• If this is your first visit, be sure to check out the FAQ by clicking the link above. You may have to register before you can post: click the register link above to proceed. To start viewing messages, select the forum that you want to visit from the selection below.

Announcement

Collapse

قوانين المنتدى " التعديل الاخير 17/03/2018 "

فيكم تضلو على تواصل معنا عن طريق اللينك: www.ch-g.org

قواعد المنتدى:
التسجيل في هذا المنتدى مجاني , نحن نصر على إلتزامك بالقواعد والسياسات المفصلة أدناه.
إن مشرفي وإداريي منتدى الشباب المسيحي - سوريا بالرغم من محاولتهم منع جميع المشاركات المخالفة ، فإنه ليس بوسعهم استعراض جميع المشاركات.
وجميع المواضيع تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا يتحمل أي من إدارة منتدى الشباب المسيحي - سوريا أي مسؤولية عن مضامين المشاركات.
عند التسجيل بالمنتدى فإنك بحكم الموافق على عدم نشر أي مشاركة تخالف قوانين المنتدى فإن هذه القوانين وضعت لراحتكم ولصالح المنتدى، فمالكي منتدى الشباب المسيحي - سوريا لديهم حق حذف ، أو مسح ، أو تعديل ، أو إغلاق أي موضوع لأي سبب يرونه، وليسوا ملزمين بإعلانه على العام فلا يحق لك الملاحقة القانونية أو المسائلة القضائية.


المواضيع:
- تجنب استخدام حجم خط كبير (أكبر من 4) او صغير (أصغر من 2) او اختيار نوع خط رديء (سيء للقراءة).
- يمنع وضع عدد كبير من المواضيع بنفس القسم بفترة زمنية قصيرة.
- التأكد من ان الموضوع غير موجود مسبقا قبل اعتماده بالقسم و هالشي عن طريق محرك بحث المنتدى او عن طريق محرك بحث Google الخاص بالمنتدى والموجود بأسفل كل صفحة و التأكد من القسم المناسب للموضوع.
- إحترم قوانين الملكية الفكرية للأعضاء والمواقع و ذكر المصدر بنهاية الموضوع.
- مو المهم وضع 100 موضوع باليوم و انما المهم اعتماد مواضيع ذات قيمة و تجذب بقية الاعضاء و الابتعاد عن مواضيع العاب العد متل "اللي بيوصل للرقم 10 بياخد بوسة" لأنو مخالفة و رح تنحزف.
- ممنوع وضع الاعلانات التجارية من دون موافقة الادارة "خارج قسم الاعلانات".
- ممنوع وضع روابط دعائية لمواقع تانية كمان من دون موافقة الادارة "خارج قسم الاعلانات".
- لما بتشوفو موضوع بغير قسمو او فيو شي مو منيح او شي مو طبيعي , لا تردو عالموضوع او تحاورو صاحب الموضوع او تقتبسو شي من الموضوع لأنو رح يتعدل او ينحزف و انما كبسو على "التقرير بمشاركة سيئة" و نحن منتصرف.
- لما بتشوفو موضوع بقسم الشكاوي و الاقتراحات لا تردو على الموضوع الا اذا كنتو واثقين من انكم بتعرفو الحل "اذا كان الموضوع عبارة عن استفسار" , اما اذا كان الموضوع "شكوى" مافي داعي تردو لأنو ممكن تعبرو عن وجهة نظركم اللي ممكن تكون مختلفة عن توجه المنتدى مشان هيك نحن منرد.
- ممنوع وضع برامج الاختراق او المساعدة بعمليات السرقة وبشكل عام الـ "Hacking Programs".
- ممنوع طرح مواضيع او مشاركات مخالفة للكتاب المقدس " الانجيل " وبمعنى تاني مخالفة للايمان المسيحي.
- ممنوع طرح مواضيع او مشاركات تمس الطوائف المسيحية بأي شكل من الاشكال "مدح او ذم" والابتعاد بشكل كامل عن فتح اي نقاش يحمل صبغة طائفية.
- ضمن منتدى " تعرفون الحق و الحق يحرركم " بالامكان طرح الاسئلة بصيغة السؤال والجواب فقط ويمنع فتح باب النقاش والحوار بما يؤدي لمهاترات وافتراض اجوبة مسبقة.


عناوين المواضيع:
- عنوان الموضوع لازم يعبر عن محتوى الموضوع و يفي بالمحتوى و ما لازم يكون متل هيك "الكل يفوت , تعوا بسرعة , جديد جديد , صور حلوة , الخ ....".
- لازم العنوان يكون مكتوب بطريقة واضحة بدون اي اضافات او حركات متل "(((((((((العنوان)))))))))))) , $$$$$$$$$ العنوان $$$$$$$$$".
- عنوان الموضوع ما لازم يحتوي على اي مدات متل "الــعــنـــوان" و انما لازم يكون هيك "العنوان".


المشاركات:
- ممنوع تغيير مسار الموضوع لما بكون موضوع جدي من نقاش او حوار.
- ممنوع فتح احاديث جانبية ضمن المواضيع وانما هالشي بتم عالبرايفت او بالدردشة.
- ممنوع استخدام الفاظ سوقية من سب او شتم او تجريح او اي الفاظ خارجة عن الزوق العام.
- ممنوع المساس بالرموز و الشخصيات الدينية او السياسية او العقائدية.
- استخدام زر "thanks" باسفل الموضوع اذا كنتو بدكم تكتبو بالمشاركة كلمة شكر فقط.
- لما بتشوفو مشاركة سيئة او مكررة او مو بمحلها او فيا شي مو منيح , لا تردو عليها او تحاورو صاحب المشاركة او تقتبسو من المشاركة لأنو رح تنحزف او تتعدل , وانما كبسو على "التقرير بمشاركة سيئة" و نحن منتصرف.


العضوية:
- ممنوع استخدام اكتر من عضوية "ممنوع التسجيل بأكتر من اسم".
- ممنوع اضافة حركات او رموز لاسم العضوية متل " # , $ , () " و انما يجب استخدام حروف اللغة الانكليزية فقط.
- ممنوع اضافة المدات لاسم العضوية "الـعـضـويـة" و انما لازم تكون بهل شكل "العضوية".
- ممنوع استخدام اسماء عضويات تحتوي على الفاظ سوقية او الفاظ بزيئة.
- ممنوع وضع صورة رمزية او صورة ملف شخصي او صور الالبوم خادشة للحياء او الزوق العام.
- التواقيع لازم تكون باللغة العربية او الانكليزية حصرا و يمنع وضع اي عبارة بلغة اخرى.
- ما لازم يحتوي التوقيع على خطوط كتيرة او فواصل او المبالغة بحجم خط التوقيع و السمايليات او المبالغة بمقدار الانتقال الشاقولي في التوقيع "يعني عدم ترك سطور فاضية بالتوقيع و عدم تجاوز 5 سطور بحجم خط 3".
- ما لازم يحتوي التوقيع على لينكات "روابط " دعائية , او لمواقع تانية او لينك لصورة او موضوع بمنتدى اخر او ايميل او اي نوع من اللينكات , ما عدا لينكات مواضيع المنتدى.
- تعبئة كامل حقول الملف الشخصي و هالشي بساعد بقية الاعضاء على معرفة بعض اكتر و التقرب من بعض اكتر "ما لم يكن هناك سبب وجيه لمنع ذلك".
- فيكم تطلبو تغيير اسم العضوية لمرة واحدة فقط وبعد ستة اشهر على تسجيلكم بالمنتدى , او يكون صار عندكم 1000 مشاركة , ومن شروط تغيير الاسم انو ما يكون مخالف لشروط التسجيل "قوانين المنتدى" و انو الاسم الجديد ما يكون مأخود من قبل عضو تاني , و انو تحطو بتوقيعكم لمدة اسبوع على الاقل "فلان سابقا".
- يمنع انتحال شخصيات الآخرين أو مناصبهم من خلال الأسماء أو الصور الرمزية أو الصور الشخصية أو ضمن محتوى التوقيع أو عن طريق الرسائل الخاصة فهذا يعتبر وسيلة من وسائل الإحتيال.


الرسائل الخاصة:
الرسائل الخاصة مراقبة مع احترام خصوصيتا وذلك بعدم نشرها على العام في حال وصلكم رسالة خاصة سيئة فيكم تكبسو على زر "تقرير برسالة خاصة" ولا يتم طرح الشكوى عالعام "متل انو توصلكم رسالة خاصة تحتوي على روابط دعائية لمنتجات او مواقع او منتديات او بتحتوي على الفاظ نابية من سب او شتم او تجريح".
لما بتوصلكم رسائل خاصة مزعجة و انما ما فيها لا سب ولا شتم ولا تجريح ولا روابط دعائية و انما عم يدايقكم شي عضو من كترة رسائلو الخاصة فيكم تحطو العضو على قائمة التجاهل و هيك ما بتوصل اي رسالة خاصة من هالعضو.
و تزكرو انو الهدف من الرسائل الخاصة هو تسهيل عملية التواصل بين الاعضاء.


السياسة:
عدم التطرق إلى سياسة الدولة الخارجية أو الداخلية أو حتى المساس بسياسات الدول الصديقة فالموقع لا يمت للسياسة بصلة ويرجى التفرقة بين سياسات الدول وسياسات الأفراد والمجتمعات وعدم التجريح أو المساس بها فالمنتدى ليس حكر على فئة معينة بل يستقبل فئات عدة.
عدم اعتماد مواضيع أو مشاركات تهدف لزعزعة سياسة الجمهورية العربية السورية أو تحاول أن تضعف الشعور القومي أو تنتقص من هيبة الدولة ومكانتها أو أن يساهم بشكل مباشر أو غير مباشر بزعزعة الأمن والاستقرار في الجمهورية العربية السورية فيحق للادارة حذف الموضوع مع ايقاف عضوية صاحب الموضوع.


المخالفات:
بسبب تنوع المخالفات و عدم امكانية حصر هالمخالفات بجدول محدد , منتبع اسلوب مخالفات بما يراه المشرف مناسب من عدد نقط و مدة المخالفة بيتراوح عدد النقط بين 1-100 نقطة , لما توصلو لل 100 بتم الحظر الاوتوماتيكي للعضو ممكن تاخدو تنبيه بـ 5 نقط مثلا على شي مخالفة , و ممكن تاخد 25 نقطة على نفس المخالفة و ممكن يوصلو لل 50 نقطة كمان و هالشي بيرجع لعدد تكرارك للمخالفة او غير مخالفة خلال فترة زمنية قصيرة.
عند تلقيك مخالفة بيظهر تحت عدد المشاركات خانة جديدة " المخالفات :" و بيوصلك رسالة خاصة عن سبب المخالفة و عدد النقط و المدة طبعا هالشي بيظهر عندكم فقط.


الهدف:
- أسرة شبابية سورية وعربية مسيحية ملؤها المحبة.
- توعية وتثقيف الشباب المسيحي.
- مناقشة مشاكل وهموم وأفكار شبابنا السوري العربي المسيحي.
- نشر التعاليم المسيحية الصحيحة وعدم الإنحياز بشكل مذهبي نحو طائفة معينة بغية النقد السيء فقط.
في بعض الأحيان كان من الممكن أن ينحني عن مسار أهدافه ليكون مشابه لغيره من المنتديات فكان العمل على عدم جعله منتدى ديني متخصص كحوار بين الطوائف , فنتيجة التجربة وعلى عدة مواقع تبين وبالشكل الأكبر عدم المنفعة المرجوة بهذا الفكر والمنحى , نعم قد نشير ونوضح لكن بغية ورغبة الفائدة لنا جميعا وبتعاون الجميع وليس بغية بدء محاورات كانت تنتهي دوما بالتجريح ومن الطرفين فضبط النفس صعب بهذه المواقف.



رح نكتب شوية ملاحظات عامة يا ريت الكل يتقيد فيها:
• ابحث عن المنتدى المناسب لك و تصفح أقسامه ومواضيعه جيداً واستوعب مضمونه وهدفه قبل ان تبادر بالمشاركة به , فهناك الكثير من المنتديات غير اللائقة على الإنترنت .وهناك منتديات متخصصة بمجالات معينة قد لا تناسبك وهناك منتديات خاصة بأناس محددين.
• إقرأ شروط التسجيل والمشاركة في المنتدى قبل التسجيل به واستوعبها جيدأ واحترمها و اتبعها حتى لا تخل بها فتقع في مشاكل مع الأعضاء ومشرفي المنتديات.
• اختر اسم مستعار يليق بك وبصفاتك الشخصية ويحمل معاني إيجابية ، وابتعد عن الأسماء السيئة والمفردات البذيئة ، فأنت في المنتدى تمثل نفسك وأخلاقك وثقافتك وبلدك ، كما أن الاسم المستعار يعطي صفاته ودلالته لصاحبه مع الوقت حيث يتأثر الإنسان به بشكل غير مباشر ودون ان يدرك ذلك.
• استخدم رمز لشخصيتك " وهو الصورة المستخدمة تحت الاسم المستعار في المنتدى " يليق بك و يعبر عن شخصيتك واحرص على ان يكون أبعاده مناسبة.
• عند اختيارك لتوقيعك احرص على اختصاره ، وأن يكون مضمونه مناسباً لشخصيتك وثقافتك.
• استخدم اللغة العربية الفصحى وابتعد عن اللهجات المحكية " اللهجة السورية مستثناة لكثرة المسلسلات السورية " لانها قد تكون مفهومة لبعض الجنسيات وغير مفهومة لجنسيات أخرى كما قد تكون لكلمة في لهجتك المحكية معنى عادي ولها معنى منافي للأخلاق أو مسيء لجنسية أخرى . كذلك فإن استخدامك للغة العربية الفصحى يسمح لزوار المنتدى وأعضائه بالعثور على المعلومات باستخدام ميزة البحث.
• استخدم المصحح اللغوي وراعي قواعد اللغة عند كتابتك في المنتديات حتى تظهر بالمظهر اللائق التي تتمناه.
• أعطي انطباع جيد عن نفسك .. فكن مهذباً لبقاً واختر كلماتك بحكمة.
• لا تكتب في المنتديات أي معلومات شخصية عنك أو عن أسرتك ، فالمنتديات مفتوحة وقد يطلع عليها الغرباء.
• أظهر مشاعرك وعواطفك باستخدام ايقونات التعبير عن المشاعر Emotion Icon's عند كتابة مواضيعك وردودك يجب ان توضح مشاعرك أثناء كتابتها ، هل سيرسلها مرحة بقصد الضحك ؟ او جادة أو حزينه ؟ فعليك توضيح مشاعرك باستخدام Emotion Icon's ،لأنك عندما تتكلم في الواقع مع احد وجها لوجه فانه يرى تعابير وجهك وحركة جسمك ويسمع نبرة صوتك فيعرف ما تقصد ان كنت تتحدث معه على سبيل المزاح أم الجد. لكن لا تفرط في استخدام أيقونات المشاعر و الخطوط الملونة و المتغيرة الحجم ، فما زاد عن حده نقص.
• إن ما تكتبه في المنتديات يبقى ما بقي الموقع على الإنترنت ، فاحرص على كل كلمة تكتبها ، فمن الممكن ان يراها معارفك وأصدقائك وأساتذتك حتى وبعد مرور فترات زمنية طويلة.
• حاول اختصار رسالتك قدر الإمكان :بحيث تكون قصيرة و مختصرة ومباشرة وواضحة وفي صلب مضمون قسم المنتدى.
• كن عالمياً : واعلم أن هناك مستخدمين للإنترنت يستخدمون برامج تصفح مختلفة وكذلك برامج بريد الكتروني متعددة ، لذا عليك ألا تستخدم خطوط غريبة بل استخدم الخطوط المعتاد استخدامها ، لأنه قد لا يتمكن القراء من قراءتها فتظهر لهم برموز وحروف غريبة.
• قم بتقديم ردود الشكر والتقدير لكل من أضاف رداً على موضوعك وأجب على أسئلتهم وتجاوب معهم بسعة صدر وترحيب.
• استخدم ميزة البحث في المنتديات لمحاولة الحصول على الإجابة قبل السؤال عن أمر معين أو طلب المساعدة من بقية الأعضاء حتى لا تكرر الأسئلة والاستفسارات والاقتراحات التى تم الإجابة عنها قبل ذلك.
• تأكد من أنك تطرح الموضوع في المنتدى المخصص له: حيث تقسم المنتديات عادة إلى عدة منتديات تشمل جميع الموضوعات التي يمكن طرحها ومناقشتها هنا، وهذا من شأنه أن يرفع من كفاءة المنتديات ويسهل عملية تصنيف وتبويب الموضوعات، ويفضل قراءة الوصف العام لكل منتدى تحت اسمه في فهرس المنتديات للتأكد من أن مشاركتك تأخذ مكانها الصحيح.
• استخدم عنوان مناسب ومميِّز لمشاركتك في حقل الموضوع. يفضل عدم استخدام عبارات عامة مثل "يرجى المساعدة" أو "طلب عاجل" أو "أنا في ورطة" الخ، ويكون ذلك بكتابة عناوين مميِّزة للموضوعات مثل "كيف استخدم أمر كذا في برنامج كذا" أو "تصدير ملفات كذا إلى كذا".
• إحترم قوانين الملكية الفكرية للأعضاء والمواقع والشركات، وعليك أن تذكر في نهاية مشاركتك عبارة "منقول عن..." إذا قمت بنقل خبر أو مشاركة معينة من أحد المواقع أو المجلات أو المنتديات المنتشرة على الإنترنت.
• إن أغلب المنتديات تكون موجهه لجمهور عام ولمناقشة قضايا تثقيفية وتعليمية . لذلك يجب ان تكون مشاركتك بطريقة تحترم مشاعر الآخرين وعدم الهجوم في النقاشات والحوارات. وأي نشر لصور أو نصوص أو وصلات مسيئة، خادشة للحياء أو خارج سياق النهج العام للموقع.
• المنتدى لم يوجد من أجل نشر الإعلانات لذا يجب عدم نشر الإعلانات أو الوصلات التي تشير إلى مواقع إعلانية لأي منتج دون إذن او إشارة إلى موقعك أو مدونتك إذا كنت تمتلك ذلك.
• عدم نشر أي مواد أو وصلات لبرامج تعرض أمن الموقع أو أمن أجهزة الأعضاء الآخرين لخطر الفيروسات أو الدودات أو أحصنة طروادة.
•ليس المهم أن تشارك بألف موضوع فى المنتدى لكن المهم أن تشارك بموضوع يقرأه الألوف،فالعبرة بالنوع وليس بالكم.
• عدم الإساءة إلى الأديان أو للشخصيات الدينية.
•عند رغبتك بإضافة صور لموضوعك في المنتدى ، احرص على ألا يكون حجمها كبير حتى لا تستغرق وقتاً طويلاً لتحميلها وأن تكون في سياق الموضوع لا خارجه عنه.
•الالتزام بالموضوع في الردود بحيث يكون النقاش في حدود الموضوع المطروح لا الشخص، وعدم التفرع لغيره أو الخروج عنه أو الدخول في موضوعات أخرى حتى لا يخرج النقاش عن طوره.
• البعد عن الجدال العقيم والحوار الغير مجدي والإساءة إلى أي من المشاركين ، والردود التي تخل بأصول اللياقة والاحترام.
• احترم الرأي الآخر وقدر الخلاف في الرأي بين البشر واتبع آداب الخلاف وتقبله، وأن الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية.
• التروي وعدم الاستعجال في الردود ، وعدم إلقاء الأقوال على عواهلها ودون تثبت، وأن تكون التعليقات بعد تفكير وتأمل في مضمون المداخله، فضلاً عن التراجع عن الخطأ؛ فالرجوع إلى الحق فضيلة. علاوة على حسن الاستماع لأقوال الطرف الآخر ، وتفهمها تفهما صحيحا.
• إياك و تجريح الجماعات أو الأفراد أو الهيئات أو الطعن فيهم شخصياً أو مهنياً أو أخلاقياً، أو استخدام أي وسيلة من وسائل التخويف أو التهديد او الردع ضد أي شخص بأي شكل من الأشكال.
• يمنع انتحال شخصيات الآخرين أو مناصبهم من خلال الأسماء أو الصور الرمزية أو الصور الشخصية أو ضمن محتوى التوقيع أو عن طريق الرسائل الخاصة فهذا يعتبر وسيلة من وسائل الإحتيال.
• إذا لاحظت وجود خلل في صفحة أو رابط ما أو إساءة من أحد الأعضاء فيجب إخطار مدير الموقع أو المشرف المختص على الفور لأخذ التدابير اللازمة وذلك بإرسال رسالة خاصة له.
• فريق الإشراف يعمل على مراقبة المواضيع وتطوير الموقع بشكل يومي، لذا يجب على المشاركين عدم التصرف "كمشرفين" في حال ملاحظتهم لخلل أو إساءة في الموقع وتنبيه أحد أعضاء فريق الإشراف فوراً.
See more
See less

الفلسفة عند القدماء - المجموعة الكاملة

Collapse
This is a sticky topic.
X
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • الفلسفة عند القدماء - المجموعة الكاملة

    طاغور والمثالية الإنسانية


    موسى ديب الخوري



    قال عنه غاندي إنه "منارة الهند". والحق إنه صار منارة للشرق كله، ونداء الإنسانية والمحبة والجمال. كان مبدؤه البساطة والعمل؛ وهكذا فقد أضاء شمعة بدلاً من لعن الظلام، فسطعت وأضاءت في النفوس التوّاقة إلى الحق. لذا، كان ُيعدّ في حياته "أكثر الشعراء صوفية وأكثر الصوفيين شاعرية"؛ وفي ذلك دلالة على ما بلغته نفسه من نقاء وصدق وما وصلت إليه روحه من ارتقاء وحرية.

    إنه طاغور الذي سحر الغرب بكتاباته، ثم انتشرت ترجماته في العالم كله، حتى استحق جائزة نوبل للأدب عام 1913. لقد أبدع طاغور على مدى نحو ستين عاماً، فكان معلماً روحياً بالدرجة الأولى، ومجدداً أدبياً واجتماعياً، وفيلسوفاً وروائياً ومسرحياً ورساماً، وقبل ذلك كله شاعراً، كان ينهل من إرث روحي عريق في البنغال، ومن تجربة داخلية عميقة كانت ينبوعاً لا ينضب للإلهام والإبداع.

    كان والده من كبار روحانيي البنغال، وكان يعيش في عزلة مستمرة لا يتركها إلا لضرورة الاستمرار وتجدد الحياة. كذا فقد نشأ رابندرانات طاغور في جو من الحساسية والشفافية، وكشفت له زيارتان قام بهما لوالده في الهملايا عن آفاق جديدة وعن تجربة صوفية كان لها أثر كبير في حياته، ويمكن اختصارها بعبارتين: محبة الطبيعة، ومحبة الله.

    *** *** ***

    ولد طاغور في عام 1861. وفي الرابعة عشرة من عمره توفيت والدته. واكتشف طاغور في هذا العمر معنى الحب الإنساني عند إحدى قريباته. وفي أحد أيام عام 1883، عرف طاغور في رؤيا أن الحب الإنساني واحد مع حب الطبيعة وحب الله؛ يقول في ذكرياتـه:

    كانت الشمس تشرق بتؤدة فوق أوراق الأشجار […]؛ وفجأة، بدا وكأن نقاباً انزاح من أمام ناظري. لقد أبصرت العالم كله مغموراً بمجد يفوق الوصف؛ أمواج من الفرح والجمال تومض وتتصادم من كل صوب […] لم يكن ثمة شيء أو أحد لم أكن أحبه في تلك اللحظة […] وفي كلية رؤياي لاح لي أنني كنت شاهداً على حركات جسم الإنسانية بأسرها، شاعراً بموسيقى وبإيقاع رقصة سرية.

    في العام التالي انتحرت شقيقته، مما سبب له صدمة هائلة. وقاده ذلك إلى محبة الإنسانية جمعاء، بدلاً من التمسك بالحب الفردي والخاص. وتتالت الأحداث المؤلمة في حياته، لكنها كانت تعضد باستمرار روح اللاتعلق عنده. فبين عامي 1902 و 1918، انتزع منه الموت زوجه وثلاثة من أطفاله ووالده. لقد أحس إنه مثل زهرة انتُزِعت بتلاتها واحدة تلو الأخرى، وأصبحت كالثمرة التي سيأتي الموت ليقطفها في كمال نضجها كتقدمة لرب الحياة. ومع ذلك، فقد جعل منه صفاؤه الواسع وضبطه لنفسه وخضوعه أمام الله الذي ورثه من والده، إنساناً نادر العظمة. لم يكن الموت سراً بالنسبة له، ولم يكن ليستدعي الألم. وهكذا، كانت إحدى أغنياته التي استلهمها غاندي منه تقول:

    أنا هذا البخور الذي لا يضوع عطره ما لم يُحرق،

    أنا هذا القنديل الذي لا يشع ضوؤه ما لم يُشعَل.

    كان طاغور يتمتع بموهبة تحويل الألم إلى فرح. وكان يحب الحياة إلى حد أنه أراد ألا يضيع قداستها بالوقوف عند ما تسببه حركتها من شعور بالألم. كانت مهمته مزدوجة: اكتشاف ربه، إله الجمال، في الطبيعة والجسد والفكر والقول والفعل، وتحويل الحياة وتعديلها لتصبح جميلة بكليتها. كتب في الـسادهانا ("تحقيق الحياة"):

    أين يمكنني أن ألقاك، إن لم يكن في بيتي الذي أصبح بيتك؟ وأين يمكنني الانضمام إليك، إن لم يكن في عملي الذي صار عملك؟ إذا غادرت بيتي لن أبلغ بيتك… إذا قعدت عن عملي محال عليّ أن أنضم إليك في عملك؛ إذ إنك تقيم فيّ وأنا فيك.

    لقد انعكست روحه هذه على مركز التربية شانتي نيكيتان (أو "مرفأ السلام") الذي أسسه عام 1901، فأصبح بؤرة ديناميّة خلاقة لهذا الجمال، حيث تفتح فيه الشعر والرسم والموسيقى والرقص والمسرح والعلوم. لقد حقق طاغور من خلال هذه المدرسة الرؤيا التي عبر عنها في مؤلفه الوحدة المبدعة، حيث تعطي الطبيعة للإنسان معنى التوق إلى اللانهائي. فالإنسان في الطبيعة إنسان حرّ، "ليس في اعتبار الطبيعة كمصدر لتأمين معيشته، بل كينبوع لتحقيق انجذابات روحه إلى ما هو أبعد منه هو نفسه."

    لقد فجّرت المعاني السامية للمحبة التي عبر عنها في جيتنجالي أملاً جديداً للإنسانية وهي غارقة في الحرب العالمية الأولى. وعندما كان طاغور يرتقب الموت مريضاً ببصيرة صافية، وكانت الحرب العالمية الثانية قد اندلعت، أعلن في يوم مولده الثمانين:

    عندما أجول ببصري من حولي، أقع على أطلال مدنية مغرورة تنهار وتتبعثر في أكوام هائلة من التفاهة والعبث. ومع ذلك فلن أذعن للخطيئة المميتة في فقدان الإيمان بالإنسان؛ بل إنني بالحري سأثبِّت نظري نحو مطلع فصل جديد من فصول تاريخه، عندما تنتهي الكارثة ويعود المناخ رائقاً ومتناغماً مع روح الخدمة والتضحية […] سيأتي يوم يعاود فيه الإنسان، ذلك الكائن الأبيّ، خطّ مسيرته الظافرة على الرغم من كافة العراقيل، ليعثر على ميراثه الإنساني الضائع.

    كانت فلسفة طاغور فلسفة الأمل والثقة بالإنسان، المبنية على تفتح روحه، وتطور وعيه، وتحقيق طاقاته. ولهذا فقد ارتبطت المثالية الإنسانية عند طاغور بالعمل والتطبيق، وكان هو نفسه مثالاً لكل مبدأ أعلنه أو فكرة نادى بها.
    المثالية الإنسانية والعالم

    قد يصعب علينا أن نحدد بدقة منهجية ما نقصده بالمثالية الإنسانية. يكمن المثال الإنساني فيما نستطيع تحقيقه على صعيد المبادىء الجوهرية للمحبة والمعرفة. فالمثالية هنا هي العمل الدؤوب للارتقاء بالحياة. وفي منظور طاغور فإن استمرار هذا العمل هو الذي يخلق ويهذب الروح المتحررة والنقية. فالأخلاق عند طاغور لا تتقيد بحواجز الشرائع الصارمة، بل هي عمل مبدع يتم على الذات، كما وعلى الأشياء، فيحرر المعاني الكامنة في الطبيعة، ويطلقها إلى ما وراء حدود الخوف والقلق. إن تجلي الجمال الكامن في الكون والإنسان يثبّت حقيقة السلام، لاالصراع، والمحبة، لا البغضاء، والوحدة، لا الكثرة. وهكذا، "ندرك أن الإبداع هو التناغم الأبدي بين المثال اللانهائي للكمال والاستمرارية الأزلية لتحقيقه؛ وبقدر ما لا يكون ثمّ تفريق تام بين المثال الإيجابي والحاجز المادي الذي يعترض اكتماله، يجب علينا ألا نخشى الألم والموت."

    يسمي طاغور هذه المثالية بـ"ديانة الشاعر"، لأنها مثالية تفلت من الاعتقادات المتصلبة والطائفية. فهي مرنة وغير محدودة، ولا تريد تقييد اللانهائي وترويضه من أجل مصالحنا، بل تسعى بالحري لمساعدة وعينا على الانعتاق من المادية. وفي حين تُصمّم الأسئلة كلها في العقائد الضيقة بأسلوب محدد، وتُطمأن بالشكوك كلها في النهاية، فإن ديانة الشاعر مثل الهواء الذي يحيط بالأرض، لا تلتزم أبداً بقيادتنا نحو خاتمة محددة، وتكشف في الوقت نفسه أفلاكاً لانهائية من النور لأنها غير محاطة بجدران تحدّها. إنها تختبر أعمال الشر، وتتقبل بانفتاح التعب والمرض والإهانات من العالم، لكنها تذكرنا أن هناك، رغم كل شيء، غناء العندليب الذي لا يعطينا إجابات محددة بل موسيقى تملأ كياننا.

    "إنما اللباقة تتويج للأخلاق الحميدة." بهذه العبارة الموجزة والعميقة يختصر طاغور رؤياه للمثالية المطبقة في العالم. فكمال اللباقة يتطلب الصبر وتهذيب النفس وتنظيم الوقت. ذلك أن اللطف الحقيقي إبداع، مثل الرسم والموسيقى. إن هدف اللباقة تجلي الإنسان نفسه. إن تعاملنا مع العالم، مع الإنسان ومع الطبيعة، يعكس لطفنا وذوقنا ومثالنا.

    لقد تطورت مدنياتنا خلف الأسوار والحصون، وفصلت الإنسان تدريجياً عن الطبيعة، وباعدت بين الثقافات، الأمر الذي أدى إلى خشية الإنسان من كل ما يقع خارج الحواجز التي بناها. وشيئاً فشيئاً استعاض الإنسان عن اللطف الذي كان يستمدّه من التنوع الطبيعي، والذي يجد صداه في أعماقه، بحب السيطرة على الطبيعة والرغبة بالانتفاع منها فقط، ففقد بذلك الكثير من روح اللباقة والمثالية فيه. ويعطينا طاغور مثالاً على ذلك استخدام الناس لأوعية الوقود الفارغة لنقل الماء؛ فهذه الأوعية العنيفة والخشنة كما يصفها لا تخجل من فظاظتها ولا تهتم لشيء سوى أن تكون نافعة. ومع ذلك، يبرهن أناس كثيرون أن ثمة ما هو أكثر أساسية من الحصول على العيش الرغيد والرفاهية، وأن فيهم مثال الكمال والشعور بالوحدة وفعل التناغم بين الأشياء، وأنهم متناغمون مع ما يحيط بهم، وذلك بلطفهم ولباقتهم.

    يمكننا أن ننظر إلى طريقنا في هذا العالم بحسب منظورين: الحواجز التي تفصلنا عن أهدافنا - وعندئذٍ تكون كل خطوة في مسيرتنا أرضاً نكسبها بالقوة والجهاد؛ أو نرى فيه ما يقودنا إلى قدرنا – وفي هذه الحالة يشكل الطريق جزءاً من هدفنا، وما نحققه في سيرنا عليه هو ما يقدمه لنا آنياً. ويعكس ذلك التناغم مع العالم، والعمل فيه على أساس الوحدة معه لا الانفصال عنه. فبالنسبة لطاغور ليست مكوِّنات العالم، كالماء والتراب والثمار، ظواهر فيزيائية نستخدمها ثم نتركها بعد الانتفاع منها، بل هي ضرورية لبلوغ مثال الكمال لأنها لا تخرج عن وحدة الكل.

    ليست حقيقة هذا العالم في كتل المادة ولا في عدد الأشياء فيه، بل في صلاتها فيما بينها التي لا نستطيع عدّها وقياسها وتجريدها. إن معرفتنا للعالم هي رؤية التناغم بين أجزائه. فالمادة تجريد، ولن نستطيع فهم ماهيتها أبداً. ذلك أن ما يسترعي انتباهنا دائماً ليس المطبخ، إنما المأدبة، ليس تحليل، العالم بل مكوناته، ليس روابط الوحدة ومعنى الكلية، بل أصناف الأجزاء وأشكالها. كذا فإننا نفقد شيئاً فشيئاً صلتنا مع الحقيقة كلما ابتعدنا في بحثنا عن النجاحات الخارجية عن الروحانية والمعنى العميق الذي يربطنا بالعالم. إن تناولنا للظواهر المادية على هذا النحو يصير مدمراً، إلى أن نفسح للرؤية الكلية وللواء الوحدة والتناغم مكاناً بينها. إن جشعنا للطعام بشع وأناني بحد ذاته، وليس فيه أي اهتمام باللباقة؛ لكننا عندما نُخضِعه لمثال الأخوّة الاجتماعية نتمكن من تنظيمه وجعله مقبولاً، فيصبح عندئذ سروراً يومياً للحياة. كذلك هو الدافع الجنسي في الطبيعة الإنسانية عندما يتحول إلى انفعال ونزوة، فيصير فردياً ومهدِّماً؛ لكنه عندما يُضبط بمثال المحبة، فإنه يتفتح في جمال كامل ليصبح رمز صلة الإنسان مع اللانهائي فيه. وهكذا فإن الوحدة هي التي تتجلى في الكثرة، التي، رغم تبايناتها، تُتِمّ تكشُّف مثال الوحدة فيها. كذا، يجب ألا يكون الفضول العلمي وحده، أو البحث عن مزيد من الطاقات، هما محرض تواصلنا مع الكون، بل الوعي بأن لهذا الكون معنى حيوياً بالنسبة لنا.

    ليس الإنسان في جوهره عبداً لنفسه ولا للعالم، بل هو عاشق لهما. فحريته تكمن في المحبة التي ليست سوى تسمية أخرى للفهم الكامل. وبهذه القدرة على الفهم يتحد الكائن مع الروح الذي يتخلل كل شيء. إن معرفة هذه الروح الكلية تستدعي السجود لها بفرح عظيم. فهي الحقيقة الوحيدة التي تجعل كافة الوقائع والمظاهر حقيقية. إن تحقق المثالية الإنسانية لا يتم إلا برؤيا الوحدة التي تجمع الإنسان والعالم.
    معرفة النفس

    يتأسس فعل المعرفة على وحدة الأشياء والكائنات. والمعرفة في الجوهر هي معرفة النفس. فما نعرفه عن العالم بمعزل عنا لا يعدو كونه جملة من المعلومات النسبية. إن تفتح وعي الإنسان هو تفتح عالمه الداخلي. "لو كان تفتح الوعي يتم خارج النفس لكان يجب أن يتم بلانهاية. ذلك أن الوقائع متعددة ولانهائية، أما الحقيقة فواحدة." تقول الأوبانيشاد: "اعرف الروح الذي هو روحك." ويفسر طاغور ذلك بقوله: "حقق المبدأ الوحيد والعظيم للوحدة القائم في جميع الناس."

    تُعمي رغباتنا الأنانية رؤيتنا الحقيقية للروح. والحق أن النفس لا تجد معناها إلا في التواحد مع الآخر؛ وفي ذلك فرحها أن تجد ذاتها في الآخرين. ومع ذلك فالمحبة أشمل وأوسع من علاقة الفهم الجزئية هذه. فبالمحبة تجتاز الروح حدودها إلى اللانهائي ويختفي معنى الاختلاف تماماً.

    "كذا، فإن مفتاح الوعي الكوني، وعي الله، كامن في وعي النفس. ومعرفة النفس بعيداً عن الأنا الضيقة هي الخطوة الأولى باتجاه الانعتاق الأسمى." إن جوهر هذه المعرفة هو المحبة، محبة العالم بما هو واحد معنا، ومحبة الذات بما نحن روح وقبس من اللانهاية. وهذا يعني أننا نستطيع الارتفاع إلى هذه الروح فوق كل رغبة وحقد وخوف، حتى نعلم أن فقدان الأشياء المادية وحتى الموت لا يحرماننا من حقيقة الروح.

    إن طاغور لا يطلب منا التخلي عن العالم والانعزال عنه، بل الوصول إلى معناه الأعمق بالتخلص من الأنانية. فطاغور لا يؤمن بالتبشير، ذلك أن المعرفة لاتُحدّ بعقيدة أو طريقة أو منهج. إنما "الحقيقة بلاد لا طرق فيها"، كما يقول كريشنامورتي. إن المعرفة هي العمل على الذات، وتنقيتها المستمرة من الشوائب المترسبة في النفس. "وعندما نجد محور روحنا بالقوة التي توحّد العناصر المتنازعة كلها، تتحول خواطرنا المفكَّكة كلها إلى حكمة، وتجد خلجات قلوبنا كمالها في المحبة، وتنجلي غايات الأبدية في أدق تفاصيل حياتنا. وهكذا فإننا لا نرى الواحد العلوي فينا بالمران أو بالتعليم، بل بالبصيرة المباشرة. يساعدنا الحكماء والمعلمون على فهم أنفسنا وإدراك حقيقة العالم، لكننا نحن من يجب أن يقوم بالعمل العظيم والدؤوب في تنقية نفوسنا حتى يشع النور فينا. إن المعرفة لا تُحصَّل تحصيلاً، ولا تُحقَّق جزءاً فجزءاً، ولو استمر الأمر إلى ما لانهاية. ولهذا يقول طاغور إن أعمق صلاة تصعَّدت من قلب الإنسان كانت: " أيها الواحد المتجلي بذاته، تجلَّ فيّ." إن الخطيئة في نظر طاغور هي تخلي المرء عن كلِّه ليربح جزءاً. وذلك ما يحجب عنا صفاء المعرفة. وعندما تلتقي نهائيّتنا مع اللانهائي تزول الخطيئة، ويتجلى "الواحد المتجلي بذاته" في روحنا.

    يقودنا ذلك إلى تناول مسألة الشر في منظور المثالية الإنسانية.
    المثالية ومسألة الشر

    ليس ثمة شرّ بذاته، فالشر هو جهل ونقص في المعرفة والوعي. إن تعلقنا بالجزء دون الكل يحجب عن بصيرتنا رؤيا وحدة العالم في قلب تعدده وتنوعه وثنائيته. "نحن نرى الشرّ متأصلاً لأننا نعطيه شكلاً ثابتاً، في حين أنه متحرك مع حركة الطبيعة. فحركة الموت والحياة حركة واحدة لا يكون فيها الموت حداً نهائياً." وضمن هذه الحركة الكلية، يتمثل الخير في تنبهنا للتوق العميق فينا ولمعنى وجودنا واتجاهه نحو الوحدة والحقيقة، ويكون الشرّ بالتالي عدم الاهتمام بهذا التوق وإسكاته والانصراف عنه.

    إن حرية الإنسان ليست في التحرر من الألم، بل في احتماله وتحويله إلى إيجاب وإلى فرح. ولا يتحقق لنا ذلك "إلا عندما ندرك أن نفوسنا الفردية ليست الحقيقة الأسمى في وجودنا، وأن فينا الإنسان الكوني الخالد الذي لا يخشى الموت والألم، والذي يرى في الألم الوجه الثاني للفرح." هكذا نتعلم أن نحول شعورنا السلبي بالألم إلى ثراء من القوة والحكمة والحب.

    إن الخلاص الحقيقي هو الخلاص من الجهل أفِديا. فالجهل هو الذي يجعلنا مقيدين بأنفسنا، فنظن أننا غاية أنفسنا ووجودنا. علينا ألا نستكين للشعور بالنقص أو للأنانية، فنستغل أي شعور بالألم لتعظيم وتمجيد نفوسنا. فنحن بذلك إنما نطبق الشر. إنما الألم هو "العذراء الطاهرة المكرَّسة لخدمة الكمال الخالد، وحين تأخذ مكانها إلى جانب مذبح اللانهاية تنزع نقابها الأسود وتكشف وجهها لرائيها كأعظم تجلّ للفرح العلوي."

    يشبّه طاغور حقيقة الألم بالمصباح الذي يحوي الزيت ويحفظه في وعائه المقفل كيلا يضيع. لكن غايته الحقيقية ليست في فصل الزيت وعزله عن الأشياء من حوله وإلا فسيكون مثالاً للتعاسة وللشرّ. ويجد الزيت معناه حين يضيء فيحقق صلته بالأشياء ويصبح حراً بما هو داخل وعاء المصباح. إن نفسنا تشبه هذا المصباح؛ فهي تبقى مظلمة مادامت تدخر ممتلكاتها وتقبع في عزلة أنانيتها. لكنها، إذ تجد نورها، ترفعه وتمدّه لأنه معناها وقد وجدته. كذا فإن الطريق الذي أشار إليه البوذا ليس الزهد في النفس، بل رحابة المحبة والتضحية. فالمحبة هي طريق الاستنارة لأنها الاستنارة. ولهذا فإن من يسلك هذا الطريق لا يسأل لماذا، لأن المحبّ لا يسأل لماذا أحبّ! "لأن المحبة مكتفية بالمحبة…". "إنما بالمحبة الكاملة نكتشف حرية أنفسنا. فوحده ما يتم بمحبة يتم بحرية، مهما كان مؤلماً."

    ثمة رغبات فينا نحتاج إلى إشباعها، لكن ثمة أيضاً فينا قانون عضوي كلي يسعى دائماً للحفاظ على صحتنا وتوازننا. وكذلك المجتمع محكوم بالتنافس والصراع، لكن ثمة فيه أيضاً إرادة جمعية أعلى تشده إلى الخير. إن خلاص طبيعتنا العضوية يكون في نيل الصحة، ويكون خلاص كائننا الاجتماعي في نيل الخير، ويتحقق خلاص نفوسنا، بالتالي، في نيل المحبة. إن خلاص نفوسنا يتم بعبورها من الصورة السلبية للحرية الأنانية، المتمثِّلة بالفوضى، إلى الصورة الإيجابية للحرية ممثلة بالوعي والمحبة.
    المثالية والتحقيق

    تبدو المثالية للوهلة الأولى عصية على التحقيق، ولهذا يعدّها الكثيرون عكس "الواقع" الذي لا يحكمه أي انتظام. والحق إن فهمنا للواقع فهم سطحي غالباً، إذ يقتصر على رؤية المتناقضات دون فهم أصولها، ودون رؤية حركتها الكلية في صيرورة الوجود الغائية.

    "إن المتعارضات لا تجلب الشواش إلى العالم، بل التناغم." وتؤيد الفيزياء الحديثة هذه الرؤيا، حيث تولّد المنظومات الشواشية حالات الانتظام الذاتي. إن ما ندركه من إيقاعات في الكون لا يمكن أن ينتج عن مصادفات الصراع، بل إن مبدأه الأساسي هو الوحدة، سرّ الأسرار كلها. وهكذا، كما يتجلى الواحد في التنوع والكثرة، فإن الواقع لا يحقق معناه إلا في مثالية الوحدة. يتبع....
    في كل يوم يصلب الانسان الف مرة ومرة ويصلب الوطن على طريق الجلجلة يسير شعب يحمل المسمار والصليب لانه يعيش في موطنه الحنون كالغريب وزهرة الخلاص في يديه مقصلة وسائر على طريق الجلجلة قد كللته المحنة السوداء بالسواد ومزقته اربا رصاصة الاحقاد
    أنا لا أحد وأنت،من تكون؟هل أنت أيضاً لا أحد وإذاً فثمة إثنان منا، إياك أن تخبرأحدا!وإلاألقوا بنا في المنفى
    وراء كل فوضى واشنطن وتل أبيب

  • #2
    الراحل في مركبه الفرعوني

    الراحل في مركبه الفرعوني
    إنْ رَسَمَ فاليدُ ترى مثل العين، وإن حَفَرَ فلا قعر لذاكرته


    نزيه خاطر



    نحيل كقضيب توت ربيعي، مُلَمْلَمٌ كفقير هندي، شفاف كنقفة عودٍ بغدادي، مصطفى الحلاج الذي عرفتُه ذات يوم، زمن كانت لمحلَّة الفاكهاني، هناك، نكهة العاصمة الفلسطينية. وكان له يومذاك دور الرسام وملامح أخرى تلوِّنه بالصفات التي تصنع الرجل أولاً، والمثقف ثانياً، والفنان دوماً.

    "الحوار مع الكون حوار صمت."

    وكان الصمتُ رداءً يحميه من كثرة كلام في "المواضيع الساخنة"، كما كان يقال حينئذٍ. وكان فيه هدوء على حذر، وانزواء على مسمع، وطيبة على كرم، وثعلبة على براءة. وفيما آخرون ينشطون للامتداد أفقياً كَسْباً للوجاهة، اختار هو التواري في ثنايا ذاته، والغوص في بحرها... كمن يحفر في ذاكرة إنسان لا قعر لذاكرته.

    من أعمال مصطفى الحلاج

    وكان مصطفى الحلاج بسيطاً وأليفاً وقريباً في صورته اليومية. إنما كذلك في تصاويره المتمثلة في ظلال سوداء على بياض، متراكمة من دون ثقل، ومتشابهة من دون تكرار، ومن غير ادِّعاء في الابتكار. كان يستعير، في نقاء طفولي لم تعطبْه الخيبات، الأشكالَ المتوارَثة من عشرات القرون في حضارات شرقية، يتصرف بمفرداتها البصرية كما اعتاد منذ ولادته التصرف كلاماً بالمفردات العربية. مما يفترض لديه انحيازاً إلى عفوية وَضَعَها بمثابة هدف للإنجاز: "أريد ليدي أن ترى مثلما ترى عيني" – كان يردد دوماً لدى الحديث عن عمله. ولم يكن ليهتم بمصير أعماله، ولم يكن ليتخلَّى عنها في سهولة أيضاً: "أنا أرسم لنفسي" – كان يقول، رافضاً أي همٍّ تجاري تسويقي استهلاكي: "لكلٍّ عملُه. أنا أرسم، وتاجرُ الفن، إن وُجِدَ، يتاجر" – كان يقول. وحينها كانت بيروت محاصرة بالحروب.

    ويده تختزل كيانه. لم يكن يرغب، رساماً، في فنِّ التوافق التلقائي بين يده ومخيِّلته. وكان يعترف أمام قلة من الأصدقاء – وكان يختارهم واحداً واحداً – بأنه يختزن في إنسانه الإرثَ الحضاري لعالمٍ رافقه في كل الأماكن التي عبر في تجاعيدها، وغرف من ركائزها، واندمج في عناوينها، حتى أصبحت ذاكرتُها جزءاً من ذاكرته: فلسطين، مصر، لبنان... مضيفاً أسماء مدن عربية وأجنبية قَطَفَ بعضَ زَبَدِها عبوراً: "من قال إن الواقع صندوق فرجة؟! لست أرى الواقع. أعيش الواقع، أعبِّر عنه" – كان يقول.

