال الدين المسيحيين، فهو يقول: "وأنت أيضاً تتردد؟ أيها الشباب الجريء، إنه لما يتنافى مع الدين أن تتردد. إن الذين يستخدمون عقولهم لا يميلون إلى الإيمان. بمحمد، إن عليك أن تمتثل. إن إرادة الله تقضي بذلك. ألا تعلمون أن إبراهيم الخليل ولد هنا وأن جثمانه الطاهر يرقد هنا، وهو الذي امتثل لصوت الله وأخمد صيحات الطبيعة بين جنبيه، وتخلى عن ولده العزيز!! أن الله العلي القدير نفسه هو الذي يطلب إليكم أن تضحوا، ويهيب بكم أن تنفروا إلى القتال، ومن ذا الذي يتجرأ فيتردد في تنفيذ أمر الله إذا دعاكم إلى القتال؟ فاضربوا إذن فوق الأعناق. أن دم الشيخ زبير يخولكم النعيم المقيم في الدار الآخرة(58) .
                            ويقتل سعيد الشيخ العجوز الذي يتبين وهو يلفظ أنفاسه الخيرة أن القاتل ابنه. وهذا بطبيعة الحال هجوم من فولتير على استخدام الدين ذريعة لسفك الدماء وإشعال نار الحرب. وهذا ما قصد إليه فولتير. وفي رسالة إلى فردريك ضرب أمثلة لجرائم ارتكبت بإسم الدين، منها قتل وليم أورانج وهنري الثالث وهنري الرابع ملكي فرنسا. ولكنه أنكر أن المسرحية هجوم على الدين. بل أنها دعوة إلى استمساك المسيحيين بمبادئ المسيحية الحقة.
                            وفي سبتمبر 1742 واساه الكردينال فليري بإفاده إلى فردريك ليحاول توجيه سياسته إلى الصداقة مع فرنسا. وقصد فولتير مزهواً بدبلوماسيته لزيارة الملك في آخن. وتبين الملك أهدافه ومراميه، فرد على حديثه السياسي شعراً، وأعاد فولتير إلى باريس مع عشيقته أميلي والمسرحية. وفي 20 فبراير 1743 أخرجت على الكوميدي فرانسيز أعظم رواياته ميروب حيث لاقت نجاحاً أخرس ألسنة أعدائه بعض الوقت.
                            وكانت عدة مسرحيات قد كتبت بالفعل في نفس الموضوع، منها مسرحية يوريبيدس التي لم يبق منها إلا شذرات قليلة وفي خطاب تمهيدي أقر فولتير بالفضل والعرفان لمركيز فرانشسكو سبيون دي مافي (وهو من فيرونا) الذي كان قد أخرج ميروب في 1713. وكانت هذه المسرحيات تتميز بتحول الاهتمام فيها إلى حب الوالدين لا إلى الحب الجنسي ويروون أن معظم الحاضرين سالت دموعهم في المشهد الأخير. ولأول مرة في تاريخ المسرح الفرنسي تعالت الأصوات تنادي بظهور المؤلف على خشبة المسرح، وقيل أنه وافق وبذلك أوجد سابقة أسف لها لسنج أشد الأسف. وطبقاً لبعض المصادر الأخرى يقال أن فولتير رفض الظهور على المسرح على الرغم من حث الدوقتين اللتين جلس في مقصورتهما، وكل ما فعله أنه نهض واقفاً في مكانه لحظة رداً على التحية(59)، وحكم فردريك بأن هذه المأساة من احسن ما كتب من مسرحيات(60). وذهب جيبون إلى ان الفصل الأخير يضارع أي فصل في مسرحيات راسين(61).
                            وقلل من قيمة نجاح "ميروب" إخفاق فولتير في الفوز بمقعد في الأكاديمية الفرنسية. إنه سعى له سعياً متواصلاً إلى حد أنه أعلن نفسه كاثوليكياً حقاً ومؤلف أبحاث أقرتها الكنيسة(62). وأيده لويس الخامس عشر في بداية المر ولكن وقف في طريقه وزيره الجديد مورياس الذي احتج بأنه لا يليق أن تشغل نفس شريرة دنسة المقعد الذي خلا بوفاة الكاردينال فلبري. وشغل المقعد أسقف ميربوا. واستحث فردريك فولتير أن يترك البلد الذي لا يلقي فيه عباقرته سوى هذا القدر الضئيل من التكريم، ويحضر ليقيم معه في بوتسدام. فاعترضت مدام شاتيليه وأشارت عليه الحكومة الفرنسية بقبول الدعوى لبعض الوقت والقيام بعملية التجسس في برلين. وهفت نفسه إلى الاشتغال بالسياسة، فقبل الدعوى وقام ثانية بالرحلة المرهقة راكباً عبر فرنسا وبلجيكا وألمانيا، وقضى في هذه المغامرة ستة أسابيع (30 أغسطس-12 أكتوبر 1743) ومرة أخرى سخر فردريك من سياسته وأمتدح شعره، وعاد فولتير إلى أميلي
                            في بروكسل. وفي أبريل 1744 استأنفا مقامهما في سبري محاولين بعث غرامهما الميت إلى الحياة من جديد.
                            وفي "رسالة السعادة" كانت المركيزة ترى أن الرغبة في المعرفة هي إحدى الرغبات التي تسهم أكبر إسهام في سعادة الإنسان لأنها تجعلنا أقل اعتماداً بعضنا على بعض ومع ذلك تقول عن الحب: "إنه أعظم الأشياء الطبيعية التي هي في متناول أيدينا، وهي الشيء الوحيد الذي نضحي من أجله بلذة الدرس والتحصيل. والمثل الأعلى في هذا المجال شخصان يفتتن الواحد منهما بالآخر إلى حد لا تفتر معه عواطفهما ولا تصاب بالتخمة أبداً، ولكن لا يمكن لإنسان أن يأمل في مثل هذا التآلف والانسجام بين شخصين، لأن هذا الشيء يفوق حد الكمال. فالقلب الأهل لمثل هذا الحب والنفس الوقية بالمحبة إلى هذا الحد يجوز أن تخلق مرة واحدة كل قرن من الزمان(63).
                            وفي رسالة مؤثرة لخصت تخيلها عن هذا الأمل:
                            "قضيت عشرة أعوام سعدت فيها بحب الرجل الذي غزا قلبي. وقضيت هذه الأعوام العشرة في ارتباط وثيق به... وعندما انتقص امتداد العمر والمرض من تعلقه بي لم ألحظ هذا إلا بعد مرور فترة طويلة. إني أحببته لسببين، قضيت حياتي كلها معه واستمتع قلبي الواثق بنشوة الحب، بالإضافة إلى توهمي أنني أيضاً جديرة بالحب، وأفلت من يدي هذا الظرف السعيد(64).
                            وماذا حول فولتير من الحب والهيام إلى هذا الوفاء المتقطع؟ ويبدو أنه كان صادقاً في التذرع باعتلال صحته. ولكنا سنجده في بحر عام واحد يتأوه ويتنهد كالمعتوه بين يدي امرأة" والحق أنه كان قد استنزف جانباً من حياته واهتمامه-مدام دي شاتيليه والعلم. إن العزلة في سيري ربما أورثت السأم والملل بسرعة ذهناً يافعاً. ولم تكن نعمة وبركة إلا عند ملاحقة الشرطة له، وعندما كان يدعوه العلم إلى التفرغ له، ولكنه كلن آنذاك قد تذوق ثانية ملذات باريس ومباهجها، واستمتع بمشاهدة افتتاح مسرحياته، بل كان يلعب دوراً في السياسة القومية، وأحس بسحر الحاشية ولو من بعيد، وأصبح صديقه المركيز دار جنسون الوزير الأول، كما أصبح صديقه ومدينه الدوق دي ريشيليو الأمين الأول للملك. وكان لويس قد رق له ولأن جانبه. وفي 1745 كان الدوفين على وشك أن يتزوج من الأميرة الأسبانية ماريا تيريزا رافاييلا، ولا بد أن تقام احتفالات ضخمة لهذا الغرض، فكلف ريشيليو فولتير بكتابة مسرحية لهذه المناسبة. وكان على رامو أن يكتب الموسيقى، فيتعاون الملحن والشاعر في العمل معاً، وكان لزاماً أن بحضر فولتير إلى باريس، وفي سبتمبر 1744 ودع العاشقان سيري وانتقلا إلى العاصمة.
                            bestfriends
                            Infinity and eternity

