بقلم : الأستاذ معاذ قنبر & والدكتور إقبال مرشان

تبدو الحياة في نشوءها و تطورها كنموذج رائع و محكم نستطيع من خلاله التماس روعة عالم مادي أنتجت قوانينه أروع مأثرة ألا و هي الحياة . فكيف يمكننا تقصي تلك المأثرة ؟ الجواب هو العلم الذي يضعنا وجهاً لوجه أمام الكون لاكتشاف عظمة ما يحمل من قوانين مهدت لتحول الحياة ليست إلى احتمال كبير و حسب بل إلى ضرورة حتمية .

q نشوء الحياة و الخلية الأولى :

إن الحياة في تفتحها و تطورها بالمعنى البيولوجي للكلمة كانت مرتبطة و متشابكة بصورة واسعة مع تطور الوسط المحيط الذي بدأت الحياة تنتشر فيه , لقد أصبحت حقيقة بديهية بالنسبة للعلماء أن التطور في انتشار الحياة يتطابق مع تكيف الكائنات الحية في كل لحظة و بصورة متتابعة و دقيقة مع الإمكانيات و الضرورات المتعددة للوسط الذي تعيش فيه . و لكن النظرة المقلوبة لهذه المقولة على الأقل في المراحل الأولى من تطور الحياة صحيحة أيضاً هذه النظرة تدل على انه و في الحقبة الأولى من التطور تكيف المحيط أيضاً و بصورة مذهلة مع متطلبات الكائنات الحية الناشئة أي أن مجموعة الشروط البدئية التي أحاطت الكوكب الأرضي في بداياته ساهمت في نقل الحياة من إمكانية إلى ضرورة لا مناص منها ذلك أن تطوراً معيناً على سطح الكوكب الأرضي قد بدأ و لعدة مئات الملايين من السنين قبل ظهور البنى العضوية الأولى و سار في منحى لم يجعل نشوء الحياة ممكناً و حسب بل جعله أمراً حتمياً لا مناص منه .

- و هنا لا بد لنا من عرض موجز بسيط عن تكون الكوكب الأرضي و المراحل التي مر بها قبل تكون المفهوم البيولوجي للحياة : لقد تكونت الأرض من مواد جاءت من أعماق الكون هذه المواد هي خليط من المواد اللاعضوية البسيطة المحتوية على جميع العناصر التي نراها اليوم على كوكبنا هذه العناصر كانت بدورها منبثقة عن العنصر الأولي البدئي الهدرجين و هو أول و أخف العناصر و العنصر المنبثق عن الانفجار الكوني الكبير . و عليه يبدو كل شيء قد بدأ من غيمه هائلة من الهدرجين و قد مر بعد الانفجار الكوني فترة 9-10 مليار سنة حتى كوّن الغبار الكوني شمسنا و كواكب مجموعتنا الشمسية بما فيهم كوكبنا الأرضي . و بعد نشوء الأرض من التحام الغبار و انضغاطه بتأثير جاذبيته الخاصة أصبح لدينا جرم سماوي ذي كتلة محددة و حاصل على جاذبية ضغطت الغلاف الغازي المحيط بالأرض كما أن البعد الثابت عن الشمس و حقلها الكهرطيسي أدى إلى توفر شروط شعاعية و حرارية شديدة الخصوصية على الكوكب فقد بزغت الشمس في تلك الفترة بقوة تقدر ب 70 بالمائة فقط من قوتها الحالية و قد كان الغلاف الجوي الأرضي لا يحتوي على أوكسجين و كانت هناك بضعة أصوات خلف الرياح مثل هسيس الحمم المصطدمة بالمياه أو دوي النيازك , لم يكن هناك أي نباتات أو حيوانات أو بكتريا أو فيروسات . و قد بدأ الغلاف الجوي الأرضي بالتشكل و التبلور نتيجة الأبخرة المتصاعدة عن البراكين العديدة المتفجرة على سطح الكوكب نتيجة الحرارة العالية في تلك الفترة , و كانت تلك الأبخرة مكونة بشكل أساسي من بخار الماء ثم من مقادير من غازات الفحم و الميثان و الأمونيا , تلك العناصر و مع تساقط بخار الماء الذي كون مجموعة غيمية هائلة كونت البحار الأولى .

- و لعدم وجود الأوكسجين في تلك الفترة كانت الأشعة فوق البنفسجية تخترق الجو الأرضي بشكل مستمر و من المؤكد بأن تلك الأشعة استطاعت النفاذ إلى عدة أمتار في الماء الغني بالجزيئات المذكورة و ذلك أدى لتحريض الجزيئات المعنية في ذلك العمق لتتجمع مشكلة قطع بناء أكبر و نفس الأشعة التي سببت نشوء تلك القطع عملت على تفكيكها أيضاً و بذلك نتجت دورة متواصلة من البناء و التفكيك و بما أن الشعاع الشمسي لا يمكنه النفاذ إلى الطبقات الدنيا من قاع المحيط ( لا يتفذ أكثر من 10 م من مياه البحار ) فقد استطاع قسم من الجزيئات الأكبر أن يحتمي في الأعماق غير مبال بطبيعة الدورة العملية في الأعالي و قد تسببت الأشعة فوق البنفسجية بطاقتها القوية في تفكيك المياه نفسها إلى موادها المؤلفة من أوكسجين و هدرجين و بالتالي حدث على سطح البحار ما يسمى بالتفكك بالضوء أما الهدرجين فقد تصاعد خارج نطاق الجاذبية الأرضية التي لم تستطع أن تبقيه في مجالها لخفته و بقي الأوكسجين في الغلاف الجوي الأرضي مشكلاً حاجزاً منيعاً في وجه استمرار تدفق الأشعة فوق البنفسجية و بالتالي منع تفكك الجزيئات الموجودة في الماء و هذا ما سمي بقانون الكبح العكسي و عنده توقفت آلية نشوء الخلايا العضوية المنقسمة إلى آلية تطور هذه الخلايا , و هذا ما يؤكد أن نشوء الحياة لم يحدث هكذا فجأة و من دون أي مقدمات , إن نشوء الحياة على الأرض قد حصل خلال عملية تطورية شديدة التعقيد و البطء ذات تسلسل دقيق و منسجم و خالي من القفزات و صحيح بصورة مذهلة .