    ***

    وكان يعترف بفضل مصر عليه، وبأنها أعطتْه ما هو أكثر قيمة من الامتلاك المتين لمهنة فن الحفر، بعد فنَّيْ النحت والرسم: "ورأيت في فنِّ الحفر بعض الشبه بفنون الخطِّ..." – كان يردد، مضيفاً أنه يتعامل مع الحفر بالعفوية الملتصقة بعمل خطاط عربي عليه أن يستنفر جميع طاقاته ليضيف نقطة على مخطوطته. ويتحدث عن الطابع الأفقي المعقود لديه على بنية محفوراته، ويستذكر لذلك دوماً الأثرَ الذي تركَه فيه عملُه الطويل على الفنون الفرعونية، بدءاً من النحت الذي جذبه إليه مدةً، قبل أن يقرر مزاولة فن الحفر كاختيار رئيسي في حياته.

    وفي الوقت عينه اختبر مصطفى الحلاج فنوناً تنتمي إلى كل أدوات التعبير: كتب الشعر، وقارب الموسيقى، ونظم للفضاء المسرحي التصاميم السينوغرافية، واهتم بالأزياء، وصولاً إلى مَكْيَجَة الوجوه بعين من يبتكر قناعاً لوجه. وربط تجاربه هذه بالبحث التأملي عن الأبعاد الخفية للحياة.

    وبين تقشف وجودي وتصوف روحي حافظ على ارتباطه بما كان حصَّله ذات يوم من خلال مطالعته كتاب الموتى الفرعوني. ومرة، على ما أذكر، حدَّثني عن علاقته بالموت، وكيف أنه حوَّل الجزء الخاص جداً من حياته، والسرِّي جداً، إلى رحلة طقسية بطيئة لكن متماسكة لمواجهة الموت: "[...] الموت شجاعة، الموت حرية [...]" – كان يردِّد علي في مثل تلك اللحظة.

    والحياة نفسها كانت، بالنسبة إليه، فعلاً تجريبياً يومياً. وكان يدل على "ضرورة التحول" دائماً – وإلا فالعيش موتٌ مادي: "الثعبان نموذج. فهو يبدِّل جلده... وأنا أيضاً. وبينما تلزمه سنة لفعلته فإني أفعل ذلك في كل لحظة من نهاري وليلي [...]" – كان يقول مشيراً إلى أنه يرى إلى الشعر كرحلة طقسية إلى الموت الفرعوني، ويذكِّر بالمركب الفرعوني إلى الأبدية.

    ولم يكن رغم ذلك غير مكترث بملذات العيش: "فمن حق الجسد على ما هو عليه أن يتمتع بما فيه من حواس. فصانعه أعلم بما يطالبه به" – كان يقول، وفي ملامحه إشارات سخرية توحي بشبه غشية تبرز كلياً مع ندماء طروبين.

    لم يهادن مرة حين كان الأمر يدور على فلسطين. كانت لديه دوماً مواقف المحاربين، وبالسلاح الذي يبرع فيه أكثر من سواه انطلاقاً من ركيزة فكرية تبلورت لديه: "الحوار المجدي صامت." كان يهدد دوماً، منحازاً في شغف إلى الفعل الثقافي ضمن الأنشطة الميدانية للثورة الفلسطينية. حتى إنه بدا مراراً فلسطينياً من خامة خاصة. وكان زملاؤه من مزاولي الفن الملتزم يأخذون عليه محتويات نصوصه المنحازة تصويراً، في حفرياته خاصةً، إلى أجواء بين الرمزية والسوريالية، وإلى هذه أو تلك بحسب اللحظة التي يعمل فيها. وللمعترضين من فناني محلَّة الفاكهاني كان يقول: "أعمل في مدينة عربية، بيروت، هي الأقرب حالياً إلى فلسطين. والفنان الفلسطيني في الداخل له مقوِّمات خاصة؛ ولأمثالي مقوِّماتهم غير المعقود عليها عملُ فلسطينيي الشتات."

    الفلسطيني بين الرمزية والسوريالية...

    ... وبين الداخل والشتات

    ***

    وإنساني أولاً، مصطفى الحلاج. وفي المدينة كأحد روادها المصنوعين من هواء. تخترعه ابتسامة بين بين، تضيء شفتيه، يلبس في ملامحها غالباً ما يخلِّف إزعاجاً لدى الرفاق. وحين يأتي، وإن بعد موعد، فكأنها مصادفة. يبدو دوماً في رحيل إلى أبعد من حيث هو موجود، ومن مكان وقوفه. رحَّالة هو مصطفى الحلاج، أو من طينة الرحَّالين الذي يحطون في الأماكن كالعصافير على قضيب توت.

    وهو الآن، هناك، في غربة مستمرة، ربما على مركب شراعي، في سباق مع فرعون ما...

    *** *** ***

    عن النهار، الأحد 22 كانون الأول 2002 يتبع.....
    في كل يوم يصلب الانسان الف مرة ومرة ويصلب الوطن على طريق الجلجلة يسير شعب يحمل المسمار والصليب لانه يعيش في موطنه الحنون كالغريب وزهرة الخلاص في يديه مقصلة وسائر على طريق الجلجلة قد كللته المحنة السوداء بالسواد ومزقته اربا رصاصة الاحقاد
    أنا لا أحد وأنت،من تكون؟هل أنت أيضاً لا أحد وإذاً فثمة إثنان منا، إياك أن تخبرأحدا!وإلاألقوا بنا في المنفى
    وراء كل فوضى واشنطن وتل أبيب

    Comment


    • #3
      الحكمة القديمة

      الحكمة القديمة
      والميكانيكا الكوانتية

      موسى ديب الخوري



      ليس ثمة أنيَّة معزولة.

      شرودنغر

      الإنسان يصبح ما يفكر فيه.

      أوبنشاد مايتريي



      إن الأصالة قائمة أبدًا في الحاضر: فهي التجدُّد المبدع وهي الصيرورة الكلِّية. وهي ليست مجرد تراكم للإنجازات الكبرى، بل هي ما نستلهمه اليوم من حقيقة التجربة الإنسانية على مرِّ العصور. إن تجربتنا الماضية ماثلة فينا. فإن لم نستوحِ اليوم كلِّيتها، ولم نبعثها إبداعًا دفَّاقًا، فإننا سنقضي عليها شيئًا فشيئًا، وبالتالي نقضي على أنفسنا. علينا ألا تتجاوز تاريخنا – النفسي والروحي؛ فهذا التاريخ ليس محمَّلاً بالأحداث فقط، بل هو تجربة مستمرة يقوم على أساسها تطورنا المشترك مع الطبيعة. والتطور ليس حالة راهنة، أو درجة تلغي سابقاتها، بل صيرورة ذات تراث عريق.

      هذا المنقول هو ما ندعوه بـ"الحكمة": إنه حصيلة تجربة إنسانية خلاقة تمَّتْ على صعيدين: فردي وجمعي. الصعيد الفردي قاد الإنسان إلى وعي متزايد لموقعه في الطبيعة – وهو موقع روحي بالدرجة الأولى، كما نلحظ ذلك من أقوال الحكماء عبر العصور: "كونوا كاملين."[1] والصعيد الجمعي بلغ بالإنسانية درب الكلِّية، درب وعي الفعل المشترك الذي عبَّر عنه تيار دُهْ شاردان بـ "تلاقي الكون".[2] كذا فإن الحكمة هي خلاصة تجربة واحدة، تمَّت بأشكال مختلفة، وعبر عصور مختلفة؛ ولذلك تم التعبير عنها بصور شتى. غير أن جوهرها ظل أبدًا الحقيقة الكامنة، حقيقة التجربة الواحدة ذاتها، حقيقة التطور الكلِّي.

      إن العلم يعود اليوم إلى ينابيع الحكمة بعد أن تراجعت هذه الأخيرة، خلال مراحل سابقة، إلى الفلسفة.[3] ويمكننا فهم هذا التحول في إطار التطور النفسي–العقلي للإنسان. ذلك أن كفة العقل رجحت على كفة النفس خلال العصور التي تلت اكتشاف الأبجدية؛ وبلغ هذا الرجحان أوْجَه في العصر الحديث، مع التطور العلمي والتقني. وبذلك تكون فترة التراجع هي فترة انتقالية في التطور الإنساني، نما فيها الفكر وطوَّر فيها العقل أدواته من أجل فهم الظاهرة الكونية. ويُعَدُّ رجوع العلم اليوم إلى ينابيع الحكمة عودة إلى التوازن النفسي–العقلي في التطور الإنساني. وبناءً على هذا، يمكننا إقامة المقارنة بين العلم الحديث والميكانيكا الكوانتية على أساس تاريخي راسخ، ألا وهو تاريخ التطور الإنساني.

      ولعلنا نلحظ في دراستنا للحكمة ثبات رموزها وبنيانها المعرفي على مرِّ العصور. بينما نجد أن العلم الحديث لم يحصِّل أبدًا معرفة نهائية، إنما اعتمد على التجربة المتطورة باستمرار، رغم إصراره على اتباع منهج عقلي محدود. فللحكمة مبادئ ثابتة يمكن أن تتلخَّص بكلمات بسيطة مثل: الوحدة والكلِّية والتطور. أما العلم فإن نظرياته تتأسَّس على التجربة والبرهان؛ ولهذا فإن كافة مبادئه قابلة للتعديل بحسب تطور مناهجه.

      كذا فقد اعتمدت الحكمة التعبير عن الحقيقة بالرمز لأن الحقيقة غير قابلة للكشف كليًّا، بأية لغة كان؛ في حين يحاول العلم باستمرار تطويع لغته لتناسب أوسع إطار للواقع، على الرغم من وقوعه، في معظم الأحيان، في مطبِّ تطويع الواقع نفسه للغته. في حالة الحكمة، تكون الحقيقة روح فاعلة وطاقة دينامية؛ بينما يبدو الواقع في حالة العلم آلة معقدة، مهما ألبسناه من صيغ جمالية. الحقيقة، في الحالة الأولى، كلٌّ واحد مع الوجود؛ بينما يظهر الواقع، في المنهج العلمي، وكأنه قانون صارم بعيد المنال. إن الحقيقة، في الحالة الأولى، أقرب إلى الحياة المتطورة وإلى الكون المتطور وإلى الإنسان المتطور؛ بينما لم يقبل العلم، إلى اليوم، صورة كلِّية للوجود تشتمل، في آنٍ واحد، على القانون الآني والديناميِّ للتطور.

      ***

      يهدف هذا البحث إلى طرح أفكار عدد من علماء الفيزياء الكوانتية الذين نهجوا في بحثهم نحو العودة إلى التلاقي الكوني. وبحسب هؤلاء الفيزيائيين، لا بدَّ "من فتح الحوار ومن توسيع الأطر والمناظير ومن تطور روحي حقيقي."[4] والعودة إلى عقائد الشرق متكررة في تاريخ الفيزياء الحديثة. فهي ترجع، على الأقل، إلى زمن أينشتاين Einstein وإدِّنغتون Eddington. كذلك كان هايزنبرغ Heisenberg نفسه يعتقد بوجود قرابة بين فلسفات الشرق الأقصى القديمة والمحتوى الفلسفي للنظرية الكوانتية. فهو يقول في مؤلَّفه فيزياء وفلسفة: "إن الفيزياء الحديثة ليست سوى جزء متميز جدًّا من عملية تاريخية عامة تهدف إلى توحيد عالمنا الحاضر وتوسيعه. ويمكننا أن نضيف أن هذا التوسيع بات اليوم يشتمل حتى على فهم الماضي الروحي للشعوب وإيقاظه من خلال سبره في الحكمة القديمة."[5] ويضيف: "إن تفتح الفيزياء الحديثة يمكن أن يساعد في التوفيق بين المنقولات القديمة والتيارات الفكرية الجديدة. ويمكن للإسهام العظيم الذي قدَّمته اليابان مثلاً في الفيزياء النظرية بعد الحرب العالمية الثانية أن يُعتبَر دليلاً على وجود قرابة بين الأفكار الفلسفية النقلية للشرق الأقصى والمضمون الفلسفي للنظرية الكوانتية."[6] كما أن نيلز بور N. Bohr كان شغوفًا جدًا بمبدأي الـ يِن/يَنغ في التاوية.

      ولئن لم يكن جميع هؤلاء العلماء على دراية معمقة بهذه المعارف القديمة لكن استمرارية المقارنة بين الفيزياء الكوانتية والحكمة القديمة تبدو واضحة وواعدة – على الأقل على مستوى الرمزية الثقافية، أي على مستوى تلاقح وتطور المعنى الثقافي. وقد كانت لبوهم D. Bohm خطوة حاسمة في هذا الاتجاه عندما التقى، في مناسبة تاريخية، بكريشنامورتي Krishnamurti في العام 1961. يقول: "لقد اهتممت به [...] لأنه تحدث عن الراصد والمرصود، وهي المسألة المطروحة في الميكانيكا الكوانتية [...]. ولا شك أنه كان يستند إلى النفس في حديثه، لكنني أشعر أن شبهًا كبيرًا كان قائمًا بين المجالين في كلماته."[7]

      إن الميكانيكا الكوانتية تشكِّل اليوم إحدى أعلى القمم التي بلغها العلم الحديث؛ وقد جاءتنا بنتائج ثورية على الصعيدين التطبيقي والمعرفي. وعلى الرغم من أنها زادت من غموض صورة الكون في مواضيع عديدة وفتحت أبوابًا جديدة للأسئلة، إلا أنها كشفت لنا عن إمكانات حقيقية لإيلاج الوعي في القانون الطبيعي. وهذا هو الأساس الذي يمكن أن تقوم عليه أية مقارنة بين الحكمة القديمة والميكانيكا الكوانتية.

      كذا فمن موجبات هذا البحث إثباتُ نظرة جديدة بدأت تتبلور بين المفكرين والعلماء. فمع فيض المعلومات والتطورات التقنية الكبرى يثبت عجزُ المنطق الكلاسيكي عن احتواء هذا الواقع الجديد. ويؤكد إدغار موران E. Morin، في ندوة انعقدت في السوربون، على "ضرورة عقلانية مفتوحة تفسر لنا كيف أن عنصرين متناقضين يصبحان واحدًا متماسكًا؛ في حين أن الديالكتيك يعطينا الانطباع عن وحدة تنقسم [...]. وبهذا يجب أن تكون هذه العقلانية، خلافًا لأية عقلانية، متجددة باستمرار لتحافظ على حوارها مع اللاعقلي، أي أن تكون قادرة على النقد الذاتي، وأن تكون متحررة من المنطق ومنفتحة على الواقع المعقد، من دون أن تفقد دقتها ورصانتها. فنرى هكذا عالمنا بكلِّيته – الفيزيائية والبيولوجية والعقلية والروحية – من دون اختزال."[8]

      ولعل من شأن المؤتمرات المتوالية، التي انعقدت في سبيل إقرار معرفة حدسية وروحية، أن تساهم في النظرة الجديدة إلى الحياة في ضوء الاكتشافات الحديثة للعلم. لقد صرح جان شارون J. Charon في العام 1979 بأن "الفيزياء تفتح الباب على الروح". وإبان الفترة نفسها أمل فريتيوف كابرا F. Capra – وهو آنذاك الفيزيائي النظري في بركلي Berkeley – في مؤلفه تاو الفيزياء أن "الغربيين سينضمون يومًا إلى مدرسة الفكر الشرقي"[9]. وقد تُوِّج هذا التوجُّه بحق في لقاء قرطبة في العام 1979 الذي أثار ضجة كبيرة.[10] وقد ساهم فيه كلٌّ من بوهم وبريان جوزفسون B.D. Josephson (حاصل على نوبل في الفيزياء) والفيزيائي أوليفييه كوستا دُهْ بورغارد O. Costa de Beauregard، الذي تصدى لفهم العلاقة بين الميكانيكا الكوانتية والبارابسيكولوجيا. وكان آخر هذه اللقاءات وأهمها مؤتمر البندقية الذي انعقد برعاية اليونسكو في العام 1986، واتُّفق خلاله، لأول مرة، على تصريح مشترك. وكان من المشاركين فيه كلٌّ من محمد عبد السلام (نوبل الفيزياء)، وجاك دوسيه (نوبل الطب والفسيولوجيا)، وبسراب نيكولسكو (فيزيائي)، ودافيد أوتوسون (فسيولوجي ورئيس لجنة نوبل للفسيولوجيا والطب)، وروبرت شِلدريك (بيولوجي)، وهنري ستاب (فيزيائي)، وغيرهم. ومن أهم النقاط التي اشتمل عليها تصريح البندقية[11] النقاط التالية:

      1. إننا نشهد ثورة مهمة في ميدان العلم، نتجت عن العلوم الأساسية من خلال الانقلاب الذي قامت به في حقل المنطق، وفي الإبستمولوجيا، كما وفي الحياة اليومية من خلال التطبيقات التقنية. إلا أننا نلحظ، في الوقت نفسه، وجود انحراف كبير بين النظرة الجديدة إلى العالم التي تنجم عن دراسة المنظومات الطبيعية وبين القيم التي مازالت سائدة في الفلسفة وفي العلوم الإنسانية وفي الحياة على صعيد المجتمع الحديث. فهذه القيم تعتمد، بدرجة كبيرة، على الحتمية الميكانيكية والوضعية أو العدمية. ونشعر أن هذا التطرف مؤذٍ جدًا ويحمل تهديدات عظيمة بتدمير جنسنا.

      2. وصلت المعرفة العلمية، بفعل حركتها الداخلية ذاتها، إلى تخوم يمكنها أن تشرع عبرها في الحوار مع أشكال أخرى للمعرفة. ونلحظ، وفق هذا المعنى، ومع الإقرار بوجود اختلافات أساسية بين العلم والمنقول القديم، أنهما ليسا متعارضين، بل متكاملان. إن التلاقي غير المتوقع والغني بين العلم ومختلف المنقولات القديمة يسمح لنا بالتفكير في ظهور رؤيا جديدة للبشرية، أو حتى عقلانية جديدة قد تقود إلى منظور ميتافيزيائي جديد. [الحرف المائل من تدخلنا]

      3. وفي حين أننا نرفض كلَّ مشروع توتاليتاري، وكلَّ منظومة فكرية منغلقة، وكلَّ طوباوية جديدة، فإننا نعترف، في الوقت نفسه، بالحاجة الملحة إلى بحث حقيقي متعدد المناهج pluridisciplinaire وعبرمناهجي transdisciplinaire، في تناول دينامي بين العلوم الصحيحة والعلوم الإنسانية والفن والمنقول Tradition القديم. وإلى حدِّ ما، فإن هذه الطريقة مرتسمة في المخ ذاته من خلال التفاعل الديناميِّ بين شطريه.

      4. يحجب التعليم التقليدي للعلم، من خلال عرضه الخطِّي للمعارف، اللقاءَ بين العلم المعاصر والرؤى العريقة. وإننا لنعترف بالحاجة الملحة إلى البحث عن مناهج تربوية تأخذ في الاعتبار إنجازات العلم التي باتت تتوافق الآن مع المنقولات الثقافية الكبرى والتي يبدو الحفاظ عليها ودراستها بعمق أمرًا أساسيًّا. وتمثل اليونسكو المنظمة المناسبة لتشجيع أفكار كهذه.

      ***

      يمكننا إرجاع التحول الكبير في النقاشات التي دارت حول الميكانيكا الكوانتية إلى العام 1946، عندما نشر جون بِلْ John Bell "المتراجحات" التي تحمل اسمه.[12] وقد أمكن بفضلها التوصل إلى تحقيق اختبارات تجريبية حاسمة. وقد تجلَّى ذلك، بصفة خاصة، بدءًا من العام 1970 في تجارب آلان أسبيه Alain Aspect وفريقه في ORSAY، حيث تبيَّن أن الميكانيكا الكوانتية أكثر انحرافًا وشذوذًا بظواهرها من الفيزياء الكلاسيكية.[13]

      يعرض بوهم في مؤلَّفه رقصة الفكر، أو المعنى المنبسط[14] أهم طروحاته حول الفيزياء الحديثة. وهو يقدِّم ثورة ضد الفلسفة الميكانيكية التي تشكِّل القاعدة الرئيسية للعلم الحديث. فالوقت قد حان، بحسب بوهم، لإعادة ترتيب كاملة لمفاهيمنا حول الزمان والمكان والطاقة والمادة والسببية. وعلينا أن نعي، منذ الآن، أن "دراستنا للكون هي دراستنا لأنفسنا"[15]. يقول الفيزيائي جان بول سيراغ J.-P. Sirag في بحثه حول الفيزياء والوعي: "إذا كان ما نعرفه عن العالَم تابعًا لبنية الفكر فإننا، عندما نبحث في الفيزياء الجوهرية، نكون في طريقنا إلى توضيح وتفسير بنية الفكر نفسها."[16] كذا فإن الميكانيكا الكوانتية، التي أعادت الصلة بين العارف والموضوع، تحتِّم رؤية جديدة وفهمًا أكثر انفتاحًا. وأهم العقبات، التي لا بدَّ للفيزياء الحديثة من تجاوزها لتحقيق هذا الانفتاح، هي النظرة التجزيئية. ويرى بوهم أن الخطأ الأكبر في الفلسفة الميكانيكية هو في كونها فلسفة تجزيئية؛ إذ هي تختزل الكون إلى مجرد تجميع لكينونات منفصلة ومنغلقة على نفسها، وبالتالي، غير قادرة على الاتصال الحقيقي. وتكون الطبيعة، وفقًا لهذه النظرة، آلة ضخمة، في حين يكون الإنسان نفسه مجردًا من الروح والمعنى. وفي ذلك انتقاص للحقيقة بالنسبة لبوهم الذي يحتل مفهوم "المعنى" مكانة خاصة عنده. ما معنى الكون؟ ما معنى الحياة الإنسانية؟ – ذلكما هما السؤالان الأساسيان. لقد انفصل الإنسان الحديث، كما يصرح بوهم، عن العالم وعن الآخرين. يقول: "إنه لا يستطيع رؤية نفسه مرتبطًا داخليًّا بالإنسانية ككل، وبالتالي، بالشعوب كافة [...]. وهذا الإنسان يعتقد أن الفكر والجسم حقيقتان منفصلتان [...]. والدليل على ذلك هو عدد العصابيين والذهانيين المتزايد في العالم، وهو أمر ناجم عن تجزئة النفس." وباختصار، فإن "الفكر التجزيئي، كما يقول بوهم، يؤدي إلى ولادة واقع لا ينفك يتشتت في نشاطات غير منتظمة وشاذة ومدمرة"[17]. وبالتالي، يؤكد بوهم على المعنى بقوله: "إن حضارتنا عانت وتعاني مما يمكننا تسميته بإفلاس المعنى."

      يتلخص الحلُّ الفلسفي الذي يقترحه بوهم بكلمتين: "الانطواء" و"الانبساط". فالكون "نظام منطوٍ" Implicate Order، تحييه حركة انفتاح، فيتجلَّى كـ"نظام منبسط" Explicate Order. والفرضية الكبرى التي يقدِّمها هي عدم وجود شيء منفصل انفصالاً كليًّا. فكلُّ الأشياء والكائنات مرتبطة بعضها ببعض. والإلكترونات نفسها، بحسب بوهم، تنطوي وتنبسط دون توقف: "فالمادة الصماء تتخلَّق باستمرار، بالانطواء والانبساط، ناسخة نفسها بنفسها [...]."[18] وكما يشير بوهم فإن "فكرة الانطواء هذه هي فكرة قديمة معروفة منذ زمن بعيد جدًّا في الشرق". والحق أن الفكرة الجوهرية في هذه الفرضية هي الوحدة الكلِّية التي تتأسَّس عليها الحكمة القديمة، أينما وُجِدَتْ. فهذه الحكمة تقوم على مبدأ "الكلِّ في الكل": الجوهر الواحد واللانهائي المتجلِّي في العشرة آلاف شيء. إنه التاو Tao الذي تُحدِّثنا عنه الحكمة التاوية: "شيء ما تكوَّن في السرِّ، وُلِدَ قبل السماوات والأرض، في الصمت والخلاء، أحديًّا، سرمديًّا، حاضرًا أبدًا ومتحركًا أبدًا. قد يكون هو أم العشرة آلاف شيء. أنا لا أعرف له اسمًا، فأسمِّيه التاو."[19]

      إن الوعي والرغبة والإرادة والشعور والفكر كلَّها مظاهر لهذه الكلِّية؛ ولهذا فإنها تنطوي جميعًا وتنبسط. يقول بوهم: "[...] إن الفكر واللغة يشكلان نظامًا منطويًا، لكنهما يحتويان أيضًا بانطوائهما على المشاعر؛ والعكس صحيح، إذ تتضمن المشاعر منطويةً الفكر." ويستخلص بوهم النتيجة التالية: "من الممكن أن شيئًا مماثلاً للفكر موجود في المادة الجامدة، في شكل منطوٍ على الأقل، كما أن الحياة متضمنة في المادة اللاحية [...]. وهذا يقودنا إلى أن العقل والمادة هما وجهان للحقيقة الواحدة نفسها."[20] ويتفق ذلك تمامًا مع ما جاء في الحكمة القديمة: "التاو ينسل الواحد، الواحد ينسل الاثنين، الاثنان تنسل الثلاثة، الثلاثة تنسل العشرة آلاف شيء، العشرة آلاف شيء تحمل اليِن وتحتضن اليَنْغ وتحقق انسجامهما بالدمج بين هاتين القوتين."[21]


      وهكذا يؤكد بوهم أنه ليس ثمة تباين بين الموضوع الفيزيائي ومعناه: إنهما مظهران لحقيقة واحدة شاملة. وهو يرى أنه لا يوجد سوى دفق وحيد للحقيقة، ويجب، بالتالي، عدم فصل المادة عن الفكر والنفس عن الجسم. يقول: "قادني التأمل في فرضية بوهر، التي لا يمكن وفقًا لها تصورُ أية صيرورة كوانتية فردية، إلى تطوير التفسير السببي للنظرية الكوانتية، وهو يرتكز على رؤية لامثنوية للعلاقة بين الفكر والمادة." وترتكز نظرية بوهم هذه، في جوهرها، على فرضية كلِّية تعتمد مفهوم الانطواء والانبساط الذي يحقق التوازن المطلوب للوجود الديناميِّ. يقول بوهم: "بما أن النظام المنطوي في الطبيعة ليس سكونيًّا، بل ديناميكيٌّ في جوهره، في صيرورة ثابتة من التحول والتطور، فقد دعوته، في شكله الأعم، بالحركة الكلِّية Holomovement. فكلُّ الأشياء القائمة في النظام المتجلِّي والنظام المنطوي تنبعث من الحركة الكلِّية، حيث تكون منطوية فيها ككمونات، لتعود إليها في النهاية. وهي لا تدوم سوى بعض الوقت. وفي أثناء هذه الديمومة ينحفظ وجودُها بواسطة صيرورة ثابتة من الانفتاح والعودة إلى الانغلاق، الأمر الذي يشيِّد في النظام المتجلِّي أشكالَها الساكنة والمستقلة استقلالاً نسبيًّا [...]. وهذا الوصف الذي ينطبق على سلوك المادة، كما تصفها الفيزياء الكوانتية، ينطبق ببداهة أكبر على الفكر [...]. وبالتالي فإن الصيرورة العامة للنظام المتضمن هي صيرورة مشتركة للفكر وللمادة. وأخيرًا فإن ذلك يعني أن الفكر والمادة يُبديان تشابهاتٍ قوية جدًّا، بحيث إن اختبارًا بسيطًا يكفي لإظهارها. ويبدو من المنطقي، إذن، تعميق الأمر إلى أبعد من ذلك، والإشارة إلى أن النظام المنطوي يمكن أن يعبِّر عن العلاقة الحقيقية بين الفكر والمادة دون إقحام ثنائية ديكارتية بينهما."[22]

      إن هذه العلاقة الحميمة بين الفكر والمادة تطرح بصورة أوضح إمكانية التأثير المتبادل بين طرفي هذا التجلِّي للمبدأ الواحد. "فكلُّ تغيُّر للسوما soma [أي للجسم] هو تغيُّر للمعنى، وكلُّ تغير للمعنى هو تغير للجسم."[23] ويؤكد بوهم أخيرًا على وجود الانبساط–الانطواء، أو السريان الكامل، بشكل من الأشكال، بين المادة والطاقة والمعنى، بحيث يشتمل كلُّ مصطلح من هذه المصطلحات على المصطلحين الآخرين في هذا الثالوث. إنه شكل آخر لوحدة "الحق والطريق والحياة". وبحسب بوهم، "يمكننا القول، بطريقة ما، بأننا المجموع الكلِّي لمعانينا."[24] ويقدم لنا بوهم التوجُّه الروحي لهذه المسألة في السؤال التالي: "أمن الممكن للكائن الإنساني أن يدخل فعليًّا في تماس مع هذه الطاقة الكونية وأن يكون واعيًا لها؟"[25] لعل الجواب السديد يأتينا مباشرة من الحكمة القديمة في أوبنشاد مايتريي: "الإنسان يصبح ما يفكر فيه – ذلكم هو السر الأبدي."[26]

      ***

      أما بسراب نيكولسكو (الفيزيائي النظري في المركز الوطني للبحث العلمي CNRS في فرنسا والمتخصص في فيزياء القسيمات الأولية) فقد فضل دراسة الحكمة القديمة في إطارها الغربي، ممثَّلة بالصوفي الألماني يعقوب بوهمه J. Bohme (1575-1624)، وذلك في مؤلَّف بعنوان العلم والمعنى والتطور: دراسة في يعقوب بوهمه.[27] ويتفق نيكولسكو مع بوهم تمامًا حول الأفكار الرئيسية. ففي حين يعارض بوهم أولاً الفلسفة الميكانيكية، يفضل نيكولسكو مهاجمة العلموية scientisme (الإغراق في المنهجية العلمية)، بما هي تكريس للعلم طريقًا وحيدًا للمعرفة وتأليه له. لكن الطريقتين تلتقيان، لأن علم العلمويين هو تحديدًا العلم الميكانيكي الذي بسببه فَقَدَ العالَمُ سحرَه، أي فقد معناه، وبات غريبًا عنَّا إلى درجة أننا لم نعد قادرين على التواصل معه.

      إن الديناميَّة الداخلية للفيزياء هي التي تستحث على التساؤل حول الحقيقة، وبخاصة حول انتظامها الذاتي. ويقبل نيكولسكو، باستناده إلى أفكار عدد من الباحثين، مثل برنار دسبانيا B. d’Espagnat، بأن العلم يعيد فعليًّا بعث مسألة المعنى. وهو يرى هذا المعنى الخفي كرابطة بين الشكل والمادة، يتساوق مع ثالوث بوهمه في كوسمولوجياه التي ترتكز على ثلاثة مبادئ: "ينبوع الظلمات وقدرة النور والتوالد خارج الظلمات بقدرة النور". إنه ثالوث الوجود: الأب والأم والابن. وبفضل هذه المبادئ الثلاثة ولدت العوالم الثلاثة المنفصلة بعضها عن بعض والمتداخلة في آنٍ واحد: عالم النار وعالم النور والعالم الخارجي. "هو الذي قضى على الظلام بقدرة النور"، كما جاء في أحد الأناشيد الفيدية المرفوعة إلى إندرا."[28]

      كذا نرى أن الثالوث يشكل أحد المبادئ الرئيسية في فلسفة نيكولسكو. هو ذا يقول: "إن التأمل المسيحي حول الثالوث [...] يشكل التيرب[29] الذي سمح بولادة العلم الحديث."[30] ومن أهم الأفكار التي يعالجها نيكولسكو، بالمقارنة مع فلسفة بوهمه، تتعلق بالانفجار البدئي Big Bang أو بالنجاحات التي تصادفها اليوم مصطلحاتٌ من نحو "التعقيد" أو "الانتظام الذاتي". لكنه يقف، بشكل خاص، عند مفهوم اللاانفصالية non-séparabilité. أفلا يُفترَض فينا، كما يقول، تفسير هذه اللاانفصالية فلسفيًّا بوصفها إشارة إلى اللاانفصالية المعمَّمة التي تميِّز كوسمولوجيا يعقوب بوهمه؟[31]

      إن فيزياء اللامتناهي في الصغر، بحسب تعبير نيكولسكو، هي "وادي الدهشة" (التعبير للصوفي فريد الدين العطار في منظومته منطق الطير) الذي يخبئ مفاجآت سحرية للمسافر. ذلكم هو عالم الميكانيكا الكوانتية بالنسبة لمسافر، إذ "يصادف فيه قسيمات كوانتية تظهر له كموجة وكجسيم في آن واحد". لكن ما يصعق هذا المسافر بعد حين هو اللاانفصالية: "إنها رؤية ساكنَيْن في وادي الدهشة هذا يقطنان مجرَّتين مختلفتين ويتأثران معًا في آنٍ واحد ككلٍّ واحد، مما يتجاوز بمراحل قدراته على قبول المجهول."[32] وعندئذٍ فإن على المسافر أن يفهم أن عليه كسر حاجز عادات الفكر القديمة والانفتاح على رؤيا جديدة للواقع.

      لكن هذا الانفتاح يضعنا أمام مشكلة جوهرية، عالجها بوهم بأن فرض مصطلح "المعلومة الفعالة [...] الذي يشير إلى أن للمادة سلوكًا فكريًّا أوليًّا [...]. فثمة سلوك من الطبيعة نفسها متحقق على المستوى الكوانتي، وذلك بالمعنى الذي يتحيَّن فيه شكلُ تابع الموجة عبر حركة القسيمات [...]"[33]. لكن إمكان التواحد في الكلِّ يظل قائمًا في عالمنا الخارجي الكبير، كما يقرِّر بوهم، وإن كان هذا التحيُّن لا يظهر على مستوى الفيزياء النيوتونية. ترى، إلى أيِّ حدٍّ يمكن لتواحد العارف مع موضوع المعرفة أن يعكس تواحد العارف مع العارفين الآخرين؟ وهل يمكن أن نخلص إلى المعرفة ذاتها عبر تجارب مختلفة؟ يقول شرودنغر في نهاية مؤلَّفه الموسوم بـرؤيتي للعالم: "من المدهش، على الرغم من انفصال حقل وعيي عن حقل وعي الآخرين، أن ولادة لغة مشتركة ونموَّها يقودان إلى التعرف على تماثل بنيوي واسع لجزء معين من تجربتنا المعيشة، وهو الجزء الذي ندعوه بالخارجي [...]."[34] ويستنتج شرودنغر من ذلك حقيقة العالم الخارجي وواقع "أننا جميعًا تجلِّيات مختلفة للواحد"[35].

      ولعل اللغة، بتضمُّنها للفكر، هي التي تشوش إدراكنا للتماثل البنيوي في تجربتنا، ليس فقط خارجيًّا بل وداخليًّا أيضًا. ويقر فريتيوف كابرا بدور الفكر في تحليل التجربة وتفسيرها على المستويين الصوفي والفيزيائي؛ لكنه يؤكد "أن دوره محدود ولا يستطيع القيام بذلك إلا جزئيًّا"[36]. ويعترف الصوفيون أن التجربة الصوفية الفردية تحافظ على خصوصيتها، حتى في إطارها الكلِّي، ضمن تدرجاتها المختلفة. ويمكننا أن نتساءل فعلاً إذا ما كان بالإمكان تحقيق تجربة كلِّية واحدة في تماثلاتها عند عدد من المتصوفة، مادامت الإنسانية جمعاء لم تصل بعد إلى مستوى هذا الاتحاد الذي يعبِّر عنه تيار دُهْ شاردان بـ"التلاقي الكوني" أو بالاتحاد في نقطة أوميغا.[37] ويشير كابرا إلى عجز اللغة، في كلِّ الأحوال، عن التعبير عن هذه التجربة، فيقول: "يتفق جميع الصوفيين على أن المنطق واللغة يجب أن يتراجعا في نهاية الأمر لأنهما لن يستطيعا إدراك التجربة كليًّا. ونجد الأمر نفسه في الفيزياء؛ إذ يمكن للفكر أن يقترب من هذه الحقيقة، لكن ذلك يبقى تقريبيًّا ومحدودًا. ولن نستطيع أبدًا معرفة الحقيقة النهائية بواسطة العلم، علم التقريبات فقط؛ وأقصد بذلك استحالة صلة مطلقة بين الواصف والشيء الموصوف. وهذا ينطبق على الصوفي أيضًا؛ إذ ما إن يبدأ بالحديث عن خبرته حتى يخضع للإشراطات العلمية نفسها"[38].

      ومع ذلك فإن شرودنغر يذهب إلى أبعد من ذلك. فمع خصوصية التجربة الصوفية يظل الوعي الكلِّي واحدًا في النهاية عبر الخبرات المختلفة. ويؤكد شرودنغر "أن الأنيَّات المختلفة تشكِّل وعيًا واحدًا"؛ أو بعبارة أدق: "إن الوعي نفسه هو الذي يدرك الموضوع بأشكال مختلفة في أنيَّات مختلفة."[39] وبالنسبة له فإن "التعددية التي ندركها ليست إلا ظهورًا، لكنها غير موجودة في الحقيقة"[40]. وهذا يطابق ما تقول به الحكمة القديمة من أن العالم مايا maya، أي وهم! ونجد في بوذية مهايانة (عقيدة "العقل فقط") تعبيرًا عن هذه الفكرة بالكلمات التالية:[41]

      هكذا تكون أنواع الوعي تحولات.

      ما يميز وما لا يميز هما،

      بسبب هذا، غير حقيقيين.

      لهذا السبب، كلُّ شيء عقل.

      ويحاول شرودنغر، بأسلوب وصفي بديع، أن ينقل إلينا هذه الصورة بشكل آخر:[42] يتصور إنسانًا جالسًا أمام منظر طبيعي ساحر يشتمل على لانهاية من الصور البديعة ويتساءل: "ما الذي جعله ينبثق من العدم فجأة ليتمتع للحظة قصيرة بهذا المشهد؟ إن كافة شروط وجوده هي أقدم من الصخرة التي يجلس عليها. لقد كافحت البشرية طويلاً عبر أجيالها لتكرار هذا المشهد. إن هذا الإنسان الجالس على الصخرة يعرف الألم مثلنا، كما وفرحًا قصيرًا." ثم ينهال علينا شرودنغر بسلسلة من الأسئلة المدهشة: "ترى هل هو إنسان آخر؟ ألم يكن هذا الإنسان هو أنتم أنفسكم؟ ما أناكم؟ ما هو الشرط الذي أدَّى لأن يكون هذا الكائن الوليد هذه المرة هو أنتم – أنتم تحديدًا وليس إنسانًا آخر؟ ثم ما هو المعنى المفهوم بوضوح والمتوافق مع علوم الطبيعة الذي يجب إعطاؤه لهذا الفرد الآخر؟" ويجيب شرودنغر ببساطة: "يتجلَّى ههنا فكر الفيدنتا الجوهري. فليس من الممكن أن تكون وحدة المعرفة هذه، والشعور والاختيار، قد انبثقت جميعًا من العدم [...]؛ بل لنقل بالأحرى أنها أبدية في جوهرها ولامتبدلة وواحدة عدديًّا عند كافة الناس، وحتى عند كافة الكائنات الحاسَّة."[43]

      إن ما بلغته الميكانيكا الكوانتية من توغل في أعماق الوجود المادي قد كشف لها عن وحدة خفية لا تزال مظاهرُها غير مستقرة استقرارًا كاملاً. فالإلكترون، الذي يمكن أن ينتظر تأثيرنا ليظهر لنا بما يتوافق وذلك التأثير، لم يعد مجرد قسيم يمكننا تحديده وفقًا لنموذج منفصل وآلي. وهذا الإلكترون نفسه، الذي يستطيع أن يكون على صلة آنية بإلكترون آخر بعيد عنه بعدًا شاسعًا، يفلت من إطار فهمنا للظاهرات ومن نمط تفكيرنا ويلغي أيَّ تصور تجزيئي للوجود. فههنا، أمام أعيننا، ثمة وحدة معرفية تتحقق تجريبيًّا عبر مسافات شاسعة.

      "وهكذا، كما يقول شرودنغر، فإن الحياة التي تحيونها ليست فقط جزءًا من الوجود كلِّه، بل هي، بمعنى ما، الكل!" ويتابع: "وهذا ما يعبِّر عنه البراهمانيون بالصيغة المقدسة التالية: تات تفام أسي tat tvam asi، ذاك هو أنت."[44]

      إن هذه الوحدة الجوهرية للوجود، التي تتجاوز الوحدة المكانية إلى الوحدة المعرفية، تتجاوز الزمان أيضًا إلى حضور آنيٍّ للكل. يقول بوهم: "هناك نظام كامن واحد، يُبرِز نفسه عبر مجموعة من اللحظات. وفي الجوهر، كلُّ اللحظات هي بالفعل واحدة؛ إذ الآن هو اللانهاية."[45] ويتفق شرودنغر تمامًا مع بوهم، إذ يقول: "أبدًا ودائمًا [...] لا يوجد سوى الآن. الواحد هو نفسه الآن. إن الحاضر هو وحده الذي لا نهاية له."[46] إن عبارتَيْ هذين العالمين تعكسان واقع ارتباط التعددية بالزمن: فالزمن هو علَّة الموت والحياة؛ أما "الآن" فهو الحضور الكلِّي، والتجدد الذاتي الأبدي. يقول بوهم: "كلُّ شيء، بما في ذلك الإنسان، يموت كلَّ لحظة في اللانهاية ويولد ثانية (الانطواء والانبساط). ما سيحدث عند الموت أن مظاهر معينة لن تولد ثانية في لحظة معينة. لكن جهاز تفكيرنا يدفعنا لمواجهة ذلك بخوف عظيم في محاولة للحفاظ على الهوية."[47]

      ألا يمكننا مقارنة هذه الكلمات، التي لا يبدو، للوهلة الأولى، أنها صادرة عن فيزيائي، بكلمات معلِّم الزن Zen دوجن كيجن Dogen Kigen في مقالته الكائن والزمن؟ يقول دوجن كيجن في حديثه عن الكائن–الزمن[48]:

      الكائن–الزمن يعني أن الزمن يندغم بالكائن [...]. إن الإنسان يواحِد نفسه بالعالم، أي مع الزمن. علينا قبول أن ثمة في العالم ملايين الأشياء وأن كلاً منها هو العالم كلُّه. تلكم هي النقطة التي تبدأ عندها دراسة البوذية. وعندما نصل إلى فهم ذلك ندرك أن كلَّ شيء وكلَّ كائن حيٍّ يمثل الكلِّية، حتى وإن كان لا يعي ذلك [...]. كلُّ كائن–زمن يمثل كلِّية الزمن، وكلُّ نقطة من الزمن تشتمل على كافة الكائنات وعلى العالم بأسره [...].

      أنا والزمن غير منفصلين [...]. عندما لا نفكر في الزمن كشيء يأتي ويذهب فإن هذه اللحظة تكون الزمن المطلق بالنسبة لي [...].

      لا تعتبروا الزمن مجرد شيء يمر؛ ولا تعتقدوا أن وظيفته الوحيدة هي أن يمر. فلكي يمرَّ الزمن يجب أن يكون هناك فصل بينه وبين الأشياء. وباعتقادكم أن الزمن يمر فإنكم لا تعرفون حقيقة الكائن–الزمن. وبكلمة واحدة، كلُّ كائن في العالم بأسره هو زمن خاص في متَّصل واحد [...].

      وتجد حكمة معلِّم الزن هذه صداها في تعاليم كريشنامورتي: "فالمحلِّل والموضوع المحلَّل، كما يقول، أليسا ظاهرة وحيدة؟"[49] كذا فإن اعتبار الزمن سيالة تمر باتجاه وحيد يؤدي إلى انفصال الفكر عن الموضوع، وإلى تشتت العالم، وبالتالي، إلى حتمية وجود نقطة بدء بالنسبة لأية ظاهرة؛ في حين تساهم هذه السيالة نفسها، كلما ابتعدنا عن نقطة البدء، في انحراف التوجُّه الأصلي للحركة وتبدُّده، مما يؤدي إلى الشواش والوهم. وإذا عمَّمنا ذلك على الكون أفلا تتطابق نظرة دوجن كيجن، إلى حدٍّ بعيد، مع النظرة الكوانتية، حيث يؤكد ولادة لحظية متجددة للكون، كما لو بقفزة كوانتية Quantum Leap، لأنه ببساطة وجود آني؟ يقول كريشنامورتي: "ما يدوم ليس أبديًّا؛ الأبدية ماثلة في اللحظة."[50]

      إن رموز هذا الحضور الكلِّي في الحضارات القديمة عديدة. ولعل أهمها تقاطع خطَّيْ الصليب، العمودي/الروحي والأفقي/الزمني، في نقطة واحدة. وكذلك هو رمز الدائرة الكاملة والنقطة الثابتة في مركزها. ولا يتردد نيكولسكو، مع تمسُّكه بالمنطق العلمي، في الانطلاق من الرؤية الكوانتية لنشوء الكون، ليصل إلى الخلق الذاتي auto-création وإلى الانتظام الذاتي auto-organization، ومن ثم إلى رمزية الخيمياء Alchimie القديمة، في التعبير عن هذا الحضور دائم التجدد للوجود، فيقول: "إن أكثر الصور موافقةً لتصوُّر هذه الدينامية ذاتية الحقيقة للوجود هي صورة الأوروبوروس Ouroboros، الثعبان الذي يعضُّ ذنبه، وهو رمز غنوصي قديم، كما ورمز كمال التدبير الخيميائي العظيم."[51]

      يقول لاوتسو Lao-tseu: "العشرة آلاف شيء تعلو وتهبط بلا توقف، تخلق ولكن لا تمتلك، تشتغل إنما ليس لحسابها، تنجز العمل ثم تنساه؛ ومن هنا فهي تدوم إلى الأبد."[52] إنها صورة أخرى للحضور الذاتي، المتجدِّد أبدًا والفاعل أبدًا. وهذا الحضور هو التاو، الذي لا يمكن وصفه أو التعبير عنه: "التاو الذي يمكن الإخبار عنه [وصفه] ليس هو التاو الأبدي. الاسم الذي يمكن تسميته ليس هو الاسم الأبدي."[53]

      ***

      حاولت خلال هذه الدراسة الموجزة عرض الأفكار الفلسفية لعدد من الباحثين الفيزيائيين الذين اهتموا بالحكمة القديمة ووجدوا قرابة بين الأبحاث العلمية الحديثة ونتائجها الفلسفية والتجربة الروحية التي تحققت عبر الأزمنة. ولعل هذا العرض يُبرِز لنا، في النهاية، أساس الحوار المعرفي الحقيقي الذي يدور حول طبيعة الوجود وعلاقة الإنسان به. وقد حاولت التركيز على هذه الناحية فيما يتعلق برؤيا الوحدة والكلِّية في كوننا، ولم أهتم لتفاصيل المقارنات التي قد لا تنتهي والتي قد لا تصح جميعًا بين الفيزياء الحديثة والحكمة القديمة.

      ولعل زملاء نيكولسكو في مركز البحث العلمي الوطني يتساءلون حول العديد من المقارنات التي يقدِّمها ضمن رؤيته الصوفية؛ لكننا، مع ذلك، نثمِّن جرأته على طرح هذه الأفكار من موقعه كعالِم، وإن لم تكتسِ أحيانًا بالمنطق العلمي. وإننا، بدورنا، نسأل زملاء نيكولسكو إذا كانوا قانعين داخليًّا بانغلاقهم وبجمود منطقهم؟ وبالمقابل، نجد أن أفكار بوهم وشرودنغر أكثر ترابطًا ومنطقية ضمن مفهوم العقلانية الجديدة التي يناديان بها. ولسنا نشك أبدًا في أن هذا الحوار المعرفي لا يزال في بداياته وأنه لن ينتهي عند نقطة انفصال.