                            Comment


                            • #34
                              رد: قصة الحضارة (ول ديورانت)



                              4- رجل البلاط




                              1745-1758


                              بلغ فولتير آنذاك سن الخمسين. وكان لوقت غير قصير يحتضر في كل عام مرة. وكتب إلى تييريو في 1735 "من المؤكد أنه ليس أمامي إلا سنوات قليلة أعيشها(65). وكان قد بلغ آنذاك الحادية والأربعين، وكان أمامه ثلاث وأربعين سنة أخرى، فكيف تسنى له هذا؟ عندما انتابته علة خطيرة في شالون في أعالي المارن (1748)، ووصف له أحد الأطباء بعض الأدوية، قال فولتير، كما يروي سكرتيره، إنه لن يتبع شيئاً من هذه التعليمات، لأنه يعرف كيف يعالج نفسه في أيام الصحة والمرض على حد سواء، وسيظل طبيب نفسه كما كان دائماً. وفي مثل هذه الأوقات كان فولتير يصوم لبعض الوقت، ثم يأكل قليلاً من الحساء الرقيق والخبز المحمص والشاي الخفيف والشعير والماء. ويستطرد سكرتيره لونجشامب فيقول: "تلك هي الطريقة التي عالج بها فولتير نفسه فبرئ من سقمه الذي ربما أدى به إلى نتائج خطيرة لو أنه أسلم نفسه إلى أطباء شالون. كان مبدؤه أن صحتنا تتوقف علينا نحن، وركائزها الثلاث هي القصد في الطعام والشراب وضبط النفس والاعتدال في كل شيء، والتمرينات الرياضية البسيطة، ففي كل الأمراض التي لا تكون نتيجة لأحداث خطيرة أو تكون خلل أساسي في أعضاء الجسم الداخلية، يكفي أن تساعد الطبيعة التي تسعى جاهدة في شفائنا، وأن نلتزم في الغذاء بنظام دقيق لفترة طويلة إلى حد ما، فنتغذى على السوائل المناسبة والأغذية الخفيفة الأخرى. ورأيته دائماً يلتزم بهذه القاعدة طيلة وجودي معه(66).
                              وكان بارعاً مثل رجال المصارف في إدارة أمواله واستثمارها. وكان مستورداً وشاعراً ومقاولاً وكاتباً مسرحياً ورأسمالياً وفيلسوفاً ومقرضاً للنقود وصاحب معاش ووارثاً. وساعده صديقه دار جنسون على جمع ثروة من تموين الجيش(67)، وكان قد ورث جزءاً من ثروة أبيه وترك له موت أخيه أرمان (1745) دخل بقية أملاك أبيه. وأقرض الدوق ريشيليو ودوق دي فلبار والأمير دي جيز وغيرهم مبالغ كبيرة، ووجد عناء كبيراً في استرداد الديون، ولكنه عوض عنها بالأرباح(68). وفي 1735 كان ريشيليو مديناً له بمبلغ 46.417 من الجنيهات دفع عنه الدوق أرباحاً سنوية قدرها 4000(69)جنيه "وفي حالة مسيو دي بريزي غير الموثوق به كان فولتير يطلب فائدة قدرها 10%، واستثمر فولتير أكثر أمواله في سندات مدينة باريس التي تدر ربحاً قدره 5% أو 6%، وكثيراً ما أعطى تعليماته إلى وكيله للإلحاح على مدينيه بالسداد: "أنه من الضروري يا صديقي أن تطالب مرة ومرتين وتلح وتراقب وتلح في الطلب-ولكن لا تعذب المدينين من أجل إيرادي السنوي ومتأخراتي(70) وفي 1979 قدر سكرتير فولتير أن دخله السنوي بلغ 80 ألف جنيه(71). ولم يكن فولتير ينبش الأرض بحثاً عن المال، ولم يكن بخيلاً مقتراً، وكثيراً ما منح الأموال وقدم سائر المساعدات لشباب الطلبة ومد يد المعونة قولاً أو فعلاً إلى فوفينارج ومارمونتل ولا هارب. وقد رأيناه يتنازل عن العائدات رواياته للممثلين، وعند ما ضاع عليه أربعون ألف جنيه بسبب إفلاس ملتزم عام كان قد أقرضه المبلغ واجه الأمر في هدوء، ولم يثر أو يغضب. وذكر العبارات التي تعلمها في صغره "أعطانا الله، وأخذ الله فليتقدس اسم الله".
                              ولو أن فولتير أوتي مالاً أقل ليستغله ويعنى به، وكان أكثر بدانة أو اكتنز لحماً أكثر فوق عظامه، فلربما كان أقل حساسية وعصبية وأقل نزقاً وانفعالاً. وكان كريماً حذراً حريصاً على مشاعر الناس وحقوقهم. وكان عادة مرحاً ودوداً طلق المحيا مفعماً بالحيوية والنشاط، وكان أهلاً للصداقة الحميمة الوثيقة. وما أسرع ما كان يغتفر أية إساءة لا تجرح كبرياءه، ولكنه لم يكن يحتمل في صبر أي نقد أو عمل عدائي (وكان يقول أني أحسد الحيوانات على شيئين، جهلها مما قد ينتابها من مصائب بما يقال عنها(72)) وأثار ذكاؤه الحاد حفيظة كثير من الأعداء، فحمل عليه فريرون وبيرون وديفونتين وهاجموا أراءه في عنف أشد من عنف رجال الدين في مهاجمته. ولسوف نسمع منهم شيئاً فشيئاً. ورد عليهم فولتير الضربات بمثلها على الرغم من نصح مدام شاتيليه له بالتزام الصمت، ووجه إليهم أقذع السباب والشتائم، وجند أصدقاءه لشن الحملات عليهم. وكم وجدت المركيزة مشقة في منعه من الذهاب إلى باريس ليعنف ديفونتين أو يتحداه، بل أنه فكر في مناشدة الرقابة أن يحظر نشر ما يكتبه ألد أعدائه. لقد كان في فولتير كل شوائب مناقبة ومزيد من الشوائب.
                              ووجد فولتير في رامو (الموسيقار) شخصاً نزقاً مزهواً سريع الغضب مثله. وكان تعاونهما في العمل امتحاناً قاسياً لكل منهما. ولكن أخيراً اكتمل نص الأوبرا والموسيقى وقام الممثلون والموسيقيين بعمل تجربة للرواية. وفي 23 فبراير 1735 عُرضت "أميرة نافار"-ولقيت ما كان مقدراً لها من نجاح. وبعد ذلك بشهر خصصت لفولتير حجرة في فرساي تقارب ما وصفه في رسائله الخاصة بأنها "أقذر حجرة في فرساي" وتبوأت مركيزة شاتيليه من جديد في الحاشية مكانها الذي كانت قد ضحت به من أجل فولتير. وحصلت آنذاك على الامتياز المذهل وهو الجلوس في حضرة الملكة. وكان في صعود نجم مدام دي بمبادور تدعيم لمركز فولتير فقد تعرف عليها حين كانت مدام دتوال، وزارها في دارها، وكتب في مديحها شعراً تافهاً، وبناء على إلحاح منها عينه الملك (أول أبريل) مؤرخ الملك براتب قدره ألفي جنيه في العام.
                              وسرعان ما اقتضت الظروف أن يثبت جدارته ووجوده، ذلك أنه في 11 مايو 1745 هزم الفرنسيون الإنجليز في فونتنوي فطلب دار جنسون قصيدة غنائية تخلد هذا الانتصار. ونظم فولتير 350 بيتاً من الشعر في ثلاثة أيام طبعت خمس طبعات على مدى أسبوعين. وأحب الملك فولتير لفترة وجيزة، وأصبح فولتير شاعر حرب. وزيادة في تخليد ذكرى النصر كلف فولتير ورامو بإعداد أوبرا المهرجان. وأبرزت أوبرا "معبد المجد العظيم" أي تراجان-أي لويس الخامس عشر-عائداً من المعركة ظافراً منتصراً، وخصص لفولتير في تلك الأمسية مكان على مائدة الملك، وأكلا معاً طعاماً شهياً، ولكن فولتير سأل ريشيليو في لهفة: هل تراجان راض؟ ولكن الملك سمعه مصادفة ورأى أنه وقح جرئ بعض الشيء فلم ينبس إليه ببنت شفه.
                              وثمل فولتير بمزيج من الشهرة والانتساب إلى الحاشية الملكية، فبدأ حملة جديدة للانضمام إلى مجمع الخالدين (الأكاديمية الفرنسية) ولم يأل أي مجهود في تحقيق مأربه. وفي 17 أغسطس 1745 أرسل نسخة من رواية "محمد" إلى البابا بندكت الرابع عشر، يسأله أن يهديها إليه. وفي 19 سبتمبر رد البابا اللطيف: سعدت الليلة الماضية بروايتك "محمد" التي قرأتها بشغف وسرور عظيم. وإني لأقدر مواهبك أكبر تقدير ، وهذا أمر يعترف به الجميع... وأني لأكبر كل الإكبار نبلك وإخلاصك... وإني هنا أمنحك بركتي الرسولية(73)".
                              واغتبط فولتير بهذا الوسام أيما اغتباط حتى أنه كتب إلى البابا تقديراً حاراً ختمه بقوله: بكل إجلال وتقدير واحترام أقبل قدميك المقدستين(74)وأعلن إلى باريس تمسكه بالمذهب الكاثوليكي وإعجابه باليسوعيين، وأطنب في مدائحه لمدام بمبادور والملك. وتوسلت بمبادور إلى الملك وقبل الملك رجاءها. وأخيراً في 9 مايو 1746 وافقت الأكاديمية على الانضمام أمير الشعراء في هذا العصر والكتاب المسرحيين فيه إليها. وزيادة في تكريمه وتدعيم مركزه عين في 22 ديسمبر موظفاً في الحاشية الملكية مخصصاً للقيام على شئون الملك.
                              وربما تسنى له في أيام النجاح والعيش الرغيد هذه أن يكتب رواية "بابوك أو الدنيا كما هي" وبابوك رجل من سكيزيا (إقليم قديم في جنوب شرقي أوربا وجنوب غربي آسيا) يجول ليرى الدنيا، وبخاصة كيف تسير المور في فارس (أي فرنسا) وأصابه الذهول والفزع لما رأى من الحروب والفساد السياسي وشراء الوظائف وجباية الضرائب وثراء رجال الدين. ولكن ترحب به سيدة (مدام دي بمبادور) استماله جمالها وثقافتها وكياستها إلى "المدينة" ويرى بابوك هنا وهناك بعض مظاهر الكرم ونماذج للأمانة. ثم يزور رئيس الوزراء (تذكير بالكاردينال فليري) ويجده يعمل جاهداً لإنقاذ فارس من الفوضى والهزائم، ويخلص إلى أن الأمور تسير سيراً حسناً بقدر ما تسمح به الظروف الراهنة للطبيعة البشرية للتعليم، وأن الدنيا بوضعها الحاضر لا تستحق التدمير بعد، وأن الإصلاح خير من الثورة، أما بالنسبة لشخصه هو على أية حال فإنه سيقلد الحكماء الحقيقيين الذين سيعيشون بينهم وبين أنفسهم في عزلة وهدوء(75). فهل شعر بالوحشة والشوق إلى سيري فعلاً؟