      في إحدى المقابلات طُرِحَ على فريتيوف كابرا السؤال التالي: "إن النظريات العلمية تتغيَّر باستمرار، في حين أن الرؤيا الصوفية تبقى نفسها. ففيمَ إذن أهمية مقارناتكم؟" يعكس هذا السؤال الشكَّ في جدوى هذه المقارنات، كما يمكن لبعضهم أن يعتقد. وكان جواب كابرا على النحو التالي: "بلى، إن العلم يعرف أنه لا يملك حاليًّا الإجابات الصحيحة [...]. لكن يجب أن نعرف أننا عندما نضع هذه النظريات، عبر مراحل متتالية مع نماذج جديدة، فإن المعرفة لا تتغير تعسفيًّا، والنظرية الجديدة لا تنسف سابقتها نسفًا كاملاً. كذلك فإن وحدة الطبيعة الجوهرية وسمة تماسك الكون والطبيعة الديناميَّة لهذه الظاهرات لن تنسفها الأبحاثُ المستقبلية."[54]

      كذا يمكننا القول، مع فريتيوف كابرا، أن مستقبل هذا الحوار واعدٌ ومشرق. وعلينا أن نثق في النهاية بقيمة التجربة الإنسانية. إن مسألة الآلية الكونية هي جوهر هذا الحوار العلمي–المعرفي. وفي حين كان ديفِد بوهم يصوِّر عالَم القسيمات كعالَم حيٍّ، كان عالم البيولوجيا جاك مونود J. Monod يقلص الحيَّ إلى آلية حيوية–كيميائية حصرًا. وقد نشر برنار دسبانيا لدى صدور كتاب مونود الصدفة والضرورة بحثًا بعنوان "فيزيائي يردُّ على جاك مونود"، جاء فيه: "لا شك أن بإمكاننا أن نحلم بعلم موضوعي، لكن نظرية بِلْ بخاصة تجبرنا على تغيير نظرتنا. فإذا كانت الميكانيكا الكوانتية صحيحة قطعًا فهذا يستجرُّ عدم كفاية كلِّ فلسفة طبيعية ذات قاعدة ميكانيكية ذرية."[55]

      يمكننا، بالتالي، أن نلاحظ بسهولة نقطة الافتراق الحاسمة في هذا الحوار، أو فلنقل نقطة التحول التي يمرُّ بها العلم. إن الإنسان قادر اليوم على الاتصال بالأرض كلِّها، وعلى تعديل برنامجه الوراثي، وباختصار، كما يكتب نيكولسكو: "إننا نقف على نقطة افتراق طريقين بين التدمير الذاتي والتطور." وبلغة تيار دُهْ شاردان يقرِّر نيكولسكو أن هذا التطور لا يرتبط أبدًا بالتطور الفيزيائي–الكيميائي، بل هو يتم "على مستوى آخر، هو مستوى الثقافة والوعي أو الإنسانية بما هي اتحاد لجميع البشر"[56].

      إن الفيزياء الحديثة، والعلم الحديث بعامة، بحاجة ماسة إلى هذه النفحات الروحية، ليس فقط على صعيد إعادة التوازن الأخلاقي لحياتنا، بل وحتى على صعيد مفاهيمنا المعرفية. إننا أحوج ما نكون اليوم لإعادة الصلة مع حقيقة أنفسنا، ولإعادة إيماننا بوحدة الكون وبوحدتنا معه. وإن كنا غير قادرين على وصف الحقيقة كاملة، بل وإن كان يتعذر أن نصف المطلق يومًا، لكن ذلك لا يمنعنا من احترام تجربة الإنسان الروحية والنفسية على مدى العصور، وبخاصة أنها كانت تخلص دائمًا إلى وحدة الإنسان والعالم. في أوبنشاد برهادارانياكا، وهي أشهر وأقدم وأطول أوبنشاد – وتعني "كتاب الغابة العظيم"، وقد اشتهرت بفكرة "نيتي نيتي"، أي "لا هذا ولا ذاك"[57] (وهي العقيدة الصوفية التي تقر بعدم إمكانية وصف المطلق) – نجد التصريح التالي: "لا يوجد في العالم تنوع."[58]

      إننا نحيا في محيط من الطاقة الواحدة والكلِّية. لكن السؤال الذي يراودنا باستمرار، كما يقول بيير داكو: "ماذا يوجد في أعماق هذه الطاقة العظيمة، وفي باطن الارتجاجات الهائلة لهذه القسيمات الأولية التي تنقلب الواحدة منها إلى الأخرى؟ أهي الطاقة الصرف أم العدم؟" إن هذا يذكِّرنا بفكرة بوهم: "لن تتكشف أبدًا القوانين الفيزيائية الأولية بعلم يحاول أن يحطم العالم ومكوناته!" ترى، وراء ماذا نسعى من هذا التحطيم المحموم؟ ويعلِّق داكو مجددًا: "بلى، إننا نسعى وراء شيء غير المادة."[59] ويأتينا، مرة أخرى، تصريح أوبنشاد برهادارانياكا: "لا يوجد في العالم تنوع"، بينما تتردد في أذهاننا حكمة أوبنشاد مايتريي: "الإنسان يصبح ما يفكر فيه – ذلكم هو السر الأبدي!"

      *** *** ***

      تنضيد: نبيل سلامة

      [1] إنجيل متى 5: 49.

      [2] "تلاقي الكون" هي إحدى العبارات المفاتيح في رؤيا تيار دُهْ شاردان للعالم. راجع مؤلَّفه ظاهرة الإنسان ومؤلَّفاته التالية. كذلك انظر رسالته:

      P. Teilhard de Chardin, Lettres de Voyages, 1923- 1955, FM, La Découverte, Paris, 1982 ; p. 398.

      [3] يؤكد ندره اليازجي على أن الحكمة القديمة تراجعت في العصور الغابرة إلى الفلسفة وأن العلم الحديث هو عودة إلى الحكمة. راجع دراسته "الحكمة القديمة والعلم الحديث"، الكاتب العربي، عدد 12، 1985.

      [4] P.Thuiller, « La mécanique quantique va-t-elle ré-enchanter le monde ? », La Recherche, N° 215, 1989 ; p. 1411.

      [5] فيرنر هايزنبرغ، فيزياء وفلسفة: ثورة في الفيزياء المعاصرة، بترجمة د. أدهم السمان، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1984؛ ص 197.

      [6] المرجع السابق، ص 194.

      [7] مرجع الهامش 4، ص 1415.

      [8] ندوة السوربون "نحو عقلانية جديدة"، تغطية ومشاركة سمير كوسا، الصفر، عدد 10، شباط 1987؛ ص 42.

      [9] F. Capra, Le Tao de la physique, Tchou, Paris, 1979.

      راجع أيضًا مرجع الهامش 4، ص 1411.

      [10] راجع أعمال هذا المؤتمر الصادرة عن دار Stock، باريس، بعنوان العلم والوعي Science et conscience.

      [11] راجع كتاب العلم يواجه تخوم المعرفة، مراجعة سمير كوسا، الصفر، عدد 17، أيلول 1987؛ ص 28. وللاستزادة حول هذا الموضوع راجع: "مؤتمر البندقية" Colloque de Venise، الصادر عن منشورات اليونسكو، باريس، و"تصريح البندقية" La Déclaration de Venise، دار Félin، باريس.

      [12] كانت مشكلة التعيُّن والاحتمالية هي التي أثارت الجدل الشهير بين بوهر وأينشتاين في الثلاثينات. وقد طرح كلٌّ من أينشتاين وبودولسكي Podolsky وروزن Rosen تجربة فكرية لإظهار استحالة التوفيق بين التخمينات الكوانتية والمفاهيم الكلاسيكية الاستنتاجية للحتمية، وبشكل خاص للتعيُّن. وقد أدى ذلك إلى إدخال مفهوم جديد في الميكانيكا الكوانتية هو اللاتعيُّن indetermination الجوهري، حين ترتبط ظاهرات غير متصلة سببيًّا بعضها مع بعض. وفي العام 1965 بيَّن بِلْ أن أية نظرية محلية، ذات متحولات من النمط الكلاسيكي، لن تستطيع إيجاد نتائج النظرية الكوانتية عينها. وفي العام 1982 تم برهان ذلك على يد آلان أسبيه، ثم العديدين من بعده، في تجارب حاسمة ودقيقة، مجسِّمة فكرة التجربة المعروفة بمفارقة أينشتاين برودلسكي روزن EPR.

      [13] مرجع الهامش 4، ص 1410. راجع أيضًا: أ. شيموني، "حقيقة العالم الكمومي"، مجلة العلوم الكويتية، المجلد 6، عدد 5، أيار 1989؛ ص 84. ويفصل المقال في التجارب التي بيَّنت أن كائنين تفصل بينهما عدة أمتار ولا يملكان أية وسيلة اتصال بينهما يمكن أن يشتبكا معًا؛ أي أن سلوك كلٍّ منهما مرتبط بسلوك الآخر، مما يجعل أية عملية قياس نجريها على أحدهما تؤثر آنيًّا في نتيجة القياس التي نجريها على الآخر.

      [14] D. Bohm, La danse de l’esprit, Éd. Séveyrat, 1985.

      والعنوان الأصلي للكتاب هو: The Unfolding Meaning.

      [15] المرجع السابق نفسه. انظر أيضًا مرجع الهامش 4، ص 1411.

      [16] مرجع الهامش 4، ص 1411.

      [17] مرجع الهامش 14، ص 36.

      [18] مرجع الهامش 14، ص 24.

      [19] Lao-tseu, Tao tö king, Gallimard, 1967.

      [20] مرجع الهامش 4، ص 1411.

      [21] مرجع الهامش 19.

      [22] D. Bohm, « La relation Esprit-Matière », 3e millénaire, N° 21, 1991.

      [23] مرجع الهامش 14، ص 99.

      [24] مرجع الهامش 14، ص 117–119.

      [25] مرجع الهامش 4، ص 1412.

      [26] سرفبالي رادهاكرشنان وتشارلز مور، الفكر الفلسفي الهندي، بترجمة ندره اليازجي، دار اليقظة العربية، دمشق، 1967؛ ص 174.

      [27] B. Nicolescu, La science, le sens et l’évolution, Éd. du Félin.

      [28] من "أناشيد إلى الله" (التعددية، إلى أندرا)، عن غريفث، مرجع الهامش 26، ص 29.

      [29] التيرب هو التراب الذي تزيد فيه نسبة المواد العضوية عن 50%، أي أنه تربة خصبة.

      [30] مرجع الهامش 27، ص 34.

      [31] مرجع الهامش 4، ص 1413.

      [32] مرجع الهامش 4، ص 1413.

      [33] مرجع الهامش 22.

      [34] E.Schrödinger, Ma conception du monde: Du Veda d’un physicien, Mercure de France, Le Mail, 1982 ; p. 156.

      [35] المرجع السابق نفسه.

      [36] Fritjof Capra, « Vers une nouvelle vision du monde », Entretien de Coussa, Le Lotus Bleu, N° 4, 1989.

      [37] "نقطة أوميغا" Ω، في مفهوم تيار دُهْ شاردان، هي القطب الروحي الذي تسعى البشرية إلى الاتحاد به عبر تطورها.

      [38] مرجع الهامش 36.

      [39] مرجع الهامش 34، ص 29.

      [40] مرجع الهامش 34، ص 39.

      [41] مرجع الهامش 26، ص 426.

      [42] مرجع الهامش 34، ص 42.

      [43] مرجع الهامش 34، ص 43.

      [44] مرجع الهامش 34، ص 44.

      [45] د. بوهم، "هذا الخوف"، الصفر، عدد 17، ص 93.

      [46] مرجع الهامش 34، ص 44.

      [47] مرجع الهامش 45.

      [48] Philipe Kapleau, Les trois piliers du zen, Appendice : « L’être et le temps selon Dogen », Stock+plus, 980 ; p. 277.

      [49] Krishnamurti, La première et dernière liberté, Stock+Plus, 1979 ; p. 316.

      [50] المرجع السابق، ص 378.

      [51] مرجع الهامش 27، ص 136.

      [52] مرجع الهامش 19.

      [53] مرجع الهامش 19.

      [54] مرجع الهامش 36.

      [55] مرجع الهامش 4، ص 1414.

      [56] مرجع الهامش 4، ص 1413.

      [57] مرجع الهامش 26، ص 126.

      [58] مرجع الهامش 26، ص 138.

      [59] بيير داكو، علم النفس الجديد وطرقه المدهشة، بترجمة وتقديم سامي علام، دار الغربال، دمشق، 1990؛ ص 232 يتبع .....
      في كل يوم يصلب الانسان الف مرة ومرة ويصلب الوطن على طريق الجلجلة يسير شعب يحمل المسمار والصليب لانه يعيش في موطنه الحنون كالغريب وزهرة الخلاص في يديه مقصلة وسائر على طريق الجلجلة قد كللته المحنة السوداء بالسواد ومزقته اربا رصاصة الاحقاد
      أنا لا أحد وأنت،من تكون؟هل أنت أيضاً لا أحد وإذاً فثمة إثنان منا، إياك أن تخبرأحدا!وإلاألقوا بنا في المنفى
      وراء كل فوضى واشنطن وتل أبيب

      Comment


      • #4
        عقم الفلسفة

        عقم الفلسفة؟
        هيغـل ونهـاية الفلسـفة



        مونيس بخضرة[1]



        رأى ميشيل فوكو أن عصرنا يحاول جاهدًا، بالوسائل كلِّها، أن يتخلص من قبضة فلسفة هيغل[2]، سواء عن طريق المنطق، أو عن طريق الإپستمولوجيا، أو عن طريق ماركس، أو عن طريق نيتشه:

        - فأما المنطق التداولي، فلأنه، في نظر فوكو، يستطيع أن يكشف عن "تناقضات" الهيغلية بعدما ادَّعتْ معرفة المطلق بالعمل الديالكتيكي؛

        - وأما الإپستمولوجيا، فلأنها تؤكِّد "ميتافيزيقية" فلسفة هيغل، البعيدة كلَّ البعد عن المعرفة "الحقيقية" التي يسعى إليها الإنسان – وعصرنا، كما هو معروف، هو عصر الإپستمولوجيا التي، مع بداية القرن العشرين، لم تترك مجالاً لحضور الميتافيزيقا، منبئةً بنهايتها؛

        - وأما ماركس، فلأنه استطاع أن يقوِّض الهيغلية من داخلها بسبب تجاهُلها للإنسان واهتمامها لما لا يحتاج للاهتمام له، ألا وهو "المطلق" – خاصة مع ظهور النجاح المبكر للماركسية في أرجاء أوروبا وإقرار الجميع بنجاحها الذي يمثل، في الآن نفسه، فشل الهيغلية الذريع؛

        - وأما نيتشه، فلأنه قام، في نظر فوكو، بما عجز عنه هيغل، حينما تمكَّن من تأسيس فلسفة الحضور، التي بها أصبح الإنسانُ أكثر حضورًا في العالم وأكثر مراعاةً لأبعاده المستقبلية، نظرًا لاهتمامه البالغ بعالمه وبقيمه، وهو ما كان مفقودًا في الهيغلية.

        ولكن هل استطاع هؤلاء أن يحرروا عصرنا من قبضة هيغل كما افترض فوكو؟ طبعًا لا! لماذا؟ لأن هيغل استطاع أن يبتلع الفلسفة كلَّها، فلم يترك لأخلافه إلا ما هو ثانوي فيها. وهذا ما جعله يقبض على عصرنا بقبضة من حديد، كما يرى فوكو، نظرًا لأن هؤلاء كانوا أعجز من أن يقدروا على الإحاطة بعصرنا مثل هيغل، أو لأن الفلسفة المعاصرة لم تستطع أن تصنِّف هيغل في أية فئة. لقد استطاعت الهيغلية، بطريقة عجيبة، أن تأسر مستقبل أبعاد الفكر الفلسفي، الأمر الذي مكَّنها من إلقاء ظلالها على العصور التي تلتْها، عاكسةً بذلك مدى قدرة هيغل على الكشف عن المطلق بواسطة الفلسفة – فلسفته التي وضعت حدًّا لجميع التصورات الفلسفية القابلة للتخصيب، وبها عجَّل هيغل من كبر الفلسفة، دافعًا بها إلى حدِّ الشيخوخة حيث الوهن والعقم. وهذا ما تكهَّن به هيغل في أثناء وضعه للَّمسات الأخيرة على كتابه الخالد فينومينولوجيا الروح (1807)، وعمرُه لمَّا يتجاوز آنذاك الخامسة والثلاثين.

        غيورغ ڤلهلم فريدرش هيغل (1770-1831)

        بذلك هيمن هيغل على الحقب الفلسفية التي ستأتي بعده، مثلما فعل أرسطو بالأجيال التي أعقبتْه: فلولا الثورة العلمية الكبرى التي حدثت في العصر الحديث، بفضل كلٍّ من كوپرنيكوس وغاليليه وكپلر ونيوتن وغيرهم من العلماء، لكنَّا إلى الآن ما نزال نفكِّر بفكره ونتفلسف بفلسفته، لأن فلاسفة عصر النهضة والعصر الحديث عجزوا عن تفكيك فلسفة أرسطو وإضعافها، فقام العلم بما عجزت عنه الفلسفة. ولكن الشيء الذي كان هيغل يرى أنه يميِّزه عن أرسطو هو أن فلسفته ستكون دون شك خاتمة الفلسفات، نظرًا لإحاطتها بجميع الفلسفات التي سبقتْها بما يتوافق مع منطقها الداخلي. وربما كان هذا ما جعله أيضًا يعتقد أن الفلاسفة الذين سبقوه لم يفعلوا شيئًا في نظره سوى التمهيد له، بمن فيهم أرسطو، وأن الذين سيأتون بعده لن يخرجوا عنه حتمًا.

        إن تصريح ماركس، على الرغم من اختلافه الكبير عن هيغل جملةً وتفصيلاً، لَخير دليل على صحة هذا الاعتقاد، حينما قال: "هناك مجموعة من الأدعياء تصف هيغل بالكلب الميت؛ لذا حان الوقت لكي أعلن أنِّي لست إلا تلميذًا لذلك الكلب الميت." وزيادة على ذلك، فإن هذا الاعتقاد نفسه هو ما أجمعت عليه جميعُ التيارات الفلسفية تقريبًا، على اختلاف منطلقاتها ومرجعياتها، من الفينومينولوجيا إلى الوجودية بفروعها، ومن الپراغماتية والوضعية المنطقية إلى الشخصانية؛ إذ انبعثت منها جميعًا رائحةُ الهيغلية الأشبه برائحة النسَّاك والمتصوفة.

        والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما الذي جعل الهيغلية حاضرةً في جميع الفلسفات، المؤيِّدة منها والمعارِضة؟ – بما فيها الفلسفات الجزئية واللاتاريخانية، وحتى الأدبية.

        تعود هذه الهيمنة، في نظرنا، إلى طبيعة تصور هيغل للفلسفة ووضعه لها تعريفًا خاصًّا به؛ والأهم من ذلك هو أنه جعل الفلسفة تبدأ مع تشكُّل المفاهيم المنطقية الأكثر تجريدًا وانتشارًا، بحيث تعبِّر عن الوجود كلِّه في ذاته قبل التعيُّن؛ وهذا التصور النوعي لمفهوم الفلسفة لم يترك فراغًا آخر للفكر يجول فيه، بمعنى أن هذا التعريف الذي وضعه هيغل للفلسفة كان كافيًا لوضع حدود لها. وعليه، أصبحت الفلسفة عنده أشبه بالدوامة المائية، تبتلع كلَّ جسم يقترب منها. هذه الحقائق، يؤكِّدها هيغل بصفة خاصة في كتابيه محاضرات في تاريخ الفلسفة[3] وموسوعة العلوم الفلسفية[4]، معتقدًا أن الفلسفة في التاريخ لم تكن إلا مجرد آراء ظنِّية وروايات عقلية عاطلة وعقيمة، لم تستطع أن تخرج عن التصورات الذاتية، حيث كانت في مجملها عبارة عن آراء متضاربة ومبعثَرة في التاريخ من دون معنى، بقيت في حاجة ماسة إلى فلسفة كلِّية جديدة تجمع شتاتها.

        لقد حدث هذا بسبب أن الفلسفة، منذ لحظة ظهورها إلى غاية عصره، تجاهلتْ هدفَها الذي وُجِدَتْ من أجله، ألا وهو إنتاج الفكر الذي يساعد على معرفة المطلق اللامتناهي، لا الفكر المكتفي بالمتناهيات. وذلك الفكر مازال هدفها، وسيبقى كذلك، لأن الموضوع الحقيقي للفلسفة كان، منذ الأزل، هو الحق الخالد، بوصفه علمًا موضوعيًّا للحقيقة يهدف إلى معرفة التصورات الخاصة بها، لا الاكتفاء بالآراء الظنية الذاتية – وهي الأكثر حضورًا في الخطاب الديني، الذي كان يرى أن العقل محدود وعاجز عن إدراك الحقيقة اللامتناهية: فإذا كان العقل متناهيًا، كما يرى الخطاب الديني، فكيف له أن يستطيع معرفة اللامتناهي؟ لذا وجب على العقل، بحسب الخطاب الديني أيضًا، أن يبقى متواضعًا في التاريخ، لأن العقل في تاريخه لم يفعل شيئًا سوى قيادتنا إلى عالم مليء بالشكوك والأوهام، وهو العار الذي حلَّ بالبشرية منذ أمد بعيد؛ فحان الوقت لكي يتخلَّى العقل عن انشغالاته التي لا يستطيع إنجازها لصالح الإيمان كسلطة مطلقة، المكلَّف معرفة الحقيقة اللامتناهية، ولكي تبقى الفلسفة خادمة مطيعة له، بما يسمَّى بـ"فلسفة الإيمان" (أرسطية العصور الوسطى) التي عبَّرتْ عنها الجاكوبية الصوفية بزعامة فريدريك هنري جاكوبي (1743-1819) في زمن هيغل[5].

        في ضوء هذا النقد الحاد للعقل، حاول العقلانيون أن يجعلوا الدين أكثر تطابُقًا مع العقل. وعليه، فقد دخل العقل في صراع مرير مع الدين في الحضارة الغربية على أحقِّية امتلاك الحقيقة. ومن خلال هذا الجدل تساءل هيغل عن أي الفلسفات يقبل وأيها يرفض.

        إن مباشرة هيغل البحثَ عن إجابة على هذا التساؤل دفعتْ به إلى أن يقفز على جميع الأفكار الفلسفية المتراصة في تاريخ الفلسفة، مؤكدًا أن الحقيقة في جوهرها واحدة، على الرغم من تنوع المذاهب الفلسفية وتكالُبها على تمثيلها؛ إذًا فلا بدَّ أن تكون هناك فلسفة واحدة صحيحة نحو الحقيقة، قادرة على إثبات صحتها لجميع الفلسفات، بغضِّ النظر عن الزمن الذي وُجِدَتْ فيه. فانطلاقًا من هذا الزعم، برَّر كلُّ مذهب فلسفي ادِّعائه أنه هو صاحب الفلسفة الوحيدة التي تمتلك هذه الحقيقة.

        وفق هذا الجدل، قدَّم هيغل نظريته الفلسفية التي استفادت كثيرًا من هفوات سابقاتها والتي ستكون الأجدر على الإطلاق بمقاربة الحقيقة. وهذا لا يعني أنها ستتخلَّى عن الفلسفات الظنية، بل يعني أنها ستضمها إليها، لأن الفلسفة عند هيغل ليست إلا فكرة واحدة في شموليتها. وإذا كان هيغل قد قال بواحدية الحقيقة التي تنكشف مع تطور الفلسفة، فقد يبدو هذا القول شكليًّا يحتاج إلى توضيح.

        وضَّح هيغل هذا القول عندما فصَّل تطور الفلسفة إلى غاية فلسفته، التي تمتاز في نظره بالحقيقة بعينها، حيث إنها أصبحت قادرة على التجدد من داخل ذاتها؛ ما يعني أن ما هو ذاتي يصبح وجودًا علنيًّا يخرج عن ذاته، بعدما أصبح محكومًا بقانون التطور، كما حدث في تطور المذاهب الفلسفية جميعًا. فما يكون ضمنيًّا في بداية التاريخ لا بدَّ أن يتجلَّى في خطواته المتتابعة إلى غاية اكتمال نضجه، ليظهر كوعي علني، كان هيغل يقصد به فلسفته هو، محاجِجًا بأن المذاهب الفلسفية الأولى لا تعبِّر إلا عن المجرَّدات، في حين أن المذاهب المتأخرة تمثل الأفكار العينية الأنضج. فالفلسفات التجريدية هي الفلسفات التي اتخذت عنصرًا واحدًا فقط موضوعًا لها بعدما عزلتْه عن باقي العناصر التي لها علاقة معه. وهنا نجد أن هيغل يتفق كثيرًا مع اسپينوزا الذي اعتبر أن الأفكار المجردة هي الأفكار التي عُزِلَتْ عن سياقها المناسب وأن التجريد هو الخطر الرئيسي على التفكير الفلسفي[6].

        الفلسفة بدأت مجردة، وستنتهي متعيِّنة، حيث إن المتعيِّن يحتوي المجرَّد بداخله؛ فكل ما هو موجود كان مجردًا تجريدًا محضًا قبل أن يصير متعينًا ومتجليًا. وهو ما عبَّر عنه هيغل في فلسفة المنطق بما مُفاده أن التعيُّن يعكس الكمال. ولكن كيف تتم عملية الانعكاس المنطقية هذه؟

        يجيب هيغل أن هذه العملية تحدث عن طريق منطق الفكر، الذي يظهر في عمل الديالكتيكا وفي آلياتها[7]، جاعلاً مقولاتِه موازيةً لتطور الفلسفة في تاريخها إلى غاية فلسفته التي تعبِّر عن نهايتها وعن نهاية المنطق في الوقت نفسه. على أن كلَّ مقولة تلخِّص مذهبًا فلسفيًّا معينًا تعكس ما توصَّل إليه الفكرُ الفلسفي في مرحلة تاريخية معينة[8]. وهذا يشير إلى أن المنطق الهيغلي يبدأ من حيث بدأ التاريخ الفعلي للفلسفة، مع العلم أن هيغل سبق له أن أعلن أن التاريخ الفلسفي الصحيح يبدأ مع المدرسة الإيلية الإغريقية التي بَنَتْ فلسفتَها على أساس مقولة الوجود، ممثِّلةً بذلك أولى المقولات التي بدأ بها المنطق. وعلى الرغم من هذا التأسيس الإيلي للفلسفة، إلا أنها بقيت في نظر هيغل فلسفة مجردة تحتَّم عليها أن تخضع لقانون تطور الفكر عندما دفعت إلى ظهور نقيضها الفلسفي والمنطقي الذي يتبدى في الفلسفة العدمية، التي خصَّ بها هيغل البوذية والفيثاغورية. بناءً على هذا الترتيب، أصبحت هذه الفلسفة أنضج مقارنةً بالإيلية وفق قانون المنطق، لتصير العدمية المقولة الثانية في المنطق الهيغلي. فظهورها هذا ما هو إلا دليل على تقدُّم الفكر الفلسفي في طريقه الصحيح، ليصل إلى المرحلة الأنضج في الفلسفة اليونانية مع هيراقليطس الذي أبدع فلسفة الوجود والعدم، جامعًا بين المذهبين، المجرد والعدمي، اللذين ظهرا قبله، جاعلاً من فلسفته نتيجةً منطقيةً لهذا الجدل الفلسفي، متشكِّلةً من أفضل ما توصَّل إليه كلٌّ من الإيلية، من جهة، والفيثاغورية والبوذية، من جهة أخرى. فمن خلالها، واصل الفكرُ الفلسفي تطوره المستمر، حتى بلغ قمة التطور والنضج عندما اتخذ المطلق موضوعًا له في فلسفته هو.

        بهذه النهاية العظيمة اكتمل بناءُ المنطق الفلسفي وأُسدِلَ ستارُ الفلسفة؛ فلا توجد حاجة لبقائها بعد هيغل، لأن ما كان مطلوبًا منها أن تفعله في تاريخها قد أنجزتْه الآن: بها صار المنطق مطلقًا والمطلق منطقًا في الفكرة الشاملة. ومعنى هذا أن الهيغلية هي آخر الفلسفات وأكثرها تطورًا وتعبيرًا عن النهاية السعيدة، كمرآة ينعكس عليها تاريخُ الفلسفة برمَّتها.

        في ضوء هذا الطرح، لا يمكن فهم الحاضر إلا على أنه القمة التي توصَّل إليها تطورُ الماضي. وهذه النظرة تعيد طبعًا الاعتزاز بماضي الفلسفة وبدوره الفعال في تحديد مستقبل الفلسفة العالمية، بخلاف ما ذهب إليه ديكارت حينما ضرب بالأفكار الماضوية عرض الحائط بوصفها بالية وقديمة. بهذا المعنى، اعتقد هيغل أن فلسفته هي الحق الخالد الأبدي: إنها الحقيقة لا لليوم وللغد فقط، بل للزمان كلِّه، تتجاوز حدوده وتعلو عليه. صحيح أن الصورة المادية الجسمية لهؤلاء الفلاسفة ووجودهم الزماني وحياتهم الخارجية قد ذهبت إلى غير رجعة، لكن أفكارهم ما تزال خالدة بخلود المطلق بعدما ساهمت في معرفته.

        إن التصورات الهيغلية للفلسفة هذه توضِّح لنا في صدق أن هيغل قد وصل بالفلسفة إلى مرحلة الشيخوخة الحكيمة عندما تمكَّنت من معرفة المطلق. فإذا كانت الفلسفة في عمومها تتلخَّص بهذا المفهوم، فما مصيرها بعد هيغل؟ وما هو مبرِّر وجودها؟ وماذا ترك هيغل للفلاسفة أن يضيفوه لها؟

        يقر هيغل في فينومينولوجيا الروح أن الفلسفة عادت أخيرًا مكتفيةً بذاتها[9]، وأن لا فائدة من المحاولات الفلسفية القادمة إلا إذا كانت من باب "الترويح" كحاجة عقلية. فكل ما في الأمر أنها أصبحت عقيمة، غير قادرة على الإنجاب ولا على أن تضيف شيئًا للتاريخ أو للإنسانية؛ بل لا يوجد ما ستضيفه لنفسها أصلاً، لأن شرايين الفكر فيها توقفت عن العمل. وعقمها هذا لا يعني موتها أو نهايتها، لأن ما هو خالد لا يموت ولا ينتهي. الفلسفة خالدة سرمدية، تظهر في الأجواء الاحتفالية الديونيسية وتختفي دون أن يعلم أحد مكان اختفائها. حضورها ضروري لحضور العقل قي الوجود، لأن الوجود دون عقل لا يطاق. فالفلاسفة الذين سيأتون بعده لا خيار لهم سوى أن يرقصوا وينشدوا في رحاب الفناء الهيغلي الواسع، لأن معظمهم تقريبًا اعترف بهذه الحقيقة المرة، بمن فيهم فوكو – إلا في حالة واحدة، وهي أن مفهوم الفلسفة بعد هيغل قد تغيَّر وخرج عن حقيقته التاريخية، فصار ينمو خارج الهيغلية، يبحث في اللاحقيقة وفي المتناهي، في الفاسد وفي الوهم. فقد استطاعت الفلسفة أن تعوِّض عن مفاهيمها القديمة بمفاهيم جديدة تتناسب وتغيراتها، لعلها تبرِّر بذلك استمرارها الصحيح – وهو ما حدث فعلاً، لكن بصفة مملَّة وغير مقنعة. وربما كان هذا ما دفع بالكثيرين إلى تملُّق هذه التغيرات الجديدة التي تثير الحياء، مثلما حدث لجيل دولوز وفليكس غتاري اللذين بحثا من جديد عن مفهوم الفلسفة، وعمرها أكثر من ألفين وستمائة عام. فما الذي حصل لهما؟

        الذي حصل لهما هو أنهما وجدا أن الفلسفة أُصيبت بمرض العقم والوهن الذي لا علاج له، لأن الفلسفة المعاصرة باتت غير ولودة. لذا نراها في عصرنا تتبنَّى ما تلده العلومُ الأخرى، وتتلقَّف كلَّ ما تنتجه هذه العلومُ لتقتات عليه، سواء العلوم الاجتماعية والنفسانية أو الأنثروپولوجيا والأرخيولوجيا أو علم اللغة، ومؤخرًا الأدب بجميع ألوانه. وربما كان هذا أيضًا ما دفع بفوكو لأن يصرِّح بالتصريح السابق ذكره بعدما أنكره الكثيرون.

        *** *** ***



        horizontal rule

        [1] أستاذ في جامعة تلمسان، الجزائر.

        [2] راجع مادة "هيغل والهيغلية" في "القاموس الفلسفي"، معابر. (المحرِّر)

        [3] راجع: هيغل، محاضرات في تاريخ الفلسفة، بترجمة وتقديم خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية، بيروت، 2002.

        [4] راجع: هيجل، موسوعة العلوم الفلسفية، بترجمة وتقديم إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير، بيروت، مج 1: 2005.

        [5] هيجل، موسوعة العلوم الفلسفية، بترجمة وتقديم إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة، مج 2: 1998، ص 191.

        [6] هيجل، تاريخ الفلسفة، بترجمة إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة، مج 3: 1997، ص 188.

        [7] راجع مادة "الديالكتيكا" في "القاموس الفلسفي"، معابر. (المحرِّر)

        [8] المصدر نفسه، ص 222.

        [9] هيغل، فينومينولوجيا الروح، بترجمة وتقديم ناجي العونلي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط 1: 2006، ص 44
        في كل يوم يصلب الانسان الف مرة ومرة ويصلب الوطن على طريق الجلجلة يسير شعب يحمل المسمار والصليب لانه يعيش في موطنه الحنون كالغريب وزهرة الخلاص في يديه مقصلة وسائر على طريق الجلجلة قد كللته المحنة السوداء بالسواد ومزقته اربا رصاصة الاحقاد
        أنا لا أحد وأنت،من تكون؟هل أنت أيضاً لا أحد وإذاً فثمة إثنان منا، إياك أن تخبرأحدا!وإلاألقوا بنا في المنفى
        وراء كل فوضى واشنطن وتل أبيب

        Comment


        • #5
          التراث الصوفي العربي


          وتحسبُ أنك جرمٌ صغيرُ وفيكَ انطَوى العالمُ الأكبرُ

          التراث الصوفي العربي





          هل زماننا اليوم هو غير زمان قائل البيت السابق الذي أدرك أن الإنسان، جسماً وروحاً، ينطوي على أسرار الكون في أدق تفاصيله – ومن هنا أهمية وجوده وحياته وكل اختباراته؟!

          إن زماننا – زمن العلم والمعلومات التي تنهال علينا في المدارس والجامعات والكتب والإذاعات والتلفزيونات والإنترنت، زمن التكنولوجيا في قمة سطوتها المستبدَّة – لم يعطِ إنسان هذا العصر أي اطمئنان إلى معنى وجوده. لذا فإن سعادته "سعادة" آلية، والسؤال عن معنى الحياة ما يزال ملحاً.

          حتى الدِّين لم يقدِّم جواباً مقنعاً لأن إنسان الدين إنسان "خاطئ"، وُلِد في الخطيئة، وحياته ليست إلا فرصة للتكفير عن تلك الخطيئة – مع ما يقال في اللاهوت المسيحي من أن المسيح أتى وحمل عن الجنس البشري كل خطاياه، وبيَّن بأن "الثوب الجديد لا يُرقَّع بقطعة من قماش قديم". والله، خالق البشر أجمعين، يقف للعُصاة بالمرصاد ليلقى بهم في نار جهنم، رغم أنه، على ما يقول الدين الحنيف، رحمن رحيم، غفار ودود.

          أمام هذا التناقض في مفهوم الحياة ومعناها، وفي علاقة الإنسان بالإنسان وفي علاقته بالخالق، وأمام شعوره بالعزلة وبعدم جدوى الحياة في أحيان كثيرة، نشأ علم النفس الذي حاول التوصُّل إلى حلول تزيل أوجاع النفس وتُدخِل إليها الاطمئنان، ونجح بعض الشيء في التخفيف من أعراض القلق والكآبة والحصر بالتحليل من جهة، وبالعقاقير المهدِّئة من جهة ثانية. لكن محاولات العلم في مختلف ميادينه بقيت سطحية المفعول، غير شاملة.

          ظل الأمر كذلك حتى بدأت بواكير الحكمة المشرقية الآتية من الهند تدقُّ أبواب الغرب، حاملة خبرات روحية ألوفية، وعبر هذه الخبرات، إجاباتٍ واضحة وجذرية على أسئلة إنسان هذا الزمان. يقول حضرة عناية خان، الصوفي الهندي الكبير الذي كان أول من نقل مبادئ التصوُّف إلى الغرب، إن في الشرق ثلاث مدارس باطنية الجذور تحمل مفاتيح معرفة أسرار الكون والوجود والغاية منه: المدرسة الفيدنتية التي تعتمد أسفار الأوبنشاد، والمدرسة البوذية، والمدرسة الصوفية.

          تقوم على سلسلة "حلقة الدراسات الهندية" مجموعة من السنسكريتيين اللبنانيين، بإشراف الحكيم الهندي سوامي تشيدانندا، بهدف تعريف القارئ العربي، بعيداً عن أية متاجرة رخيصة، بالتراث الروحي للهند الذي يكاد هذا القارئ يجهل كل شيء عنه. فالهدف ليس على الإطلاق تبشير المسلمين والمسيحيين في العالم العربي بمعتقدات جديدة، بل المساهمة المتواضعة في فتح الأذهان والتشجيع على التقصِّي الشخصي بالتَّماس مع أشكال أخرى غنية من الروحانية لم يألفوها بالضرورة.

          ولماذا الهند؟

          لأن القائمين على هذه السلسلة رأوا أن البوذية والهندوسية لا تستدعيان إعمال العقل والمنطق وحسب، بل القلب والتسامح أيضاً، وبخاصة الحدس الروحي الحي بإتاحة الوسائل المناسبة لبلوغه هنا والآن.

          إن التعصب والعنف لا يمرحان إلا في جوٍّ من الجهل أو التجاهل أو إلغاء "الآخر"، بينما التربية، التي تقود إلى الحوار بين الثقافات والأديان، هي الوسيلة الأكيدة، وربما الوحيدة، لتحرير العقول من التزمُّت الديني والانتماء الطائفي الأعمى. وفي الشرق الأدنى ليس التعصب حكراً على طائفة دون أخرى؛ إنه نتاج حلقة مفرغة من الأفعال وردود الأفعال لا تختلف إلا في طريقة تعبيرها (العدوانية والتبشيرية، الخوف والانغلاق، أو مزيج من الموقفين). ولقد بيَّنت الخبرة المتراكمة من جراء تعليم المعرفة والرياضات التي أثمرت عنها روحانية الهند لآلاف من المسلمين والمسيحيين والدروز إبان سنوات الحرب الأهلية اللبنانية أن الانفتاح على "ما يتعدى الحرف" هو الأرضية الصحية التي من شأنها أن تيسر للإنسان استعادة إنسانيَّته.

          فمنذ "الفتح" الإسلامي للهند، باستثناء بضعة مؤلفات تشتمل على هاجس معرفة "الآخر" (من نحو تحقيق ما للهند لأبي الريحان البيروني ومجمع البحرين لدارا شيكوه بن شاه جهان)، لم يُكتَب عملياً شيء بالعربية عن روحانية الشرقين الأوسط والأقصى؛ حتى إن الأمر وصل ببعض أساتذة الجامعة اللبنانيين إلى الظن أن الهند تدين بالبوذية! وهؤلاء يعترفون، على حدة، بأنهم "لا يعرفون الكثير"، لكنهم متأكدون أن لدى البوذيين نظام مراتب وأنهم يعبدون البقرة!

          لقد تبيَّن للقائمين على "حلقة الدراسات الهندية"، مثل روبير كفوري وجورج حلو وريما صعب، أن هذا الجهل المرعب ناجم حصراً عن غياب ترجمات للنصوص الأساسية للتراث الروحي للهند. لذا فقد عكفوا، منذ سنوات، على النهوض بعملية التعريف والترجمة بهذا التراث الغني. والمؤلفات التي أعدوها للنشر ونُشِر بعضُها فعلاً (راجع المصادر) هي:

          1. الحكمة الهندوسية: المدارس الفلسفية والمعتقدات ونصوص مختارة وسِيَر حكماء.

          2. الحكمة البوذية: حياة البوذا وتعاليمه، مع ترجمة للـدْهَـمَّـبَـدا ومختارات من الـبِـتَـاكا.

          3. الأوبنشاد.

          4. البْـهَـغَـفَـدغيتا.

          5. يوغا سوترا بَـتَـنْـجَلي، مع شروح سوامي تشيدانندا عليها.

          6. شنكراتشاريا: حياته وتعاليمه مع ترجمة للـأتمابودها.

          7. شيفاسمهيتا.

          8. بحثاً عن الله، لرامداس، مع مختارات من تعاليمه.

          9. هكذا تكلم...: رامَنا مهارشي، شيفانندا، تشيدانندا.

          10. مقترب عملي إلى الإله لتشندرا سوامي (ترجمه إلى الفرنسية المرحوم إيفان أمار).

          فما هي نظرة تلك المدارس إلى "الإنسان" المبثوثة في الكتب السابقة؟

          تقول العلوم الباطنية إن الجسم المادي للإنسان، ذا الذبذبات الكثيفة، هو جزء من كلٍّ يشتمل على "مركبات" vehicles أخرى ذبذبية التكوين: الجسم الأثيري etheric double، أو جسم الصحة، ومنه تمتد الهالة aura خارج الجسم المادي؛ الجسم النجمي astral body، جسم المشاعر والعواطف؛ الجسم العقلي mental body، جسم الفكر والذكاء؛ المبدأ الإشراقي buddhi، ومقرُّه "القلب"، محل المعرفة والإشراق الروحي؛ وأخيراً الروح. وهذا الكلُّ هو الذي يؤلِّف وحدة الإنسان، بما هو كون صغير. فكيف ذلك؟

          تتحدث الـبرهادأرنيكا أوبنشاد – أحد كتب الفيدنتا – عن عناصر التكوين التي تشمل كلِّية سيرورة الخلق. يقول الحكيم كرشنانندا، في معرض شرحه بالإنكليزية على النص السنسكريتي المترجَم، إن الكون والإنسان مكوَّنان من خمسة عناصر هي: التراب والماء والهواء والنار والأثير، وإن الفضاء الذي تقتضيه سيرورة الخلق هو الذي يفرِّق بين المخلوقات، يفرِّق بين أجسام الناس، ويفصل الفرد عن باقي الكون ويجعله يشعر بالعزلة. وذلك الشعور ناتج عن عملية انفصال الفرد عن المطلق.

          فما هي العلاقة بين الفرد والمطلق؟

          في بدء التكوين، عندما لم يكن هناك فرق بين الرائي والمرئي، نظراً لغياب إمكان الوعي الخارجي من جراء انعدام حركة الحواس، لم يكن ثمة فرق بين المدرِك والمدرَك. إذن، لم يكن هناك وجود؛ وعملية خلق الكون لم تكن عملية تصنيع مادة جديدة. هذه العملية لم تكن إلا امتداداً خارجياً لمطلق غير قابل للانقسام. المسبِّب كان من صلب السبب؛ والذي فرَّق السبب عن المسبِّب حالة خاصة من الوعي حصلت داخل المسبِّب. وهكذا افترق المسبِّب عن السبب، ونشأت البذرة الأولى للتنوُّع والامتداد من خلال التكاثر، واللون، والصوت، إلخ. عملية الانقسام الذاتي تلك، التي تقضي على وحدة الذي لا ينقسم، وتعزل الواحد عن الآخر، تتسبب في نشوء حالة "جوع" إلى الانضمام والعودة للاتحاد بالوعي أو بالأصل.

          تقول الحكمة الهندوسية – مثلما جاء في إنجيل يوحنا – إن "الكلمة" في البدء كان عبارة عن ذبذبات تكثَّفت، وتشكَّلت، وتجسَّمت، وتلك الذبذبات الأصلية هي مصدر الكون بكل ما فيه. وأصغر هذه التشكُّلات هي الذرة المؤلَّفة من نواة مركزية وفراغ وقسيمات دون ذرية، تنتظمها حقول من الطاقة، وتتحول جزئياً إلى طاقة لدى تفكُّكها. ولقد أظهرت الفيزياء الكوانتية أن القسيمات دون الذرية لا تتصف بأية خاصية منعزلة، لكنها تُفهَم بوصفها روابط بين قوى وطاقات، ولا توجد إلا عند تدخُّل أدوات الرصد والقياس. الميكانيكا الكوانتية تبرِز إذن الوحدة الأساسية للكون وللوجود. إذ إنه لدى اختراق المادة، تظهر شبكة معقَّدة من الروابط بين الأجزاء المتنوِّعة للكل الواحد غير المنقسم.

          ونموذج الذرة، بنواتها المركزية والقسيمات ما دون الذرية، يتكرر في معظم أشكال الوجود. فالخلية cell تتبع النموذج نفسه؛ والجسم بأكمله، ونواته القلب كذلك، إلى المجموعة الشمسية التي تدور كواكبها حول الشمس–النواة، إلى البناء الهرمي للمجتمع ونواته الحاكم؛ وحتى في مجتمع الحشرات الاجتماعية، كالنمل والنحل، هناك الملكة–النواة.

          والمادة في الكون ليست صماء مطلقاً، بل هي في تذبذب ورقص دائمين، تماماً كما في خلايا الأنسجة في العضويات الحية، وفي حركة الكواكب ضمن المجموعات الشمسية، ما نعرف منها وما لا نعرف بعد.

          والإنسان كون صغير لأن أعضاء جسمه شبكة واحدة كثيرة الأجزاء، تمثل كل ما في الكون، ابتداءً من المجرات، وانتهاءً بحالة الوعي الكوني، الشامل، الذي "ينام" داخل كل منا، إلى أن يستفيق.

          على صعيد آخر، تخبرنا العلوم الباطنية أن الجهاز العصبي يمثل القوى الكهرمغناطيسية في الكون. فالقلب صورة مكثفة عن الشمس، مصدر الحياة وقلب الوجود النابض الذي يتوسط نظامنا الشمسي. والقلب البشري ينبض بإيقاع قلب الشمس ذاته، وهو على اتصال معنوي بالقلب الباطني للكرة الأرضية الذي تقول مصادر الحكمة القديمة إنه موجود فعلاً في مكان ما من جبال الهملايا.

          والجسم أيضاً على اتصال دائم بالطاقة الكونية (برانا prana)، وهو يستمدها مع النَفَس ومن اليخضور (=الكلوروفيل) النباتي، لكنها ليست الهواء، ولا الماء، ولا الكلوروفيل.

          ثم نأتي إلى الذاكرة البشرية العادية التي تنتهي بالـأكاشا akasha، أو "الذاكرة الكونية" التي تتكلم عليها العلوم الباطنية. وهذه الذاكرة تحوي تاريخ الكون والأرض والإنسان منذ البدء الأول؛ وهي ما يصطلح التصوُّف الإسلامي، ممثلاً بابن عربي، على تسميته بـ"اللوح المحفوظ". ذاكرة الإنسان موجودة أيضاً في "مركباته" الباطنية التي تحتفظ العليا منها بسجل أعماره الماضية جميعاً. وبما أنها ذبذبية القوام، فإنها أساساً تضطلع بوظيفة الوعي. وذاكرة وعي الظاهر امتداد لذاكرة وعي الباطن، وتلك الذاكرة جزء محدود من الذاكرة الكونية. وجملة هذه الذاكرات على ارتباط وثيق، وعلاقتها بعضها ببعض علاقة الجزء بالكل. والذاكرة نافذة يطل منها المرء على العالم المكنون في كيانه، أي على المعرفة الهاجعة في دخيلة ذاته. ومن هذه ينطلق التطور الذاتي ليبلغ المعرفة في كلِّيتها. من هنا قول أفلاطون إن "المعرفة تذكُّر". فالذاكرة البشرية صورة للـأكاشا" أو الذاكرة الكونية.