                              إنه على أية حال لم يكن لائقاً ليعمل في البلاط. فإنه بطريقة تعوزها اللباقة إلى حد لا يصدق احتفل بانتصار الفرنسيين في برجن آوب زوم بقصيدة صور فيها الملك لويس الخامس عشر طائراً من ميدان المعركة إلى أحضان بمبادور، وعهد إليهما معاً بمهمة الاحتفاظ بالفتوحات واستبد الغضب بالملكة وبأبنائها، وأستنكر نصف أفراد البلاط وقاحة الشاعر، وفي الوقت عينه كانت دي شاتيليه قد انغمست في لعب الميسر، وفي ليلة واحدة خسرت 84 ألف فرنك، وأنذرها فولتير بالإنجليزية وهو واقف إلى جوارها بأنها تغش في اللعب. وفهم بعض اللاعبين ذلك واحتجوا وترامت أنباء هذه الصراحة المخزية إلى أفراد الحاشية، فلم تترك للشاعر صديقاً في فرساي أو فونتنبلو، وهرب فولتير وأميلي إلى سكو (1747) ليقيما لدى الدوقة دي مين التي ما زالت على قيد الحياة، وهناك بقي لمدة شهرين في جناح منفرد (منعزل) بعيد عن أنظار الناس، وهناك حاول أن ينسى ورطته ومحنته بالانصراف إلى كتابة بعض القصص الرومانسية المرحة التي ساعدت على ان تجعل منه أعظم المؤلفين شعبية في الأدب الفرنسي. وواضح أنه قرأها ذات يوم على الضيوف المقربين الذين تألفت منهم حاشية الدوقة الخاصة. ومن هنا كان إيجاز هذه القصص وما فيها من هجاء مرح وسخرية لطيفة.
                              وأطول هذه القصص التي كتبت فيما بين عامي 1746، 1750 هي "زاديج أو سر القدر" وزاديج شاب بابلي لطيف غني تلقى أحسن تعليم، عاقل قدر ما يمكن أن يكون الإنسان عاقلاً واسع الإطلاع على علوم قدامى الكلديين، فهم أصول ومبادئ الفلسفة الطبيعية، وعرف من الميتافيزيقا ما يمكن أن يعرف في أي عصر، أي القليل منها أو لا شيء على الإطلاق(76). وكان على وشك أن يتزوج من سمينا الجميلة حين هاجمه بعض قطاع الطرق، وأصابوه بجرح تحول إلى خراج في عينه اليسرى، واستدعى هرمز الطبيب المشهور من ممفيس وفحص الجرح، ثم أعلن أن زاديج لا بد أن يفقد عينه، ولو أنه في العين اليمنى لأمكن علاجه بسهولة، ولكن الجروح في العين اليسرى غير قابلة للشفاء. وأعلنت سمينا أنها تنفر نفوراً لا سبيل إلى مقاومته من الرجال ذوي العين الواحدة، ومن ثم هجرت زاديج وتزوجت من غريمه. وفي ظرف يومين التأم الجرح من تلقاء نفسه وشفيت العين تماماً، ويؤلف الطبيب هرمز كتاباً يثبت فيه أن هذا مستحيل، ويدخل زاديج السرور على قلب الملك موابدار بنصائحه الغالية، وعلى قلب الملكة آستارت بنظراته الحانية فتقع في شراك غرامه، ويهرب زاديج إلى مدينة نائية. وفي الطريق يرى رجلاً يضرب امرأة، ويستجيب في شجاعة لصرخاتها طلباً للمساعدة، فيتدخل بينهما ويهاجمه الرجل بعنف ولكنه يرد به قتيلاً. وتسبه المرأة بألفاظ جارحة لأنه قتل عشيقها. ويمضي زاديج في طريقه ويؤخذ ويباع بيع الرقيق. عندئذ تصور زاديج "الناس كما هم في حقيقة أمرهم...... حشرات يفتك بعضها ببعض من أجل قطرة من طين".
                              وقص "ممنون الفيلسوف" حكاية رجل اعتنق يوماً الفكرة الجنونية بأنه متعقل كل التعقل ولكنه وجد نفسه قاصراً قصوراً بائساً عاجزاً يواجه مئات الكوارث، فيقرر أن الأرض مستشفى كبير للأمراض العقلية تقوم الكواكب الأخرى بترحيل المجانين فيها إليه(77).
                              أما رحلات سكارمنتادو فهي تطوف بشاب من كريت من بلد إلى بلد حيث يكتشف له في كل يوم مشاهد جديدة من التعصب أو الخداع أو القسوة أو الجهل. ففي فرنسا تجتاح الحروب الدينية المقاطعات، وفي إنجلترا تحرق الملكة ماري خمسمائة من البروتستانت، وفي أسبانيا ينشق الشعب في لذة رائحة المهرطقين الذين ألقي بهم في النار، وفي تركيا ينجو سكارمتادو من الختان بأعجوبة، وفي فارس يتورط في الصراع بين طائفتي السنة والشيعة من المسلمين، وفي الصين يتهمه اليسوعيون بأنه شخصية بارزة من طائفة الدومنيكان، وأخيراً يعود إلى كريت "ومذ رأيت الآن كل ما هو نادر أو خير أو جميل على الأرض، فقد وطدت العزم على ألا أرى في المستقبل شيئاً غير بلدي، وتزوجت وسرعان ما أدخلني الشك في خيانة زوجتي، ولكني على الرغم من هذا الشك وجدت أن هذه هي لأسعد ظروف الحياة(78).
                              وتوسع ميكروميجاس في أفكار النسبية التي استخدمها سويفت في رحلات جلليفر. والسيد ميكروميجاس رجل يصلح للإقامة في نجم الشعري اليمانية، وطوله 120 ألف قدم وعرض صدره خمسون ألفاً، وطول أنفه 6.333 قدماً. عندما بلغ 670 عاماً من العمر ذهب ليستزيد من التعليم.
                              وبينما هو يحوم في الفضاء هبط على كوكب الزحل فسخر من الأقزام هناك، حيث بلغ طول الناس هناك ستة آلاف قد أم نحوها، وتعجب كيف يتسنى لسكان زحل المعدمين هؤلاء الذين ليس لهم إلا 72 حاسة فقط أن يعرفوا الحقيقة وسأل أحد السكان إلى أي حد من العمر تعيشون؟ فصاح ساكن زحل واحسرتاه! قليل جداً منا يعيشون لأكثر من 500 دورة حول الشمس (وهي بحسابنا نحن تصل إلى نحو 15 ألف سنة) وهكذا ترى أننا بشكل ما نموت في اللحظة التي نولد فيها.... وما أقل ما نتعلمه حين ينزل بنا الموت قبل أن نستفيد من خبرتنا(79). ويدعو ساكن الشعري اليمانية ساكن زحل إلى مصاحبته لزيارة كواكب أخرى، فتتعثر أقدامهما على كوكب الأرض، وتبتل قدما ساكن الشعري، ويكاد ساكن زحل يغرق وهما يسيران فوق البحر المتوسط. فلما وصلا إلى البر رأيا حشوداً من الأهالي صغار الأجسام يتمركزون هنا وهناك في اهتياج شديد، وعندما يتضح لساكن الشعري اليمانية أن مائة ألف من سكان الأرض هؤلاء يلبسون القبعات وعدداً مساوياً يضعون العمائم، يقتلون ويطيح بعضهم برؤوس بعض في صراع (الحروب الصليبية) حول ركام من التراب (فلسطين) لا يكاد يعلو على عقبيه يصيح ساخطاً. مستاءً: أيها الكفار الأوغاد... قلبي يحدثني أن أتقدم خطوتين أو ثلاثاً لأسحق تحت قدمي وكر السفاحين الحمقى بأسره(80).
                              وكل هذا كان عاماً ساراً بهيجاً، وكان يمكن أن يمر دون أن يحرك أحد ساكناً. ولكن فولتير في 1748 عكر صفو باريس بنشرة صغيرة "صوت الحكماء وصوت الشعب" هاجم فيها كنيسة فرنسا في نقطة حساسة، تلك هي "أملاك الكنيسة في فرنسا"، حيث ينمو العقل ويتطور يوماً بعد يوم، فإن العقل يعلمنا أنه يجدر بالكنيسة أن تسهم في نفقات الأمة بنسبة مواردها، وأن الهيئة التي نصبت نفسها لتلقين مبادئ العدالة يجدر بها أن تبدأ بنفسها لتكون قدوة للعدالة ونموذجاً لها ورغم أن الأديار تضيع أقوات الشعب وموارد الأرض في خمول عقيم، واتهم "الخرافة" بقتل الحكام وإراقة بحور من الدماء في الاضطهادات والحروب، وذكر الملوك بأن أحداً من الفلاسفة لن تمتد يده على مليكه، وإذا اتحد الملوك مع العقل وجردوا أنفسهم من الخرافة فكم يكون الناس أسعد وأهنأ بالاً. وقل أن أثارت رسالة موجزة مثل هذه العاصفة الهوجاء. ونشرت خمس عشرة رسالة مضادة للرد على رسالة "صوت الحكماء وصوت الشعب" التي لم يذكر اسم مؤلفها.
                              وأثناء إقامة فولتير في فصل الشتاء في سكو سددت مدام دي شاتيليه ديون القمار، وهدأت من روع الرابحين، وخففت من استيائهم لما نعتهم به فولتير، وأعادته إلى باريس حيث أشرف على نشر قصصه الصغيرة، ووجد من الحكمة على الرغم من المشقة والتعب أن يلبي دعوة ستانسلاس لزكزنسكي لزيارة بلاطه في لونفيل-على بعد نحو 18 ميلاً من نانسي عاصمة اللورين. وبعد رحلة مرهقة وصل الحبيبان إلى لونفيل (1748) ولكن بعد أسبوعين وصل كتاب من دارجنتال ينبئ به فولتير بأن ممثلي الكوميدي فرانسيز على استعداد لتجربة روايته سمير اميس، وإنهم في حاجة إليه لمعاونتهم في تفسير أبياتها. وكانت هذه الرواية تعني الشيء الكثير لديه، وكانت بمبادور من طيبة نفسها الآثمة قد أعادت إلى المسرح كربيون (الأب) الفقير المعدم وهيأت له سبيل النجاح. وكان ماريفو قد نجا سر فاعتبر مسرحيات الشيخ الهرم أعلى مرتبة من مسرحيات فولتير. وكان الشاعر النحيل الجسم قد اعتزم أن يثبت تفوقه بكتابة روايات في نفس الموضوعات التي كان كربيون قد طرقها. ومن ثم أسرع فولتير إلى باريس تاركاً أميلي في حرية مهلكة في لونيفل. وفي 29 أغسطس 1748 عرضت سميراميس لأول مرة عرضاً ناجحاً. وبعد العرض الثاني أسرع متنكراً إلى مقهى بركوب واستمع إلى تعليقات من شهدوا المسرحية. وكانت ثمة تعليقات امتدحت الرواية وأطرتها، تقبلها فولتير على أنها من حقه، وثمة آراء أخرى انتقصت من قدرها وهاجمتها. وقد آلمته هذه أيما إيلام، حيث كان عليه أن يحتملها صامتاً، ولكنه استفاد مما وجه إلى المسرحية من نقد، فنقحتها واستمر عرضها طويلاً، وهي تعد الآن من أحسن مسرحياته.
                              وأسرع ثانية في جو سبتمبر العاصف عبر فرنسا إلى لونفيل، وكاد يموت في الطريق عند شالون، ولما استحثه فردريك الأكبر على المضي إلى بوتسدام اعتذر بأن المرض أفقده نصف سمعه وعدة أسنان من أسنانه، إلى حد أنه لن يكون إلا مجرد هيكل في برلين. فأجاب "تعال بلا أسنان وبلا أذنين، إذا لم يكن بد من الحضور على هذه الصورة، ما دام أن هذا الشيء الذي بتعذر تعريفه، والذي يمكنك من التفكير، والذي يوحي بكل ما جميل، سيحضر معك"(82)ولكن فولتير آثر المقام مع أميلي.
                              bestfriends
                              Infinity and eternity