          تقول الفلسفة الهندوسية إن المعرفة كامنة في وعي الإنسان، وإلا لما استطاع معرفة الكون وأسراره؛ حتى إنها ذهبت حتى القول إن الفسيولوجيا البشرية تحتوي على كل القدرة التنظيمية غير المحدودة للطبيعة. ذاك ما يشرحه د. طوني ناضر، الاختصاصي في الطب العصبي، قائلاً إن جوهر كتب الفيدا والأوبنشاد موجود داخل تركيبة دماغ الإنسان. كذلك كواكب مجموعتنا الشمسية بكواكبها والأبراج الإثني عشر. وما أدرانا إن كانت تركيبة الـDNA لا تنطوي على نظام الكواكب والأبراج. ويلخص د. ناضر دراسته الشائقة بقوله إن ثمة حقل وعي واحد: فالجسم هو تكثيف للعقل، والمادة هي الذكاء، والفسيولوجيا – أي علم وظائف الأعضاء – هي عينها علم الوعي.

          الإنسان، إذن، كون صغير، خلية من خلايا الكون الكبير بكل ما فيه، وهو يحيا مغامرة الحياة الرائعة بكل ما فيها من تنوع. إنه جزء من كل، تربط المحبة أجزاءه بعضها ببعض، مثلما تربطه بالوجود بأسره. لكن هذا الكون الصغير يتألم لأنه لا يدرك وحدته مع الوجود ولا يعي المعرفة الكامنة في داخله. ولأنه كون صغير فهو يتفاعل ويتأثر بالكون الكبير ويؤثر فيه؛ وبما أنه على سفر دائم داخل نظام كوني عادل لا يخطئ بتاتاً، فإنه، إذا أثَّر في النظام سلباً وتسبَّب بخلل ناجم من فكر أو قول أو فعل، مهما كان بسيطاً، فعليه أن يدفع الثمن. أما إذا كان في تناغم مع النظام فإنه يتمتع بكل إيجابياته. لكن لِمَ هذا السفر، ومن قرَّره، وما الغاية منه؟ هذا ما سوف نحاول تقديم إجابة مختصرة عليه، مستلهمين مصادر الحكمة الهندية التي تتكلم على الغاية من الوجود ومبدأ كارما karma، قانون الفعل وردِّ الفعل.

          إن الإنسان – ذلك الكون الصغير المسافر ضمن الكون الكبير والذي يملك كل صفاته لأنه خلية منه –، هذا الكون الصغير يتفاعل مع الكون الكبير ويؤثر فيه. فمن قرَّر هذا السفر؟ وما الغاية منه؟ وما هي شروطه؟

          إن "لعبة الفكر" هي التي تقودنا إلى طرح أسئلة مثل: لِمَ تمَّت عملية الخلق؟

          تقدم الأوبنشاد الهندوسية تفسيرات عدة لعِلَّة عملية الخلق، فتقول، مثلاً، إن الكون، بكل ما فيه، "لعبة" lila الخالق، وتقول إن الغاية من الخلق هي الامتداد والنماء. خارج لعبة الفكر لا ينطرح هذا السؤال، إذ الكون موجود وحسب. إنما في الـبرهاد أرنيكا أوبنشاد، نجد جواباً مفاده أن الخالق أراد أن تكون له "ذات" ثانية. والذات الثانية هي هذا الكون الذي لا يتمتع بكل صفات المطلق، إلا أنه الذات.

          تذكر نصوص الفيدنتا ثلاثة أنواع من "الذات": الذات الأولية، وهي عينها في الكل، لا تختلف من شخص لآخر، وتدعى "الذات المطلقة"؛ الذات الثانية متعلقة بفردية الشخص، وكل ما تحبه هو أيضاً "ذات". حركة الذات باتجاه "الآخر" تصير سبباً للتعاطف معه. لذا عندما نحب الآخر نحب ذاتنا ولا شيء آخر. من هنا فإن كل أنواع الحب هي، في العمق، "الذات الكبرى". أما الذات الثالثة فهي الجسد الذي يُعتبَر ذاتاً مرحلية هدفها التطور من خلال اختيار الحياة المحكومة بالقانون الكوني – مبدأ الفعل وردِّ الفعل الذي يصون خير الخليقة.

          الخالق هو الكل في الكل. تشرح هذا القول "حلقة الدراسات الهندية" في كتابها سرُّ النجاح في ممارسة اليوغا – والقول لشونيناتا: "يتفق المتديِّنون والصوفية على القول بأن الله باسط كلِّي الوجود. وهذا يعني أن الله أو البرهمن هو الأساس الأول للخلق، وما الخليقة سوى تعبير أكثف عنه، كالماء الذي هو التعبير الأكثف عن البخار. وهذا يعني أيضاً أن كل ما يُدرَك هو الله. كل أزواج الأضداد في الله، الخير والشر، النهار والليل، كلها تعبيرات عن الوعي الواحد الأحد اللاثنائي."

          ويقول الحكيم شنكرا: "ليس الله سبباً من الأسباب المكوِّنة للعالم، بل هو السبب الأوحد والعِلَّة الأصلية. إنه القاعدة الأساسية للأشياء. الله هو البرهمن الذي منه تنبثق الكائنات، وبه تبقى بعد أن تنبثق، وفيه تتوارى في النهاية."

          السفر في الحياة، إذن، انطلاق من الذات الكبرى، ثم العودة إلى نقطة الانطلاق. ومن بين كل المخلوقات، وحده الجنس البشري حائز على ملكة "العقل" والقدرة على التمييز، ومؤهل للعودة إلى المصدر عن سابق وعي وتصميم. وطريق العودة، طريق الارتقاء نحو الهدف الأسمى، يرافقها توق إلى الخلاص من شوائب الحياة الجسدية. وللطريق قانون: كارما، قانون الفعل وردِّ الفعل. النفس، وفقاً لهذا القانون، تحصد عواقب أعمالها، سلباً أو إيجاباً. وثمة رأيان مختلفان في مصدر قانون "العمل" أو كارما. كتاب الـميمانسا الذي يحلل قانون العمل ويقول بأن هذا القانون يعمل بذاته. وتجيب كتب الفيدنتا عن ذلك القول بأن القانون "العاطل" يتطلب وجود مدبِّر ذكي لعمليَّاته، لأنه مبدأ العدالة الذي يساوي ويلائم بين الأفعال والاستحقاقات. واضع قانون العدالة هو الله، وهو القانون، هو الساكن المقيم في دخائل النفوس، يوجِّهها لتتحرر وتترقَّى في مسيرة تطور نحو العودة إلى المصدر.

          تقول الحكمة الهندوسية إن فعل العمل يولد حالة خاصة لكل نفس، ومصيراً خاصاً. فإن لم يتحقق ذلك المصير في العمر الراهن، فسوف يتحقق في نهاية سلسلة طويلة من الأعمار المتعاقبة لأن انحلال الجسد لا يؤدي إلى انحلال النفس التي تبقى أسيرة ما صدر عنها من أعمال، حسنة أو سيئة، فتمرُّ بولادات متتالية، تحصد إبانها ثمار أفعالها السابقة. تعود النفس مجدداً مادامت لم تحصل على الصفاء والانعتاق من مجال كارما من خلال المعرفة.

          الوجود الكوني ذبذبي التكوين، مترابط بذبذباته ومتأثر بكل ما يصدر عن الكل. والإنسان يؤثر بفكره وقوله وفعله الصادر عنه. لذا تحتاج عملية التطور والتحرر من العودة إلى أعمار متتابعة من أجل وعي تلك الحقيقة، حتى يستطيع التخلص من سلبياته التي تشدُّه إلى المادة وتبعده عن الهدف المنشود الذي هو العودة إلى المصدر. الحكمة الهندوسية تختصر طريق العودة ذاك عبر الزهد بكل أشياء الحياة المادية وعدم التعلُّق بها. وتبقى أسئلة كثيرة من دون إجابات واضحة: لِمَ يتوق الإنسان عندما يختبر الوجود المادي إلى العودة إلى الوجود غير المادي؟

          وعندما تختبر نفسُه عالم الروح، عالم الذبذبات اللطيفة، يعصف بها الحنين للعودة إلى عالم المادة.

          أم أنه لا يعصف؟

          من يدري؟

          من يدرك سرَّ تلك "اللعبة" الرائعة الكاملة غير المكوِّن، الرحمن، الكلِّي الوجود؟

          *** *** ***
          المصادر

          - Brihad Aranyaka Upanishad, Swami Krishnananda, New Delhi, 1984.

          - Human Physiology Expression.

          - Veda and the Vedic Literature.

          - The Inner Life, Hazrat Inayat Khan, Shambhala Publications, Boston, 1996.

          منشورات حلقة الدراسات الهندية بإشراف جورج حلو وريما صعب وروبير كفوري:

          - معرفة الذات، للحكيم شنكرا، نوفل، بيروت، 1997.

          - الحكمة الهندوسية، نوفل، بيروت، 1998.

          - اليوغا الفكري والحكم اليوغية، لبتنجلي، نوفل، بيروت، 1998.

          - هكذا تكلم الحكماء: سر النجاح في ممارسة اليوغا، نوفل، بيروت، 1999.
          في كل يوم يصلب الانسان الف مرة ومرة ويصلب الوطن على طريق الجلجلة يسير شعب يحمل المسمار والصليب لانه يعيش في موطنه الحنون كالغريب وزهرة الخلاص في يديه مقصلة وسائر على طريق الجلجلة قد كللته المحنة السوداء بالسواد ومزقته اربا رصاصة الاحقاد
          أنا لا أحد وأنت،من تكون؟هل أنت أيضاً لا أحد وإذاً فثمة إثنان منا، إياك أن تخبرأحدا!وإلاألقوا بنا في المنفى
          وراء كل فوضى واشنطن وتل أبيب

          Comment


          • #6
            ما هو الانسان الاعلى ؟

            إذن ما هو الإنسان الأعلى؟


            نادر أبازيد



            مفهوم "الإنسان الأعلى" في الفلسفة كان على الدوام مفهومًا مجازيًّا، استُخدِمَ للدلالة على إنسان يمتلك قدرات روحية وبدنية خارقة تفوق ما لباقي البشر. وبهذا اتخذ مفهوم "الإنسان الأعلى" صورًا مختلفة: فهو إما زعيم سياسي مطلق السلطة، متحرِّر من القيود الأخلاقية (من نمط "أمير" ماكيافيلِّي)؛ وإما فنان عبقري، بل وساحر مشعوذ، كما هي حال فاوست عند فلاسفة المرحلة الألمانية الكلاسيكية (غوته)؛ وإما هو المسيح ذاته أو القديسون في المسيحية؛ أو هو البطل الأسطوري في ميثولوجيا الحضارات المختلفة.

            غير أن مفهوم "الإنسان الأعلى" بلغ أوج شهرته عند فريدريك نيتشه، حيث يشكِّل هذا المفهوم أحد الركائز الأساسية لفلسفته. فمفهوم "الإنسان الأعلى" عنده يرتبط بالتحرر الكامل للإنسان من الأخلاق والأديان، وحتى من كافة الأفكار الفلسفية السابقة – الأمر الذي يؤدي، بحسب نيتشه، إلى تحرير القوى اللاعقلانية في الإنسان؛ الأمر الذي يستوجب، بدوره، ما سمَّاه نيتشه بـ"قتل الإله" أو قتل الرب. لذا دعا نيتشه إلى القيام بأفعال خارجة عن نطاق الأخلاق للحصول على" التحرر الكامل". وهذا ما يفسر قيام أتباعه من بعده باجتراح ما سُمِّيَ بـ"الجريمة الكاملة".

            إلا أن ما نلاحظه من كتابات نيتشه هو أن صورة "الإنسان الأعلى" لم تكتمل عنده إلى النهاية – الأمر الذي دفع العديد من الفلاسفة، مثل فوكو وهايدغر، إلى وضع تصورات عن هذا "الإنسان الأعلى". وهذا بالضبط ما سأحاول طرحه؛ أي سأحاول، من خلال نيتشه، أن أبرهن أن "الإنسان الأعلى" سوف يتصف بصفة محددة واضحة، لا مجال للإنسان أن يكون إنسانًا أعلى من دون أن يكتسبها. وليتحلَّ القارئ بالصبر.

            إن الإنسان، من بين كلِّ الكائنات الحية الموجودة على سطح الأرض، يستطيع أن ينظر إلى نفسه نظرة نقدية؛ ليس بمعنى أن ينظر إلى نفسه نظرة عدم رضى تجاه فعل أو حالة معينة تعتريه (إذ إن الحيوانات هي الأخرى تتمتع بذلك)، وليس بمعنى شعور الاكتئاب (الذي يشعر به الحيوان أيضًا)، بل بمعنى أن ينظر نظرة سلبية إلى كيانه، بل إلى طريقة وجوده كلِّها, فيرى أنها ليست الواقع الذي يجب أن تكون عليه. فالإنسان يحاكم نفسه دائمًا؛ وعندما يحاكم نفسه محاكمة عقلانية عادلة يدين نفسه ويستنكر ذاته، فيتوصل إلى حقيقة عدم كماله، بل ويستنتج أن عدم الكمال هذا ليس ضرورة خارجية، بل هو يتعلق بالإنسان نفسه: فهو قادر على تغيير واقعه.

            هناك، إذن، دافع طبيعي داخلي لدى الإنسان يجعله يرغب في الكمال اللامتناهي؛ إذ إن عنده رغبة طبيعية في أن يصير أفضل وأكبر مما هو عليه في الواقع، وأن يسعى نحو الغاية الأسمى: "الإنسان الأعلى".

            فإذا كان الإنسان يرغب حقًّا في بلوغ الإنسان الأعلى فهو يستطيع ذلك؛ وإذا كان يستطيع تحقيق ذلك فهو، إذن، واجب عليه. ولكن لنتساءل الآن: أليست فكرة أن يصبح الإنسان أفضل مما هو عليه هو مجرد هذيان وهاجس مرضي ليست له علاقة بالواقع؟ نعم، إنها مجرد هذيان بالنسبة للحيوان؛ إذ إن الواقع، بالنسبة للحيوانات، هو ما يتحكَّم بالحيوان وما يُكوِّن الحيوان. أما الإنسان فحالة مختلفة. فعلى الرغم من أنه هو نفسه نتاج الواقع، إلا أنه يستطيع أن يؤثر في هذا الواقع من الداخل؛ وبالتالي، بطريقة أو بأخرى، واقعُ الإنسان هو ما يفعله هو نفسه.

            إن النمو الفسيولوجي للكائنات الحية تمَّ على الدوام عن طريق التطور التدريجي والانتقال من الشكل الفسيولوجي البسيط إلى المعقد، حتى بلغ درجة من التعقيد لا يمكن معها، للوهلة الأولى، معرفة أي رابط هناك بين الشكل الفسيولوجي لجسم ذي شكل فسيولوجي معقد والأجسام ذات الشكل الفسيولوجي الأبسط. فمثلاً، أي رابط يمكن أن نلحظ بين السمكة والحصان أو بين النخلة والفطر؟ وبالمقابل فإن النمو البسيكولوجي للكائنات الحية، على الأقل عند الحيوانات، تمَّ بنفس الطريقة السابقة. فلو افترضنا توقف النمو الفسيولوجي عند السمكة، مثلاً، فإنه لا يمكن الحديث عن أيِّ تطور أو نمو بسيكولوجي؛ إذ إنه من البديهي أن الشكل الفسيولوجي البسيط للسمكة لا يمكن أن يتسع لنمو بسيكولوجي لكائن ليس كالإنسان فحسب، وبل لكائن أقل تعقيدًا، كالكلب مثلاً. إذن فالنمو الفسيولوجي عند الحيوان هو شرط أساسي لنمو بسيكولوجي.

            غير أنه مع ظهور الإنسان، توصَّلنا إلى نوع من الكائنات الحية التي، من جراء تطورها النوعي عن غيرها من الكائنات، لا تحتاج لأيِّ تغيير كبير في بنيتها الفسيولوجية والبسيكولوجية. فهذا الكائن، مع احتفاظه بنفسه من دون أي تغيير، يستطيع أن يحقق مستويات لانهائية من التطور البسيكولوجي، تتراوح بين الإنسان البدائي الأشبه بالحيوان وبين أرقى عباقرة الفن والفكر. إن هذا التطور البسيكولوجي يؤثر طبعًا على المظهر الخارجي للإنسان؛ لكن هذا التغيُّر تافه، غير ذي أهمية من الناحية البيولوجية.

            قد يبدو الآن أن كمال الإنسان من الناحية العضوية يتعارض مع ما طرحتُه من حقيقة سعي الإنسان لأن يكون أكبر وأفضل من واقعه، أو – اختصارًا – لسعيه للوصول إلى "الإنسان الأعلى". الحقيقة أنه ليس هناك أيُّ تعارض؛ فهذا السعي يتعلق فقط بـالناحية الوظيفية للشكل الفسيولوجي والبسيكولوجي. أي أنه يمكننا، مثلاً، أن نكون غير راضين عن واقع ضعف حاسة البصر لدى الإنسان، ولكن ليس عن أن لدينا عينين اثنتين فقط؛ إذ إنه لكي نرى أفضل لا توجد حاجة للإنسان أن يغيِّر شكله الفسيولوجي، أو يغيِّر شكل العضو المسؤول عن البصر. فبالنسبة له ليس من الضروري أن تكون له عدة عيون، مثلاً، لأنه عن طريق العينين التي يملكهما يمكن لضعف البصر أن يُلغى عن طريق اختراع التليسكوب والميكروسكوب. فبنفس العينين اللتين يملكهما أمكن للإنسان رؤية أصغر الأشياء وأبعدها؛ وبنفس هاتين العينين التي يملكهما يمكنه بلا شك أن يصبح "الإنسان الأعلى" – في حين أن تزويد الذبابة بمائة عين لن يغيِّر من واقع أنها ذبابة ليس إلا. وهذا الوصف ينطبق على جسم الإنسان كلِّه؛ إذ إن الشكل الفسيولوجي والبسيكولوجي للإنسان لا يعيق، بأيِّ حال من الأحوال، تغلُّبه على نواقص واقعه كشكل فسيولوجي وبسيكولوجي، وارتقائه بهذا الواقع إلى واقع آخر يصبح فيه إنسانًا أعلى بالنسبة للشكل السابق.

            والعقبات التي يجب على الإنسان أن يتخطاها ليست فقط الناحية الوظيفية لأدائه، بل والظواهر التي تسيطر على الإنسان والتي غالبًا ما يعتبرها البشر ظواهر عادية وطبيعية أيضًا. وفي مقدمة هذه الظواهر "الموت".

            ففي واقع الإنسان ليس هناك شيء يجعله ينظر إلى نفسه نظرة نقدية أكثر من الموت. فالموت، كنهاية حتمية لوجود الإنسان، هو نفي له ككائن وقضاء عليه؛ بل إن الموت يجعل من حياته عبثًا لا معنى له. فالإنسان لا يمكنه، في أيِّ حال من الأحوال، أن يتعايش مع فكرة الموت كنهاية حتمية لوجوده. لذا فإن ما يجب أن يختلف به الإنسان الأعلى عن الإنسان العادي (الحالي القابل للموت) هو أنه سيهزم الموت كظاهرة تنفي وجوده. (للمناسبة فإن هذه الصفة بالذات هي الصفة التي كانت تميِّز البشر عن الآلهة في الميثولوجيا الإغريقية: فالآلهة خالدون والبشر ليسوا كذلك.)

            لذلك فإن الإنسان الأعلى هو حتمًا الإنسان الذي سيهزم الموت. بل إن هزيمة الموت كظاهرة تؤدي إلى القضاء على الأخلاق، وتحرر الإنسان منها إلى الأبد. وهذا هو الشيء الذي أفنى فريدريك نيتشه حياته في الدعوة إليه. إذ إن القضاء على الموت سوف يؤدي، بالضرورة، إلى زوال الأديان التي تشكل المنبر (الأهم) للأخلاق؛ إذ إنها عند ذاك تفقد مصداقيتها ولا تعود سوى ميثولوجيا مملة.

            وعلى الرغم من أن كلَّ الأنواع الحيوانية تخضع لظاهرة الموت، إلا أنها لا تصارع الموت كظاهرة؛ لذلك لا يمكنها أن تهزمه. وحده الإنسان هو الحيوان الذي لا يتعايش مع قابليته للموت؛ لذا فهو وحده المؤهل لهزيمته. الآن – منطقيًّا: إذا كان الموت يشكل ضرورة حتمية في الظروف الراهنة فمن قال إن هذه الظروف غير قابلة للتغيير؟

            المهمة صعبة، بلا شك، لكنها غير مستحيلة. فالظروف التي يخضع الإنسانُ ضمنها للموت معروفة علميًّا؛ لذا فإن تغيير هذه الظروف هو الحلُّ المنطقي للمعضلة.

            إن الإنجازات العلمية الأجدَّ في فكِّ الشيفرة الوراثية والاستنساخ تفتح آفاقًا واسعة، وعملية بالفعل، للقضاء على الموت – وإن مازالت في طور النظرية، وستظل باعتقادي كذلك حوالى خمسين سنة أخرى. إلا أن ما يبدو اليوم ضربًا من الخيال لا بدَّ أن يتحقق. فقبل مائة عام فقط كان الوصول إلى القمر يُعتبَر ضربًا من الجنون؛ أما اليوم فهو ليس إلا حقيقة عادية. (وما أكثر الأمثلة في التاريخ على مثل هذه التنبؤات التي تحققت!)

            المهم اليوم أن الإنسان قام بالخطوة الأولى نحو وصوله إلى "الإنسان الأعلى" والوصول إلى أعلى وأرقى تجلِّيات إرادة القوة. وأخيرًا لا يمكنني سوى التذكير بما قاله فريدريك نيتشه: "الإنسان ليس سوى مرحلة وسيطة، لا هدف لها سوى الوصول إلى الإنسان الأعلى."

            في كل يوم يصلب الانسان الف مرة ومرة ويصلب الوطن على طريق الجلجلة يسير شعب يحمل المسمار والصليب لانه يعيش في موطنه الحنون كالغريب وزهرة الخلاص في يديه مقصلة وسائر على طريق الجلجلة قد كللته المحنة السوداء بالسواد ومزقته اربا رصاصة الاحقاد
            أنا لا أحد وأنت،من تكون؟هل أنت أيضاً لا أحد وإذاً فثمة إثنان منا، إياك أن تخبرأحدا!وإلاألقوا بنا في المنفى
            وراء كل فوضى واشنطن وتل أبيب

            Comment


            • #7
              علم النفس التحليلي اطوار الحياة

              يُعتَبَرُ البحثُ في المشاكل المتعلِّقة بالمراحل التي يمرُّ بها الإنسان في نموِّه من أصعب المهام وأعقدها، لأنها تعني لا أقلَّ من نَشْرِ ما انطوتْ عليه صورةُ الحياة النفسية في كلِّيتها، من المهد إلى اللحد. وفي هذا النطاق الضيق من هذا المقال، لا يمكننا القيام بهذه المهمة إلا في الخطوط العريضة؛ وينبغي أن يكون مفهومًا تمامًا أننا لن نحاول وصف الحوادث النفسية في مختلف المراحل، بل سنقتصر بالأحرى على معالجة "مشاكل" بعينها، أي على الأشياء الصعبة التي تبعث على الشكِّ وتتسم بالغموض؛ باختصار، على المسائل التي تسمح لنا بأكثر من جواب، بل تسمح لنا بأجوبة هي عرضة للشكِّ على الدوام. ولهذا، سوف يكون لدينا الكثير مما يجب أن نضيف إليه علامة استفهام في أذهاننا. ولعل الأدهى من ذلك أن تكون لدينا أشياء ينبغي لنا التسليم بها عن إيمان، بينما ينبغي لنا أن نطلق لتخميناتنا العنان بين الفينة والأخرى.

              لو كانت الحياة النفسية مؤلَّفة من حوادث ظاهرة للعيان فقط – وهو الذي لم يزل عليه الحال في المستوى الابتدائي – إذن لاكتفينا باعتماد المذهب التجريبي اعتمادًا لا هوادة فيه. لكن الحياة النفسية عند الإنسان المتمدِّن باتت حافلة بالمشاكل إلى حدِّ أننا لم نعد نستطيع التفكير فيها إلا من صيغة المشاكل؛ ثم إن سياقاتنا النفسية باتت مكوَّنة من أفكار وشكوك واختبارات تكاد أن تكون جميعها غريبة تمامًا عن الإنسان البدائي وعقله الفطري الخافي [= اللاواعي]. إن نشوء الواعية هو ما ينبغي أن نردَّ إليه وجود المشاكل؛ إذ هي هبة مريبة وهبتْنا إياها المدنية. وما خَلْقُ الواعية في الإنسان سوى ابتعاده عن الفطرة، ومعارضته فطرته بنفسه. فالفطرة هي الطبيعة، وهي تسعى إلى تأييدها واستدامتها؛ أما الواعية فلا تُنشِد إلا الثقافة أو التنكُّر للطبيعة. وحتى حين نرجع إلى الطبيعة، بتأثير من حنين روسُّو، فإنما "نثقِّف" الطبيعة. ومادمنا غارقين في الطبيعة فنحن غير واعين ونعيش في أمان الفطرة التي لا تعرف المشاكل. كلُّ شيء فينا، مما لم يزل من الطبيعة، ينفر من المشاكل، لأنها تثير فينا من الشكوك ما لو استحكم لانعدم بإزائه اليقين ونهض احتمالٌ لتفرُّق السُّبُل. وحيثما تفرَّقتْ بنا السُّبُل أو تعددت، ابتعدنا عن هَدْي الفطرة ويقينها، وأسلمنا أنفسنا إلى الخوف. وعندئذٍ تصبح الواعية مدعوة إلى القيام بما كانت تقوم به الطبيعة دائمًا حيال أبنائها – أي إعطائنا القرار اليقين الذي لا يتطرق إليه شكٌّ أو التباس. وهنا ينتابنا خوف، هو من سمات بشريَّتنا نفسها، أن الواعية – وهي غنيمتنا البروميثية – لن تستطيع أن تحلَّ محلَّ الطبيعة في القيام بخدمتنا في نهاية الأمر.

              وهكذا تجذبنا المشاكل إلى حالة من اليتم والعزلة، حيث تتخلَّى عنَّا الطبيعة وتقودنا إلى الوعي. ليس أمامنا باب مفتوح آخر؛ وعندئذٍ نجدنا مضطرين إلى اتخاذ القرارات واعتماد الحلول، على حين كنَّا من قبلُ نَكِلُ أنفسَنا إلى الحوادث الطبيعية. ولذلك كانت كلُّ مشكلة تعترضنا تتيح لنا إمكانية اتساع الواعية، لكنها تضطرنا أيضًا إلى وداع خافية الطفولة وما كان يترتب عليها من ثقة في الطبيعة. هذا الاضطرار حقيقة نفسية لها من الأهمية ما جعل منها أحد التعاليم الأساسية الرمزية في الديانة المسيحية، وهي التضحية بالإنسان الطبيعي الصرف، أي بالكائن الساذج غير الواعي الذي بدأ حياته المأساوية بأكل التفاحة من الفردوس. إن سقوط الإنسان الذي ترويه التوراة يُظهِر انبثاقَ فجر الوعي على أنه لعنة. والحق أننا في هذا الضوء ننظر لأول مرة إلى كلِّ مشكلة تجبرنا على مزيد من الوعي وتُبعِدنا أكثر عن فردوس الطفولة غير الواعية. ما من واحد منَّا إلا ويحلو له التهرُّب من مشاكله؛ ولو أمكنه الامتناع عن ذِكرها لامتنع، بل لأنكر حتى وجودها. بودِّنا لو نجعل حياتنا بسيطة، أكيدة، سَلِسَة – ولهذا السبب عُدَّتْ المشاكل من المحرَّمات [= تابو]. وإننا نتخيَّر اليقين على الشكِّ، والنتائج على الاختبارات، حتى بدون أن نرى أن اليقين لا ينشأ إلا من الشكِّ، والنتائج إلا من الاختبارات. والحق أن التنكُّر المتحايل على المشكلة لا يورثنا القناعة، وإنما، على العكس، يتطلب منا وعيًا أكبر وأعلى يمنحنا اليقين والوضوح اللذين نحتاج إليهما.

              هذه المقدمة، على طولها، بَدَتْ لي ضرورية لكي نبيِّن طبيعة الموضوع الذي نتناوله. وعندما يتعيَّن علينا أن نعالج المشاكل، نجدنا مضطرين بالغريزة إلى رفض تجربة الطريق الذي يفضي بنا إلى الظلام أو الغموض. لا نريد أن نسمع إلا النتائج التي لا يشوبها التباس، ونريد أن ننسى تمامًا أن هذه النتائج لا يمكن حصولها إلا إذا أدلجنا في الظلام ثم خرجنا منه. ولكي ندلج في الظلام لا بدَّ لنا من أن نستجمع جميع قوى النور التي يتيحها لنا الوعي، أي أن نطلق العنان للتخمينات، كما سبق أن قلت. ذلك أننا في معالجتنا لمشاكل الحياة النفسية نقع دائمًا على "مسائل مبدأ" تعود إلى الميادين الخاصة بأكثر فروع المعرفة اختلافًا، فنزعج رجل اللاهوت ونُغضِبه بما لا يقلُّ عن إزعاجنا للفيلسوف وإغضابه، والطبيب بما لا يقلُّ عن المربي؛ بل إننا نتلمس لنا طريقًا في ميدان العالِم البيولوجي والمؤرِّخ. هذا المسلك المسرف لا ينبغي لنا أن نردَّه إلى غطرستنا، بل إلى كون النفس البشرية مركَّبًا فريدًا من عوامل تشكِّل بدورها موضوعات خاصة ذات خطوط من البحث بعيدة المدى. ذلك أن الإنسان ينتج علومه من نفسه ومن تكوينه المميَّز؛ فهي أعراض من نفسه.

              ولذلك لو سألنا أنفسنا السؤال الذي لا مفرَّ منه: "لماذا كان للإنسان، بكلِّ هذا التناقض الواضح مع عالَم الحيوان، مشاكل؟"، لدخلنا في شبكة لا فكاك منها من الأفكار التي تفتَّقتْ عنها أذهانُ الآلاف من أصحاب العقول المرهفة على مرِّ القرون. لن أقوم بأعمال سيزيف حيال هذه المُربِكَة، وإنما سأحاول ببساطة أن أدلي بدلوي في جملة محاولات الإنسان للإجابة عن هذا السؤال الأساسي.

              لا مشكلة بلا وعي. ولذلك ينبغي لنا أن نصوغ السؤال بطريقة أخرى: كيف ينشأ الوعي؟ ما من أحد يستطيع أن يجيب الجواب اليقين عن هذا السؤال؛ وإنما بوسعنا ملاحظة الأطفال الصغار وهم في سياق اكتسابهم الوعي. بوسع كلٍّ من الوالدين أن يرى ذلك لو أعاره انتباهًا. وهذا ما نستطيع ملاحظته: عندما يتعرف الولد إلى شخص أو شيء – عندما "يعرف" شخصًا أو شيئًا – نشعر أنْ قد صار عنده وعي. ولا شكَّ أن هذا يفسِّر لنا لماذا حملتْ شجرة المعرفة في الفردوس مثل هذه الثمرة المشؤومة.

              لكن ما هو التعرُّف أو المعرفة بهذا المعنى؟ نقول إننا "نعرف" شيئًا عندما نوفَّق إلى ربط إدراك جديد إلى سياق قائم من قبلُ بطريقة تجعلنا نضع في واعيتنا لا الإدراك الجديد وحده، بل سياقه أيضًا. ولذلك تقوم "المعرفة" على رابطة واعية فيما بين المحتويات النفسية. لا معرفة بلا رابط فيما بين المحتويات، لأننا يمتنع علينا عندئذٍ أن نعيها. إذن فأول طور من أطوار الوعي يمكننا ملاحظته يتألف من مجرَّد الربط بين محتويين نفسيين أو أكثر. وعند هذا المستوى، تكون الواعية شيئًا متفرِّقًا ليس أكثر، باعتبار أنها لا تمثل إلا بضع روابط؛ وأما المحتوى فلا نستذكره فيما بعد. ومن الحقائق المقرَّرة أن الذاكرة المتصلة لا وجود لها في السنوات الأولى من الحياة؛ وفي أفضل الأحوال، لا توجد إلا جزر من الواعية أشبه ما تكون بمصابيح منفردة، أو أشياء مضاءة، في أعماق الظلام. لكن هذه الجزر من الذاكرة ليست هي نفس الروابط الأولية فيما بين المحتويات النفسية؛ إنها تحتوي على شيء أكثر وشيء أجد. هذا الشيء هو هذه السلسلة البالغة الأهمية من المحتويات النفسية المترابطة التي تشكِّل ما ندعوه الأنيَّة. والأنيَّة – شأنها كشأن سلسلة المحتويات الأولية تمامًا – إنما هي موضوع في الواعية؛ ولهذا السبب يتحدث الطفل عن نفسه في بادئ الأمر بصورة موضوعية، بصيغة الغائب. ولا ينشأ الشعور بالذاتية أو "الأنيَّة" إلا في وقت متأخر، بعد أن تكون محتويات الأنيَّة قد شُحِنَتْ بطاقة خاصة بها (ويُحتمَل جدًّا أن يكون هذا نتيجة للدربة والمران). ولا شكَّ أن هذه هي اللحظة التي يبدأ فيها الطفل بالتحدث عن نفسه بصيغة المتكلِّم. عند هذا المستوى تتشكَّل بداية الذاكرة المتصلة. ولذلك هي استمرار لذكريات الأنيَّة بصفة أساسية.

              في المرحلة الطفولية من الوعي ليس ثمة من مشكلة بعد؛ لا شيء يتوقف على الذات، لأن الطفل نفسه يظل يعتمد كليًّا على أبويه. فكأنه لم يولد بعد تمامًا، بل يظل محاطًا بجوِّ أبويه النفسي. إنما تحدث الولادة النفسية، ومعها الشعور بتميُّز الأنيَّة عن الأبوين، في مجرى الأشياء الطبيعي، في سنِّ البلوغ وما يرافقه من انفجار في الحياة الجنسية. فالتغيُّر الفسيولوجي تصاحبُه ثورة نفسية. ذلك أن مختلف الظواهر الجسمانية تمنح الأنيَّة نوعًا من التوكيد يجعلها تؤكد نفسها بدون حدٍّ ولا قيد. وهذا ما يسمى أحيانًا بـ"السن التي لا تُطاق".

              حتى بلوغ هذا الطور تظل حياة الفرد النفسية محكومة بنوازع الغريزة ولا تصادف من المشاكل إلا أقلها، أو هي لا تصادف مشاكل على الإطلاق. وحتى حين تعترض القيودُ الخارجية سبيلَ النوازع الذاتية، لا تجعل هذه القيود الفردَ في نزاع مع نفسه. إنه حتى الآن لا يعرف حالة التوتر الداخلي الذي تجلبه المشكلة. ولا تنشأ هذه الحالة من التوتر إلا عندما يصبح القيد الخارجي عقبة داخلية، أي عندما يتعارض نازعٌ مع نازع آخر. وباعتماد المصطلح البسيكولوجي: الحالة التي تحرِّضها المشكلة – حالة أن يكون المرء في نزاع مع نفسه – إنما تنشأ عندما تظهر إلى الوجود، إلى جانب سلسلة محتويات الأنيَّة، سلسلةٌ ثانية تساويها في الشدة. لهذه السلسلة الثانية، بما تشتمل عليه من طاقة، أهمية وظيفية تساوي أهمية مركَّب الأنيَّة، حتى ليمكننا أن ندعوها أنيَّة أخرى أو ثانية، تستطيع في حالة معينة أن تنتزع القيادة من الأولى. إن من شأن هذا أن يُحدِث اغترابًا عن النفس؛ وهو الحالة التي تنذر بوقوع المشكلة.

              نوجز ما تقدَّم بما يلي: الطور الأول من الوعي الذي يتكوَّن من التعرُّف أو "المعرفة" هو حالة من الفوضى أو العماء. والطور الثاني – وهو طور نشوء مركَّب الأنيَّة – هو طور الأحادية. أما الطور الثالث فهو خطوة أخرى نحو الوعي، وهو عبارة عن استيعاء المرء حالتَه المنقسمة، وهو طور الثنائية أو الازدواجية.

              وهنا نبدأ موضوع بحثنا الفعلي، وأعني به مسألة مراحل الحياة أو أطوارها. قبل كلِّ شيء، ينبغي لنا أن نتناول مرحلة الشباب. وتمتد هذه المرحلة بصورة تقريبية ابتداءً من السنوات التي تعقب سني البلوغ مباشرة حتى منتصف العمر، الذي يمتد بدوره بين سنِّ الخامسة والثلاثين وسنِّ الأربعين.

              ورُبَّ سائل يقول: لماذا اخترت البدء بالمرحلة الثانية من الوجود البشري؟ أليس في سنِّ الطفولة مسائل صعبة؟ والحق أن حياة الطفل النفسية المركَّبة مشكلة في الدرجة الأولى من الأهمية في نظر الآباء والمربين والأطباء. لكن الطفل، إن كان سويًّا، فليست عنده مشاكل حقيقية خاصة به. إنما تنشأ المشاكل عندما يشبُّ الكائن البشري عن الطوق وتُخامِره الشكوك حول نفسه ويغدو في نزاع معها.

              نحن جميعًا نعرف حقَّ المعرفة من أين تنشأ المشاكل في مرحلة الشباب. فمطاليب الحياة بصورة عامة تضع حدًّا لأحلام الطفولة لدى غالبية الناس. فإن كان الفرد قد أُعِدَّ إعدادًا كافيًا، كان انتقالُه إلى الحياة المهنية انتقالاً سَلِسًا. أما إن كان متعلقًا بأوهام تتناقض مع الواقع، فلا مفرَّ عندئذٍ من وقوع المشاكل. ما من أحد يخطو خطوة في هذه الحياة إلا وعنده مسلَّمات معينة – وقد تكون هذه المسلَّمات خاطئة أحيانًا، أي ربما كانت لا تتناسب مع الظروف التي يجد المرء نفسه فيها؛ وهي غالبًا ما تكون تمنيات أو آمالاً بولغ فيها، أو مصاعب قلَّلنا من شأنها، أو تفاؤلاً ليس له ما يسوِّغه، أو قد تكون موقفًا سلبيًّا. وبإمكاننا إعداد قائمة كاملة بالمسلَّمات التي كانت سببًا في أولى مشاكل الوعي.

              لكن المشاكل لا تنشأ دائمًا عن التضارُب بين المسلَّمات الذاتية والوقائع الخارجية وحسب، وإنما قد تنشأ أيضًا عن اضطرابات داخلية، مثلما هي عليه الحال في الغالب. فقد تنشأ حتى حين تجري الأمور في العالم الخارجي بصورة سَلِسَة تمامًا؛ إذ غالبًا ما تنشأ المشاكل عن اختلال في التوازن النفسي سببه الدافع الجنسي. وربما يساوي الدافع الجنسي الشعور بالنقص الذي ينتج من حساسية مفرطة. وقد توجد هذه الصعوبات الداخلية حتى حين يكون التكيُّف مع العالم الخارجي قد تحقق بدون جهد ظاهر؛ بل وحتى حين يبدو الشباب الذين اضطروا إلى خوض كفاح مرير في سبيل الوجود لا يعانون من مشاكل داخلية، على حين أن الذين كان تكيُّفهم، لهذا السبب أو ذاك، قد جرى رخوًا رهوًا، يعانون من مشاكل جنسية أو من نزاعات نشأتْ عن شعورهم بالنقص.

              ومن الناس من لهم أمزجة خاصة تخلق لهم المشاكل؛ وهؤلاء، في الغالب، أناس معصوبون [= مصابون بالعُصاب]. لكن من سوء الفهم الخطير خَلْطَ هذه المشاكل بالعُصاب. فثمة فرق كبير بين الاثنتين: المعصوب مريض لأنه لا يعي مشاكله؛ بينما صاحب المزاج الصعب يعاني من مشاكل يعيها، لكن دون أن يكون مريضًا.

              ولو نحن ذهبنا نحاول استخلاص العوامل المشتركة الأساسية التي تتفرَّع عنها المشاكل التي نجدها في طور الشباب، لوجدنا، في جميع الحالات تقريبًا، سمة خصوصية: تعلقًا متفاوت الظهور بالمستوى الطفولي من الوعي، وتمردًا على القوى الحتمية فينا وفيما حولنا، التي تميل إلى زجِّنا في العالم. إن شيئًا فينا يريد أن يظلَّ طفلاً، أو غير واعٍ، أو واعيًا – في أبعد الأحوال – للأنيَّة فقط؛ هذا الشيء يريد أن ينبذ كلَّ ما هو غريب، أو على الأقل يريد إخضاعه لإرادتنا؛ هذا الشيء لا يريد منا أن نفعل شيئًا، أو ننغمس في شهوتنا إلى اللذة أو السلطة. ونلاحظ في هذا الميل شيئًا أشبه ما يكون بعطالة المادة، وهو أن نبقى على حالة، مازالت موجودة حتى الآن، ذات مستوى من الوعي أصغر من الوعي في طور الثنائية أو أضيق أو أكثر أنيَّة منه. ذلك أن الإنسان في هذا الطور مضطر لأن يعترف ويقبل بما هو مختلف وغريب عنه وأن يعتبره جزءًا من حياته بالذات، نوعًا من "أنا أيضًا".

              إن اتساع أفق الحياة هو السمة الأساسية في طور الثنائية الذي نتصدى له بالمقاومة. ومن الثابت أن هذا الاتِّساع – أو هذا الانبساط، على حدِّ تعبير غوته – يبتدئ قبل زمن من هذه المرحلة. فهو يبتدئ عند الولادة، في اللحظة التي يغادر فيها الجنين رحم أمِّه الضيقة، ثم يأخذ في الاتساع شيئًا فشيئًا حتى يبلغ نقطة حَرِجَة من ذلك الطور؛ وعندئذٍ يبدأ بمقاومته بعد أن تُحدِق به المشاكل من كلِّ جانب.

              ماذا يحدث للمرء لو تغيَّر وأصبح تلك الأنيَّة الأخرى، الغريبة، الـ"أنا أيضًا"، وأجاز للأنيَّة الأولى أن تتوارى في الماضي؟ ولعلنا نحسب هذا الأمر قابلاً للحدوث. والحق أن الهدف الحقيقي من التربية الدينية، بدءًا من الحضِّ على التخلص من "آدم القديم"، رجوعًا في الزمان إلى طقوس الولادة الجديدة لدى الأقوام البدائية، إنما هو تحويل الكائن البشري إلى إنسان مستقبلي جديد، وتهيئة فرص الانقراض أمام أشكال الحياة القديمة.

              يعلِّمنا علم النفس أنه، بمعنى ما، لا يوجد في النفس شيء قديم، وفي نفس الوقت لاشيء يتلاشى نهائيًّا، في الواقع. حتى القديس بولس لم يُترَك بدون "شوكة في الجسد".* ومن يَقِ نفسه من الجديد والغريب وينكفئ بذلك إلى الماضي، يقع في نفس الحالة العُصابية التي يقع فيها من يتواحَد مع الجديد ويتهرَّب من الماضي. والفرق الوحيد بينهما أن أحدهما اغترب عن الماضي، والآخر اغترب عن المستقبل. من حيث المبدأ، كلاهما يفعل الشيء نفسه؛ كلاهما يستأثر بحالة ضيقة من الوعي. والبديل هو كَسْر هذه الحالة بواسطة التوتر الملازم لاصطراع الأضداد – في طور الثنائية – وعندئذٍ تنشأ حالة من الوعي أوسع وأرقى.

              لو أمكن الوصول إلى هذه النتيجة في المرحلة الثانية من الحياة لكان الأمر مثاليًّا – لكنْ ههنا المشكلة، لسبب واحد هو أن الطبيعة لا تهتم أبدًا بمستوى أعلى من الوعي؛ وإنما الأمر عندها هو على العكس من ذلك. ثم إن المجتمع لا يقدِّر تقديرًا عاليًا هذه المآثر التي تجري في داخل النفس؛ فهو يمنح جوائزه دائمًا للأعمال لا للأشخاص – هؤلاء يكافَؤون، في القسم الأعظم، بعد الموت. وإذا كان الأمر كذلك، كان الحلُّ المخصوص لهذه المشكلة أمرًا اضطراريًّا: نحن مضطرون إلى الاقتصار على ما هو في متناولنا وإظهار استعدادات مخصوصة، لأننا بهذه الطريقة نستطيع اكتشاف وجودنا الاجتماعي.

              العمل والمنفعة وما أشبه ذلك هي المُثُل العليا التي يبدو أنها تنتشلنا من اختلاط المشاكل المتزاحمة، وربما تكون هي نجمنا القطبي في مغامرة امتداد حياتنا النفسية وتصليب عودها. ولعلها تعيننا على ضرب جذورنا في العالم؛ لكنها لا تستطيع أن ترشدنا إلى تنمية واعيتنا التي أعطيناها اسم الثقافة. على أيِّ حال، إن هذا هو المسار الطبيعي في طور الشباب، وهو في جميع الظروف خير من التخبُّط في مُضطَّرَب المشاكل.

              ولذلك يتمُّ حلُّ المعضلة على الوجه التالي: كلُّ ما يعطينا إياه الماضي يتكيَّف تبعًا لإمكانيات المستقبل ومتطلَّباته، فنقتصر على ما هو في متناولنا؛ وهذا يعني أننا نزهد في جميع الإمكانيات الأخرى. فإنسان يفقد جزءًا قيِّمًا من ماضيه، وآخر جزءًا قيِّمًا من مستقبله. ومَن منَّا لا يتذكر أصدقاء له أو رفاق مدرسة كانوا شبابًا واعدين ومثاليين؛ ولكن، عندما التقينا بهم فيما تلا من السنين، وجدناهم قد يَبِسَ عودُهم وتحجَّروا في قالب ضيق. هؤلاء أمثلة على الحلِّ الذي أشرنا إليه.

              غير أن المشاكل الخطيرة في الحياة لا تنحلُّ بصورة نهائية أبدًا؛ وإذا ما بدت لنا أنها كذلك، كان معنى ذلك أننا قد أضعنا شيئًا. إن معنى المشكلة وتصميمها لا يكمن في حلِّها، على ما يبدو، وإنما في العمل الدائب على حلِّها؛ وهذا وحده يحفظنا من السخف والتحجُّر. وهذا ينطبق أيضًا على حلِّ المشاكل المتعلقة بطور الشباب، وهو الحلُّ الذي ينهض على الاقتصار على ما هو في متناولنا؛ لكن مفعوله غير دائم ولا يستمر بمعنى أعمق. طبعًا، أن نحتل مكانة في المجتمع، وأن نغيِّر طباعنا تغييرًا يتلاءم كثيرًا أو قليلاً مع هذه الحياة، لهو إنجاز بالغ الأهمية في كلِّ الأحوال. إنه صراع نخوضه مع أنفسنا كما نخوضه مع العالم الخارجي؛ وهو أشبه ما يكون بصراع الطفل دفاعًا عن أنيَّته. ويجب أن نسلِّم بأن هذا الصراع غير ملحوظ لأنه يحدث في الظلام. غير أننا عندما نرى أوهام الطفولة، وسوابق أفكارها، وعاداتها الأنانية، كيف تظل تتشبث عنيدة فيما يليها من السنين – عندئذٍ ندرك الجهد الذي بذلتْه في تكوينها. ثم إن هذا ينطبق أيضًا على المُثُل العليا والقَناعات والأفكار التي ترشدنا وعلى المواقف التي تقودنا في إلى الحياة، التي في سبيلها نقاتل وفي سبيلها نتألم ونحرز الانتصارات: إنها تنمو بنموِّنا، حتى إنها لتصير إيانا ظاهريًّا؛ ولذلك نُديمها مسرورين ونعدُّها من الأمور البديهية، تمامًا مثلما يؤكد الطفلُ أنيَّته في وجه العالم على رغم أنفه – وأحيانًا لكي يناكد نفسه!

              وكلما دنونا من منتصف العمر، وأفلحنا في تحصين أنفسنا داخل منطلقاتنا الشخصية ومركزنا الاجتماعي، بدا الأمر لنا كما لو أننا عرفنا المسار الصحيح والمُثُل العليا ومبادئ السلوك القويم، فنحسبها صالحة للأبد، ونجعل من التمسُّك الدائم بها إحدى فضائلنا. نحن نغفل كليًّا عن الحقيقة الأساسية، وهي أن المآثر التي يكافئنا عليها الجميع إنما نجنيها على حساب الانتقاص من شخصيتنا. إن جوانب كثيرة جدًّا من الحياة، كان ينبغي لنا أن نختبرها، تظل قابعة في بيت المؤونة بين الذكريات التي تَرَاكَمَ عليها الغبار؛ حتى إنها لتكون في أكثر الأحيان جمرات متقدة تحت الرماد.

              تُظهِر لنا الجداول الإحصائية زيادة تواتر حالات الاكتئاب الذهني عند الرجال الذين بلغوا سنَّ الأربعين أو دنوا منها. أما النساء فتبدأ عندهن المتاعب العُصابية بوجه عام في سنٍّ أبكر بعض الشيء. في هذه المرحلة من الحياة – بين الخامسة والثلاثين والأربعين – نرى في النفس البشرية تغييرًا كبيرًا يجري إعداده. في أوله، لا يكون التغيير واعيًا ظاهرًا، بل علاماته غير مباشرة على تغيُّر يبدو أنه يصعد من الخافية [= اللاوعي]. وفي الغالب يكون أشبه بتغيُّر بطيء في طباع الفرد؛ وفي حالات أخرى، ربما تعود إلى الظهور ملامحُ بعينها كانت اختفت منذ سنِّ الطفولة؛ أو تبدأ تضعف بعض الميول والاهتمامات، لكن تنهض ميول واهتمامات أخرى محلَّها. كذلك كثيرًا ما يحدث أن تتصلَّب المعتقدات والمبادئ – وخاصة المبادئ الأخلاقية – التي سلَّمنا بها حتى ذلك الحين وتقسو إلى حدٍّ نصل معه إلى التعصب وعدم التسامح؛ وهذا يحدث عند نقطة ونحن ندلف إلى الخمسين. عندئذٍ يبدو الأمر لنا كما لو أن وجود هذه المبادئ قد تعرِّض للخطر، فيصبح من الضروري تثبيتُها وتقويتُها.

              نبيذ الشباب لا يظل صافيًا مع تقدُّم السن، بل غالبًا ما يتكدَّر صفوُه. وبوسعنا أن نرى جميع المظاهر التي ذكرناها أعلاه تبرز، عاجلاً أحيانًا أو آجلاً أحيانًا أخرى؛ وهي على أوضح ما تكون عند الأحاديين نوعًا ما. وعندي غالبًا ما يتأخر ظهورها من جراء بقاء الأبوين على قيد الحياة؛ وعندئذٍ تكون الحال كما لو أن فترة الشباب قد استمرت على خلاف ما ينبغي. لقد عانيت هذا بصورة خاصة في حالات أناس عمَّر آباؤهم طويلاً، حتى إذا مات الأب كان لموته فعل النضج السابق لأوانه الذي يكاد أن يكون مفجعًا.

              أعرف رجلاً تقيًّا كان يعمل راعي كنيسة. ولما جاوز الأربعين أخذ يُبدي تزمتًا متناميًا لا يُطاق في أمور الأخلاق والدين، وصار في نفس الوقت حادَّ المزاج بشكل ظاهر؛ ثم أمسى ليس أكثر من "عمود كنيسة" منخفض قابع في الظلام. وظلَّ ماضيًا على هذا المنوال حتى بلغ الخامسة والخمسين، حين استيقظ فجأة في إحدى الليالي وقال لامرأته: "الآن أدركت أخيرًا! ما أنا في الحقيقة إلا مجرد وغد‍." لكن هذه المعرفة الذاتية لم تبقَ بدون آثار. لقد أنفق سني عمره الأخيرة في حياة صاخبة بدَّد فيها شطرًا كبيرًا من ثروته. من الواضح أنه شخص ظريف جدًّا، قادر على الاستقصاء في كلا النقيضين.

              إن تكرار الاضطرابات العُصابية هو السمة العامة كلما تقدَّم العمرُ بالإنسان: إنها تشي بمحاولة نقل الاستعدادات النفسية الشبابية إلى ما وراء وصيد ما يُدعى بسنِّ الكتمان. مَن منَّا لا يعرف أولئك الشيوخ الظرفاء الذين ألزموا أنفسهم دائمًا بتسخين طبق أيام الدراسة وإيقاد لهب الحياة من ذكريات بطولة أيام الشباب، ويلتزمون جهالة ميؤوسًا منها فيما تبقَّى لهم من العمر؟ لكنهم بعامة يتمتعون قطعًا بمزية، يخطئ من يستهين بها: هؤلاء ليسوا بمعصوبين قطعًا، بل ثقيلون متجمِّدون، لأن المعصوب بالأحرى شخص لا يستطيع أبدًا أن تكون له الأشياء كما يريد لها أن تكون في الحاضر؛ فهو بالتالي لا يستطيع أن يستمتع بالماضي أبدًا.

              والمعصوب، كما أنه لم يستطع أن يتهرَّب من الطفولة فيما مضى، كذلك هو الآن لا يستطيع أن يفترق عن شبابه؛ إنه يجفل من الأفكار الرمادية التي تُشعِره بتقدُّم سنِّه؛ وهو إذ يشعر بأن المستقبل أمامه أمر لا يُطاق، تجده يجهد دومًا لأن ينظر إلى الخلف. وكما أن الشخص الطفولي يجفل من المجهول في العالم وفي الحياة البشرية، كذلك يخشى مَن تقدَّمتْ به السنُّ النصفَ الثاني من الحياة؛ إذ يبدو له الأمر كما لو أن مهمات مجهولة تحفُّ بها المخاطر مطلوب منه أن يقوم بها، أو كما لو أنه مهدَّد بتضحيات وخسائر لا يودُّ قبولها، أو كما لو أن حياته تبدو له حتى الآن حياة جميلة غالية لا يمكنه الاستغناء عنها.

              أو لعله – في العمق – خوف من الموت؟ إن هذا لا يبدو لي أمرًا محتمَلاً جدًّا، لأن الموت عمومًا لم يزل بعيدًا؛ ولذلك لا يُنظَر إليه إلا في ضوء مفهوم تجريدي. تُظهِر لنا الخبرة بالأحرى أن الأساس والسبب في جميع صعوبات هذه النقلة إنما يكمنان في تغير عميق ومميَّز يحدث في دخيلة النفس. ولكي أصف هذا التغيُّر أشبِّهه بمسار حركة الشمس اليومية – لكنها شمس لها مشاعر الإنسان وواعيتُه المحدودة. في الصباح تشرق الشمس من قلب بحر الليل، بحر الخافية، وتطلُّ على العالم المتألِّق الذي يمتد أمامها مسافة تتسع باطِّراد كلما عَلَتْ في كبد السماء. وهي، إذ توسع ميدان فعلها كلما عَلَتْ، تدرك أهميتها وترى أن هدفها هو الوصول إلى أعلى ارتفاع ممكن حتى تُشيعَ بركاتِها على أوسع نطاق. بهذا الإيمان تواصل سيرها غير المتوقَّع سلفًا حتى تصل إلى السَّمْت؛ وهو سير غير متوقَّع سلفًا لأن مسارها وحيد فريد، ولا يمكن احتساب أعلى نقطة فيه مقدمًا. حتى إذا كان الظُّهر بدأت بالنزول – والنزول معناه عكس المُثُل والقيم التي كانت عزيزة غالية عند الصباح. وعندئذٍ تقع الشمس في تناقض مع نفسها، حتى ليُمسي الأمر كما لو أن عليها أن تسحب أشعتها إلى الداخل بدلاً من إصدارها؛ فما يلبث النور والدفء حتى يخفتا وينطفئا في نهاية المطاف.

              كلُّ تشبيه أعرج؛ لكن هذا التشبيه على الأقل ليس أعرج من غيره. ثمة حكمة فرنسية توجز لنا ذلك في نوع من الإذعان الساخر: "ليت الشباب يدري وليت الشيخوخة تَقْدِر."**

              لحسن الحظ، نحن البشر لسنا شموسًا تطلع وتغيب، وإلا لكنَّا سرنا بعكس قيمنا الثقافية. إلا أن فينا شيئًا يشبه الشمس؛ فالكلام عن صباح الحياة وربيعها، وعن مسائها وخريفها، ليس مجرد رطانة عاطفية. فنحن بهذا لا نعبِّر عن حقيقة بسيكولوجية وحسب، وإنما عن حقيقة فسيولوجية أيضًا؛ ذلك لأن الانقلاب عند الظهيرة يغيِّر حتى من صفاتنا الجسمانية. ويمكننا أن نلاحظ عند شعوب الجنوب بصفة خاصة أن المرأة العجوز يخشوشن صوتها ويعمق، ويطر شاربها، وتقسو ملامح وجهها، وتتَّسم بغير ذلك من سمات الذكورة؛ كما نلاحظ، من ناحية ثانية، أن الخصائص الجسمانية المذكرة عندهم تخفِّفُ منها ملامحُ أنثوية، كالسِّمنة ونعومة قسمات الوجه.

              في الآداب الإثنولوجية حكاية شائقة تُروى عن قائد محارب هندي أحمر، لما بلغ منتصف العمر ظهر عليه الروح الأعظم في المنام، وطلب منه، منذ ذلك الحين فصاعدًا، أن يجلس بين النساء والأطفال وأن يرتدي ملابسهن ويأكل من طعامهن، فامتثل للحلم بدون أن يفقد من هيبته. إن هذه الرؤيا تعبِّر تعبيرًا صادقًا عن الانقلاب النفسي الذي يحدث للإنسان في ظهيرة الحياة، أو عند بداية انحدارها. فقِيَمُ الإنسان، بل وحتى جسمه، كلُّ ذلك يميل إلى الخضوع للانقلاب نحو النقيض.

              يمكننا تشبيه الذكورة والأنوثة ومكوِّناتهما النفسية بمخزن مواد معيَّن استُنفدَتْ منه في النصف الأول من الحياة مقادير غير متساوية. فالرجل يستنفد مخزونًا ضخمًا من مادة الذكورة، ويتعيَّن عليه الآن أن يستعمل القليل الباقي من مادة الأنوثة. وما يجري مع المرأة هو العكس تمامًا؛ فهي تتيح لمخزونها المهمَل من مادة الذكورة أن ينشط في أواخر أيامها.

              وترجح كفة هذا التحوُّل في مجال النفس بأكثر من رجحانها في المجال الجسماني. فكثيرًا ما يصادفنا امرؤ في الأربعين أو الخمسين يصفِّي أعماله، فتقوم امرأتُه بارتداء البنطلون وتفتح حانوتًا صغيرًا تؤدي فيه أعمالاً تتطلب منها مهارة يدوية في بعض الأحيان. ومن النساء كثيرات ممَّن لا يكترثن بالمسؤولية الاجتماعية ولا يستيقظ فيهن الوعي الاجتماعي إلا بعد سنِّ الأربعين. ولقد بات من الشائع جدًّا في الحياة العملية الحديثة – ولاسيما في الولايات المتحدة – أن يحدث للناس انهيار عصبي في سنِّ الأربعين أو بعده. ونحن لو درسنا ضحايا هذا الانهيار عن كثب لوجدنا أن الشيء الذي انهار إنما هو الأسلوب المذكَّر في الحياة الذي ظلَّ يحتل الساحة حتى الآن؛ وأما الباقي فرجلٌ متأنِّث. وفي الاتجاه المعاكس، يمكننا ملاحظة النساء، في نفس هذه الميادين من العمل، وقد نمَّين في النصف الثاني من الحياة ذكورة غير شائعة وصرامة تُلقي بالمشاعر والقلب على قارعة الطريق. وما أكثر ما يكون هذا الانقلاب مصحوبًا بجميع أنواع الكوارث الزوجية؛ إذ ليس من الصعب أن نتصور ما يحدث عندما يكتشف الزوج مشاعره الرقيقة، والزوجة ذكاءها الحاد.

              ولعل الأسوأ من هذا كلِّه أن تكون هذه الميول عند أناس مثقفين وأذكياء، لكنهم لا يعرفون شيئًا حتى عن إمكانية حصول مثل هذه التحولات. فنجدهم يخوضون غمار النصف الثاني من الحياة وهم عُزَّل من السلاح تمامًا. أو لعلَّه توجد كلِّيات لِمَن هم في سنِّ الأربعين، تُعِدُّهم لما تبقى لديهم من العمر ومتطلَّباته، مثلما تقوم الكلِّيات العادية بإعداد الشباب لمعرفة العالم والحياة؟ كلا، لا توجد ولا واحدة. فنحن نخطو خطواتنا في عَصْر الحياة ونحن عُزَّل تمامًا؛ وشرٌّ من ذلك أننا نتخذ هذه الخطوات ومعنا سوابق افتراضات خاطئة بأن حقائقنا ومُثُلنا العليا سوف تظل تخدمنا كما خدمتنا حتى الآن. لكننا لا نستطيع أن نعيش عَصْر الحياة طبقًا لبرنامج صبح الحياة، لأن الذي كان كبيرًا عند الصباح أمسى صغيرًا عند المساء، وما كان صدقًا صباحًا أمسى كذبًا مساءً. لقد بلغ مَن تولَّيتُ معالجتهم ونقَّبتُ في حجرات نفوسهم السرية، ممَّن كانوا في سنٍّ متقدمة، من الكثرة حدًّا يمنعني من ألا أتأثر بهذه الحقيقة الأساسية.

              على من تقدَّمتْ به السنُّ أن يعلم أن حياته غير سائرة صُعُدًا، ولا هي ماضية في التفتح؛ إنما عليه أن يعلم أن ثمة سياقًا داخليًّا عنيدًا يفرض على الحياة أن تتقلَّص. فالشاب يكاد أن يأثم، لا بل من الخطر عليه، إذا هو أسرف في الانشغال بنفسه؛ بينما الكهل من واجبه، لا بل من الضروري له، أن يمنح نفسه اهتمامًا جادًّا. فالشمس، بعد أن تكون قد أراقت ضياءها سخية على العالم، تعود فتلملم أشعتها لكي تضيء نفسها. كثير من الشيوخ، بدلاً من أن يفعلوا ذلك، يفضِّلون الاهتمام بصحَّتهم حتى الوسوسة، أو هم يصابون بداء البُخل، أو يصبحون عقائديين، أو مهلِّلين للماضي، أو مراهقين إلى الأبد – كلُّ هذه تعويضات يُرثى لها عن إنارة نفوسهم؛ لكنها عواقب لا بدَّ منها، تنتج عن التوهُّم بأن النصف الثاني من الحياة يجب أن تحكمه مبادئُ النصف الأول.

              قلت لتوِّي أنْ ليست لدينا مدارس لِمَن بلغوا سنَّ الأربعين؛ لكن هذا القول غير صحيح تمامًا. فأدياننا كانت على الدوام هي هذه المدارس فيما مضى؛ لكنْ كم منَّا يعتبرها اليوم كذلك؟ كم منَّا نحن، الطاعنين في السن، من تربَّى ونشأ في هذه المدارس، وتمَّ إعدادُه من أجل النصف الثاني من الحياة، ومن أجل الشيخوخة، ومن أجل الأبدية؟

              إن الكائن البشري ما كان ليبلغ سنَّ السبعين أو الثمانين لو لم يكن لهذا العمر الطويل معنًى بالنسبة إلى النوع الذي ينتسب إليه. إن عَصْر الحياة البشرية أيضًا يجب أن يكون له مغزًى خاص به، ولا يمكن أن يكون مجرَّد استطالة بائسة لصبح الحياة. لا ريب في أن صبح الحياة يكمن في تنمية الفرد، في تَمَتْرُسنا في العالم الخارجي، في إدامة نوعنا، وفي العناية بأطفالنا. تلك هي الغاية البيِّنة للطبيعة. ولكن حين يتم بلوغ هذه الغاية – وحتى يُغالى في بلوغها – هل سيتواصل قُدُمًا كسبُ المال، وتكثيرُ المكاسب، وتوسيعُ الحياة، فيما يتعدى حدود العقل والمعقول؟ كلُّ مَن يجيء بقانون الصبح – أي مقاصد الطبيعة – ليطبِّقه على العَصْر يجب عليه أن يدفع ثمن فعلته ضررًا يلحق بنفسه، تمامًا مثلما لا بدَّ للشاب الناشئ الذي يحاول أن ينجو بأنانيته الطفولية من أن يدفع ثمن هذا الخطأ فشلاً اجتماعيًّا. ما كَسْبُ المال والحياة الاجتماعية والأسرة والرفاهية إلا محض الطبيعة – وليست ثقافة. فالثقافة تقع فيما يتعدى مقاصد الطبيعة. فهل يمكن أن يُتَّفَق للثقافة أن تكون معنى النصف الثاني من الحياة وقصده؟

              نلحظ في القبائل البدائية أن الشيوخ يكادون أن يكونوا دومًا القيِّمين على الأسرار والقوانين؛ وفي هذه يعبِّر التراث الثقافي للقبيلة عن نفسه. فماذا عنَّا؟ أين حكمة شيوخنا – أين أسرارهم النفيسة ورؤاهم؟ شيوخنا، في غالبيتهم، يحاولون أن يُجاروا الشباب. ففي الولايات المتحدة يكاد يكون من قبيل المثال أن يكون الأبُ أخًا لأبنائه، وأن تكون الأم، إن أمكن، الأخت الصغرى لابنتها.

              لا أدري كم من هذا اللَّبْس يعود إلى ردِّ فعل على مبالغةٍ أقدم في هيبة العمر، وكم يُرَدُّ منه إلى المُثُل الزائفة. فلا ريب أن هذه موجودة، وهدف الذين يأخذون بها يقع خلفًا، وليس في الأمام. لذا فإنهم دومًا يكدُّون للنكوص القهقرى. ينبغي أن نقرَّ لهؤلاء الأشخاص أنه من العسير رؤية أيِّ هدف آخر يمكن أن يمنحه النصف الثاني من الحياة غير هدف النصف الأول المعروف. توسيع الحياة، المنفعة، الكفاءة، احتلال منزلة مرموقة في الحياة الاجتماعية، وتوجيه الأبناء الحاذق لترتيب زيجات مناسبة ومناصب نافذة – أليست هذه الغايات كافية؟ لسوء الحظِّ فإن هذا لا يؤمِّن ما يكفي من المعنى أو الغاية لأشخاص كثيرين يرون في دنوِّ الشيخوخة محض نقصان في الحياة، ويرنون إلى مُثُلهم السابقة كمجرد شيء ذابل وبالٍ. بالطبع، لو ملأ هؤلاء الأشخاص سابقًا دنَّ الحياة وأفرغوه حتى الثمالة لشعروا بكلِّ شيء شعورًا مختلفًا تمامًا الآن؛ لو أنهم لم يستبْقوا شيئًا لالتهمت النيران كلَّ ما يحترق حتى الاستهلاك، ولرحَّبوا بسكينة الشيخوخة أحرَّ الترحيب. لكننا ينبغي ألا ننسى أن فناني الحياة ثلة صغيرة وحسب، وأن فنَّ الحياة هو أمْيَز الفنون وأندرها طرًّا. مَن أفلح يومًا في ارتشاف كأس الحياة عن طيب نفس حتى آخرها؟ لذا فإن عند أناس كثيرين وفرةً متبقية من حياة لم يعيشوها – أحيانًا مواهب ما كان لهم أن يحيوها مهما حَسُنَتْ نواياهم. وهكذا يدنون من وصيد الشيخوخة بمطالب غير مشبَعة، لا مفرَّ من أن تحوِّل أنظارهم إلى الوراء.

              إنه لمما يصيب مقتلاً بصفة خاصة من أمثال هؤلاء الناس أن ينظروا إلى الخلف. فوجود تطلُّع وهدف في المستقبل عندهم أمر لا يُستغنى عنه. لهذا فإن الأديان الكبرى جميعًا وَعَدَتْ بحياة آخرة؛ فهي تمكِّن الإنسان الفاني من أن يحيا النصف الثاني من الحياة بنفس المقدار من الدأب والقصدية الذي بذله في النصف الأول. فإطالة حياة إنسان اليوم وبلوغ منتهاها هدفان معقولان؛ لكن فكرة الحياة ما بعد الموت تبدو له محلَّ ارتياب وتتعدى التصديق. ومع ذلك فإن انقطاع الحياة، أي الموت، لا يمكن القبول به هدفًا عندما تكون الحياة بالغة الشقاء إلى حدٍّ يطيب لنا معه أن نضع لها نهاية، أو عندما نكون مقتنعين بأن الشمس تسعى إلى غروبها – "لكي تنير أقوامًا بعيدين" – بنفس العزيمة التي تُبديها وهي ترتفع في كبد السماء. لكن الإيمان اليوم قد أضحى فنًّا بالغ الصعوبة، حتى لقد بات الناس معه، ولاسيما المثقفين من البشرية، لا يكادون يجدون طريقهم إليه. لقد أدمنوا عادة التفكير أن الآراء، فيما يخص المسائل المتعلقة بالخلود ومسائل من هذا الغرار، متضاربة بشأنها وليس عليها براهين مقنعة. وحين أصبح "العلم" هو الشعار الذي يحمل وزن القناعة في عالمنا المعاصر، رحنا نطالب ببراهين "علمية". لكن المثقفين القادرين على التفكير يعلمون أن برهانًا من هذا النوع شيء من قبيل المحال، لأننا ببساطة لا نعرف عنه شيئًا.

              هل لي أن أشير هنا إلى أننا، لنفس الأسباب، لا نستطيع أن نعرف إن كان يحدث شيء لشخص بعد موته؟ لا نستطيع الجواب لا سلبًا ولا إيجابًا. كلُّ ما في الأمر أننا لا نملك عليه براهين علمية محددة على نحو أو آخر، ولذلك نجدنا في نفس الموقع عندما نتساءل إن كان كوكب المريخ آهِلاً بالسكان أم لا. وسكان المريخ، إن وُجِدوا، لا يعبؤون إن كنَّا نثبت وجودهم أو ننفيه؛ فقد يكونون موجودين أو لا يكونون. وهذا هو موقفنا من مسألة الخلود المزعومة – وهي مسألة يمكننا أن نصرف النظر عنها.

              لكنْ هنا يستيقظ فيَّ وجدان الطبيب ويحملني على قول كلمة جوهرية في هذه المسألة. لقد لاحظت أن الحياة الهادفة هي بعامة خير وأغنى وأوفر صحة من الحياة التي لا هدف لها، وأنه خير للمرء أن يواكب الزمن في جريانه من أن يسير بعكسه إلى الخلف. في نظر المعالِج النفسي، الرجلُ العجوز الذي لا يستطيع توديع الحياة يبدو هزيلاً ومعتلاً في مثل الهزال والاعتلال الذي يبدو على الشاب العاجز عن اعتناق الحياة. والحق أن المسألة، في الكثير من الحالات، هي مسألة نفس الشهوة الصبيانية ونفس الخوف ونفس العناد والرغبة الطاغية عند أحدهما كما هي عند الآخر. وإني – وأنا الطبيب – كلِّي قناعة بأن اكتشاف هدف في الموت بوسع المرء أن يسعى إليه لهو أمر صحي – إذا جاز لي أن أستعمل هذه الكلمة – وإن الانصراف عنه أمر مُنافٍ للصحة، وغير سوي، من شأنه أن يسلب الغاية من النصف الثاني من الحياة. ولذلك أعتبر التعليم الديني المتعلق بالحياة الآخرة موافقًا لمنطق الصحة النفسية. أنا إنْ سكنتُ بيتًا، وأنا عالم بأنه سوف ينهدُّ على رأسي في غضون الأسبوعين التاليين، تُعطِّل هذه الفكرةُ جميعَ وظائفي الحيوية؛ أما لو شعرت، على العكس، بأني في مأمن، فإن بإمكاني السكن فيه وأنا مطمئنٌ ناعم البال. كذلك من الأمور المرغوب فيها في العلاج النفسي أن نعتبر الموت نقلة ليس إلا – جزءًا من سياق حياة ذات مدى ومدة لا تطالها معرفتُنا.

              رغم أن معظم الناس لا يعرفون لماذا تحتاج أجسامهم إلى الملح، إلا أن كلاً منهم يطلبه لكي يلبِّي به حاجة غريزية. نفس الشيء ينطبق على أشياء النفس. منذ الأزمنة الغابرة والسوادُ الأعظم من الناس يشعرون بحاجة إلى الإيمان بديمومة الحياة. ولذلك تفرض علينا مقتضيات العلاج ألا نسلك في طرقات فرعية، بل في منتصف الطريق الذي سلكتْه البشرية. وبذلك يكون تفكيرنا صحيحًا تمامًا فيما يتعلق بمعنى الحياة، حتى وإن لم نفهم ما نحن نفكر فيه.

              هل لنا أن نفهم ما نحن نفكر فيه؟ إن التفكير الذي نفهمه ليس إلا عبارة عن معادلة: ما يخرج منها ليس سوى ما يدخل فيها. هذا هو عمل العقل. لكن ما وراءه ثمة تفكير في الصور البدئية – في الرموز الأقدم من الإنسان التاريخي، المركوزة فيه منذ أقدم الأزمنة. هذه الصور أو الرموز حية أبدًا على تعاقب الأجيال، ومازالت تكوِّن الأساس في بنية النفس البشرية. ولا يمكننا أن نحيا ملء حياتنا ما لم نتناغم مع هذه الرموز؛ والحكمة هي العودة إليها. فالمسألة ليست مسألة إيمان، ولا مسألة معرفة، بل هي موافقة تفكيرنا مع الصور البدئية للخافية. إنها مصدر جميع أفكارنا الواعية – ومن هذه الأفكار البدئية فكرة الحياة بعد الموت. العلم وهذه الرموز لا يتناسبان. إنها الشروط التي لا بدَّ منها للخيال؛ إنها المعطيات الأولية – المواد التي ليس يسعُ العلم أن ينكر ملاءمتها وصحة وجودها ارتجالاً؛ إذ ليس له أن يعاملها إلا على أساس أنها معطيات واقعية، تمامًا مثلما يفعل عندما يكتشف وظيفة كوظيفة الغدة الدرقية مثلاً. قبل القرن التاسع عشر، كانت الدرقية تُعتبَر عضوًا لا معنى له، لا لشيء إلا لأنها لم تكن مفهومة؛ كذلك من قِصَر النظر أن نقول اليوم إن الصور البدئية لا معنى لها. وعندي أن هذه الصور أشبه شيء بأعضاء نفسية؛ وإني أعاملها بأقصى العناية. يحدث أحيانًا أن يُملي عليَّ واجبي أن أقول لمريض متقدِّم في السن: "صورتك عن الله، أو فكرتك عن الخلود، ضامرة، وبالتالي فاستقلابك النفسي عاطل عن العمل." إن دواء الخلود، أثاناسياس فارماكون، القديم أعمق وأبعد معنى مما يُخيَّل إلينا.

              وهنا أود أن أعود لحظة إلى التشبيه بالشمس. إن الدرجات المائة والثمانين من قوس الحياة يمكن تقسيمها إلى أربعة أقسام: الربع الأول، وهو الواقع إلى الشرق، هو الطفولة – وهي الحالة التي نخلق فيها المشاكل لغيرنا، دون أن نكون على وعي بمشكلاتنا الخاصة؛ إذ إن المشكلات التي نعيها هي التي تملأ الربعين الثاني والثالث، على حين أننا في الربع الأخير، في نهاية الشيخوخة، نعود فننحدر إلى مستوى خَلْق المشاكل لغيرنا، حين لا نكون فيها مبالين بحالة الوعي. الطفولة ونهاية الشيخوخة طَوْران مختلفان كلَّ الاختلاف جزمًا، لكنْ يجمعها عنصر مشترك: الانغماس في الحوادث النفسية الخافية [= اللاواعية]. ولما كان عقل الطفل ينشأ عن الخافية، كانت سياقاتُه النفسية – وإن كانت لا تُفهَم في يُسْر – ليس من الصعب تبيُّنها مثلما هو من الصعب تبيُّن السياقات النفسية لدى الطاعن في السن الذي عاد ثانية فغاص في الخافية، وأخذ يتلاشى فيها تدريجيًّا. الطفولة والشيخوخة طَوْران من أطوار الحياة ليس فيهما مشكلات واعية، ولهذا السبب لم أتطرَّق إليهما هنا.


              ترجمة: نهاد خياطة

              المراجعة على الأصل: ديمتري أفييرينوس

              تنضيد: نبيل سلامة

              * إشارة إلى قوله: "ومخافة أن أتكبَّر بسموِّ المكاشفات، أوتيت شوكة في جسدي..." (2 كورنثوس 12: 7) (المحرِّر)
              في كل يوم يصلب الانسان الف مرة ومرة ويصلب الوطن على طريق الجلجلة يسير شعب يحمل المسمار والصليب لانه يعيش في موطنه الحنون كالغريب وزهرة الخلاص في يديه مقصلة وسائر على طريق الجلجلة قد كللته المحنة السوداء بالسواد ومزقته اربا رصاصة الاحقاد
              أنا لا أحد وأنت،من تكون؟هل أنت أيضاً لا أحد وإذاً فثمة إثنان منا، إياك أن تخبرأحدا!وإلاألقوا بنا في المنفى
              وراء كل فوضى واشنطن وتل أبيب

              Comment


              • #8
                المشروع الفكري

                ندره اليازجي: المشروع الفكري

                يتلخص موقفي الفكري – وهو مجرد مشروع نظريٍّ يتمثل في وجهة نظر فلسفية وعلمية وأخلاقية، سعيتُ، ومازلت أسعى، إلى تحقيقها – في المبادئ التالية:

                1. محبة الإنسانية جمعاء، بغضِّ النظر عن الجنس واللون والعنصر والمعتقد.
                2. توحيد نطاقات الفكر الإنساني ووجهات النظر العديدة في دراسة مقارنة ترمي إلى القيام بوحدة تأليفية بين الدين بمفهومه الروحي، والفلسفة بمفهومها الإنساني والمثالي، والعلم بمفهومه النظري والطبيعي والكوني.
                3. تعمقٌ وتوسعٌ في دراسة القوانين الطبيعية والإنسانية–الاجتماعية بهدف الولوج إلى القوانين الكونية التي تشملها.
                4. الشعور الكامل بالوجود، أي المعرفة التي تشير إلى وجود وعي كوني يشمل جميع المبادئ والقوانين.
                5. التجربة النفسية أو الروحية المختبَرة التي تنتهي إلى عرفان يتجلَّى في تحقيق الشعور الأسمى بتكامل الوجود الإنساني والطبيعي والكوني.
                6. واقع الحضارات والثقافات والإنجازات الرائعة مقولة تؤكد وجود تنوع ظاهري وحقيقة باطنية جوهرية واحدة وعقل إنساني جمعي شامل.
                7. تمثُّل العالم والكون في نسيج واحد متداخل خيوط الحياكة.
                8. العقل المنفتح والقلب المنفتح سبيل إلى لقاء الحضارات والثقافات وتفاعلها وإلى تآلف العقل الخاص مع العقل العام في قاعدة واحدة مشتركة بين العقول الفردية.
                9. تأسيس بنية عقلية منفتحة ومكوِّنة تصلح لإجراء حوار بين بنات وأبناء الإنسان لقبول الآخر والاعتراف به وتتجاوز الأطُر المحدودة والمناهج الأحادية البعد.
                10. الإعلان العالمي لـ"وثيقة واجبات الإنسان" التي تشتمل على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتدعو إلى تربية إنسانية تجعل من الواجب أمرًا أخلاقيًّا وروحيًّا ملزِمًا.
                11. المثالية بوصفها تطويرًا للواقع كما يجب أن يكون، أي التحول من الوجود إلى الوجوب.
                12. السعي المثابر والهادف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية الملازمة لكرامة الإنسان وحريته الماثلتين في الوعي.
                13. توطيد التفكير المنطقي الرامي إلى بلوغ محاكمة سليمة تحرر العقل من قيود الإشراطات العديدة التي تحول دون تطويره.

                في هذا المنظور، أدركتُ أن ثقافات العالم وحضاراته تلتقي، التقاءً مباشرًا أو غير مباشر، لتشكل مركزًا تتكامل فيه الوقائعُ الظاهرية والحقيقةَ الواحدةَ التي نعاينها ونحن نتوغل إلى أعماق الحكمة التي تتوطد عليها القاعدة الأساس للوجود الإنساني. وهكذا علمتُ أن شخصيتي مركز لقاء لجميع التيارات الفكرية والعلمية والأدبية والفلسفية والفنية والروحية والاجتماعية والاقتصادية التي تتجه من مراكز إشعاعها لتجتمع في كياني وتتآلف في وحدة الحقيقة. إذ ذاك أدركت أنني حصيلة لقاء فروع المعرفة المتآلفة في داخلي، مثلما أن الحضارات والثقافات هي روافد تصب في نهر الحضارة الإنسانية الذي يحمل تراث الإنسانية بكامله ليصب في محيط الوعي الكوني.

                في هذا السياق الفكري، يمكن لي أن أشبِّه العقل الواحد والتنوع الثقافي بدائرة تصدر عنها وتعود إليها إشعاعاتٌ عديدة هي التنوعات العديدة للروح الإنسانية. فإذا كانت الحياة، في ظاهراتها، واحدة، والعقل، في جوهره، واحدًا، والحكمة، في تجلِّياتها، واحدة، والعلم، في منظوراته، واحدًا، والروح، في كيانها، واحدة، فإنها تنبث وتتشتت عبر إشعاعاتها المتنوعة، لتعود إلى التآلف في دائرة الحقيقة الواحدة. وبالمثل، أستطيع أن أشبِّه العقل الواحد والتنوع الثقافي والفكري بالضوء الذي يتشتت إلى قوس قزح: فالحق إن ألوان قوس القزح تمثل الضوء الذي تبدَّد أو تشعَّب إلى تنوعاته. فإذا استطعتُ أن أعيد هذه الألوان من خلال الموشور، الذي يتشتت الضوءُ عبره إلى تنوعات ألوانه، أجدها تعود إلى ما كانت عليه من اتحاد: إنها تعود إلى الضوء الذي جمع أنواع ألوانه في وحدة لا تنفصم هي حقيقة واحدة لا تناقُض فيها.

                في هذا النطاق التوحيدي، أستطيع أن أشبِّه العقل المنفتح بحديقة واسعة تُزرَع فيها زهورُ العالم وورودُه كلها. وفي هذه الحديقة تجتمع تنوعاتُ الأزاهير والورود كافة؛ وتُبقي هذه الحديقة على وجود فسحة قابلة لاحتواء نوع جديد من الزهور والورود يُضاف إلى التنوعات المتوافرة أصلاً. وتشير هذه الحديقة الشاملة إلى أن جمال التنوع أروع وأبهى من جمال التفرد. وبالمثل، أستطيع أن أحيا جمال التنوع الذي تتميز به حديقةُ حياتنا وفكرنا وإنسانيتنا.

                في هذه الرؤيا، تحافظ الأمةُ أو الأممُ على مشعلها الحضاري – على إبداعها الثقافي والعلمي وعلى عمق خصوصيتها وقدرتها على الامتداد إلى الآخر – ليضيء هذا المشعلُ في المحيط الروحي الذي يغلِّف الوجود الإنساني كخلفية تسجَّل عليها ما تدوِّنه الشعوبُ والمجتمعاتُ والأفرادُ من مآثر وإنجازات حضارية وثقافية وعلمية. وعلى هذا الأساس، تكون الإنسانيةُ جامعةً شاملة، وكذلك الإنسان: فهي تمتد وتتسع إلى الكون المادي والروحي. وشمول الإنسانية يجعل البشرية بأجمعها أسرةً واحدةً تنعم في نطاق محبة الكل الشامل – فإذا الناس جميعًا إخوة يلتقون في كيان الإنسان الواحد – بوجودٍ واحدٍ وصورٍ وأشكال كونية متعددة ومشخَّصة على صعيد الظاهر. لذا كانت المحبة تعني أن شمولها العالمي، الإنساني والجامع، إنما ينطوي في مبدئها الأعظم بأن جميع الناس، على اختلاف أعراقهم وألوانهم وأممهم، يؤلِّفون جسما واحدًا – مادةً واحدة وروحًا واحدة لا تتناقض في ذاتها. وهكذا تتحقق الإنسانية في شعور الكائن الإنساني بعالميته وشموله. والحق إن آمال الإنسان المتصاعدة من أنحاء العالم كلِّه تشير إلى وحدة الوجود الإنساني وإلى تحقيقه في شعور واحد متكامل. جميع الناس يفكرون، يشعرون، يحسون، يتذكرون، يتخيلون، يتصورون، يدركون، إلخ، ضمن مبدأ واحد متنوع الظاهرات.

                إن مبدأ عالمية الإنسان مبدأ يحثنا على احترامه وإعلاء شأنه: فلا يحق للإنسان أن يعتدي على إنسانيته أو إنسانية غيره، ولا يحق له أن يستغله أو يحقد عليه أو يكرهه أو يرذله. والإنسان الذي يتصف بالصفات السلبية يقترف شرًّا ضدَّ إنسانيته هو. فالإنسان الذي يكره نفسه يكره الآخرين؛ والإنسان الذي يكره غيره يكره الإنسان كمبدأ الوجود المشخَّص والمجرد؛ والإنسان الذي يكره غيره يكره المطلق الذي هو الخير المطلق والمعرفة والحقيقة والكمال والوعي الكوني.

                في هذا المنظور، يشير التنوع إلى التكامل ويُسقِط التناقض – وهذا لأن محبتي للإنسانية، على تنوعها، تحثني على تجاوُز كلِّ ما يُعتبَر عائقًا أو حاجزًا يحول بيني وبين الإنسان الآخر. فإن كنت أعتبر غيري عبدًا، فأنا عبد مثله في مجالات عديدة؛ وإن كنت أعتبره زنجيًّا، فأنا أكثر سوادًا منه في داخلي؛ وإن كنت أعتبره متخلِّفًا أو فقيرًا لأسباب المعيشة أو اللون أو العنصر، فأنا أفقر منه وأكثر تخلفًا في أمور كثيرة.

                إن عالمية الإنسان، كونه ينتمي إلى عالم واحد، والأخوة الإنسانية لا تتعارضان مع اجتماعيته، كونه ينتمي إلى وطن – وهذا لأن اجتماعية الإنسان هي إنسانيته، ولأن الإنسان يمثل المركز الذي يشع في اتجاهات ثلاثة:

                - أولاً: من كيانه إلى ذاته؛

                - ثانيًا: من كيانه إلى المجتمع الذي ينتمي إليه؛ و

                - ثالثًا: من كيانه إلى العالم.

                في الاتجاه الأول، يشع الإنسان وفق قاعدة أخلاقية فطرية تعبِّر عن ناموس كونيٍّ روحيٍّ غير مكتوب بالحرف، نُحِتَ فيه منذ بداية وجوده في هذا العالم. لذا كان عليه أن يحققه أولاً. ومتى حقَّق هذا الناموس الكوني غير المكتوب بالحرف، استطاع أن يشع في الاتجاه الثاني، وهو المجتمع. أما الاتجاه الثالث، فإنه يتجلَّى في امتداده إلى العالم والكون. وهكذا يتجاوز الإنسان الواعي مركزيةَ الأنا إلى مركزية الأسرة والعائلة، ثم إلى مركزية الفئة والمجتمع، ثم إلى مركزية العالم، لينتهي إلى مركزية الكون.

                تراودني هذه المقولة وأنا أتعمق في تأمل نفسي وفهمها؛ أتأملها، وأتأمل الكون والكيان الاجتماعي. وفي هذا التأمل الثلاثي البعد، أتساءل: كيف يمكن لي أن أكون كيانًا شاملاً؟ كيف يمكن للكون أن يكون شاملاً؟ كيف يمكن للمجتمع أن يكون شاملاً؟ ولا يدهشني أن أجيب بشمول الكون، وشمول الحياة، وشمول الكيان، وشمول الإنسان، وشمول المجتمع، وشمول المادة والطاقة، وشمول المعرفة. فإذا كانت الحقيقة السامية الشاملة غاية في ذاتها، تتجلَّى في الكل ومن خلال الكل، وفي الإنسان ومن خلاله، وفي المجتمع ومن خلال اجتماعيته التي هي إنسانيته، كانت العالمية أو الشمول – الكل – المبدأ الفاعل في الكون عامة وفي عالمنا الأرضي خاصة: القوانين العلمية، على سبيل المثال، واحدة في العالم.

                إذا كان الشمول مبدأ الكون الفاعل، فلا بدَّ لي أن أجد التفسير الموضِّح للكثرة أو التعدد الماثل في عالمنا.

                ثمة تعددية في وجودنا، وثمة وحدة أيضًا. والوجود، بكل تأكيد، تعددية في وحدة، كثرة في واحد. والمشكلة الرئيسة التي تطرح ذاتها تكشف عن ذاتها في سؤال يوجِّهه كل ذي عقل مستنير: كيف توجد الكثرةُ في الوحدة؟

                إن تعارُضات الوجود الظاهرية الكبرى تبدو في حالاتها الثلاث وكأنها تشير إلى هذه الحقيقة؛ وفي استطاعتي أن أوجزها في مقولات ثلاث:

                1. سلسلة الوجود الكبرى
                2. التمايز واللاتمايز
                3. الكل الكبير والكل الصغير

                أولاً: سلسلة الوجود الكبرى

                عندما أنظر إلى الكون نظرةً فاحصة، تأملية وعقلية، تتراءى لي حقيقةٌ عميقة ومتسعة، تمتد من ذاتها إلى ذاتها إلى ما لانهاية له. وتبدو هذه الحقيقة وكأنها سلسلةٌ مُحكمةٌ من المستويات المتكاملة والمتصلة التي تبدأ من الأدنى وتنتهي في الأعلى، لتنطوي على ذاتها في دائرة. ومن جانبي، لا أستطيع أن أحدِّد "الأعلى" بأكثر من قولي: إنه لانهاية كبرى؛ كذلك، لا أستطيع أن أعرِّف بـ"الأدنى" بأكثر من قولي: إنه لانهاية صغرى.

                بين هاتين اللاَّنهايتين توجد لانهاية ثالثة، هي عقدة لقاء هاتين اللاَّنهايتين في الإنسان. ففي الإنسان تلتقي هاتان اللاَّنهايتان.

                في هذا النطاق ترتقي أدنى المستويات إلى أعلاها. وفي ارتقائها هذا تتدرَّج تراتُبيات الوجود المُحكَمة الاتصال، وهي تعبُر الإنسانَ الذي تلتقي في كيانه اللاَّنهايتان، الصغرى والكبرى، وتتعقدان بطريقة تعبِّر كل ظاهرة، من خلالها، عن وجودها وهي متصلة مع الأخرى. وفي هذه السلسلة، التي هي سلسلة الوجود الكبرى، ينطلق الوجود المادي من أدنى مستوياته في التأليف إلى أعلى مستوياته في التأليف. لذا كان الإنسان – ذروة التعقيد الأرضي – لانهاية تعقيد تعبُر من خلالها اللانهايةُ الصغرى إلى اللانهاية الكبرى: إنه جسر يصل بين اللاَّنهايتين.

                ثانيًا: التمايز واللاتمايز

                يعتقد كل من تِلار دُه شاردان أن الأشياء والأشكال جميعًا قد انطلقتْ من حالة لاتمايز متجانسة هي عجين مؤلَّف من دقائق أو حبيبات متناهية في الصغر، تمايزتْ إلى خمائر متنوعة تشكلتْ منها الأنواعُ المتعددة والمختلفة. والحق إن كل ما يشاهَد في كوكبنا الأرضي ليس إلا عجينًا واحدًا، مادةً أوليةً تمايزتْ إلى عدد كبير من الخمائر عُرِفَتْ بالأنواع، لتنتهي إحدى تلك الخمائر المميَّزة إلى الإنسان.

                إذا كانت التمايزات الظاهرية العديدة قد انبثقتْ من حالة لامتمايزة أولية متجانسة، لتلتقي في الإنسان الذي يؤلِّف بين جميع التمايزات في جسمه، فإنها متضمنة في حقيقة واحدة.

                ثالثًا: الكل الكبير والكل الصغير

                لما كان الوجود في أكبره، أي في لانهايته الكبرى، يشتمل على ذاته في لانهاية صغرى، فإن كل ما يُرى وما لا يُرى في الكون الأكبر يُرى ولا يُرى أيضًا في الكون الأصغر. وعلى سبيل المثال، نقول: لا شيء في النظام الشمسي إلا وهو موجود في الذرة، أي في الكون الصغير. وعلى هذا الأساس، لا يُعَد أصغر ما في الكون الصغير "جزءًا" بقدر ما يُعَد تصغيرًا أو تقليصًا أو تكثيفًا للكون الكبير، وذلك لكي تكتمل سيرورةُ الحياة. فكل ما يقع بين هذا الحد الأدنى من الوجود، أي الكون الصغير، وبين الحد الأعلى الأكبر، هو سلسلة الوجود الكبرى التي تنتظم في مراتب متلاحقة أو مستويات متصلة، بحيث يتضمن المستوى الأدنى في المستوى الأعلى في كنف حقيقة واحدة تأليفية يمثِّل فيها الإنسانُ الحلقة الوسطى أو الجسر الذي يصل الأدنى بالأعلى. وهكذا يكون الأدنى ألف الوجود ويكون الأعلى ياءه.

                في المستوى الأرضي، ندرك كيف يتفاعل الإنسانُ مع الكل. ففي جسمه، يتم اللقاءُ بينه وبين العالم المادي في عملية مباشرة: فهو يتحد مع العالم المادي ويشكل معه جسمًا واحدًا؛ وهو يتحد مع الغلاف الغازي ويتفاعل معه، تمامًا كما يتفاعل مع النور والحرارة والأشعة الكونية الأخرى؛ ويتحد أو يتفاعل مع الإنسان في أنواعه الإنسانية العديدة، ليمتد ويتسع في كيانه وفي الكيانات الإنسانية الأخرى، التي هي صور منعكسة لصورته في الحياة الاجتماعية والكونية. وهكذا يتماثل الإنسانُ مع نقطة الدائرة حيث تلتقي الدائرةُ كلها في نهاية صغرى، أو حيث يلتقي الكونُ كله فيها بالإضافة إلى المجتمع الإنساني.

                في القديم، قال فيثاغوراس إن الكون نغم ورقم: نغم هو موسيقى ورقم هو نِسَب رياضية. ويشير هذا القول إلى مبدأ الانسجام والتناغم والتوافق والتناسق. لذا لا يخرج هذا الكون عن إطار معقولية الوحدة؛ فهو، في شموله وتعدده، وحدة قائمة بذاتها.