                              Comment


                              • #35
                                رد: قصة الحضارة (ول ديورانت)


                                5- موت الحبيبة


                                أحب الملك الصالح ستانسلاس الأدب، وكان قد قرأ فولتير وأصابته عدوى عصر الإستنارة، وفي 1749 كان الملك بصدد نشر بيانه "الفيلسوف المسيحي" الذي كانت ابنته ملكة فرنسا قد قرأته في استياء حزين. وحذرته من أن آراءه يشتم منها أنها نابعة من آراء فولتير إلى حد كبير. ولكن الشيخ الهرم استساغ آراء فولتير كما أعجب بذكائه. وكما أنه كان له أيضاً محظية (هي المركيزة دي بوفلرز) فأنه لم يجد تناقضاً في أن يتخذ من الشاعر محظياً له في بلاطه. كما عين، فوق ذلك، زوج أميلي المتحرر الواسع الأفق كبير مديري قصره براتب قدره ألفا كراون سنوياً.
                                وكان ثمة موظف آخر في بلاط ستانسلاس، هو المركيز جان فرانسوا دي سانت لامبرت، قائد الحرس. وكانت مدام دي شاتيليه قد التقت به لأول مرة في 1747، وكان هو في الحادية والثلاثين وهي "في الحادية والأربعين. وكانت تلك سن خطيرة لامرأة لم يعد عشيقها إلا مجرد صديق حميم. وفي ربيع 1748 بدأت تكتب للضابط الوسيم رسائل غرام تكاد تتسم بحماسة البنات الصغيرات وخلاعتهن: "تعال إلي بمجرد أن ترتدي ملابسك" سأطير إليك بعد أن أتناول العشاء. "واستجاب سانت لامبرت مغازلاً متودداً. وذات مرة في أكتوبر فاجأهما فولتير في خلوة مظلمة يتبادلان أحاديث الحب والهيام. إن أعظم الفلاسفة هو وحده الذي يتقبل هذه الفعلة النكراء، الخيانة، في هدوء وتسامح. ولم يثر فولتير لهذا الوضع على الفور، وأنبهما في شيء من الهذر والمزاج، ولكنه أوى إلى غرفته حين عرض سانت لامبرت تسوية الأمر معه-أي يقتله عند الفجر. وقصدت أميلي إلى فولتير في الثانية صباحاً، وأكدت له حبها الخالد، ولكنها ذكرته في رفق "بأنك لزمن طويل شكوت... من قواك أن تنهار... فهل يسيء إليك أن يحل أحد أصدقائك محلك؟" وعانقته ولاطفته ودللته بأسماء الدلال التي كانت تناديه بها، فخفت سورة غضبه وقال "آه أنت على حق دائماً يا سيدتي. ولكن طالما كان لزاماً أن تجري المور على هذا النحو فلا أقل من ألا تجري تحت سمعي وبصري" وفي الليلة التالية قصد سانت لامبرت إلى فولتير واعتذر له على تحديه. وعانقه فولتير وقال له "أي بني، لقد نسيت كل شيء. إني أنا المخطئ، أنت في زهرة عمر الشباب والحب والمتعة، فاستمتع بهذه اللحظات، فأنها قصيرة. إن هذا العاجز المريض مثلي لا يصلح لهذه الملذات" وفي الليلة التالية تناول ثلاثتهم العشاء معاً(83).
                                واستمر هذا الثلاثي "حتى ديسمبر حين اعتزمت السيدة دي شاتيليه الذهاب إلى سيري لتدبير شؤونها المالية. وصحبها فولتير، وجدد فردريك دعوته. وكان فولتير يميل الآن إلى تلبيتها. ولكن المركيزة فور وصولها إلى سيري أسرت إليه بأنها حامل، وأنها في مثل هذا السن وكانت آنذاك في الثالثة والأربعين، لا تتوقع أن تعيش بعد الولادة. وكتب فولتير إلى الملك فردريك ألا ينتظر قدومه. كما طلب إلى سانت لامبرت أن يحضر إلى سيري. وهناك اتفق العشاق الثلاثة على خطة لتأمين شرعية الطفل. واستحثت السيدة زوجها على القدوم إلى سيري للتعجيل بإنجاز بعض المهام. ولم ينزعج الزوج لوجود عاشقين آخرين إلى جانب زوجته يكملان شخصه، بل سعد كل السعادة حين استقبلوه بالترحيب وأكرموا وفادته. وازدانت المركيزة بأبهى زينة وأزهى حلة، ولاطفته أعظم ملاطفة، وشرب وثمل حتى كان ما كان (مما لست أذكره) وبعد بضعة أسابيع أبلغته أنها قد ظهرت عليها أعراض الحمل. واحتضنها في زهو وفرح. وأعلن عن الحادث السعيد المرتقب إلى كل الناس، وتقدم إليه الجميع بالتهنئة. ولكن فولتير وسانت لامبرت اتفقا على "أن يعد الطفل من بين أعمال مدام شاتيليه المتنوعة"(84)وعاد المركيز (الزوج) وسانت لامبرت إلى عملهما.