                هكذا يستطيع العلمُ أن يتلمَّس الحقيقة الواحدة الشاملة والكلية عبر الظاهرات العديدة. فهو، في كلِّ استقراء، يؤكد على وجود القوانين الكلِّية الشاملة. وقديمًا قال أرسطو: لا علم إلاَّ بالكليات. وفي الوقت الحاضر، يبحث العلماءُ عن قانون كوني واحد شامل يشمل جميع القوانين الأخرى.

                هكذا تتجلَّى الحياة في الشمول والعالمية – وهذا لأن كل عملية تجريد تقود في المآل إلى الكلِّية المطلقة، انطلاقًا من نسبة ظاهرية أو من ثنائية أو تعددية لا يوجد أحدُ حدودها في معزل عن الحدود الأخرى. لذا يسعى العقلُ المجرد إلى تضمينها في الكل الشامل.

                أخيرًا، يجدر بي أن أقول: إن عالمية الإنسان تتحقق على صعيدين: الصعيد الاجتماعي في نطاق الوطن، والصعيد الاجتماعي الإنساني والعالمي. وعلى الصعيدين يمتد الإنسان في الإنسان امتدادًا لا يجيز للإنسان خلاصًا إلا في الإنسان ومن خلاله – وهذا لأن كل إساءة تصدر عني باتجاه الآخر تُعتبَر إساءةً للإنسانية جمعاء؛ وكل محبة تصدر عني نحو الآخر تُعتبَر تضحيةً وتقديرًا للبشرية جمعاء – وهذا أيضًا لأن الإنسان، في جوهره، يشمل الإنسانية كلَّها في كيانه.

                في اجتماعية الإنسان، التي تختلف عن "تجمعية" الحيوان، نرى كيف أن الأنواع البشرية تلتقي أو تجتمع في دائرة واحدة هي الأنسنة. ففي أنحاء العالم مبادئ وآمال وأمانٍ تسعى إلى التحقق. وقد أصبح العالم وكأنه يتجه إلى تحقيق إنسانية أسمى من خلال وعي ذاته في اجتماعية وجوده الوطني والعالمي. وكما التقت عناصرُ الطبيعة في وحدة كيان الإنسان – ظاهرة الوجود الأرضي الكبرى – كذلك يتوزع الإنسانُ ويتمايز إلى أنواع تلتقي في وحدة إنسانية شاملة، كاملة في تآلُفها.

                ندره اليازجي

                * * *



                المؤلفات العربية

                1. رسائل في حضارة البؤس 1961
                2. الاشتراكية ومفهوم العدالة 1963
                3. النقد الفلسفي للماركسية 1965
                4. بحوث فلسفية 1967
                5. رد على التوراة 1969
                6. رد على اليهودية واليهودية–المسيحية 1971
                7. مقالة في العقل والنفس والروح 1973
                8. دراسات في فلسفة المادة والروح 1980
                9. دراسات في المثالية الإنسانية 1981
                10. تنوع الحضارات ووحدة الفكر الإنساني 1985
                11. تأملات في الحياة النفسية والاجتماعية 1988
                12. فلسفة الإنسان الثائر 1988
                13. رسائل في مبادئ الحياة 1991
                14. المبدأ الكلِّي: لقاء الحكمة القديمة والعلم الحديث 1995
                15. الطريق إلى الحوار 2003
                16. هندسة الروح: أشكال صوفيا 2005



                المؤلفات الإنكليزية

                1. Trans-cultural Understanding: Variety of Cultures and Oneness of Human Thought

                2. Christianity Reinstituted: Christianity Versus Judaism

                3. Philo-scientific Dissertations



                الكتب المترجمة

                1. پيير تِلار ده شاردان، ظاهرة الإنسان
                2. پيير تِلار ده شاردان، موضع الإنسان في الطبيعة
                3. مجموعة من الباحثين، الواقع الاجتماعي
                4. س. رادهاكرشنان وش. مور، الفكر الفلسفي الهندي
                5. روبير لنسن، التطور النفسي في الألفية الثالثة
                6. يولاند ياكوبي، علم النفس اليونغي
                في كل يوم يصلب الانسان الف مرة ومرة ويصلب الوطن على طريق الجلجلة يسير شعب يحمل المسمار والصليب لانه يعيش في موطنه الحنون كالغريب وزهرة الخلاص في يديه مقصلة وسائر على طريق الجلجلة قد كللته المحنة السوداء بالسواد ومزقته اربا رصاصة الاحقاد
                أنا لا أحد وأنت،من تكون؟هل أنت أيضاً لا أحد وإذاً فثمة إثنان منا، إياك أن تخبرأحدا!وإلاألقوا بنا في المنفى
                وراء كل فوضى واشنطن وتل أبيب

                Comment


                • #9
                  هيغل

                  ج.ف.ف. هيغل (1770–1831) والهيغلية

                  هو غيورغ فيلهلم فريدريش هيغل الذي ولد في فورتنبرغ في العام 1770 من عائلة برجوازية صغيرة. تلقَّى في البدء تعليمًا كلاسيكيًّا مكثفًا؛ ثم، بدءًا من العام 1788 وحتى العام 1793، دَرَسَ الفلسفة وعلم اللاهوت في مدرسة توبنغن الإكليريكية، إلى جانب بعض أشهر معاصريه، كشيلنغ وهولدرلن. ونشير هنا إلى أنهم كانوا جميعًا آنذاك شديدي التحمس للثورة الفرنسية.

                  في العام 1818، عُيِّن هيغل أستاذًا للفلسفة في جامعة برلين – لكنه قبلئذٍ مارس العديد من الأعمال كي يعيل نفسه وأسرته: عمل كمدرس خصوصي، ثم كصحفي، ثم كمدير ثانوية في نورمبرغ؛ وأخيرًا عمل أستاذًا في جامعة هايدلبرغ، قبل أن ينتقل إلى برلين، حيث ذاع صيته وتبلور فكره تبلورًا كاملاً، فقام تلاميذه بتدوين دروسه، ثم استُخدِمَت هذه التدوينات بعيد وفاته لتدعيم ما ألَّفه من أعمال.

                  تعكس نصوصه الأولى (وخاصة منها حياة يسوع، حيث يظهر اهتمامُه بالمسألة الدينية) منظورًا كانطيًّا (كان سائدًا آنذاك في الجامعات الألمانية). لكننا سرعان ما نراه يتخلَّى عن إيديولوجية عصر التنوير، محتفظًا مع ذلك باحترام وتقدير خاصين لكلٍّ من كانط وروسو. إذ لقد تبيَّن له بدقة أنه ليس في وسع هذه الإيديولوجية التعبيرُ عن التحولات التي اكتسحت العوالم القديمة، كما هي تكتسح اليوم العالم الحديث. فمن واجب الفلسفة، من منظوره، أن تشرح منطقية ما سبق، شأنها في شرح منطقية ما هو سائد حاليًّا سواء بسواء: فللمرة الأولى نجد، عن طريق فكره، كيف تمَّ إدخال التاريخ ضمن نطاق الفلسفة كبُعد أساسي من أبعاد الوجود. فمجرى التاريخ لا ينبسط انبساطًا عشوائيًّا: فهو، على الرغم من التنافر الظاهري للأحداث، يعبِّر عن معنًى، لأنه يلبي هدفًا في نهاية المطاف، كما أنه يسعى إلى غاية هي التجلِّي التدريجي للفكرة الكونية.

                  فالفكر عند هيغل يتجاوز، من حيث مفهومه، ما كان يمثله، في نظر سابقيه، كصفة من صفات الروح الإنسانية. الفكر عنده يتجاوز هذا المفهوم ليتحول إلى محرِّك للواقع برمَّته. انطلاقًا من هذا الفهم، كانت مقولته الشهيرة القائلة: "كل ما هو منطقي حقيقي، وكل ما هو حقيقي منطقي." كذلك، من هذا المنظور، صار بالإمكان نعت فلسفته (التي تؤكد على تطابق الروح والكائن) بالفلسفة المثالية المطلقة. لكن هذا التطابق الذي لم يكن جليًّا في بداية التاريخ، حيث كانت نقطة البدء، أصبح واضحًا الآن عند نقطة الوصول، بعد أن اجتاز الفكر جميع المراحل التي مكَّنته في نهاية المطاف، وعبر ارتهاناته المتتالية، من أن يتجلَّى تجليًا كاملاً: فالمطلق ما هو في النهاية إلاَّ ما هو في الواقع.

                  في العام 1807، في مؤلَّفه دراسة في فينومينولوجيا الروح Phénoménologie de l’esprit، رسم هيغل ملحمة الوعي – هذا الذي كان، في كلِّ وقت من أوقاته، ينفي ما سبقه، ليرتقي، عبر هذا النفي، إلى درجة واقع أعلى متمِّم. لذلك ترانا ننطلق مبتدئين من ذلك "اليقين المحسوس" لنصل إلى "المعرفة المطلقة": وهذه كانت البانوراما التي صوَّبها وعي معاصر – وعي هيغل نفسه – الذي أعاد مراجعة مسيرة الروح الإنسانية برمَّتها، من خلال سعيها التدريجي إلى وعي مفهوم الحرية. ويصبح هذا الفهم الإجمالي صفة خاصة من صفات فيلسوفنا الذي كان أول من تفهم القانون الخفي الموجِّه للواقع وللفكر، الذي أصبح في وسعه، بالتالي، تجسيد شمولية المعرفة في سائر المجالات – وبشكل خاص في مجال الفلسفة، من خلال مفْصَلَة المنظومات الفلسفية السابقة كافة، للتوصل إلى نظام نهائي يتجاوزها جميعًا، عبر استيعابه لحقائقها الجزئية، موصلاً بذلك الفلسفة إلى تفتحها الكامل، وفي نفس الوقت إلى نهايتها الحتمية.

                  من هذا المنظور، متجاوزًا جميع واضعي المنظومات، يمكن النظر إلى هيغل كـ"آخر الفلاسفة"، ذاك الذي أعلن عن استبداله بالفلسفة معرفةً يتم التوصل إليها عن طريق التطبيق الصارم للجدلية – هذه (أي الجدلية) التي هي، في نفس الوقت، قاعدة الفكر والواقع معًا. لأنه، من هذا المنظور، كانت قطيعة هيغل مع مجمل الموروث الميتافيزيقي الذي لم يحتفظ منه إلا ببعض الثوابت العائدة إلى هيراقليطس واسبينوزا. فالكائن، من منظوره، لا يحتوي من الواقع بمقدار ما يحتوي من العدم. من هنا كانت بعض قواعده التي قد تبدو مشينة وغير مقبولة بنظر المنطق الكلاسيكي، كتلك التي تقول، مثلاً وليس حصرًا: "إن مفهوم الكائن يكافئ العدم من حيث انعدام مضمونه. وعلى العكس من هذا، في المقابل، وكانعكاس للفراغ، فإنه يمكن اعتبار العدم كائنًا في حدِّ ذاته، إن لم نقل إنه الكائن بسبب نقائه." لأنه لا وجود للواقع إلا في قلب الصيرورة (بمعنى التاريخ) وعبرها، الناجم عن "الفعل السلبي" وشميلة synthèse الكائن والعدم: أي أن التناقض الذي لم يكن مقبولاً بنظر الفلاسفة الذين سبقوه أضحى، مع هيغل، محركًا للفكر وللواقع. وما ذاك إلا لأنه فعَّال فعلاً في صيرورته، حيث يتحول كلُّ شيء إلى ما لم تكن عليه حالُه بعد، بحيث لا يبقى تمامًا كما كان عليه. من هذا المنطلق، تزول أية أهمية للكائن وللعدم "المحض" أو المنعزل؛ إذ وحدها تبقى مهمةً لعبةُ تفاعلهما.

                  هذا المنطق الجدلي، المبيَّن بشكل خاص في كتاب علم المنطق، ليس شكليًّا، لأنه المنطق الذي يحوِّل العالم في حدِّ ذاته ويطوِّره: فهو أونطولوجيا فعلية، وخطاب حول الكائن التاريخي.

                  وهذا المنطق هو الذي طبَّقه هيغل في تعليمه البرليني، حين أعاد استعراض سائر مجالات الحياة والثقافة، مضفيًا عليها مضمونًا جدليًّا – مضمونًا جعل من التاريخ والدين والفن والفلسفة لحظات واسعة ومتتالية يتجلَّى من خلالها التموضُع التدريجي للروح الإنسانية.

                  هكذا، مثلاً، يبيِّن كتاب مبادئ فلسفة الحق كيف تتحقق الروح كحقٍّ يحدد إرادة الظاهر؛ ثم بعدئذٍ تأتي المناقبية لتحقق استبطان العزيمة؛ وهذا هو العائق الأول الذي يجب على "المناقبية الموضوعية" أو "الحياة الأخلاقية" تجاوزُه. وتلك (أي الحياة الأخلاقية) تنقسم بدورها إلى ثلاث لحظات هي: العائلة، المجتمع المدني، والدولة، التي هي "التجسيد العملي للفكرة الأخلاقية الموضوعية".

                  وتمر الروح "عبر تحققها المحض" بثلاث مراحل هي: الفن، الدين، والفلسفة أو العلم، حيث الدين والفلسفة يعبِّران تعبيرًا متكاملاً عن المطلق: في البداية من خلال البيان؛ ثم بشكل شديد التصور – وعندئذٍ، "يتم شطب كلِّ عنصر دخيل على المعرفة، وتبلغ هذه الأخيرة حدَّ التساوي الكامل مع ذاتها"؛ وأخيرًا، حين يتم تخطِّي جميع التأملات، تتجلَّى الروح المطلقة تجليًا كاملاً.

                  لقد حققت المنظومة الهيغلية الواسعة، والطموحة بما لا يقارَن، نجاحًا كبيرًا في بداياتها. ثم تبع هذا النجاح شيء من النسيان، حتى أواسط القرن التاسع عشر ومجيء ماركس، الذي كان تقريبًا الشخص الوحيد الذي (على طريقته) كان مازال يعتبر نفسه حينذاك منتسبًا إلى هذه المنظومة. هذه المنظومة التي استعادت نفوذها في القرن العشرين، من خلال أعمال متنوعة لسارتر ولوكاتش وهنري لوفيفر وإريك فايل وماركوزي. أما الجمهور الفرنسي، فقد بدأ بالاهتمام به جديًّا بدءًا من العام 1930. وإذا كانت الفلسفة المعاصرة تبتعد عنه بسبب ارتيابها، على ما يبدو، من الأفكار الشمولية الكبرى، فإن منظومته تبقى ملزِمة لنا كحدٍّ أدنى، ورغم كلِّ شيء، بأخذ البُعد التاريخي للواقع بعين الاعتبار.

                  الدراسة الفلسفية التمهيدية

                  هي في الواقع نوطات هيغل الشخصية، التي كتبها عند تحضيره دروس الفلسفة للسنوات الثلاث الأخيرة لجيمناسيوم نورمبرغ، الذي كان فيلسوفنا قد عُيَّن مديرًا له في العام 1808. وميزة هذه الحواشي أنها تقدم بخطِّ يده موجزًا مكثفًا لفكره وبرنامجًا عمليًّا لما سيطوِّره بعدئذٍ (ما عدا هاهنا تاريخ الفلسفة التي كان يتخوف من أن تبدو تعسفية للطلاب).

                  حيث يقدِّم الدرس الأول (المعد للصف التمهيدي) عقيدة الحقوق والواجبات والدين. أما "الصف الأول" فيحظى بملخَّص لـ"دراسة ظاهرة الروح والمنطق": حيث يظهر الوعي، بادئ ذي بدء، ظهورًا محسوسًا، ثم بوصفه إدراكًا حسيًّا وفهمًا ذهنيًّا، قبل أن ننتقل إلى دراسة وعي الذات في حدِّ ذاته – فهو الرغبة، ثم جدلية الحوار بين السيد والعبد، فالوعي الكوني للذات. وهو في النهاية ولوج الوعي كـ"شكل أعلى للتماهي بين معرفة الشيء ومعرفة الذات"، حيث المعرفة حقيقية، وليست فقط مجرد يقين ذاتي. أما المنطق، فهو يدرس، على التوالي، الكائن والجوهر والمفهوم الذي يتخذ شكله النهائي في الفكرة، كتعبير عن "وحدة الروح والمفهوم".

                  أما الدرس الأكثف فهو ذاك المخصص لطلاب "الصف الأعلى". حيث نبدأ بتناول فكرة المفهوم بمزيد من التفصيل (من منظورَي المنطق – الحكم والقياس – والأونطولوجيا). هذا وتتعمق الموسوعة الفلسفية (القسم الثاني للدرس) في مفهوم المنطق الأونطولوجي من خلال استعراض خاص للصفات الأساسية لآلية عمل الجدلية (كالعلاقة بين الكلِّ وأجزائه، والفعل والفعل المتبادل)، ثم من خلال المنطق الذاتي (العودة إلى الحكم والقياس) واستعادة "مذهب الأفكار".

                  يلي هذا استعراضٌ سريع للعلوم الطبيعية (الرياضيات والفيزياء والبيولوجيا) يسبق الجزء الأخير المخصص لـ"علم الروح": حيث إن وصف أبعادها الأساسية الثلاثة (الإحساس والتصور والتفكير) يتبعه تحققها التدريجي كمعرفة – في البدء من خلال الروح العملية (القانون والأخلاق ونظرية الدولة)، وفي النهاية من خلال الثلاثية الكبرى للفن والدين والعلم التي تثبت "تحققها المحض".

                  ونسجل هنا الأهمية الفائقة لهذه النوطات المدرسية، من حيث إنها تقدم أسُس الفكر الهيغلي في مختلف المجالات. حيث إننا، على الرغم من جفافها وتجريدها الكثيف (الأمر الذي لا ييسِّر قراءتها)، نجد فيها الترسيم المجمل الأساسي لمنظومة هيغل، مما يجعل بالإمكان استعمالها كفهرس عام موجِّه في دراسته.

                  علم الجمال أو الإستيطيقا

                  وهي الدروس التي ألقاها هيغل في برلين، وجُمِعَتْ في العام 1832، ثم أُغْنِيَتْ بعدئذٍ بإضافة مخطوطات مكمِّلة.

                  فالجمالية الهيغلية – وهي ليست معيارية – تقدم مثالاً جيدًا على كيفية فعل الجدلية عبر التاريخ (وخاصة حين يتعلق الأمر بتاريخ الفن): لأن الغاية هي بناء النظرية الفلسفية للفن وتبيان معانيه العميقة. لكن الإعلان عن هذه الأخيرة لا يمكن له أن يتحقق ما لم يفرض الفن طبيعته الخاصة بالكامل، أي عندما يحقق غايته. عندئذٍ – وعندئذٍ فقط – يصير في وسع الخطاب الفلسفي التصوري استكمال المسار من خلال دفع المضمون خطوة إضافية إلى الأمام.

                  بحسب هيغل، ليس في وسع الفن أن يعكس المطلق إلا عَكْسًا حدسيًّا ومحسوسًا: فالعمل الفني هو "التجلِّي المحسوس لفكرة" – ذلك الوسيط بين الإدراك الحسِّي للشيء العادي (الذي يتمايز عنه بحكم كونه لا علاقة له بالرغبة) والإدراك التصوري الصافي (الذي يبتعد عنه بفعل ماديته). وهذا يشرح لماذا "لا يجد الفن، البعيد عن كونه الشكل الأعلى للروح، كمَالَه إلا في العلم". لكن الفن يحمل، مع هذا، بصمات الروح والحرية – لهذا نجد أن هيغل، خلافًا لكانط، لا يقبل بوجود جمال "طبيعي"؛ ما يعني، بالتالي، أنه لا يمكن تبسيطه إلى مجرد نَسْخ للطبيعة أو محاكاة لها، أو اختزاله إلى مجرد قدرة تقنية.

                  إن كون العمل مكونًا من سفحين – أحدهما محسوس والثاني عقلي – يحدِّد ما بينهما ثلاث علاقات ممكنة، تُقابِل اللحظات الثلاث الكبرى في تاريخ الفن، حيث يلخِّص كلٌّ منها، على نحو ما، روح ثقافة ما، ويتحقق تحققًا مميزًا في الفن بشكل خاص.

                  وهكذا، عندما يستولي الجانب الحسِّي على الفكرة، فإننا نجد أنفسنا ضمن مجال الفنِّ الرمزي (فالرمز مبهم دائمًا، حيث يمكن لشكله أن يولِّد عدة معانٍ): وهذه حال الفن المصري – وذروة موسيقاه متمثِّلة في أبي الهول الذي يجسد الوظيفة الرمزية.

                  بينما يمتاز الفن الكلاسيكي بتوازن الجانب المحسوس مع الجانب العقلي. وهذا ما تجسده، على سبيل المثال، المنحوتات اليونانية التي تبين مثالية الجمال الطبيعي – لكن، في المقابل، نجد أن ما تقدِّمه التراجيديا اليونانية، من خلال تسلسل مؤلِّفيها الثلاث، هو ملخَّص لتاريخ الفن، حيث يمثل إسخيلوس الرمزية، بينما يمثل سوفوقليس الكلاسيكية؛ أما إفريبيدِس فيمثل الرومانسية.

                  ونجد أن الفن الرومانسي (المتوافق مع الثقافة المسيحية) يعبِّر عن تجاوز المضمون للشكل. فالفكرة غنية إلى حدٍّ لا يمكِّن المادة من استيعابها استيعابًا كاملاً. وتتحقق هذه المرحلة الأخيرة في عدة فنون، كالرسم والموسيقى والشعر، حيث يشكل هذا الأخير (أي الشعر) الفن الأكثر عقلانية بين الفنون، لأن المادة فيه تنمحي تقريبًا، بما يجعل بالإمكان صنع شميلات جزئية من كلِّ الفنون الأخرى: فالشعر الملحمي يبيِّن الجوانب التشكيلية والتصويرية؛ أما الشعر الغنائي فيغتني بالموسيقى؛ بينما يجمع الشعر المسرحي، أخيرًا، جميع هذه الصفات الروحية. ونشير هنا إلى أن الشعر، بلا ريب، لا يبلغ حدَّ نقاء المفاهيم، لكنه يمتاز عن غيره من الفنون بأن أداته هي اللغة فقط، مما يعطيه نقاء لا يضاهى في عالم الفن: فالشعر، على طريقته، يعلن قرب سيادة العلم.

                  إن هذه الإستيطيقا، الغنية بتحليلات عميقة لأعمال كثيرة ومعانيها ووسطها الثقافي، قد أثَّرتْ، إلى حدٍّ كبير، على علماء الجمال (ككروتشي وفوسيلون)، كما أثرت على النتاج الفني في حدِّ ذاته (فالسوريالية استخلصت منها، مثلاً، ضرورة أن تصبح جميع الفنون "شاعرية"). تبقى المشكلة ما تعلنه هذه الجمالية من "موت الفن"، لأنه من الواضح أن الفن مازال مستمرًا. لكننا نخطئ إن اعتقدنا بأن هذا البقاء يتعارض مع المفهوم الهيغلي لتاريخ الفن – لأنه قد يكون من الأفضل، ربما، أن نتساءل فيما إذا كانت الأعمال الحديثة تحقق الاهتمام بـ"تجلٍّ محسوس للفكرة".

                  دروس حول تاريخ الفلسفة

                  نُشِرَتْ أيضًا في العام 1832، ثم أُغْنِيَتْ بإضافة مخطوطات ملحقة. وتمثل هذه الدروس نوطات سبق أن كتبها هيغل، وقدمها عدد من الناشرين ما بين عامي 1816 و1828؛ الأمر الذي يفسر، ربما، سبب بعض ما قد نجد فيها من تكرار، وحتى من تناقضات – لكن قراءتها، التي ينبغي أن تكون متأنية، سهلة نسبيًّا؛ بمعنى أن ما تحويه من تكرار وتعبيرات متغيرة لنُسَخ مختلفة متتالية تسمح بتعميق فرضيات الفيلسوف.

                  ففي مقدمة في منتهى الأهمية، يبيِّن هيغل مفهومه لما يجب أن يكون عليه تاريخ الفلسفة – الأمر الذي ستكون له خلفيات عظيمة: لأنها تعادل العقلانية المتجسِّدة على أرض الواقع، أي ما يمكن تسويته بالوعي التدريجي للعقل المطلق. لأنه لا يمكن الفصل بين التصور النهائي للفلسفة وتاريخها – هذا التصور الذي يتحقق من خلال تطور مختلف المنظومات الذي لا يتم بناؤه بناءً عشوائيًّا وذهنيًّا بالمطلق، إنما كتحقق للحظات النفس المتتالية. لذا فإن فهم منظومة معينة ومبدأها يمكن له أن يتم من خلال مفهومين مختلفين: "المفهوم السلبي، ويرى ما في هذه المنظومة من حصرية؛ ومفهوم إيجابي، أو لنقل مؤيِّد، يرى ما تحويه من لحظة ضرورية للفكرة." وبالتالي، "لا يمكن دحض أية فلسفة، وفي نفس الوقت يمكن دحضها [الفلسفات] جميعًا"، بمعنى أن "ما يجري دحضه ليس هو المبدأ [في أية فلسفة]، بل ما يظهر وكأنه نهائي ومطلق، أو أن له قيمة مطلقة؛ بما يعني، في الواقع، اختزال قيمة المبدأ إلى مستوى اللحظة المحددة للكل".

                  إن هذا الكل، الذي لا يشتمل على مدارس الفكر الشرقي لأنها لا تعرف ما تعنيه حرية النفس، وهي، في أحسن الأحوال، مجرد إرهاصات للمسيرة الفلسفية الحقيقية – (هذا الكل) قد تطور عبر مراحل تاريخية كبرى ثلاث: في المرحلة الأولى (والمقصود هنا الفلسفة اليونانية)، يؤكد الفكر على حريته واستقلاليته؛ وقد بلغت هذه المرحلة ذروتها في التعارض بين الرواقية والأبيقورية، تلك التي تجاوزتْها الريبية، التي ستمهد الطريق لتديُّن مفرط، أضاع العقل من خلاله استقلاليته.

                  أما المرحلة الثانية (وهي مرحلة الفلسفة المسيحية)، فقد كانت تعترف بثنائية رئيسية بين العقل والإيمان، بين ما يتجاوز المحسوس والمحسوس. وقد تطور هذا المفهوم في مجمل فلسفة العصر الوسيط.

                  وتعيد الفلسفة الحديثة إلى العقل حقوقه المتجسدة في الواقع (وبالتالي لم تعد مفارِقة). عندئذٍ، ينفتح المجال أمام وعي ذاتي للنفس كروحانية فاعلة في العالم، حيث المعرفة المطلقة هي الأفق الذي بالنسبة إليه تتجسد معاني جميع الجهود السابقة للتفكير الفلسفي وتترابط فيما بينها.

                  وهكذا كان هيغل يفسر جميع المنظومات الفلسفية كمساهمات في سبيل المعرفة المطلقة؛ الأمر الذي يستدعي بالضرورة تشوهات، لكن أيضًا آفاقًا لم يسبق لها أن طُرِقَتْ. حيث إن كانت الفلسفة على الإجمال تظهر وكأنها بناء بطيء للمعرفة، فإن كلَّ فيلسوف قد ساهم في وقته، بمقدار ما كان متوفرًا له من إمكانات، في "لحظته"؛ الأمر الذي يجعل جميع المنظومات مبرَّرة كتجسيد جزئي ومحدَّد لفكرة تتجاوزها من خلال إعادة الاعتبار إلى حقائقها وسط مسيرة كلِّية: "لأن تعاقُب المنظومات الفلسفية هو تاريخيًّا نفس تعاقب إرادات مفهوم الفكرة في تجلِّياتها المنطقية."

                  نصوص أخرى لهيغل: حياة يسوع (1795)، فينومينولوجيا الروح (1807)، علم المنطق (1812-1816)، ملخص موسوعة العلوم الفلسفية (1817)، مبادئ فلسفة الحق (1821).

                  نصوص طُبِعَتْ بعد وفاته: دروس في فلسفة التاريخ، دروس في فلسفة الحق، دروس في فلسفة الدين.

                  وكان لهيغل العديد من الأتباع في أثناء حياته؛ لكن نفوذه الحقيقي في ألمانيا لم يتجاوز العام 1850، حيث حلَّتْ محلَّه الروح الوضعية.

                  ومن المعتاد أن نميز في الفلاسفة الذين حاولوا تطوير منظومته بين جناح "يميني" (كميشليه وغالِبير وروزنكرانتس) وجناح "يساري" – كان الأوْزَن، لأنه ضمَّ خاصة كارل ماركس الذي طغى عمليًّا على محاولات شتراوس والأخوين باور وفويرباخ، الذين كانوا يعتبرون أنفسهم ثوريين، حتى جاء ماركس ونَقَدَهم مفندًا، خاصة في كتابه الإيديولوجية الألمانية، حيث بيَّن أنهم مازالوا في الواقع مثاليين.

                  وهكذا، في قلب الماركسية، تطورت الهيغلية كفكر نقدي حي: فكُتُب لينين (دفاتر حول الجدلية) ولوكاتش (تاريخ الوعي الطبقي) وك. غروس (الماركسية والفلسفة) تبيِّن، بطُرُق مختلفة، مدى خصب الجدلية – حتى حين كانت تُستعمَل لمواجهة التفسيرات الرسمية والجامدة للماركسية.

                  وأيضًا، يمكن أن نصنِّف كهيغلية أعمال مدرسة فرانكفورت، وأعمال ماركوزي، وذلك ضمن فهمها للواقع، بتناقضاته القادرة على توليد إيجابياتها من خلال حركتها.

                  أما في فرنسا، فلم يكن هيغل محبوبًا إبان حياته؛ كما أنه لم يُفهَم فهمًا جيدًا (كان كوزان قد نصح له آنذاك بأنه إن رغب في نيل تفهم الجمهور الفرنسي، يجب عليه كتابة ملخَّص واضح لفكره)، حيث شُوِّه فكرُه من منظور سياسي عبر إعلاء القومية ومفهوم الدولة. وباستثناء السورياليين، فقد ظل مجهولاً لدى الجمهور الفرنسي حتى بداية ثلاثينيات القرن المنصرم، حيث ما بين عامي 1930 و1939 عقد ألكسندر كوجيف حلقة دراسية حول المفهوم الهيغلي لـ"نهاية التاريخ". بعد هذا، ونتيجة لتفسيرات متعددة، ولَّد فكر هيغل توجهات متعددة، سواء حين كان يجري التأكيد على علم الجدال لديه، حيث أثر على فوسيلون في فرنسا وكروتشي في إيطاليا)، أو فيما يتعلق بالأنثروبولوجيا، أو في السياسة (حيث أثر على هنري لوفيفر)، أو فيما يتعلق بالأهمية التي كان يعزوها إلى الوعي الذاتي. كما نجد له أثرًا واضحًا عند فلاسفة مهمين، كسارتر وجورج باتاي.

                  ***

                  ملاحظة: تم تعريب هذا النص عن قاموس ناثان الفلسفي، تأليف جيرار دوروزوي وأندريه روسيل.

                  تعريب: أكرم أنطاكي.

                  مراجعة: ديمتري أفييرينوس


                  .



                  مراجع المادة

                  - F. Châtelet, Hegel (Seuil)

                  - J. D’Hondt, Hegel (PUF)

                  - J. Hyppolite, Logique et existence (PUF)

                  - A. Kojève, Introduction à la lecture de Hegel (Aubier)
                  مقالات عن هيغل
                  مونيس بخضرة

                  عقم الفلسفة: هيغل و"نهاية" الفلسفة
                  في كل يوم يصلب الانسان الف مرة ومرة ويصلب الوطن على طريق الجلجلة يسير شعب يحمل المسمار والصليب لانه يعيش في موطنه الحنون كالغريب وزهرة الخلاص في يديه مقصلة وسائر على طريق الجلجلة قد كللته المحنة السوداء بالسواد ومزقته اربا رصاصة الاحقاد
                  أنا لا أحد وأنت،من تكون؟هل أنت أيضاً لا أحد وإذاً فثمة إثنان منا، إياك أن تخبرأحدا!وإلاألقوا بنا في المنفى
                  وراء كل فوضى واشنطن وتل أبيب

                  Comment


                  • #10
                    هيراقليطس

                    هيراقليطس (576 و480 ق م)



                    مفكِّر من إيونيا في آسيا الصغرى. قيل عنه إنه كان مبغضًا للبشر ويكره المجتمع. وقد وصفه معاصروه بالغموض؛ وذلك كان، ربما، بسبب أسلوبه الملغَّز وصعوبة فهم ما كان يطرحه من تأملات تتعلق بالتحول الكوني والأضداد. وقد كان مناوئًا تقليديًّا لبَرمينيذس، ويعتقد بأن النار، التي هي المبدأ الكوني، تحوِّل الكائنات والأشياء تحويلاً كاملاً. فالتناغم الظاهر للعالم لا يقوم إلا على اتحاد الأضداد. هذا وقد أثارت تلك النتف التي وصلتنا من كتاباته، من نحو "نحن لا نستحم في النهر نفسه مرتين" و"ما الزمن إلا مملكة يحكمها طفل يلعب بعظميات الكعب"، إعجاب هيغل الذي وجد فيها أولى المحاولات الجدلية. وكذلك كان موقف كلٍّ من نيتشه وهيدِّغر منه.

                    ***

                    ملاحظة: تم تعريب هذا النص عن قاموس ناثان الفلسفي، تأليف جيرار دوروزوي وأندريه روسيل.

                    تعريب: أكرم أنطاكي

                    مراجعة: ديمتري أفييرينوس
                    في كل يوم يصلب الانسان الف مرة ومرة ويصلب الوطن على طريق الجلجلة يسير شعب يحمل المسمار والصليب لانه يعيش في موطنه الحنون كالغريب وزهرة الخلاص في يديه مقصلة وسائر على طريق الجلجلة قد كللته المحنة السوداء بالسواد ومزقته اربا رصاصة الاحقاد
                    أنا لا أحد وأنت،من تكون؟هل أنت أيضاً لا أحد وإذاً فثمة إثنان منا، إياك أن تخبرأحدا!وإلاألقوا بنا في المنفى
                    وراء كل فوضى واشنطن وتل أبيب

                    Comment


                    • #11
                      هيدغر

                      م. هَيْدِغِّر (1889–1976)

                      هو مارتن هيدغِّر، الذي، بعد أن درس علم اللاهوت، تخلَّى عن تطلعه لأن يصير كاهنًا، فكرَّس نفسه للرياضيات والعلوم الطبيعية، وأخيرًا للفلسفة. وفي العام 1916، قام بتقديم أطروحته حول مذهب الأنواع ومعانيه عند دونز سكوتوس. وما بين العامين 1920 و1923، عمل كمساعد لهوسِّرل في جامعة فريبورغ، ثم حلَّ محله في العام 1928. اعتزل الحياة العامة في العام 1934؛ لكنه عاد إلى تدريس الفلسفة في العام 1945، فكتب مقالته الشهيرة رسالة حول المذهب الإنساني لجان بوفريه (1947). وتابع يكتب بغزارة حتى تقاعده (1957)، الذي لم يكن عائقًا حال دون تقديم المحاضرات وعقد الحلقات الدراسية.

                      وفي حين اعتبره بعضهم "أعظم فلاسفة زمانه" (ج. لاكروا)، فقد شكَّك فيه البعض الآخر لأسباب سياسية (حيث انتقدوه لأنه ظل مدة ستة أشهر رئيسًا للجامعة في العهد النازي، ولأنه كتب بعض المقالات والخطب المؤيدة للنازية، على حدِّ زعمهم*)، أو لأسباب تتعلق بفقه اللغة (حيث يبدو مؤلَّفه حول أصول الاصطلاحات اليونانية واشتقاقاتها محيرًا، وذلك على الرغم من تأكيده على ضرورة أن يكون للمتفلسف "أذنًا يونانية")، أو لأسباب فلسفية: فما كان يقدِّمه هيدغر كان فكرًا صارمًا جدًّا، ذا مقاربة أقل ما يمكن القول فيها إنها في منتهى الحساسية – فكر لقي، بشكل خاص، على الرغم من صعوبته، قبولاً واسعًا في الولايات المتحدة وفي اليابان – حيث، إن لم يكن في وسعنا أن نؤكد أنه صار صاحب طريقة فلسفية، فإن ما في وسعنا القطع فيه هو أنه أصبح له شركاء ضالعون، كجان بوفريه مثلاً.

                      ركَّز فكر هيدغِّر بشكل عام على مسألة وحيدة هي: مسألة الوجود. ففي الوقت الذي كانت أولى سنواته الفلسفية في ألمانيا تنبسط وسط أجواء تتصارع فيها تيارات الوضعية وفلسفة الحياة (ف. ديلتاي) الكانطية الجديدة، كان أستاذه هوسِّرل أكثر من أثَّر فيه، وذلك حتى صدور مؤلَّفه الشهير الوجود والزمن Sein und Zeit (1927) – هذا المؤلَّف الذي جعل من دراسة الظواهر (أو الفينومينولوجيا phenomenology) طريقًا غير سُنِّي فلسفيًّا للترقِّي إلى الأونطولوجيا (علم الوجود). فمن خلال تأكيده الجذري على التمايز بين الوجود être والموجود étant، حكم هيدغر بالفناء على الميتافيزياء الغربية التي نسيته، معيدًا من جديد طرح مسألة الوجود، سواء في حدِّ ذاته، أو من خلال موجوده، ومعيدًا، في الوقت نفسه، أصالته إلى كلٍّ من الفكر والوجود. فالوجود يفترض فَرْزَ الإنسان من بين جميع الكائنات كـ"راعٍ" له، بحكم كونه يمتلك القدرة على الكلام أو اللغة. وهكذا، كمنادى عليه من قبله، يصبح الإنسان ملكًا له، من جهة، ومحرومًا منه، من جهة أخرى – مما يولد هذا "القلق" الذي لا يمكن اعتباره قلقًا نفسيًّا بمقدار ما هو أنطولوجي؛ الأمر الذي يعني انقطاع تطور غير مكتمل، أو لنقل تطور منقوص للوجود في حدِّ ذاته. وهذا القلق – إن لم نقل هذا الإخفاء لما هو منكشف في الوقت نفسه – يفتح الزمن والتاريخ، ويُلزم المرء على فهم البحث عن الحقيقة كتوجُّه لا ينتهي. ويصبح الإنسان الحقيقي من هذا المنظور ذلك الذي يرفض غفلة الـ"نحن"، فيقبل المخاطرة والتفكير في حالته الفردية الخاصة، معيدًا التساؤل حول ما تعنيه بالنسبة للوجود والعالم والآخرين، متسائلاً من جديد عن ماهية عالمه الذي يبدو وكأنه موجود منذ الأزل، يستخلص النتائج الناجمة عن تساؤلاته.

                      في العام 1928، وضمن السياق نفسه، كتب هيدغر ما هي الميتافيزياء؟ كاستمرارية لكتاب الوجود والزمن. ثم كتب كانط ومسألة الميتافيزياء (1930). لكن الأهمية التي أولاها للُّغة وللتساؤل الأنطولوجي في حدِّ ذاته قاده إلى تواطؤ استثنائي مع الشعراء، سواء كان الأمر يتعلق بهولدرلِن (كما في مؤلَّفه هولدرلِن وجوهر الشعر، 1936) أو مع الشعراء ما قبل السقراطيين، الذين كتب حولهم الكثير من المقالات وكرَّس لهم العديد من حلقات البحث، متأملاً بلا كلل في نصوصهم، محاولاً تلمس انعكاس فكري سابق للميتافيزياء في حدِّ ذاتها، ومحاولاً إعادة إحياء هذا الفكر. كان هيدغر ينظر إلى الشعر كـ"مخاطرة جيدة" بالنسبة للمفكر، حيث قال: "كل فكر يعرض معنًى هو شعر، بينما كلُّ شعر هو فكر. فكلاهما ملك للآخر، وهما يسيران معًا بدءًا من هذا القول الذي كرَّس نفسه منذ البداية للامسمَّى." من هذا المنطلق، لا يعود التعليق على شعر ريلكه أو تراكي أو موريكه (وبالأحرى رونيه شار) مجرد تمرين أدبي، إنما يصبح طريقًا لولوج الفكر من حيث أشكاله الأكثر تقدمًا وحداثة، لأنه إن صح – كما يؤكد هيدغر – أننا لم نعد نعرف ماهية التفكير (وقد أقام حلقة بحث كاملة لمعالجة موضوع: "ماذا نعني بالتفكير؟") فإن الكلام أيضًا – أي ما يقال في سياق اللغة – كان شعرًا في بداياته، والنثر (والفلسفي منه بشكل خاص) ما هو إلاَّ صداه المنحط.

                      ونلاحظ بأن مصاحبة هيدغر للشعر هي خاصية فريدة في تاريخ الفلسفة – وهذا كافٍ في حدِّ ذاته لتبيان مدى التباعُد بينه وبين وجودية ج.ب. سارتر، وذلك على الرغم من تأكيد سارتر على هذا التقارب، وإنْ من خلال تفسيرات مغلوطة. كما أنها تشكِّل نقطة انقطاع للمنقول العقلاني في الفلسفة، الأمر الذي يفسِّر إلى حدٍّ كبير ما لَقِيَه من مقاومة. كما يمكن أيضًا تفسير العداء لهيدغر بموقفه اللامبالي من الماركسية وعلم النفس والعلوم الإنسانية، وبتفسيره للتكنولوجيا الحديثة، لا كنتاج للعلم إنما، عبر ديكارت ولايبنتس ونيتشه، كنتاج للميتافيزياء الغربية، معلنًا سيطرة الإنسان على الأرض كلِّها. لكن يبقى أنه كان لهيدغر أثر متفاوت على أعمال لاكان وأكسيلوس، كما أنه أثَّر على أبحاث م. ميرلو بونتي وج. دولوز وج. ديريدا، كفكر ينبِّهنا تنبيهًا نهائيًّا إلى ضرورة التحفظ على كلِّ فلسفة تدَّعي أنها تقع في سياق خطٍّ تطوري متصاعد.

                      أعماله الأساسية الأخرى: دروب لا تقود إلى أيِّ مكان (1950)، مدخل إلى الميتافيزياء (1953)، ما هي الفلسفة؟ (1956)، التماثل والتخالف (1957)، توجه نحو الكلام (1959)، حول نيتشه (1961)، مقالات ومحاضرات (1962).

                      ***

                      ملاحظة: تم تعريب هذه المادة عن قاموس ناثان الفلسفي، تأليف جيرار دوروزوي وأندريه روسيل.

                      تعريب: أكرم أنطاكي

                      مراجعة: ديمتري أفييرينوس

                      ***

                      مواد مرتبطة:
                      بين الكون والكائن: 30 عامًا على رحيل هيدغِّر
                      نصوص مختارة




                      مراجع المادة

                      - Beaufret, J., Dialogue avec Heidegger, t. III (Éd. de Minuit)

                      - Trotignon, P., Heidegger (PUF)

                      horizontal rule

                      * انتساب هيدغر إلى الحزب النازي ثابت؛ وأغلب الظن أن الفيلسوف الكبير لم يُقدِم على هذه الخطوة عن اقتناع بصحة الإيديولوجيا النازية، بل لأن الجلوس على كرسي الأستاذية في تلك الأيام كان يشترط مثل هذا الانتساب إلى الحزب الحاكم، كما حصل في بلاد الكتلة الاشتراكية السابقة، وكما حصل – ومازال يحصل – مرارًا في بلادنا. (المحرِّر)



                      في كل يوم يصلب الانسان الف مرة ومرة ويصلب الوطن على طريق الجلجلة يسير شعب يحمل المسمار والصليب لانه يعيش في موطنه الحنون كالغريب وزهرة الخلاص في يديه مقصلة وسائر على طريق الجلجلة قد كللته المحنة السوداء بالسواد ومزقته اربا رصاصة الاحقاد
                      أنا لا أحد وأنت،من تكون؟هل أنت أيضاً لا أحد وإذاً فثمة إثنان منا، إياك أن تخبرأحدا!وإلاألقوا بنا في المنفى
                      وراء كل فوضى واشنطن وتل أبيب

                      Comment


                      • #12
                        المعتزلة

                        المعتزلة

                        المعتزلة فرقة كلامية ظهرت في بداية القرن الثاني الهجري (80 هـ - 131 هـ) في البصرة (أواخر العصر الأموي)، وقد ازدهرت في العصر العباسي. اعتمد المعتزلة على العقل في تأسيس عقائدهم وقدموه على النقل، وقالوا بأنّ العقل والفطرة السليمة قادران على تمييز الحلال من الحرام بشكل تلقائي.

                        يقال من أشهر المعتزلة الجاحظ، والخليفة العالم المأمون، والرازي، وابن الراوندي الذي هاجمهم بعد أن فارقهم بكتاباته التي فسرت أحيانًا على أنها إلحادية ورافضة للتدين بشكل عام. وإن كان هذا، وما زال، موضع سجال فكري إلى اليوم.

                        أعطى تأكيد المعتزلة على التوحيد، وعلى العدل الاجتماعي، الفرقة أهمية كبرى لدى الناس في عصر كثرت فيه المظالم الاجتماعية وكثر فيه القول بتشبيه وتجسيم الذات الإلهية.

                        يعتقد أن أول ظهور للمعتزلة كان في البصرة في العراق، ثم انتشرت أفكارهم في مختلف مناطق الدولة الإسلامية كخراسان وترمذ واليمن والجزيرة العربية والكوفة وارمينيا إضافة إلى بغداد.

                        انطوى تراث المعتزلة لقرون، ولم يعرف عنه سوى من كتابات آخرين، سواء من أشاروا إليهم عبورًا أو من عارضوهم، إلى أن اكتشف مصادفة في اليمن، قبل بضعة عقود، أهم كتاب في مذهب الاعتزال وهو المغني في أبواب التوحيد والعدل للقاضي عبد الجبار.

                        تأسيسها وتسميتها

                        اختلف المؤرخون في بواعث ظهور مذهب المعتزلة، واتجهت رؤية العلماء إلى وجود:

                        1. سبب ديني: فالاعتزال حدث بسبب اختلاف في بعض الأحكام الدينية كالحكم على مرتكب الكبيرة. ويستند العلماء المؤيدين لهذه النظرية إلى الرواية الشائعة في اعتزال واصل بن عطاء عن شيخه الحسن البصري في مجلسه العلمي في الحكم على مرتكب الكبيرة، وكان الحكم أنه مؤمن فاسق. وتقول الرواية إن واصل بن عطاء لم ترقه هذه العبارة، وقال هو: في (منزلة بين منزلتين)، أي لا مؤمن ولا كافر. وبسبب هذه الإجابة اعتزل مجلس الحسن البصري وكوّن لنفسه حلقة دراسية. وفق ما يفهم ويقال حين ذاك إن الحسن البصري أطلق عبارة (اعْتزِلنا واصل).

                        2. سبب سياسي: حيث يعتقد بعض العلماء أن الداعي لظهور هذه الفرقة ظرف حضاري أو تاريخي لأن الإسلام، عند نهاية القرن الأول، كان قد توسع ودخلت أمم عديدة وشعوب كثيرة فيه، ودخلت معها ثقافات مختلفة، ودخلت الفلسفة، ولم يعد المنهج النصي التقليدي النقلي يفي حاجات المسلمين العقلية في جدالهم. والمنهج الذي يصلح لذلك هو المنهج الطبيعي العقلي، والذي سيصبح أهم المذاهب الكلامية من الناحية الخالصة، فهو أكثر المذاهب إغرقًا وتعلقًا بالمذهب العقلاني.