                                وفي فبراير 1749 عادت أميلي وفولتير إلى باريس وانصرفت هي إلى ترجمة قوانين نيوتن بمعاونة كليرو. وثمة رسالتان إلى سانت لامبرت (18، 20 مايو) تكشفان عن شخصيتها: "كلا: إنه ليس في مقدوري أن أعبر عن تقديسي وحبي لك حب عبادة. لا تلمني على نيوتن، ويكفيني عذابي بسببه. وما ضحيت قط بشيء قدر تضحيتي للعقل ببقائي هنا لإنجازه.. أنا أستيقظ في التاسعة، وأحياناً في الثامنة صباحاً. وأتناول القهوة، واستأنف العمل في الرابعة، وأتوقف عنه في العاشرة... وأتجاذب أطراف الحديث مع فولتير حتى منصف الليل وهو يتناول معي العشاء. وفي منتصف الليل أعود إلى العمل في نيوتن واستمر حتى الخامسة صباحاً. إني أنجز هذا الكتاب من اجل العقل والشرف ولكني أحبك أنت وحدك"(85).
                                وفي 10 يونيه جدد فردريك بسرعة دعوة فولتير إلى الحضور إلى بوتسدام ظناً من الملك أن سانت لامبرت قد أعفى فولتير من أية مسئوليات أخرى يلتزم بها تجاه دي شاتيليه، فأجاب فولتير "حتى فردريك الأكبر نفسه لا يستطيع أن يحول بيني وبين القيام بالواجب لا يمكن أن يحلني منه أي شيء... لن أتخلى عن سيدة قد تعاجلها المنية في سبتمبر. والأرجح أن عملية الوضع ستكون خطيرة جداً عليها، ولكن إذا كتبت لها النجاة، فإني أعدك يا مولاي أن أحضر في أكتوبر وأقدم ولائي لجلالتكم(86)".
                                وفي يوليه صحبها إلى لونفيل لتكون تحت رعاية طبية خاصة. إن خوف الموت أزعجها كل الإزعاج-يختطفها الموت في الوقت الذي وجدت فيه الحب من جديد، وفي الوقت الذي كانت فيه سني دراستها وبحثها على وشك أن تتوج بنشر كتابها. وفي 10 سبتمبر أنجبت طفلة. وفي اليوم العاشر من سبتمبر فارقت الحياة بعد أن عانت كثيراً. واستبد الحزن والأسى بفولتير فزلت قدمه وهو يغادر غرفتها وسقط على الأرض، وظل فاقد الوعي فترة من الوقت. وساعده سانت لامبرت على الأفاقة من غشيته. وقال فولتير عندئذ: "آه يا صديقي أنت الذي قتلتها... يا إلهي! ما الذي أغراك بأن تصل بها إلى هذه الحالة؟!" وبعد ذلك بثلاثة أيام طلب فولتير من لونجشامب الخاتم الذي خلعوه من يد السيدة المتوفاة. وكانت صورته منقوشة عليه يوماً ما وجده السكرتير في يد لامبرت، وتعجب فولتير قائلاً: "هكذا النساء. لقد خلعت صورة ريشيليو من هذا الخاتم، ثم جاء سانت لامبرت فطردني... هذا هو نظام الطبيعة.. شخص ينتزع مكان آخر.
                                وهكذا تسير الأمور في هذه الدنيا(87)". ووريت مدام دي شاتيليه التراب في لونفيل في أروع مظاهر المهابة والجلال في بلاط ستانسلاس، وسرعان ما تبعتها طفلتها.
                                وعاد المركيز وفولتير إلى سيري ومن هناك رد على بعض رسائل التعزية التي تلقاها من باريس: "أنتم عزائي، يا ملائكة الرحمة أنتم تجعلونني أحب بقية أيامي التعسة. إنني أعترف لكم أن البيت الذي أظلها على الرغم مما يثير في نفسي من أشجان، ليس كريهاً عندي... أنا لا أهرب من أي شيء يحدثني عنها ويذكرني بها. إني أحب سيري... والأماكن التي زانتها عزيزة على أنا لم أفقد سيدة ، بل فقدت نصف نفسي. فقدت نفساً خلقت لها نفسي، فقدت صديقة عشرين عاماً، عرفتها في طفولتها. إن أكثر الآباء عطفاً وحناناً لا يحب ابنته الوحيدة إلا كما أحببت أنا هذه السيدة. وبودي أن أجد في كل مكان ما يذكرني بها. وأحب أن أتحدث مع زوجها ومع ابنها(88).
                                ومع ذلك أدرك فولتير أنه سيذبل ويذوي إذا بقى مترملاً سيري الموحشة المنعزلة. وأرسل كتبه وأجهزته العلمية ومجموعته الفنية إلى باريس، وسافر في أثرها في 25 سبتمبر 1749. وفي 12 أكتوبر استقر به المقام في العاصمة، في قصر واسع الأرجاء في شارع ترافرسبير.
                                bestfriends
                                Infinity and eternity

                                Comment


                                • #36
                                  رد: قصة الحضارة (ول ديورانت)