                        العقائد والأفكار

                        بدأت المعتزلة بفكرة أو بعقيدة واحدة، ثم تطورت فيما بعد، ولم تقف عند حدود مسألة واحدة، بل تجاوزتها لتشكل منظومة من العقائد والأفكار، التي في مقدمتها الأصول الخمسة الشهيرة التي لا يعد معتزليًا من لم يقل بها، ونبتدئ بذكر الأصول الخمسة التي هي:

                        1 - التوحيد: ويعنون به إثبات وحدانيته الله ونفي المثل عنه، وأدرجوا تحته نفي صفات الله، فهم لا يصفون الله إلا بالسلوب، فيقولون عن الله: لا جوهر ولا عرض ولا طويل ولا عريض ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا بذي حرارة ولا برودة... الخ، أما الصفات الثبوتية كالعلم والقدرة فينفونها عن الله تحت حجة أن في إثباتها إثبات لقدمها، وإثبات قدمها إثبات لقديم غير الله. قالوا: ولو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخص الوصف لشاركته في الألوهية، فكان التوحيد عندهم مقتضيًا نفي الصفات. ونفصل قليلاً لأن لمبدأ التوحيد مفهوم خاص عند المعتزلة، فهو بالنسبة لهم يعني:

                        آ- التنزيه المطلق: بمعنى "ليس كمثله شيء"، لا تشبيه ولا تجسيم، وتنزيه الله عن أن يكون مثل الأجسام أو الموجودات الحسية، ونفي أي تشبيه بين المخلوقات والله. والآيات التي تفيد التشبيه لا يقبلها المعتزلة على ظاهرها بل يقومون بتأويلها مثل "ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام" - نخرج المعنى الظاهر لكلمة (وجه) ونقول إن المقصود بها الذات.

                        ب- التوحيد بين الذات والصفات: الله ذات ووجود، وهذا الوجود يتصف بصفات ذكرها الله في كتابه، ووصف الله بها نفسه: عالم، كبير، قدير، سميع، خالق، بصير. ويعتبر المعتزلة هذه الصفات مضافة للذات، مثلاً: الإنسان لا يولد عليمًا بل يصبح عليمًا. المعتزلة يقولون إن هذه الصفات ليست زائدة عن الذات إنما هي عين ذات الإلهية (العلم، القدرة، الإرادة، الحياة، السمع، البصر، الكلام): سبع صفات للذات.

                        وصفة الذات هي الصفة التي لا يجوز أن أصف الله بها وبضدها، فلا يجوز أن أصف الله الجاهل × عالم، ولا بالعاجز × قادر... الخ. أما صفات الفعل فهي تلك التي يجوز أن يوصف الله بضدها مثل الرزاق، فأحيانًا يرزق وأحيانًا يمنع الرزق، والمعتزلة يقولون إن "الكلام صفة الفعل وليست صفات الذات".

                        يقول المعتزلة إن صفات الله الستة لا تنفصل عن الذات، وإنما هي عين الذات الإلهية. سميع بسمعه وسمعه هو عين ذاته، بصير ببصره وبصره هو عين ذاته وهكذا... لأنه إذا قلنا إن الصفات ليست عين الذات فمعنى ذلك أن هناك تعدد وتجزؤ في الذات الإلهية، وهذا لا يجوز في رأي المعتزلة لأنه، في رأيهم، شرك. لأنه عندي ذات قديمة وصفات هي عين الذات، ومعنى ذلك أننا نقع في الشرك ونقول قولاً أفظع من قول النصارى في الله. الخروج من هذا المأزق هو في التوحيد بين الذات والصفات، فصفة العلم هي الذات نفسها، وخصوم المعتزلة يسمونهم المعطلة أو أهل التعطيل، أي عطلوا أن يكون للصفات وجود متمايز. الشيعة والخوارج والإباضية أخذوا بهذا المبدأ، وهذا هو معنى التوحيد عند المعتزلة. ويترتب على هذا المذهب بعض المواقف العقيدية مثل نفي رؤية الله لا في الدنيا ولا في الآخرة. "وجوه يومَئِذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة" - إلى ليست حرف جر بل تعني النعمة، ناظرة أي تنتظر تمشيًا مع مبدأ التنزيه، فإذا رؤي الله بالأبصار فهو جسم.

                        2- العدل: ويعنون به قياس أحكام الله على ما يقتضيه العقل والحكمة. وبناء على ذلك نفوا أمورًا وأوجبوا أخرى، فنفوا أن يكون الله خالقًا لأفعال عباده، وقالوا: إن العباد هم الخالقون لأفعال أنفسهم، إن خيرًا وإن شرًا. قال أبو محمد بن حزم: "قالت المعتزلة بأسرها، حاشا ضرار بن عبد الله الغطفاني الكوفي ومن وافقه كحفص الفرد وكلثوم وأصحابه، إن جميع أفعال العباد من حركاتهم وسكونهم في أقوالهم وأفعالهم وعقودهم لم يخلقها الله عز وجل". وأوجبوا على الخالق، الله، فعل الأصلح لعباده. قال الشهرستاني: "اتفقوا - أي المعتزلة - على أن الله لا يفعل إلا الصلاح والخير، ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد. وأما الأصلح واللطف ففي وجوبه عندهم خلاف، وسموا هذا النمط عدلاً". وقالوا أيضًا إن العقل مستقل بالتحسين والتقبيح، فما حسنه العقل كان حسنًا، وما قبحه كان قبيحًا، وأوجبوا الثواب على فعل ما استحسنه العقل، والعقاب على فعل ما استقبحه. ونفصل قليلاً أيضًا...

                        العدل مبدأ هام في فكر المعتزلة، وهم يربطون بين صفة العدل والأفعال الإنسانية، ويرون أن الإنسان حرّ في أفعاله، وهم يقولون ذلك لكي ينقذوا التكليف الشرعي لأن الإنسان المسلم مكلف شرعيًا والإنسان مسؤول عن هذه الأفعال حتى يستقيم التكليف ويكون الثواب عدلاً والعقاب عدلاً. خلافًا للجبرية الذين يعتقدون أن الأفعال من خلق الله والإنسان مجبور عليها. ترى المعتزلة أن عدل الله يقتضي أن يكون الإنسان هو صاحب أفعاله، ويترتب على القول بالعدل الإلهي أن الله لا يفعل الشر، فأفعال الله كلها حسنة وخيرّة، الشر إما أن يوجد من الإنسان، أو لا يكون شرًا.

                        يقول المعتزلة إن الله يفعل ما هو الأصلح لعباده، ولا يمكن أن يفعل الشر لهم. ويتمثل المعتزلون الذات الإلهية خيرًا مطلقًا، ويقولون باللطف الإلهي أي أن الله يهدي الناس إلى ما فيه الخير لطفًا بهم. القول بالحسن والقبح الذاتيين أو العقليين، والمقصود بها أفعال الإنسان الحسنة وأفعال الإنسان القبيحة. مثلاً الصلاة فعل حسن، التصدق فعل حسن، إطعام المسكين فعل حسن...؛ الزنا فعل قبيح، الاعتداء... أفعال سيئة قبيحة.

                        وبالنسبة لتحديد ما إذا كان الفعل حسن أو قبيح هناك إتجاهان: الأول يقول (إن الشرع قد أخبرني ذلك)، أي ما يجعل الأفعال حسنة أو قبيحة هو الإخبار الشرعي، وهذا مبدأ التيار السلفي النقلي الذي يأخذ بظاهر النصوص؛ أما الاتجاه الآخر فهو التيار العقلي الذي يقول إن العقل هو المسؤول.

                        يترتب على مبدأ العدل أيضًا القول بخلق القرآن، فالقرآن كلام الله، والكلام صفة من صفات الله، فالله متكلم وكلم موسى تكليمًا، وصفة الكلام هي إحدى الصفات التي يعتبرها بعض المسلمين صفات ذات (صفة الذات هي صفة يوصف الله بها ولا يجوز أن يوصف بضدها مثل الحياة والإرادة)، ويعتقدون أن كلام الله مخلوق أو حادث، أي أنه وجد بعد لم يكن موجودًا، وتكلم الله به بعد لم يكن متكلمًا.

                        الخليفة المأمون فرض القول بخلق القرآن، وطلب من الجميع أن يقروا بذلك، واعتبر القول بقدم الذات الإلهية ضرب من الشرك المضاد للتوحيد؛ إلا أن أحمد بن حنبل تصدى لهذا القول فاستضعف وتعرض للسجن والتعذيب، ولذا فقد لقب بإمام أهل السنة.

                        3- المنزلة بين المنزلتين: وهذا الأصل يوضح حكم الفاسق في الدنيا عند المعتزلة، وهي المسألة التي اختلف فيها واصل بن عطاء مع الحسن البصري، إذ يعتقد المعتزلة أن الفاسق في الدنيا لا يسمى مؤمنًا بوجه من الوجوه، ولا يسمى كافرًا، بل هو في منزلة بين هاتين المنزلتين، فإن تاب رجع إلى إيمانه، وإن مات مصرًا على فسقه كان من المخلدين في عذاب جهنم.

                        أي أن حكم الفاسق في الدنيا هو أنه ليس بمؤمن ولا بكافر، وبالتالي يظل على هذا الحال؛ فإن تاب أصبح مؤمنًا وإن لم يتب حتى موته يخلد في النار. ينسب إلى الرواقيين التمييز بين قيمة الخير وقيمة الشرّ، إذ يقولون إن هناك أشياء خيرة وأشياء شريرة وأشياء بين البينين. وهذه هي فكرة المعتزلة بالقول بمنزلة بين منزلتين، إذ تأثروا بالرواقيين. وقد تشكل الاعتزال كمذهب في القرن الثاني. والسبب فيه أن رجلاً دخل على الحسن البصري، فقال: يا إمام الدين لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة، وهم وعيدية الخوارج؛ وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان بل العمل على مذهبهم ليس ركنًا من الإيمان ولا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأمة؛ فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقادًا. فتفكر الحسن في ذلك، وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقًا ولا كافر مطلقًا بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر. ثم قام واعتزل إلى اسطوانة من اسطوانات المسجد يقرر ما أجاب على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن اعتزل عنا واصل، فسمى هو وأصحابه معتزلة.

                        ووجه تقريره أنه قال إن الإيمان عبارة عن خصال خير إذا اجتمعت سُميّ المرء مؤمنًا، وهو اسم مدح. والفاسق لم يستجمع خصال الخير ولا استحق اسم المدح فلا يسمى مؤمنًا، وليس هو بكافر مطلقًا أيضًا لأن الشهادة وسائر أعمال الخير موجودة فيه لا وجه لإنكارها، لكنه إذا خرج من الدنيا على كبيرة من غير توبة فهو من أهل النار خالد فيها، إذ ليس في الآخرة إلا فريقان: فريق في الجنة، وفريق في السعير. لكنه يخفف عنه العذاب وتكون دركته فوق دركة الكفار.

                        4- الوعد والوعيد: المقصود به إنفاذ الوعيد في الآخرة على أصحاب الكبائر، وأن الله لا يقبل فيهم شفاعة، ولا يخرج أحدًا منهم من النار، فهم كفار خارجون عن الملة مخلدون في نار جهنم. قال الشهرستاني: "واتفقوا - أي المعتزلة - على أن المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبة استحق الثواب والعوض. وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها استحق الخلود في النار، لكن يكون عقابه أخف من عقاب الكفار. وسموا هذا النمط وعدًا ووعيدًا".

                        5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهذا الأصل يوضح موقف المعتزلة من أصحاب الكبائر، سواء أكانوا حكامًا أم محكومين، قال الإمام الأشعري في المقالات: "وأجمعت المعتزلة، إلا الأصم، على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الإمكان والقدرة باللسان واليد والسيف. كيف قدروا على ذلك" فهم يرون قتال أئمة الجور لمجرد فسقهم، ووجوب الخروج عليهم عند القدرة على ذلك، وغلبة الظن بحصول الغلبة وإزالة المنكر.

                        هذه هي أصول المعتزلة الخمسة التي اتفقوا عليها. لكن هناك عقائد أخرى للمعتزلة منها ما هو محل اتفاق بينهم، ومنها ما اختلفوا فيه، فمن تلك العقائد:

                        1- نفيهم رؤية الله عز وجل: حيث أجمعت المعتزلة على أن الله لا يُرى بالأبصار، لا في الدنيا ولا في الآخرة، قالوا لأن في إثبات الرؤية إثبات الجهة لله، والله منزه عن الجهة والمكان. وتأولوا قول القرآن: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) أي منتظرة.

                        2- قولهم إن القرآن مخلوق: قالوا إن الله كلم موسى بكلام أحدثه في الشجرة.

                        3- نفيهم علو الله: وتأولوا الاستواء في قول القرآن: "الرحمن على العرش استوى" بالاستيلاء.

                        4- نفيهم شفاعة النبي لأهل الكبائر من أمته: قال الإمام الأشعري في المقالات: "واختلفوا في شفاعة رسول الله هل هي لأهل الكبائر. فأنكرت المعتزلة ذلك وقالت بإبطاله".

                        5- نفيهم كرامات الأولياء: قالوا لو ثبتت كرامات الأولياء لاشتبه الولي بالنبي.

                        المعتزلة في العصر الحديث

                        ظهرت عدة محاولات لإحياء فكر المعتزلة في مواجهة التردي الذي تعيشه الأمة الاسلامية. ولكن معظم هذه المحاولات كانت تعاني من التأثر بالفكر الغربي. وبالتالي بدت هذه المحاولات وكأنها تلحق الحضارة الإسلامية بالحضاره الغربية. ولكن جهود الشيخ أمين نايف ذياب (1931 - 2006) أدت إلى بعث الاعتزال كفكر سياسي شعبي نابع من حضارة الإسلام.

                        *** *** ***

                        عن ويكبيديا
                        في كل يوم يصلب الانسان الف مرة ومرة ويصلب الوطن على طريق الجلجلة يسير شعب يحمل المسمار والصليب لانه يعيش في موطنه الحنون كالغريب وزهرة الخلاص في يديه مقصلة وسائر على طريق الجلجلة قد كللته المحنة السوداء بالسواد ومزقته اربا رصاصة الاحقاد
                        أنا لا أحد وأنت،من تكون؟هل أنت أيضاً لا أحد وإذاً فثمة إثنان منا، إياك أن تخبرأحدا!وإلاألقوا بنا في المنفى
                        وراء كل فوضى واشنطن وتل أبيب

                        Comment


                        • #13
                          الموت

                          الموت

                          يُقصَد بالموت التوقُّف الفيزيائي للحياة. لكنه، كمفهوم في حدِّ ذاته، مرتبط بالفرد وبالنوع. لأنه، إن كان الحيوان لا يعرف أنه سيموت، فإن الأمر مختلف جدًّا عند الإنسان: فإن لم يكن بوسعنا اختبار الموت اختبارًا مباشرًا، فإنه يظهر كهتيكة، وكتعبير عن عنف جذري وغامض يهدِّد دائمًا التنظيمَ الكوني الذي أقامه البشر بعملهم. كما أنه يهدِّد الإنسانية في حدِّ ذاتها أيضًا، سواء كان على هيئة موت بيولوجي أو موت روحي أو نفسي (لهذا السبب نرى بعض المجتمعات – الأزتيك مثلاً – يصوِّره كبوابة إلى القدسي).

                          لنأخذ الأمر الآن من حيث انعكاسه كمجموعة سلوكيات اجتماعية (العناية التي تولى، على سبيل المثال، للجثمان والتي تعبِّر عن إرادة منع انتشار الموت): نلاحظ بأن الانعكاس الفلسفي للموضوع قد سعى جاهدًا لنفي الطابع الصَّادم للموت، بمعنى التحلُّل الكامل للكائن (بحسب أبيقور)، أو بمعنى "المعبر"، أي كبوابة نحو ما يتجاوز الحياة (وفق الأفلاطونية و/أو المسيحية).

                          فقد صوَّر أفلاطون الموت كخلاص يسمح للنفس بأن تتحرَّر من سجنها الجسدي وأن تتعرف إلى مصيرها. من هنا جاء قوله: "تعلُّم الفلسفة هو تعلُّم كيفية الموت." كذلك أيضًا، ومن المنظور نفسه، صورت المسيحية الموت كغرفة انتظار – إن لم نقل كبوابة – تنطلق النفس منها نحو الحياة الأبدية. من هذا المنظور المسيحي كانت دعوة بَسكال للبشر، "الذين هم جميعًا محكومين بالموت"، على حدِّ قوله، أن يتجنبوا إضاعة الوقت وأن يفكروا بالخلاص. لكن هذا كلَّه لا يمنع من أن حتمية الموت يمكن أن تعاش كنوع من أنواع العبودية – حتى وإن حاولنا أن نعزِّي أنفسنا قائلين، على غرار شوبنهاور، بأن انتصار الموت ليس كاملاً في النهاية، لأنه يجنِّب النوعَ الفناءَ من خلال ضمانه للبقاء.

                          من هذا المنظور، أليست الحكمة الحقيقية للإنسان الحرِّ، بالتالي، كما قال سبينوزا، هي في "تأمل الحياة، عوضًا من تأمل نقيضها"؟

                          ***

                          ملاحظة: تم تعريب هذا النص عن قاموس ناثان الفلسفي، تأليف جيرار دوروزوي وأندريه روسيل.

                          تعريب: أكرم أنطاكي.

                          مراجعة: ديمتري أفييرينوس
                          في كل يوم يصلب الانسان الف مرة ومرة ويصلب الوطن على طريق الجلجلة يسير شعب يحمل المسمار والصليب لانه يعيش في موطنه الحنون كالغريب وزهرة الخلاص في يديه مقصلة وسائر على طريق الجلجلة قد كللته المحنة السوداء بالسواد ومزقته اربا رصاصة الاحقاد
                          أنا لا أحد وأنت،من تكون؟هل أنت أيضاً لا أحد وإذاً فثمة إثنان منا، إياك أن تخبرأحدا!وإلاألقوا بنا في المنفى
                          وراء كل فوضى واشنطن وتل أبيب

                          Comment


                          • #14
                            الميتافيزيقيا

                            تُعرّف الموسوعات والمعاجم[1] كلمة ميتافيزيقا انطلاقًا من المعنى الاصطلاحي للكلمة اليونانية Meta ta physika وهو الاسم الذي أطلقه أندرونيكوس الرودسي Andronicos de Rhodes في القرن الأول قبل الميلاد، على مقالات[2] أرسطو (ت: 322 ق.م) المصنفة في المرتبة التالية بعد كتاباته المسماة فيزيقا، والتي تركها بدون تصنيف، وقد تمت تسميتها ميتافيزيقا تصنيفًا لها في مرتبة تأتي "ما بعد" الكتابات المسماة فيزيقا[3]، وهذا حادث عرضي حدث اتفاقًا Arbitraire [4].

                            نشير إلى أن هذه التسمية، في أصلها الاصطلاحي، لا علاقة لها بمضمون أو موضوع هذا العلم، فلم يكن هذا الاصطلاح، عند أول وضع له، يدل على مادة "علم" بل هو اصطلاح ترتيبي تصنيفي. إن البحث الذي يحمل الآن هذا الاسم لم يكن في عهد أرسطو يحمله أصلاً. فمن الأكيد، أن أرسطو ليس هو الذي سمى كتابه ميتافيزيقا.

                            أما اصطلاحًا فإن كلمة ميتافيزيقا، أصبح لها فيما بعد دلالات متعددة، وهذا وفق تعدد وتنوع قراءات وتأويلات الباحثين لكلمة ميتا. وبعد فحص مضمون هذه الكلمة يتبين أنها تتوزع بين اعتبار ميتا محاولة تصنيفية لمجموعة من الكتابات، التي خصصها أرسطو لموضوع الميتافيزيقا تارة، وتارة أخرى اعتبارها علمًا يبحث في نوع من الوجود لا تطلبه سائر العلوم الأخرى، ولا ترتفع إليه، فتكون الميتافيزيقا، بهذا المعنى، إما:

                            - العلم بموجودات لا تدرك بواسطة الحواس، حيث تقع في عالم ما فوق التجربة وما وراء الطبيعة، مثل الله و النفس والعالم Le Monde، وهذا ما يذهب إليه ديكارت Déscartes (ت: 1650) في قوله إن:

                            غرض علم ما بعد الطبيعة أو الفلسفة الأولىPhilosophie) Première ) هو معرفة الله والنفس[5]

                            واعتبرها توما الإكويني Thomas d'aquin (ت: 1274) بمنزلة علم كل ما يكشف ما فوق الطبيعي، وهو يفهّم هذا الفارق، ما فوق الطبيعي، بالمعنى المسيحي بحيث أن صورته الكبرى هي الإلهي وكل ما يتعلق به: الله، المحرك الأول، الغاية الأخيرة، النفس بوصفها خالدة..إلخ[6].

                            - أو أن تكون هي البحث في الوجود من حيث الوجود توصلاً إلى إدراك الجوهر الثابت وراء الأعراض المتغيرة[7].

                            - أو أن تكون علمًا يبحث فيما يجب أن يكون، أي في الوجود المثالي، لا لأن هذا النمط من الوجود أعلى من الوجود الواقعي فحسب، بل لأنه يفسره و يبين أسبابه[8].

                            إن العلم الذي أصبح شُرّاح أرسطو يسمونه ميتافيزيقا، قال عنه هذا الأخير في مقالته الرابعة المرسوم عليها بحرف الجيم مما بعد الطبيعة:

                            إن لعلم واحد من العلوم النظر في الهوية على كنهها، والنظر في الأشياء التي هي الهوية لذاتها، وليس هذا لعلم واحد من العلوم التي يقال إنها جزئية، لأنه ليس لعلم من العلوم الجزئية النظر في كلية الهوية على كننها، بل إنما للعلوم الجزئية النظر في الغرض الذي يعرض لجزء من أجزاء الهوية منفصلاً منها، مثل الذي تفعل العلوم التعاليمية (الرياضية)، فإذا كان طلبنا الأوائل والعلل القصوى، فمعلوم أنه باضطرار تكون هذه الأوائل، كأوائل طبيعة، من الطبائع مفردة بذاتها[9].

                            فهذا هو المعنى الأصلي لكلمة ميتافيزيقا، التي تدل على هذا العلم، والذي يهتم بالوجود من حيث هو موجود، سواءًا كان المقصود به الموجود الأول، الذي هو أصل كل موجود، أو الموجود من حيث هو صفة مشتركة في جميع الأشياء.

                            إن هذه التعاريف للميتافيزيقا، تعني من بين ما تعني، أن الميتافيزيقا تبحث في مواضيع لا تستطيع معطيات العلم أن ترد عليها، وذلك لسبب بسيط وهو أنها لا تدخل في طلب اهتماماتها المباشرة، ولا تملك لها إجابات أو حلولاً حاسمة بالتالي. ويتبين أن المشكلة القائمة في الميتافيزيقا، هي تلك التي ترتبط بمسألة "الوجود"، فهي لا تبحث في أي شيء، كائنًا ما كان، إلاّ إذا كان متضمنًا لصفة الوجود كجوهر، سواءًا كان هذا الشيء مادي أو غير مادي؛ هذا الوجود المجرد Abstrait هو موضوع الميتافيزيقا، وهذه الصفة (الوجود)، هي أساس كل معاني الوجود الممكنة.

                            لقد ظلت الميتافيزيقا، طوال تاريخها، تعد بحثًا تساؤليًا يحاول الكشف عن ماهية الوجود Essence de l'être))، بحيث كانت هذه المسألة أول مسألة أثارت واجتذبت أنظار واهتمام الفلاسفة، ومثلت بالنسبة لهم أكثر الأشياء إثارة للدهشة L'étonnement - أوليست الدهشة هي بداية الفلسفة-. يقول أفلاطون، في محاورة تييتانوس Théététe من 55 أ إلى 55 د:

                            إنه أمر متعلق حقًا بفيلسوف، هذا الذي نسميه باثوس، أي هذا الذي نسميه دهشة، إذ ليس هناك ابتداء départ يهيمن على الفلسفة غير الدهشة[10].

                            يؤكد مارتن هيدغر Heidegger (ت: 1976) هذا الأمر في محاضرته ما الفلسفة؟، التي ألقاها سنة 1955 بفرنسا، حيث قال:

                            الموجود كله في الوجود، مثل هذا القول، يرن في أسماعنا كأنه قول مبتذل، إن لم يكن مهينًا، لأنه ما من أحد بحاجة إلى أن يهتم بأن الموجود يرجع إلى الموجود [...] ومع ذلك، فهذه الحقيقة التي تقول بأن الموجود يبقى مجمعًا في الوجود، وأن الموجود يظهر في ضوء الوجود، هي التي أوقعت اليونانيين - وهم وحدهم وقبل غيرهم- في الاندهاش، الموجود في الوجود، هذه هي الحقيقة التي أصبحت بالنسبة لليونانيين أكثر الأشياء إثارة للدهشة[11].

                            إن فلاسفة اليونان بحثوا في أمر الوجود المادي وفي أصله وفي حقيقته وهل هو واحد أم متعدد؟ وانقسموا في ذلك فرقًا؛ فأوائلهم مثل "طاليس" و"أنكسيمندر" و"أنكسيمانس" كانوا من الماديين، وكان معنى الوجود محصورًا عندهم في العالم المادي أو الطبيعي، فتصوروا الموجود الأول الحقيقي الذي يعد أصل كل شيء، ومنه نبع كل موجود، شيئًا ماديًا، إذ يرى "طاليس" Thales (631 ق.م - 550 ق.م تقريبًا)، مثلاً، أن الأشياء كلها تصدر عن أصل واحد هو "الماء"، فهي رغم اختلافاتها الظاهرة واحدة[12]؛ أما المادة التي تكونت منها سائر الموجودات، عند "انكسيمانس" Anaximens (588 ق.م - 524 ق.م تقريبًا) فهي "الهواء"، وهي مادة لانهائية متحركة، هي علة الحياة في العوالم، وفي جميع الأشياء المتحركة[13]؛ ثم ظهر فيلسوف سماه اليونانيون- الغامض- ذلك هو "هيرقليط الأفيزي" Héraclite، (ت: 530 ق.م. - 475 ق.م تقريبًا) حيث اعتبر أن النار هي المبدأ الأول الذي تصدر عنه الأشياء، وترجع إليه، ليست النار التي ندركها بالحواس، بل هي نار إلهية لطيفة، أثيرية، حارة حية، عاقلة وأزلية، هي حياة العالم وقانونه (لوغوس) Logos، "إن النار هي التجميع (اللوغوس)[14]."

                            وفي مقابل التغير الهيرقليطي، نجد في شعر "بارميند" Parménide (450 ق.م) ما يؤكد وضع أساس ميتافيزيقا الوجود، فليس عنده في العالم المادي إلا الوجود، يقول هيدغر في محاضرته ما الفلسفة؟:

                            إن هيرقليط وبارميند ما كانا بعد فيلسوفين، ولم لا؟ لأنهما كانا أعظم المفكرين، و"أعظم" هنا لا تعني تقويمًا لعمل ما، بل تدل على بعد آخر للتفكير، فهيرقليط وبارمنيد كانا أعظم المفكرين، بمعنى أنهما كانا على الدوام في وانسجام Harmonie مع "اللوغوس"، أي مع "الواحد (هو) الكل[15].

                            وهكذا نرى أن فكرة "الوجود" L'être شغلت المفكرين الأوائل، ومثلث القضية الأساس في فلسفتهم، ولم تكن الميتافيزيقا منذ أن ظهرت في لحظتها الأولى، تبحث في الموجودات الجزئية، في هذا الشيء المشار إليه كهذه الورقة التي أكتب عليها الآن، أو هذه الشجرة التي أراها أمامي، ولكنها كانت ولازالت بحث في الوجود، بحث يتجاوز الموجود الحسي إلى الموجود الكلي مجردًا عن صفاته التي يتعلق بها، وعن أشكاله التي تُحمل عليه، فـالميتافيزيقا منذ بدايتها بحث في المطلق، وفي الحقيقة، التي تقوم وراء الموجودات المحسوسة والتي تعد أصلها.

                            لقد بحث أفلاطون Platon (ت: 348 ق.م) في مسألة "الوجود"، لكنه وعلى خلاف سابقيه من مفكري مرحلة ما قبل سقراط Les présocratiques، عمل لأول مرة على التمييز بين الوجود والموجود، وحصر الاختلاف بينهما على مستوى الحيز، الذي يقطنه كل واحد منهما، فالوجود يقطن حيزًا أعلى، أما الموجود فيقطن الحيز الأسفل؛ وبدءًا بهذه اللحظة تشكلت أول ثنائية ميتافزيقية: الوجود/الموجود، وترتب عن ذلك التمييز بين مجموعة من الأزواج الماهية Essence /المظهر، المعقول /المحسوس، النموذج /النسخة؛ وأصبحت الميتافيزيقا منذ هذه اللحظة تفصل بينهما، وتعتبر الوجود، كمفهوم أنطولوجي Ontologique، يفرض نظامه وأسبقيته على الموجود، ليتجسد هذا الأخير كعالم يحمل معنى بالنسبة للإنسان[16].

                            لقد أصبحت اللحظة الأفلاطونية تعتبر الوجود "إيروس" هو ما يحدد صور الأشياء ويدفعها إلى الظهور، ومن ثم أصبحت حقيقة الأشياء لا تتحدد إلا بارتباطها بعالم ما فوق الأشياء الذي يُمثل عالم الوجود الحق.

                            بهذا الحكم ، يكون أفلاطون قد أرسى أسس جديدة لمعنى الوجود الحق بوصفه الواحد الكلي، الثابت الذي يمكن للإنسان بصفته ذاتًا عاقلة لأن بتأمله ويحصره ويمسك به إذا ما راعى شروط التفلسف، واستبعد وقاوم بشدة كل معرفة تؤسس على الانفعال والخيال والمحاكاة والحس..، ذلك أن المعرفة المؤسسة على الخيال والحس هي في مرتبة أدنى من المعرفة المؤسسة على العقل.

                            غير أن الفصل بين المعقول والمحسوس، وعدم القدرة على تفسير نشأة المحسوسات من المثل المعقولة ما دامت مفارقة للوجود المحسوس، شكًل النقد الأساسي الذي وجهه أرسطو لأستاذه أفلاطون، مما اضطر المعلم الأول، وصاحب المنطق إلى إنزال المثل من عالم السماء، وأدمجها في المحسوسات.

                            تعنى الميتافيزيقا بدراسة الموجودات المحسوسة والتي أطلق عليها أرسطو اسم الجوهر الأول، وهي لا تعنى بها إلا من جهة واحدة هي وجودها. فإذا كانت العلوم النظرية الأخرى لا تدرس الوجود بل تدرس صفات الوجود وأعراضه، فإن الميتافيزيقا تهتم بالموجودات من حيث وجودها أي الوجود بما هو موجود.

                            ولما كانت الميتافيزيقا تهتم بالعلل الأولى للوجود، ولما كان الجوهر Ousia هو الموجود بالمعنى الأتم، فإن الميتافيزيقا تعنى بتفسير علل وجوده، فإذا كان سقراط يعد جوهرًا فإن له علة مفسرة لحقيقته وهذه العلة هي الماهية Essence.[17]

                            إذا تأملنا طبيعية الميتافيزيقا، من خلال تاريخها، وما قاله فلاسفة الاغريق، فإننا سنكشف أن الميتافيزيقا ظلت دائمًا قائمة على سؤال الوجود.

                            أعد المادة: محمد كرد

                            قسم الفلسفة، معسكر، الجزائر

                            *** *** ***



                            horizontal rule

                            [1] نذكر منها: 1 - المعجم الفلسفي، جميل صليبا، دار الكتاب اللبناني 1982، ص 300. 2 - الموسوعة الفلسفية، عبد الرحمن بدوي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 1984. وأيضًا:

                            -Andre Lalande, Vocabulaire technique et critique de la philosophie ,puf, paris, 1992, ivos, 1, p. 611. Encyclopedie universalis, Vol 10, france. P:984

                            [2] وهي أربعة عشرة كتابًا، أو أربعة عشر مقالة، مرتبة حسب الحروف الأبجدية اليونانية. وتبدأ من حرف الألف وتنتهي بحرف الكاف مع إضافة مقالة تسمى اللف الصغرى في أول الكتاب.

                            [3] Heidegger (M): Kant et le problème de la Métaphysique, TEL Gallimard, 1953,p:66.

                            [4] Élie During: la Métaphysique, Flamarion, Paris, 1998, p:27.

                            [5] جميل صليبا، المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني، 1982، ص 301.

                            [6] لالاند، الموسوعة الفلسفية، تعريب خليل أحمد خليل، منشورات عويدات بيروت، المجلد الثاني، الطبعة الأولى، 1996، ص 790.

                            [7] عبدو الحلو، معجم المصطلحات الفلسفية، المركز التربوي للبحوث والإنماء، الطبعة الأولى، 1994، ص 104.

                            [8] جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ص 301.

                            [9] ابن رشد، تفسير ما بعد الطبيعة، دار المشرق، بيروت، 1967، ص 296 و297.

                            [10] Martin Heidegger: Questions II ,nrf,Gallimard,1968, p:32.

                            [11] مارتن هيدغر، ما الفلسفة؟ ما الميتافيزيقا؟ هيلدرلين وماهية الشعر، ترجمة فؤاد كامل ومحمود رجب، ص 119.

                            [12] محمد ثابت الفندي، مع الفيلسوف، دار النهضة العربية، بيروت، 1980، ص 96.

                            [13] محمد الخطيب، الفكر الإغريقي، دار علاء الدين، الطبعة الأولى، 1999، ص 99.

                            [14] مارتن هيدغر، نداء الحقيقة، ترجمة وتقديم ودراسة عبد الغفار مكاوي، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1977، ص 401.

                            [15] مارتن هيدغر، ما الفلسفة؟ ما الميتافيزيقا؟ هيلدرلن وماهية الشعر، ص 60 و61.

                            [16] Heidegger (M): Qu’appelle-T-on-penser? PUF, 1973, P:261.

                            [17] اميرة حلمي مطر، الفلسفة عند اليونان، دار النهضة العربية، الطبعة الثانية، 1968، ص 272-273.
                            في كل يوم يصلب الانسان الف مرة ومرة ويصلب الوطن على طريق الجلجلة يسير شعب يحمل المسمار والصليب لانه يعيش في موطنه الحنون كالغريب وزهرة الخلاص في يديه مقصلة وسائر على طريق الجلجلة قد كللته المحنة السوداء بالسواد ومزقته اربا رصاصة الاحقاد
                            أنا لا أحد وأنت،من تكون؟هل أنت أيضاً لا أحد وإذاً فثمة إثنان منا، إياك أن تخبرأحدا!وإلاألقوا بنا في المنفى
                            وراء كل فوضى واشنطن وتل أبيب

                            Comment


                            • #15
                              ما بعد الحداثة

                              ما بعد الحداثة

                              في إطار التشكيك في السرديَّات الشمولية (الإيديولوجيات)، يعرِّف ماك غرايث بما بعد الحداثة postmodernism بأنها

                              [...] الالتزام المسبَّق بالنسبية والتعددية فيما يخص قضايا الحقيقة. وأحد المجالات التي تلاقي شعبيةً في فكر ما بعد الحداثة هو التأكيد على أن كلَّ فرد هو جزء من مجتمع إنساني محلِّي، ولذلك لا بدَّ من تفسير الحقيقة في ضوء ذلك المجتمع. ولأن هناك الكثير من المجتمعات المحلِّية المختلفة، تعتقد ما بعد الحداثة بأن هناك الكثير من الحقائق المختلفة التي يمكن لها أن يتجاور بعضُها مع بعض [...]. فمادامت الحقائقُ مرتبطةً بالبيئة الاجتماعية التي تظهر فيها، فإن ما يصح عند بعضهم قد لا يصح عند مَن يعيشون في بيئة اجتماعية أخرى.[1]

                              بناءً على هذا الفهم الذي اعتمده المشروع الثقافي ما بعد الحداثي للحقيقة، متمثلاً في الأنثروپولوجيا الحديثة التي وضع أسُسها ك. ليڤي شتراوس وب. مالينوڤسكي، واضع الوظيفية، تأسَّست غالبية المفاصل الفكرية لهذا المشروع على هذه النسبوية relativism، كونها تشكِّل المدرَك المُشَرعِن لـ"الفوضوية الخلاقة وتوافقية التضاد وجمالية التناقض" التي تستبطن رغبةً ملحةً في القفز على الفضاء الزمني لكلِّ ما هو آني.

                              هذا الرغبة/الهوس الذي غالى فيه بعضُهم، تحوَّل إلى رفض كلِّي للأنماط الثقافية، بمختلف تجلِّياتها الفنية والموضوعية السائدة، وإلى صيرورتها معرفةً "رمزية" مبتذلةً تتعالى عن ملامسة الهموم المعمقة لواقع المتلقِّي، وبالتالي، استحالةَ الأشياء والأفكار إلى جدلية مغلقة بين "المنتِج" و"المنتَج" – مما يضطر المثقف ما بعد الحداثي، بين الفينة والأخرى، إلى إخضاع "ذاته التراثية" لتناصٍّ واعٍ ليؤكد لنفسه، أولاً وبالذات، ولغيره، ثانيًا وبالعرض، كينونته المعرفية. ولعل المفارقة غير المدرَكة أن هذا التناص قد شكَّل أقسى فعل توهيني يمكن له أن يمارَس ضد العقل المعرفي، بماهياته الوجودية، كونه أحدث انهيارًا فجائيًّا في كلِّ ما هو قارٍ في بنية مشروعة الفكري، مما يعني ضياع كلِّ ما من شأنه أن يؤكد مركزية العقل، بوظائفه المسيِّسة للكون والحياة، منتجًا بذلك "متواليات معرفية" هيمنت على القراءات الفكرية التي أبدعَها.

                              في ضوء هذه الافتراضات، يمكن لنا القول بأن النسبوية تقف أمام منزلقات فلسفية تعجز عن تجاوُزها في اطمئنان، من أهمها ثلاثة:

                              - المنزلق الأول: وجوب الإيمان بالتناقض الفلسفي والمنطقي: فـ"كل تفسيرات الحقيقة [...] هي صحيحة بالقدر ذاته الذي تكون فيه غير صحيحة."[2] وهذا ما لا يسلِّم به "هؤلاء" تجاه الكثير من المفاهيم التي تشكِّل البُنى التحتية للنسبوية.

                              وتتأكد حقيقة التناقض فيما لو أدركنا أن المجتمع المحلِّي الواحد يحتوي على عدة حقائق متعددة ومختلفة بتعدد أفراده، مؤديًا بذلك إلى فوضوية هدامة. وبذا تخرج المعرفة من طابعها الموضوعي objective الخارجي، لتتخذ مسارًا ذاتيًا subjective؛ مما يجعلها مرتبطة ببُعدها الوظيفي في النظام المتداوَل. وهو ما جعل ما بعد الحداثة تلاقي رواجًا هائلاً بين الأوساط الشعبية المروِّجة للإباحية، باعتبار أن ما يضفي على القيم طبيعتها الأخلاقية لن يكون، في ما بعد الحداثة، التسالُم الوجداني العقلاني، بل التحيز والتشيؤ الوظيفي للقيم في مجمل المنظومة الرقمية:

                              وأي شيء لا يمكن له أن يتحول إلى رمز قابل للتشخيص والعرض في الحاسوب [لا يدخل في التكنولوجيا الرقمية] سيتوقف عن أن يكون شكلاً من أشكال المعرفة في مجتمعات ما بعد الحداثة.[3]

                              - المنزلق الثاني: ما يمكن لنا أن نسمِّيه بـ"إشكالية التعريف"، حيث لا يمكن، وفقًا لهذا اللازم، التعريف بالأشياء وبالأفكار، وبالتالي، يضيع الركنُ الأساس الذي تُبنى عليه الحضارات:

                              التعريف بالطريقة الحداثية يرى أن الحقيقة هي توافُق بين الشيء والفكرة التي نحملها عنه. ولكن ما بعد الحداثة تنأى عن هذا الأسلوب نتيجة عدم وجود هذا التوافق المثالي: فالشيء والفكرة التي نحملها عنه يندمجان لدرجة أننا لا نعرف ما إذا كانت الثقافة هي التي تجعلنا نرى الشيء كما نراه أو أنه بذاته هكذا فعلاً. فلا يوجد فاصل واضح بين الشيء وتمثيله لأننا لا نستطيع أن نفصل الموضوع عن إطاره. فهذا الإطار هو الذي يرسم تصوراتنا عن الموضوع، وهو مرتبط بظروف مختلفة وبتاريخ متشابك من القناعات والمصالح والرغبات. فالموضوعية، إذن، غير موجودة؛ لذلك لا تكترث ما بعد الحداثة بالتعريفات.[4]

                              - المنزلق الثالث: الفقدان الحتمي لظاهرة التعميم والشمولية والكلِّية التي تستند إليها أيةُ حضارة، مما يسهم في نقل الفكر المؤمن بالنسبوية إلى حالة الاستغراق في جزئيات غير منسجمة، ليس بينها أي رابط موضوعي أو فلسفي أو علمي. وبفقدان تعميمات العلوم التجريبية والفلسفية، يصبح الفكر الإنساني فكرًا مهشمًا، وبالتالي، تنتفي القيمة المعرفية لكلِّ ما يُنتِج؛ مما يرسخ "البرزخية" بين المعارف النظرية الفلسفية، من جهة، وبين العلوم التجريبية والإنسانية، من جهة أخرى.

                              من هنا لا بدَّ للعقل ما بعد الحداثي من القيام بمسح شمولي لأولوياته وأنساقه الفكرية لتشكيل أسٍّ معرفي أولي قارٍ، بعيدًا عن هيمنة الفكر التفكيكي deconstructionist الذي كان، وما يزال، سمته البارزة. فالمشكل الذي وقع فيه ناجم، في أحد جوانبه، عن طبيعة تصوراته الفلسفية حيال الكون وقضاياه: فقد اعتاد في ذلك على تفكيك المفاهيم في صيغة إثنينية، توهمًا منه لمانعية الجمع بين طرفيها. لهذا حاول مفكِّرو ما بعد الحداثة التخلص من غياب التوازن في المفاهيم الضدية بإلغاء المساحات المشتركة بينها والاحتفال بالتشتت واللاثبات؛ وبدلاً من الاشتغال على تقويض الفواصل المعرفية الحاكمة على مجمل النشاطات الفكرية، فقد اتُّجهوا نحو لملمة هذه الثنائيات في ثنائية أخرى شمولية تمثلت في النسبية/الإطلاق.

                              يبقى أننا، ضمن هذا الإطار التحليلي، نستطيع الادِّعاء بعدم استقرار الحقيقة على نسق تقييمي واحد، وبالتالي، عدم خضوعها لمعيار واحد. فالقول بالنسبوية يملك قدرًا معقولاً من الواقعية فيما لو نظرنا إلى الحقيقة في عدد من تجلِّياتها – لا مطلقةً –، كونها نتاجًا إنسانيًّا، حيث لا يمكن حينئذٍ احتكارُها احتكارًا توتاليتاريًّا، بمعنى تجهيل الآخر أو إقصائه.

                              أعدَّ المادة: علي كاظم الخفاجي[5]

                              * * *



                              horizontal rule

                              [1] قراءات في ما بعد الحداثة، مجموعة من الباحثين، بترجمة حارث محمد حسن وباسم علي خريسان، ص 61.

                              [2] المصدر نفسه، ص 62.

                              [3] المصدر نفسه، ص 7.

                              [4] عبد الرحمن الحبيب، ما بعد الحداثة ترحب بكم.


                              في كل يوم يصلب الانسان الف مرة ومرة ويصلب الوطن على طريق الجلجلة يسير شعب يحمل المسمار والصليب لانه يعيش في موطنه الحنون كالغريب وزهرة الخلاص في يديه مقصلة وسائر على طريق الجلجلة قد كللته المحنة السوداء بالسواد ومزقته اربا رصاصة الاحقاد
                              أنا لا أحد وأنت،من تكون؟هل أنت أيضاً لا أحد وإذاً فثمة إثنان منا، إياك أن تخبرأحدا!وإلاألقوا بنا في المنفى
                              وراء كل فوضى واشنطن وتل أبيب

                              Comment


                              • #16
                                المذهب الانساني

                                المذهب الإنساني

                                تاريخيًّا، هي الحركة الأوروبية التي انطلقت في إيطاليا منذ القرن الرابع عشر وفي فرنسا منذ نهاية القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر والتي أعادت اكتشاف مؤلفات العصور القديمة ونصوصها وعارضت من خلالها، بالتالي، الذهنية المدرسية المتحجرة للقرون الوسطى. وسواء كان هذا التيار الفكري الرئيسي "مسيحيًّا" (فدعا إلى التوفيق بين العهد القديم وبين أدب العصور القديمة) أو "متوثنًا" (فاستفاد من النماذج القديمة للتشكيك بالقيم المسيحية)، فإن هذا المنحى طوَّر الروح النقدية، ويسَّر تحرر الفلسفة من سطوة اللاهوت، وانطلق يبحث عن الحكمة التي تجمع بين تذوق المعرفة (كمونتيني مثلاً)، من جهة، وبين حب الحياة والتأكيد على كرامة الإنسان (كرابلي ليس حصرًا)، من جهة أخرى.

                                ما بين القرن السادس عشر والقرن الثامن عشر، تميَّز المذهب الإنساني في فرنسا بدراسة "العلوم الإنسانية" (كنصوص أدبية وفلسفية) وتطابق مع المنحى الكلاسيكي الذي كان يرفض كلَّ تطرف ويدعو إلى "الحس السليم" والصفات الحضارية التي كانت تُنسَب إلى الإنسان النبيل.

                                أما اليوم، ففي وسعنا، بصفة عامة، إطلاقُ صفة "الإنسانية" على كلِّ موقف أو فكر يؤكد على أن الكرامة الإنسانية هي القيمة الأسمى، ويفترض، بالتالي، ضرورة تشجيعها والدفاع عنها ضد كلِّ طعن صادر عن السلطات السياسية أو الاقتصادية أو الدينية (وذلك على الرغم من أن في وسعنا الحديث هنا عن مذهب إنساني مسيحي) إلخ. لذلك، ومن هذا المنظور، في وسعنا تلمُّس اتجاه إنساني لدى مناحٍ فلسفية متنوعة (كالشخصانية والوجودية السارترية إلخ)، وإن كنا نلاحظ، في الوقت نفسه، عدم الفعالية الجلِّي لمنحى كهذا في تاريخ المجتمعات الإنسانية. كذلك فإن هذا التصور، الذي يبدو وكأنه يفترض تعريفًا مسبقًا للإنسان، قد ينجم عنه، وإنْ كخطر احتماليٍّ مفارق، استبعاد بعض البشر الذين لا ينطبق عليهم تعريف كهذا من الإنسانية وفقًا لمفهومها النبيل. ونتفهم، من هذا المنظور، نقد ماركس ونيتشه في وقتهما للمفهوم الكلاسيكي للمذهب الإنساني انطلاقًا من تصور مختلف لما يفترض أنه الإنسان. وهكذا أيضًا، فإنه يمكن اعتبار الماركسية (كالفرويدية أو كفكر هيدغِّر إلخ)، بالمثل، بأنها ضد المذهب الإنساني، من جهة (من منظور أنها رفض الواقع الذي توصَّل إليه الإنسان تاريخيًّا)، أو بأنها إنسانية، من جهة أخرى (من منظور ما تفترضه الأفضل للإنسان مستقبلاً).

                                ***

                                ملاحظة: تم تعريب هذه المادة عن قاموس ناثان الفلسفي، تأليف جيرار دوروزوي وأندريه روسيل.