                                  6- مدام دنيس


                                  كان من اليسير على فولتير أن يقنع ابنة أخته بالحضور لتكون ربة البيت حيث كانت لفترة من الوقت خليلته.
                                  ولدت ماري لويز مجنو Mignot (1712) وهي ابنة كاترين أخت فولتير. وعندما توفيت كاترين (1726) تكفل فولتير برعاية أولادها. وفي 1737، عندما بلغت ماري السادسة والعشرين، دفع لها خالها صداقاً محترماً حيث تزوجت من الكابتن نقولا شارل دنيس، وكان موظفاً صغيراً في الحكومة.
                                  وتوفي الزوج بعد ست سنوات من زواجه، وفي نفس الوقت الذي انتقل فيه فولتير والمركيزة دي شاتيليه إلى باريس. والتمست الأرملة بعض السلوى والعزاء بين ذراعي فولتير، ووجد هو بعض الحرارة والدفء بين ذراعيها. وواضح أن حب الخال سرعان ما تحول إلى شيء غير مشروع. وفي رسالة مؤرخة في 23 مارس 1745 خاطب فولتير ابنة أخته بقوله "محبوبتي، عزيزتي"(89) وقد تكون هذه العبارة حب برئ ولكن في ديسمبر، أي قبل عامين من لقاء المركيزة بسانت لامبرت كتب فولتير إلى الأرملة الطروب رسالة يجدر اقتباسها حرفياً حتى يمكن تصديقها: "أقبلك ألف قبلة. روحي تقبل روحك، إن قلبي مفتون بك. أقبل كل شيء فيك"(90).
                                  وحذفت مدام دنيس بعض الألفاظ تواضعاً وخجلاً، ولكن المفروض أنها أجابت برسالة غرامية، لأن فولتير كتب لها من فرساي في 27 ديسمبر 1745: "عزيزتي، تقولين إن كتابي إليك بعث السرور والنشوة حتى في حواسك كلها. وأنا مثلك تماماً. فلم أكد أقرأ العبارات الممتعة التي جاءت في كتابك حتى التهبت مشاعري من الأعماق. وأوليت كتابك كل الإجلال الذي أحب أن أوليه لشخصك كله، سأحبك حتى الممات"(92). وفي ثلاث رسائل بعث بها إليها في 1746 "إني أقبلك ألف قبلة"(93). بودي أن أعيش عند قدميك وأموت بين ذراعيك..(94)"متى يكون في مقدوري أن أعيش إلى جوارك وينساني العالم بأسره؟"(95) وفي 27 يوليه 1748 كتب يقول: "سأحضر إلى باريس من أجلك أنت إذا سمحت ظروفي سيئة. وسألقي بنفسي عند قدميك. وأقبل كل مفاتنك. وفي نفس الوقت أطبع ألف قبلة على كل موضع في جسمك الذي غمرني بفيض من اللذة والبهجة"(97).
                                  في عمر الرجال، مثلما هو في عمر النساء، فترة خطيرة، وهي عندهم أطول، ويرتكبون فيها حماقات لا تصدق. وكان فولتير ألمع شخصية في القرن الذي عاش فيه، ولكن لا يجدر بنا أن نعده من بين الفضلاء الحكماء، فكثيراً ما اقترف هذه السخافات والعمال الطائشة وتردى في هذه التصرفات المتطرفة ونوبات الغضب الصبيانية، مما سر أعداءه وأزعج أصدقاءه. إنه وضع نفسه تحت رحمة ابنة أخته التي كان واضحاً أنها مغرمة به، ولكنها أحبت نقوده حباً متزايداً. إننا نجدها تستغل سيطرتها عليه لتزيد من ثروتها، حتى يوم وفاته. إنها لم تكن امرأة رديئة بمقاييس العصر. ولكنها ربما جاوزت حدود عمرها باتخاذها سلسلة من العشاق-باكولار دارنو، مارمونتيل، مركيز دي اكسيمين-لتستكمل رعاية خالها.(98)ووصفها مارمونتيل مادحاً في 1747 "إن هذه السيدة مقبولة بكل ما فيها من قبح. إن شخصيتها البسيطة غير المتكلفة تشربت مسحة من شخصية خالها. وكان فيها كثير من ذوقه ومن مرحه وأدبه الجم، ومن هنا كان السعي إلى الاجتماع بها والتودد إليها"(99).
                                  وفي يوم وفاة مدام شاتيليه كتب فولتير إلى ابنة أخته:
                                  "ابنتي العزيزة، فقدت اليوم صديقة عشرين عاماً. ولوقت غير قصير-كما تعرفين. لم أكن أنظر إلى مدام دي شاتيليه على أنها امرأة (هكذا). أنا واثق أنك ستشاطرينني الحزن الشديد عليها. إنه من المؤسف حقاً أن أراها تفارق الحياة في مثل هذه الظروف ولمثل هذا السبب، وأنا لا أتخلى عن المركيزة دي شاتيليه في هذه المحنة المتبادلة.... سأحضر من سيري إلى باريس لأحتضنك بين ذراعي، والتمس فيك عزائي وأملي الوحيد في الحياة(100).
                                  وطوال الشهور الثمانية التي قضاها في العاصمة، تلقى فولتير من فردريك الأكبر رسائل كثيرة يستحثه فيها على الحضور، وكان هو يميل إلى قبول الدعوة. وعرض عليه فردريك أن يشغل وظيفة كبيرة في البلاط، مع دار خاصة بالمجان براتب قدره 5000 تالر في العام.(101) ولكن فولتير الذي كان من رجال مثلما كان فيلسوفاً، طلب إلى ملك بروسيا أن يقرضه بعض المال لتسديد نفقات الرحلة. ووافق الملك في تانيب ماكر، حيث شبه الشاعر بهوراس الذي رأى من الحكمة أن يمزج النافع بالمقبول(102). وطلب إلى فولتير الأذن بالرحيل من ملك فرنسا، ووافق لويس على الفور، قائلاً لخلصائه المقربين: "هذا سيزيد من جنون رجل مجنون في بلاط بروسيا وسيخفف من جنون رجل في فرساي(103). وفي 10 يونية 1750 غادر فولتير باريس إلى برلين.
                                  bestfriends
                                  Infinity and eternity

                                  Comment


                                  • #37
                                    رد: قصة الحضارة (ول ديورانت)


                                    هي الموسوعة رائعة جدا
                                    و الحلو فيا وصف الشعوب بطريقة ادبية بتبين جمال الشعوب يلي عم يحكي عنها

                                    حلو كتير مشكور على تعبك

                                    من له يسوع , له الحياة.
                                    الله لا يحبنا لاننا ذا قيمة , بل اننا ذا قيمة لان الله يحبنا.


                                    Comment

                                    Working...
                                    X