                                تعريب: أكرم أنطاكي

                                مراجعة: ديمتري أفييرينوس
                                في كل يوم يصلب الانسان الف مرة ومرة ويصلب الوطن على طريق الجلجلة يسير شعب يحمل المسمار والصليب لانه يعيش في موطنه الحنون كالغريب وزهرة الخلاص في يديه مقصلة وسائر على طريق الجلجلة قد كللته المحنة السوداء بالسواد ومزقته اربا رصاصة الاحقاد
                                أنا لا أحد وأنت،من تكون؟هل أنت أيضاً لا أحد وإذاً فثمة إثنان منا، إياك أن تخبرأحدا!وإلاألقوا بنا في المنفى
                                وراء كل فوضى واشنطن وتل أبيب

                                Comment


                                • #17
                                  الماركسية

                                  كارل ماركس (1818-1883) والماركسية



                                  اقتصادي وفيلسوف ألماني. ولد في مدينة تريف من أب كان رابانيًّا يهوديًّا. ثم، بعد أن أنهى دراساته الجامعية في العام 1843، تزوج من ابنة عائلة أرستقراطية معروفة هي جيني فون ويستفالن. لم يمكِّنه اضطهاد الحكومة البروسية للـ"الهيغيليين اليساريين" الذين كان ينتمي إليهم (مع برونو باور، الذي اتَّهمه ماركس لاحقًا بـ"الثوري الكاذب" وبـ"ذيل البرجوازية") من متابعة دراسته الجامعية؛ مما دفعه لأن يتوجه نحو الصحافة: حيث كتب بادىء الأمر (1842) في الجريدة الرينانية Gazette rhénane، قبل أن يؤسِّس (1844) في فرنسا الحوليات الفرنسية–الألمانية Les annales franco-allemandes – فرنسا التي اضطر إلى تركها بعدئذٍ بسبب صداماته مع السلطتين الفرنسية والبروسية، فطلب اللجوء إلى إنكلترا التي كان سبقه إليها صديقُه ومعاونُه فريدريك إنجلز، والتي مات في عاصمتها لندن، بعد أن ساهم مساهمة فعالة في تأسيس الأممية الأولى.

                                  عند نقطة تلاقي الفلسفة الألمانية مع الاشتراكية الفرنسية ومع الاقتصاد السياسي الإنكليزي، وضع ماركس، الذي استلهم من جدلية هيغل ومادية فويرباخ، أسُس ما سيصطلح بعدئذ على تسميته بـالاشتراكية العلمية.

                                  فكما فعل هيغل، قام ماركس بتحديد التناقضات القائمة ثم بتجاوزها، رافضًا المثالية: فالطبيعة، في نظره، وُجِدَتْ قبل الفكر، وهي تعمل بذاتها منذ البدء، ولها جدليتها. وتتعارض مادية ماركس الجدلية مع مادية فويرباخ البسيطة والميكانيكية، التي تصور عالمًا خاضعًا دومًا للمؤثرات الميكانيكية نفسها. لهذا نراه يحاول تفسير التحولات الطبيعية المتتالية والمتصارعة فيما بينها حتى يتم تجاوزها من خلال ظهور واقع جديد أرقى، وفق مبدأ التغير النوعي والتطور من خلال قفزات. ونشير هنا إلى أن ظهور الفكر، عبر سياق التطور الطبيعي، يتخذ بنظر ماركس أهمية خاصة. فالأفكار وليدة الدماغ، الخاضعة في ولادتها لشروط مادية خاصة معينة، ليست حتمًا هي التي تسيِّر العالم؛ إنما – وهذا ما يقبله ماركس – هنالك فعل متبادل بين الإنسان، الذي هو نتاج الطبيعة، وبين الطبيعة التي في وسعه التأثير عليها – ما يبدو وكأنه توفيق بين تلك المزاعم التي تقول:

                                  1. "ليس وعي الإنسان هو الذي يحدد شروط معيشته، إنما ظروف حياته الاجتماعية هي التي تحدد وعيه"؛
                                  2. "حتى الآن، كان كل ما فعله الفلاسفة هو تفسير العالم بطرائق مختلفة؛ أما الآن فقد أصبحت المهمة هي تحويله" (الفرضية الحادية عشرة حول فويرباخ).

                                  وكانت هذه المبادئ العامة هي القاعدة والأساس الذي بُنِيَتْ عليه المادية التاريخية، التي ما هي في الحقيقة إلا التطبيق على صعيد المجتمعات البشرية لمبادئ المادية الجدلية. لأنه بغضِّ النظر عن نظرنا إليها كفلسفة للتاريخ (مثلها مثل غيرها) أو كأساس للاشتراكية العلمية – وذلك وفق المنظور الذي نتبناه – فإن المادية التاريخية تنطلق من تعريف أساسي للإنسان يقول بأن "في وسعنا تعريفه بوعيه، بعواطفه، وبكلِّ ما نريد، لكن في الحقيقة، هو يعرِّف بنفسه على أرض الواقع بدءًا من تلك اللحظة التي ينتج فيها وسائل عيشه"، وبالتالي، يؤمِّن معيشته. من هنا تأتي الضرورة، بالنسبة للمجتمعات كافة، لأن تنتج الخيرات التي تلبِّي حاجاتها المادية. من هذا المنطلق يعتبر ماركس أن تطور قوى الإنتاج هو حجر الزاوية لكلِّ تطور تاريخي، لأن الأنساق الاقتصادية هي التي تحدد، في جميع العصور، وجود طبقات اجتماعية متناقضة (الصراع الطبقي)، من جهة، وهي التي تشكِّل، من جهة أخرى – على شكل قوى إنتاج وعلاقات إنتاج – البنية التحتية للمجتمع، كمسبِّب أو كأساس للـبنية الفوقية الإيديولوجية (كالمعتقدات الدينية، والأخلاقية، والجمالية، والحقوقية، إلخ)، التي في وسعها أن تؤثر سببيًّا، في المقابل، على القوى الاقتصادية. فالإيديولوجيا التي تعبِّر عن وعي المجتمع لذاته، في مرحلة معينة من مراحل تطوره، تعكس أيضًا – وإنْ بإخفائها – الصراعات الطبقية لهذا المجتمع من خلال تبيان نفسها كمَوْضَعَة معكوسة للعلاقات الواقعية، وذلك عن طريق الطبقة السائدة التي تفرض رؤيتها للأشياء على أولئك الذين يُفترَض ألا يشاركوها تلك الرؤية: من هنا يمكن لنا القول بأن الارتهان الديني يغذيه "المستغِلون" الذين يوحون للفقراء بالخضوع، على أمل أن يتمتعوا في الآخرة بما ليس في وسعهم التمتع به في الدنيا؛ على سبيل المثال: "الحقوق الطبيعية" المتضمنة في إعلان حقوق الإنسان والمواطن ( كالمساواة، والحرية، والأمن، والملكية) لا تعني في الواقع إلا الإنسان البرجوازي، المحدَّد بدقة من خلال طبقته. وأخيرًا، فإن "الوهم الطبيعي" الذي ينكر مسيرة التاريخ (الاقتصادي والاجتماعي) يشكل اعتقادًا فكريًّا لصالح الطبقة البرجوازية الرأسمالية.

                                  درس ماركس تناقضات النظام الرأسمالي، المستند إلى قانون المنافسة، التي تجعل العمل أقل فأقل كسبًا، وتزيد من لاإنسانيته، واستنتج أن هذه التناقضات، التي هي المسبِّب الرئيسي لمتناقضات تزداد تفاقمًا بين الطبقات الاجتماعية المتناقضة، ستؤدي في النهاية إلى زوال الرأسمالية، بعد الثورة البروليتارية، واستبدال الاشتراكية، ثم الشيوعية العالمية، بها. فهكذا يتحقق معنى التاريخ عبر جهود البشر من أجل تجاوز مصاعبهم المعيشية، ما ينعكس، من خلال تلك المسيرة المحتمة للسيرورة التاريخية، على شكل منظومات إنتاج متتالية، تتطابق في المحصلة مع التوصل الحتمي إلى التحرر النهائي للإنسان في مجتمع لاطبقي.

                                  رأس المال: نقد الاقتصاد السياسي

                                  لم يصدر من هذا العمل الرئيسي خلال حياة ماركس إلا الجزء الأول في العام 1867، وفيه حلَّل "تطور نظام الإنتاج الرأسمالي". أما الجزء الثاني ("محاكمة دورة رأس المال") والجزء الثالث ("محاكمة مجمل الإنتاج الرأسمالي") فقد قام إنجلز بتحريرهما استنادًا إلى الملحوظات والهوامش التي تركها ماركس، وطُبِعا ونُشِرا عام 1885 وعام 1894 على التوالي. أما الجزء الرابع من المؤلَّف ("نظريات القيمة الزائدة")، فقد حرَّره كاوتسكي ما بين عامي 1904 و1910، استنادًا أيضًا إلى ما تَرَكَه ماركس من وثائق (كان عنوان طبعته الفرنسية هو تاريخ العقائد الاقتصادية).

                                  بمناسبة صدور الطبعة الفرنسية الأولى من عمله (1873)، نبَّه ماركس القارئ قائلاً: "لا يوجد طريق ملكي إلى العلم؛ فقط يواكب الحظَّ ليصل إلى ذرى قممه المضيئة مَن لا يخشى إجهاد نفسه في تسلق دروبه المتعرجة." وقد كان الهدف من هذا العمل – الذي برهن عن علميته واستند إلى كمية هائلة من المعطيات الرقمية – دراسة قوانين تطور النظام الرأسمالي، وفي المحصلة، تناقضات هذا النظام. فقد فَضَحَ المؤلِّف لاأخلاقية نظام التبادل الرأسمالي القائم على مبدأ أن على المال أن يولِّد دائمًا المزيد منه: لأن ربَّ العمل لا يشتري في الحقيقة "نتاج عمل" عمَّاله، وإنما يشتري "قدرتهم على العمل"، ما يخلق شكلاً جديدًا من العبودية، ألا وهو استغلال الإنسان للإنسان. فالقيمة التجارية لما ينتجه العامل كأجر لعمله هي أكثر مما يتقاضاه. ويُدعى ذلك الربح الذي يحققه ربُّ العمل نتيجة لهذا الفرق بـ"القيمة الزائدة". إن بحث الرأسمالي الدائم عن الربح – الذي يجد دائمًا وسائل وطُرُق جديدة لزيادة موارده من خلال الاكتشافات المتجددة باستمرار – على حساب البروليتاريين، هو "الخطيئة الأصلية" لهذا النظام، حيث يؤدي خفض الأجور إلى حدِّها الأدنى إلى انخفاض القدرة الشرائية – ومنه إلى الكساد والبطالة – خاصةً وأن المنافسة تتطلب دائمًا زيادة في الاستثمارات (رأس المال الثابت)، مما يقلِّل من نسبة الربح؛ كما أنه يولِّد تجمعات تؤدي إلى زوال أرباب العمل الصغار الذين سرعان ما يتحولون إلى بروليتاريا. لذا فإن مصير الرأسمالية هو أن تنتهي بحكم تناقضاتها الداخلية: فاحتكار رأس المال لا يتوافق مع متطلبات الإنتاج؛ وهذا ما سيؤدي في النهاية إلى اقتصاد جماعي. ونشير هنا إلى أن أهمية مؤلَّف رأس المال بالنسبة للاقتصاديين، حتى المعادين منهم للماركسية، مازالت كبيرة.

                                  من أهم أعمال ماركس الأخرى: الفرق بين فلسفة الطبيعة لديموقريطس وفلسفة الطبيعة لأبيقور (1841)؛ نقد فلسفة الحق لهيغل (1844)؛ بؤس الفلسفة (1847)؛ العمل المأجور ورأس المال (1849)؛ مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي (1859)؛ الصراع الطبقي في فرنسا (1849-1850)؛ برومير ولويس بونابرت (1852)؛ الحرب الأهلية في فرنسا (1871).

                                  ومن أهم أعماله بالتعاون مع إنجلز: العائلة المقدسة (1845)؛ الإيديولوجيا الألمانية (1846)؛ بيان الحزب الشيوعي (1848)؛ نقض برنامجي غوتا وإيرفورت (1875-1891).

                                  ونشير هاهنا إلى أن العقيدة الماركسية، كعقيدة منفتحة، مبنية على أساس المادية الجدلية والمادية التاريخية، لا تحتاج لأن تثبت أهميتها فيما يتعلق بالفكر الثوري في القرن العشرين. لذا نلاحظ أنه، كاستمرارية لماركس وإنجلز، اللذين تصورا (بيان الحزب الشيوعي) ضرورة وجود حزب ثوريٍّ ومارسا نشاطًا نضاليًّا عبر الأممية الأولى التي ساهما في تأسيسها، قام لينين بتأسيس ذلك الحزب على قاعدة الدمج بين الحركة العمالية والنظرية العلمية، مؤكدًا على موضوعة تضامن بروليتاريي العالم (الواردة في البيان) التي جعل منها الفكرة الأساسية للأممية الثالثة (1919): حيث يجب على البروليتاريا في جميع البلدان أن تناضل، دون أيِّ تحديد لأيِّ شكل مسبق، ضد هيمنة البورجوازية. ويكون الإنسان الجديد في النهاية – وهو نتاج مجتمع بلا طبقات – محققًا لكامل تفتحه ومتحررًا من قانون الربح.

                                  ومن خلال تأكيده على أن الإمبريالية هي المرحلة النهائية للرأسمالية، عارض لينين إصلاحية كاوتسكي (1854-1938)، الذي كان يعتقد أنه سيكون من نتائج عالمية الاحتكارات ترسيخُ الرأسمالية وفتح المجال أمام تطور تدريجي نحو الاشتراكية، مما يجعل مفهوم الثورة غير مُجْدٍ.

                                  ونعدِّد أخيرًا بضعة من أهم المفكرين الماركسيين الكثر خلال القرن العشرين، الذين حاولوا إما إيجاد حلول للمصاعب النظرية للمنظومة، وإما تجديد تحليلاتها وتطويرها، بحيث تكون أكثر انسجامًا مع الواقع، أو من أجل المزيد من الفعالية السياسية: كالإيطالي أ. غرامشي (1891-1937) الذي، مثله كمثل الهنغاري ج. لوكاتش، سلَّط الضوء على أهمية فكرة المجموع ووضع نظرية التطبيق العملي (أو الـpraxis)، عبر التوحيد بين النظرية والتطبيق من خلال الجمع بين السياسة والفلسفة كأساس لنظريته الثورية.

                                  ***

                                  ملاحظة: تم تعريب هذه المادة عن قاموس ناثان الفلسفي، تأليف جيرار دوروزوي وأندريه روسيل.

                                  تعريب: أكرم أنطاكي

                                  مراجعة: ديمتري أفييرينوس




                                  مراجع المادة

                                  - Althusser, L., Pour Marx (Maspero)

                                  - Arvon, H., Le Marxisme (Colin)

                                  - Axelos, K., Marx, penseur de la technique (Éd. de Minuit)

                                  - Favre, P. & M., Les Marxismes après Marx (PUF)

                                  - Hyppolite, J., Études sur Marx et Hegel (Rivière)
                                  في كل يوم يصلب الانسان الف مرة ومرة ويصلب الوطن على طريق الجلجلة يسير شعب يحمل المسمار والصليب لانه يعيش في موطنه الحنون كالغريب وزهرة الخلاص في يديه مقصلة وسائر على طريق الجلجلة قد كللته المحنة السوداء بالسواد ومزقته اربا رصاصة الاحقاد
                                  أنا لا أحد وأنت،من تكون؟هل أنت أيضاً لا أحد وإذاً فثمة إثنان منا، إياك أن تخبرأحدا!وإلاألقوا بنا في المنفى
                                  وراء كل فوضى واشنطن وتل أبيب

                                  Comment


                                  • #18
                                    المادية

                                    المادية

                                    المادية الجدلية (الديالكتيكية) والمادية التاريخية

                                    تعرَّف المادية بكونها كلَّ عقيدة لا تقبل غير المادة – والفكر هو أحد صفاتها – كجوهر أو كحقيقة.

                                    وقد كانت الأبيقورية في العصور القديمة من أولى المنظومات الفلسفية المادية وأكثرها تجانسًا، بكلِّ ما في الكلمة من معنى، وخاصة فيما يتعلق بذلك الجانب المثير للجدل والمرتبط بلامبالاتها بالأمور الدينية والروحية. وقد تراجع هذا المنحى في القرون التي تَلَتْ، حيث جعل انتصارُ المسيحية من قبيل الخطر كلَّ تلك المناحي التي كانت تدعو إلى مثل ذلك التخلِّي عن فكرة الإله. لكن بدءًا من القرن الثامن عشر، بدأ العديد من الكتاب والفلاسفة يتجرؤون من جديد على طرح مفاهيم مادية متماسكة، ذات بُعد لاديني في معظمه (كهيلفيتيوس ودولباخ ولاميتري وسواهم)، وعلى التأكيد عليها. وقد صُنِّفَتْ هذه النظريات حينذاك بالميكانيكية، كما ستُصنَّف لاحقًا أفكارُ فويرباخ بالمقارنة مع المنظومة الجدلية للماركسية، لأنها كانت تتجاهل مبدأ الفعل وردِّ الفعل، ولا تقر إلا بما في الطبيعة من تغيرات كمِّية.

                                    في القرن التاسع عشر، أدان أوغست كونت المادية لأنها، على حدِّ زعمه، تُنزِل الأعلى إلى الأسفل. لكننا نلاحظ، في المقابل، أن هذا المفهوم (أي المادية) قد ساد في فروع عدة من العلم: كالبيولوجيا التي رفضت كلَّ غائية وأعادت تفسير كلِّ شيء استنادًا إلى مسبِّباته الفيزيائية والكيميائية؛ أو كعلم النفس، حيث صار الوعي مجرد ظاهرة طارئة، وصار النفساني مجرد اشتقاق لما يمكن مراقبته فيزيائيًّا (كبسيكولوجيا السلوك، على سبيل المثال).

                                    أما المادية الجدلية – وهي المنظومة الفلسفية لماركس ولأتباعه – فهي تتعامل مع الكون ككلٍّ ماديٍّ متماسك وديناميٍّ، مؤكدة على تبادل التفاعل بين العناصر (حيث يصبح كلُّ فعل سببًا بدوره، والعكس صحيح)، وحيث يؤدي تراكُم التغيرات الكمية للحياة إلى تغيرات نوعية في الوجود؛ مما يعني، ضمن إطار ذلك التصور للواقع، الحلَّ التدريجي للتناقضات الداخلية كأساس للتاريخ.

                                    من تصور كهذا جاءت المادية التاريخية كمفهوم (ماركسي) مطبَّق على التاريخ كتحصيل حاصل وكإحدى النتائج الرئيسية للمادية الجدلية. لذلك نراها تركز على أهمية العامل الاقتصادي في الوجود الإنساني ( لأن ما يعرِّف بالإنسان عمليًّا هو ما ينتجه من أدوات كينونته)، وتؤكد على أن ما يميِّز التاريخ هو الصراع الطبقي، الناجم أيضًا عن العلاقات الاقتصادية بين البشر. لكن يبقى أن هذه البنية التحتية الاقتصادية لا تعيِّن تعيينًا ميكانيكيًّا تطورَ البُنى الفوقية: فبالعكس، يجب التفكر في تفاعلها المتبادل، وذلك على الرغم من بقاء العامل الاقتصادي هو العامل الحاسم في نهاية الأمر.

                                    ***

                                    ملاحظة: تم تعريب هذا النص عن قاموس ناثان الفلسفي، تأليف جيرار دوروزوي وأندريه روسيل.

                                    تعريب: أكرم أنطاكي.
                                    في كل يوم يصلب الانسان الف مرة ومرة ويصلب الوطن على طريق الجلجلة يسير شعب يحمل المسمار والصليب لانه يعيش في موطنه الحنون كالغريب وزهرة الخلاص في يديه مقصلة وسائر على طريق الجلجلة قد كللته المحنة السوداء بالسواد ومزقته اربا رصاصة الاحقاد
                                    أنا لا أحد وأنت،من تكون؟هل أنت أيضاً لا أحد وإذاً فثمة إثنان منا، إياك أن تخبرأحدا!وإلاألقوا بنا في المنفى
                                    وراء كل فوضى واشنطن وتل أبيب

                                    Comment


                                    • #19
                                      لا مارك


                                      لامارك (1744–1829)



                                      هو جان باتيست مونيه، شوفالييه دو لامارك. عالم طبيعيات وأحد المؤسِّسين الرئيسيين للبيولوجيا المعاصرة. قادتْه تأملاته إلى رفض ثباتية كوفييه، الذي كان يعتقد بالصفات الثابتة للكائنات الحية التي خُلِقَتْ خلقًا منفصلاً ومستقلاً، فعمَّق التصورات التي سبق أن عبَّر عنها بوفون، مؤكدًا، من جهة، على وحدة الحياة – كمفهوم مُعارض تمامًا للاعضوية – كثمرة لنظام متدرِّج وتراتبي، ومن جهة أخرى، على فكرة تحول الأنواع بفعل الظروف الخارجية المحيطة التي بوسعها أن توقف طبيعة انتشار الحياة أو تغيِّرها. استعاد لامارك إحدى أفكار ديديرو التي تقول بالوحدة الجدلية يبن الأجهزة والحاجة، مؤكدًا على أن بوسع الوسط الخارجي أن يغيِّر أو يولِّد حاجة مستمرة، تفعل فعلها على العضو، وتؤدي إلى إيجاده حتى. فكما أن بوسع عضو أن يضمحل ويختفي نتيجة قلة استعماله أو عدمه، فإن استعماله المكثَّف والمستمر يطوِّره: فالزرافة، مثلاً، المضطرة، بسبب وجودها في ظروف مناخية جافة، إلى رعي أوراق الأشجار، تبذل جهودًا استثنائية من أجل ذلك، مما انعكس استطالةً استثنائية في رقبتها وقوائمها.

                                      وترتكز هذه التحولية على قانون الوراثة الذي قبله معظم علماء الطبيعة حينئذٍ – حتى جاء فايتسمان الذي نقض هذه التصورات نقضًا نهائيًّا. أما اللاماركية الحديثة، التي تفترض أيضًا وراثة الصفات المكتسبة، فهي ترتكز على الفكرة القائلة بأن التطور الفردي هو غالبًا نتيجة مباشرة لتأثير الوسط المحيط.

                                      المؤلَّفات الرئيسية: نظام الحيوانات اللافقرية (1801)، أبحاث على تنظيم الأنواع (1802)، فلسفة علم الحيوان (1809).

                                      ***

                                      ملاحظة: تم تعريب هذا النص عن قاموس ناثان الفلسفي، تأليف جيرار دوروزوي وأندريه روسيل.

                                      تعريب: أكرم أنطاكي.

                                      مراجعة: ديمتري أفييرينوس.
                                      في كل يوم يصلب الانسان الف مرة ومرة ويصلب الوطن على طريق الجلجلة يسير شعب يحمل المسمار والصليب لانه يعيش في موطنه الحنون كالغريب وزهرة الخلاص في يديه مقصلة وسائر على طريق الجلجلة قد كللته المحنة السوداء بالسواد ومزقته اربا رصاصة الاحقاد
                                      أنا لا أحد وأنت،من تكون؟هل أنت أيضاً لا أحد وإذاً فثمة إثنان منا، إياك أن تخبرأحدا!وإلاألقوا بنا في المنفى
                                      وراء كل فوضى واشنطن وتل أبيب

                                      Comment


                                      • #20
                                        جِدُّو كريشنامورتي (1895-1986)

                                        جِدُّو كريشنامورتي (1895-1986)



                                        ولد جِدو كريشنامورتي في قرية صغيرة في جنوب الهند. وبُعيد انتقاله إلى مدينة مدراس مع أسرته، تبنتْه السيدة آني بيزانت، رئيسة الجمعية الثيوصوفية التي احتفتْ به في شبابه بوصفه مسيحًا جديدًا. وفي العام 1929، تخلى كريشنامورتي عن الدور الذي أنيط به، مفككًا التنظيمات "الروحية" التي طوقتْه، منطلقًا في مهمة، وقف لها حياته كلها، لـ"تحرير الإنسان تحريرًا مطلقًا غير مشروط" من القيود والإشراطات كافة، بما فيها القيود التي يفرضها الدينُ المنظَّم والاتكال على المرجعيات الدينية والروحية المختلفة، فجاب العالم إبان 65 سنة، متكلمًا في أوروبا والهند وأستراليا والأمريكتين، حتى قبيل وفاته بأسابيع قليلة.

                                        لم يعتنق كريشنامورتي أي مذهب، كما لم يبشر بأية عقيدة، بل صاغ تعليمه الفريد وحده، منصرفًا انصرافًا كليًّا إلى رصدٍ دائم لآليات الذهن البشري في كتابات ومحاضرات ومحاورات جُمِعَتْ في أكثر من 40 كتابًا وتُرجِمَتْ إلى حوالى 50 لغة. والقضايا الدائمة التي تصدَّى لها، والتي تتناول أصل المشكلات البشرية وطبيعة الذهن وكيفية التحرر النفسي وتحقيق الإشراق الروحي، بوَّأتْه مكانة خاصة بوصفه واحدًا من أكثر متكلِّمي القرن العشرين وكتَّابه استفزازًا للذهن المستكين إلى يقينياته وتحديًا لمزاعم جحافل المرشدين الجُدُد من أصحاب "الدكاكين الروحية" الذين يوزعون "التقنيات" و"الوصفات" و"الوعود" التي تزيد بلبلة العالم على بلبلة.

                                        كان كريشنامورتي يريد تحرير البشر نفسيًّا لكي يكونوا على تناغُم مع أنفسهم وأشباههم ومع الطبيعة. وقد علَّم أن الإنسان هو صانع البيئة التي يعيش فيها، وأن إيقاف كابوس العنف المستمر منذ آلاف السنين لا يتم إلا بتحول جذري في النفس البشرية. وقد اكتفى بإعطاء إشارات حول "فن" القيام بهذا التحول؛ إذ ليس ثمة طريق ولا منهاج لبلوغه: على كل أحد أن يقوم بالعمل بمفرده، دون اللجوء إلى أي معلم أو مرجعية؛ فالحياة بأسرها تصير المعلَّم.

                                        لهذه الأسباب مجتمعة، كانت التربية واحدة من اهتماماته الرئيسية. فإذا استطاع الطفل أن يتعلم رؤية إشراطاته الإثنية والدينية والمذهبية والاجتماعية إلخ، التي تقوده حتمًا إلى النزاع، إذ ذاك يستطيع أن يستوعي أنه العالم وأن العالم فيه؛ ولعله يستطيع بذلك أن يصير كائنًا بشريًّا يتحلى بفطنة رفيعة تلهمه السلوك السليم آنيًّا. فالذهن المثقل بالأحكام المسبقة مستعصٍ على الحرية.

                                        ***

                                        ليس كريشنامورتي "فيلسوفًا" بالمعنى المألوف للكلمة. فغالبية الفلاسفة يقومون، انطلاقًا من مسلَّمات يأخذون بها وتشكِّل نواة فلسفاتهم، ببناء صرح نظري يبحثون له عن تطبيقات في النشاطات البشرية المختلفة وفي العالم. أما "فكر" كريشنامورتي فهو يقوم على أسُس نفسانية يمكن التحقق منها "تجريبيًّا" – شريطة أن يتحلَّى المرء بالجرأة والشجاعة الكافيتين للإقدام على مثل هذه المغامرة – من شأنها أن تحث فيه، من دون أدنى عنف أو لجوء إلى سلطة فكرية خارجية، تحولاً غير متوقَّع يشمل سائر جوانب حياته.

                                        وإن التعمق في دراسة تعاليم كريشنامورتي ليكشف عن آفاق جديدة توطِّد دعائم فكر حرٍّ، نقيٍّ، متجدد، يتخطى كل الحدود والمقولات التي تفرضها علينا غالبيةُ المناهج والفلسفات والمذاهب التي لا تتسبَّب، في الأعم الأغلب، إلا في التجزئة والصراع والفوضى – الأمر الذي يمنح هذا الفكر أفقًا عالميًّا شاملاً بالغ الأهمية، وخاصة في عصرنا.

                                        إن معضلة الإنسان الأساسية تعود، في نظر كريشنامورتي، إلى "سيرورة الأنا" the I-process: تلك السيرورة المتمثلة في الرغبة المنغرسة في الأنا إلى الاستزادة من الوقود الذي يكفل لها الاستمرار في التقوقع على نفسها؛ ذلك التقوقع الذي لا يتجلى في الأنانية الفردية والشواهد الاجتماعية والتاريخية على عنجهية الإنسان وقسوته وحسب، بل وفي المفاهيم الأخلاقية الاجتماعية السائدة، المشبعة بالإحساس بالتفوق وبالرضا الذاتي وبالغرور المقنَّع.

                                        كريشنامورتي من القلة النادرة من الفلاسفة التي عملت على إقامة صلة وثيقة مباشرة بين التعقيد الحاذق واللامنطقي للنفس البشرية، بكل إحباطاتها، من جهة، وبين شعلة المحبة المتقدة في الكيان الإنساني، من جهة ثانية. فهو، بإزالته المسافة الوهمية الفاصلة بين أنا الإنسان وبين ما هو حقيقي فيه، أي بين الإنسان كعَرَض والإنسان كجوهر، يحرِّر النفس البشرية من فصام لازَمَها طويلاً. كل ما ليس حقيقيًّا وآنيًّا ومباشرًا خاضعٌ للزمن، أي للصيرورة، أي لإشراطات الذاكرات النفسانية، ولا يقع، بالتالي، في حقل "الإبداع" الخالص، وهو "انسلاب ذاتي" auto-alienation، بمعنى قريب من مفهوم إريش فروم للانسلاب. إن كريشنامورتي يضع إصبعه مباشرة على موضع العلة التي لا يستطيع أي تحليل نفسي "اختزالي" أو أية تجربة "صوفية" عابرة أن تشفيها – ألا وهي اعتيادنا القاتل محاكمة نفسنا ومقارنتها بالآخرين وإدانتها، ووضع سلَّم قيم من ابتداعنا نحن ومن صُنْع إسقاطاتنا الخافيَّة (= اللاواعية)، بدلاً من أن نلزم الصمت، ونبقى فاعلين في العالم، حاضرين فيه، نحيا حياة هي فينا، بأن نكون، لا كما نرغب في أن نكون، بل كما نحن فعلاً.

                                        لذا يقترح علينا كريشنامورتي – نحن الذين نلتقي بالمجهول في كلِّ لحظة، مزوَّدين بالذهن (وهو أفكارنا وذاكراتنا ومعلوماتنا المتراكمة) درعًا يدرأ عنَّا "خطر" ما نجهل – تجربة جريئة، قوامها تأمل نقدي عميق في النفس، مصحوب بشكٍّ وانتباه يقظ يتملص من قبضة الذاكرات والتلقائية الآلية المترسبة فينا عبر الماضي كلِّه، وتتفتح فيه زهرةُ كل لحظة جديدة بذبول زهرة اللحظة التي سبقتْها، وتتوِّجه يقظةٌ نهائية شافية على مستويات النفس البشرية كافة.

                                        تلكم ثورة كلِّية جذرية، "نفنى فيها عن نفسنا"، بالتعبير الصوفي، وعن ذاكراتنا الماضية، فتتفتح فينا "بصيرة"، وحدها قادرة على الإفصاح لنا عن الواقع، واقع "ما هو موجود" what is – الآن. أما مقاربة الواقع بالذهن وحده – وهو الماضي كلُّه – فهي "أشبه بضخِّ الدم في جثة ميت"، بحسب تعبير أحد المفكرين.

                                        لا يركن كريشنامورتي إلى كل فعل آلي وإلى كل تكرار وإلى كل رتابة واعتياد في حياتنا النفسية. ففي الفهم أيضًا، كما في المادة، نزوع طبيعي إلى الاعتياد وإلى التكرار وإلى العطالة؛ وهو نزوع ما لم نتداركه في الوقت المناسب ونفهم سياقه بالكامل، لكفيل بأن يستفحل ويتحول إلى هاجس يستحوذ على حياتنا النفسية برمَّتها. من هنا يميِّز كريشنامورتي تمييزًا دقيقًا بين "ذاكرات الوقائع" (وهي الذاكرات الطبيعية التي لا غنى لنا عنها) وبين "الذاكرات النفسانية" التي تنجم عن مُواحدة identification "أنا" الفرد مع ذاكرات الوقائع. فهذه المُواحدة الذاتية التي تقوم بها "الأنا" الخاضعة لشهوة الديمومة، خوفًا من التلاشي والاضمحلال، هي المسؤولة عن استنزاف حياتنا الداخلية وعن إحباط كافة مساعينا إلى المعرفة الحق للنفس وللعالم.

                                        "الأنا"، إذن، عبارة عن مجرد حزمة من أنماط السلوك أو العادات التي يضعها كريشنامورتي في نطاق "المعلوم". و"العادات"، هاهنا، لا يعني بها كريشنامورتي الحركاتِ اليوميةَ البسيطةَ التي يتعذر من دونها استمرارُ الفنون والصنائع والعلاقات بين البشر – لا بل تتعذر الحياة الإنسانية نفسها، – بل يعني بها تلك المسالك "الاعتيادية" التي من شأنها دومًا إدامة ردود الفعل الدفاعية التي تحرضها أحداثٌ رضِّية مؤلمة في الماضي. إنها الجروح النفسية أو الندوب المتشكلة في النقاط التي تأذَّت فيها الأنا، بقايا الأفعال الناقصة التي – لسبب أو لآخر – لم نعشها في كلِّيتها، وبالتالي، لم نفهمها، الأحداث الرضِّية الذي لم يتم استيعاؤها أو هضمها.

                                        العالم في حركة دائبة، في صيرورة أبدية، والأنا، بكلِّ ثوابتها ومكابداتها الناجمة عن رغبتها في ديمومة سكونية، إنما هي مقاوِمة لهذه الصيرورة. الأنا، بنظر كريشنامورتي، هي الماضي المحفوظ في ذاكرة ليست مجرد ذاكرة توثيقية أو وظيفية، بل ذاكرة – كونها ما تزال مشحونة بالانفعال الموجِع الناجم عن الفعل الرضِّي – موجِّهة لسلوكنا كلِّه، وتنحو إلى فَرْضِ مجرى محدَّد على حياتنا كلِّها وعلى مصيرنا برمَّته. هي ذاكرة، على الرغم من تجدد الحياة الدائم، ترمي بنا، مع صباح كلِّ يوم جديد، في أزقة مساعينا القديمة، وتفرض علينا غَصْبًا عَقْد ميثاق متجدد، لا مع الحياة، بل مع طموحات ماضينا العقيمة، التي تستطيع بذلك، من جراء "الالتزام" بهذا الميثاق غير المَوْعيِّ، أن تتظاهر بالحياة وتتلقى دفعًا جديدًا.

                                        إن استمرارية الأنا ما هي إلا استمرارية هذه الذاكرة، وديمومة الأنا إنما هي ديمومة الماضي – ماضٍ ليس إلا جملة تشنجات وأوجاع وقروح ومقاومة متعنتة لكلِّ خروج عليه أو حياد عنه، لكلِّ صيرورة عفوية، أصيلة، مبدعة.

                                        بذلك فإن صراع الأنا مع الحاضر يُختزَل إلى صراع الماضي مع الحاضر، كما يقول رونيه فويريه. وهذا الصراع يخلق المفهوم النفسي للماضي. أي أن مقاومة الصيرورة التي تكوَّنت لدى وقوع الأحداث الماضية تخلق فينا معنى الماضي. ومن جهة أخرى، فإن عدم إشباع الرغبات هو الذي يخلق فينا مفهومَ المستقبل – لا المستقبل الحقيقي الذي سوف يعاش فعلاً وحتمًا، بل مستقبل مفتعَل، ليس في حقيقته إلا ماضيًا، لأنه – عمليًّا – مكوَّن، في حاضر منقوص، من ذكريات هذا الماضي. ليس ثمة جديد حقيقي في هذا المستقبل المزيف لأنه ليس غير صورة معكوسة للماضي في مرآة الأنا. أما المستقبل الحقيقي، الفعلي، فلا يمكن اختباره إلا كحاضر حي.

                                        عندما تتلاشى مركزية الأنا، مع جحافل التناقضات التي تولِّدها في النفس، يعي المرء أن ما كان يتوسَّم فيه ذاته، ما كان يراه من نفسه ويحسب أنه هو، لم يكن في حقيقة الأمر إلا صورة ممسوخة من ذاته الحق وقد أضفى عليها صفة الإطلاق – حزمة من الأفكار والانفعالات والرضوض التي تختزل روعة الحياة، بتجلياتها اللانهائية، إلى قانون يتوهم أنه سيجد بتطبيقه السعادة التي ينشد، وتحُول، بالتالي، دون تفتحه الحقيقي والكشف عن إمكاناته الأصيلة.

                                        ***

                                        ثورية كريشنامورتي تتمثل في مقاربته الجديدة فعلاً للعمل على الذات وفي اكتشافه شيئًا ثوريًّا، خارقًا، لم ينتبه إلى أهميته، في غمرة اختبارهم للعالم الداخلي، غالبيةُ المعلِّمين والفلاسفة الروحيين: إذا كان العمل الداخلي يبدأ من "نقطة انطلاق" في حقل الوعي، فإن هذا المنطلَق، بوصفه، منطقيًّا، لا يخرج أصلاً عن نطاق الأنا (المعلوم)، لا بدَّ أن يحتجز كلَّ ما ينتج عنه ضمن هذا النطاق نفسه. وما يحدث في هذه الحالة، من حيث لا نعي، هو نوع من إعادة ترتيب محتويات الوعي "الأنوي" في تشكيلة جديدة نتوهم أنها خبرة جديدة، في حين أنها إلباس للقديم ثوبًا جديدًا.

                                        من هنا استحالة أن تختبر الأنا شيئًا غير ذاتها ومعطياتها، وضرورة عدم الانطلاق في سيرورة معرفة النفس من "مركز"، بل إعمال نوع من الانتباه الدائم الذي لا يوجد فيه "أحد" ينتبه، ويكون فيه الراصد والمرصود (أو المراقِب والمراقَب) مندمجين في سيرورة الرصد أو الانتباه – مثل المحبة تمامًا: في لحظة الشعور العميق بالمحبة الحقيقية لا يوجد محب ومحبوب، بل محبة فقط! ("الصديق آخرٌ هو أنت"، كما يقول أبو حيان التوحيدي.) إن ما يميز الخبرة الروحية الأصيلة، في الواقع، هو العجز الكامل عن مقارنتها بأيٍّ من الخبرات النفسية السابقة (الذاكرة، المعلوم)، مما يفسح المجال شاسعًا لاكتشاف آنيٍّ للمجهول في كلِّ لحظة.

                                        بهذه الخبرة يستوعي الإنسان، في لمحة كلمح البرق، بُطلان الأنا، وتتلاشى الأنا القديمة وقد صَعَقَها انكشافُ زيفها. وتبلغ طاقة الإنسان، التي كانت تُستهلَك في تغذية تناقضات ينسل بعضها بعضًا، درجةً مذهلة من التركيز، ويبحر الكيان الداخلي في محيط لا ساحل له، في استغراق مطمئن في الحياة الكلِّية يجعله غير قابل للاستغلال من أحد ويطفئ فيه الرغبة في استغلال غيره. والفكر والعاطفة، اللذان كانت الأنا تحرص على الفصل بينهما، يندمجان في فهم عميق منعتق من إسار الزمن.

                                        يستتب عندئذٍ تكاملٌ تام في قوى الكيان، يتجلى في محبة هي غاية ذاتها، هي أبدية ذاتها. هذه المحبة – وهي، بحسب كريشنامورتي، فعل "التأمل" بعينه – تطلق مواهبنا الحقيقية من عقالها، لأنها لا تختار ولا تقيد؛ إنها أشبه ما تكون بشمس روحية تسطع في مجدها، تشرق بأشعتها الدافئة على الفراشة والذبابة معًا، وتشمل بضيائها المجرم والقديس – زهرة تنشر أريجها على السابلة جميعًا، بصرف النظر عن هويتهم.

                                        ***

                                        ربما وَقَعَ الباحثُ المنقِّب على نقاط تشابُه بين "فكر" كريشنامورتي وبين تعاليم حكماء وفلاسفة هنود عديدين، أمثال شنكراتشاريا، غوتاما البوذا، رامانا مهارشي، نسارغاداتا مهَراج، في بحث هؤلاء عن المبدأ المطلق أو الأسمى أو في تعبيرهم عنه، وكذلك بينه وبين الطاوية (لاوتسه، خوانغ تسه) وبوذية زِنْ. كما قد يعثر الباحث على نقاط التقاء عديدة بين كريشنامورتي وبين مفكرين غربيين كُثُر يصعب حصرها في هذا المقام، من أمثال كارل غ. يونغ، مؤسِّس علم النفس التحليلي، والأديب هرمن هِسِّه (ولاسيما في كتابه سيدهرتا)، وغيرهما. وقد يجد تقاطعًا بين الانتباه الذي تكلَّم عليه كريشنامورتي وبين "الحدس" لدى برغسون. إن كريشنامورتي يلتقي حقًّا مع برغسون في إصراره على ما هو خلاق وفي تنديده بكلِّ ما هو آلي غير تلقائي ولا ينسجم مع "التطور المبدع".

                                        وكريشنامورتي، حين يحيل "الأنا" إلى القضاء، وحين يرينا ببساطة كلَّ التناقضات التي تعيث فيها فسادًا ويجعلنا نعترف بفراغها من كل معنى أصيل، وحين يشدِّد على الحرية والمسؤولية الفرديتين، فإنه يقترب من ج.ب. سارتر، على الرغم من جميع الاختلافات العميقة بين الرجلين في القصد والمنهج. غير أنه يتخطى في براعة، عبر التحول الداخلي الحاسم، المعضلة التي عجز مؤلِّف الوجود والعدم عن تخطيها. بيد أن فكر كريشنامورتي ليس تخصصيًّا، وهو لا يندرج ضمن أيِّ منظور تاريخي. إنه يعارض ذوبان الفرد في الجماعة؛ ومع ذلك فهو يقر، مع كارل ماركس، بأن الأنا هي ثمرة الوسط الاجتماعي. لكن الأنا عنده ليست جوهر الإنسان – وهاهنا أساس الفرق بين المفكرَيْن. يخاطب تعليم كريشنامورتي العالم بأسره، لأنه، على كونه من أصل هندي، ظل يشدد على أنه – نفسيًّا – لا ينتمي إلى أية قومية ولا إلى أية ثقافة بعينها.

                                        ***

                                        حقل التجربة الإنسانية غير محدود، وفي وسع الوعي الإنساني أن يتسامى حتى المطلق، أو بالأصح، أن يحقق جوهره المطلق وينعتق من القيود التي تكبِّله كلِّها. إن إمكان تحقيق خبرة الانعتاق هذه كامن في كل إنسان؛ لكن موهبة تحقيقها الكامل وإيصالها إلى الآخرين معطاة للقلة المباركة من بني البشر وحدها. ولقد كان كريشنامورتي من أصحاب هذه الموهبة في أجلى معانيها؛ وقد استطاع، بسبره العميق لطبيعة "الإشراطات" التي تحول دون الإنسان وتحقيق تجربة الانعتاق، أن يكشف لنا في عمق الكائن البشري عن ينبوع من المحبة والفطنة والإبداع لا ينضب. وتُعتبَر تعاليمُه اليوم واحةً حقيقية وسط صحراء المادية (بالمعنى الأخلاقي، وليس الفلسفي) المتفاقمة، من جهة، والمثالية العاجزة عن تحقيق ذاتها، من جهة أخرى، الأمر الذي يجعلها تستحق بحق تبوأ منزلة رفيعة في التراث الروحي والفلسفي للإنسانية قاطبة.

                                        ديمتري أفييرينوس


                                        ***



                                        مراجع مختارة

                                        - ج. كريشنامورتي، يوميات كريشنامورتي (تأملات في الحياة)، بترجمة مصطفى الزين، بيسان للنشر، بيروت 1997.

                                        - ج. كريشنامورتي، تغيير الإنسان حاجة ملحة، بترجمة عيسى ميرانا، سيدني 1992.

                                        - لنسن، روبير، التطور النفسي في الألف القادمة، بترجمة ندره اليازجي، دار الغربال، دمشق 1983.

                                        - Blackburn, Albert, Now-Consciousness: Exploring the World Beyond Thought (Idylwild Books).

                                        - Blackburn, Albert, Worlds Beyond Thought: Conversations on Now-Consciousness (Idylwild Books).

                                        - Bohm, David, A Brief Introduction to the Work of Krishnamurti (Krishnamurti Foundation of America).

                                        - Bohm, David, Thought as a System (Routledge).

                                        - Delafosse, Bernard, Krishnamurti ou « Cinquante ans d’éveil » (Guy Trédaniel).

                                        - Field, Sydney & Peter Hay, Krishnamurti: The Reluctant Messiah (Paragon Press).

                                        - Fouéré, René, La Révolution du Réel – Krishnamurti, 2e éd. (Le Courrier du Livre).

                                        - Ingram Smith, Donald, The Transparent Mind: A Journey with Krishnamurti (Edwin House Publishing, Inc.).

                                        - J. Krishnamurti & David Bohm, The Ending of Time (Harper & Row).

                                        - J. Krishnamurti & David Bohm, The Future of Humanity: A Conversation (Harper & Row).

                                        - J. Krishnamurti, Commentaries on Living – Vol. I, Vol. II, Vol. III (Quest Books).

                                        - J. Krishnamurti, Education and the Significance of Life (Harper & Row).

                                        - J. Krishnamurti, Freedom from the Known (Harper & Row).

                                        - J. Krishnamurti, Krishnamurti to Himself: His Last Journal (Harper & Row).

                                        - J. Krishnamurti, Krishnamurti’s Journal (Harper & Row).

                                        - J. Krishnamurti, Krishnamurti’s Notebook (Victor Gollancz Ltd.).

                                        - J. Krishnamurti, Life Ahead (Harper & Row).

                                        - J. Krishnamurti, Talks with American Students (Shambhala).

                                        - J. Krishnamurti, The Awakening of Intelligence (Victor Gollancz Ltd.).

                                        - J. Krishnamurti, The Core of Krishnamurti’s Teaching (Krishnamurti Foundation of America).

                                        - J. Krishnamurti, The First and Last Freedom (Victor Gollancz Ltd.).

                                        - J. Krishnamurti, The Flame of Attention (Harper & Row).

                                        - J. Krishnamurti, The Flight of the Eagle (Harper & Row).

                                        - J. Krishnamurti, The Impossible Question (Penguin Books).

                                        - J. Krishnamurti, The Network of Thought (Harper & Row).

                                        - J. Krishnamurti, The Wholeness of Life (Victor Gollancz Ltd.).

                                        - J. Krishnamurti, Think on These Things (Harper & Row).

                                        - J. Krishnamurti, This Matter of Culture (Victor Gollancz Ltd.).

                                        - J. Krishnamurti, Tradition and Revolution (Sangam Books).

                                        - J. Krishnamurti, Washington, D.C. Talks 1985 (Mirananda).

                                        - J. Krishnamurti, You Are the World (Harper & Row).

                                        - Jayakar, Pupul, J. Krishnamurti: A Biography (Penguin Books).

                                        - Lutyens, Mary, Krishnamurti: The Years of Awakening; Krishnamurti: The Years of Fulfillment; Krishnamurti: The Open Door (Avon Books).

                                        - Suarès, Carlo, Krishnamurti et l’unité humaine (Le Cercle du Livre).

                                        في كل يوم يصلب الانسان الف مرة ومرة ويصلب الوطن على طريق الجلجلة يسير شعب يحمل المسمار والصليب لانه يعيش في موطنه الحنون كالغريب وزهرة الخلاص في يديه مقصلة وسائر على طريق الجلجلة قد كللته المحنة السوداء بالسواد ومزقته اربا رصاصة الاحقاد
                                        أنا لا أحد وأنت،من تكون؟هل أنت أيضاً لا أحد وإذاً فثمة إثنان منا، إياك أن تخبرأحدا!وإلاألقوا بنا في المنفى
                                        وراء كل فوضى واشنطن وتل أبيب

                                        Comment

                                        Working...
                                        X