• If this is your first visit, be sure to check out the FAQ by clicking the link above. You may have to register before you can post: click the register link above to proceed. To start viewing messages, select the forum that you want to visit from the selection below.

Announcement

Collapse

قوانين المنتدى " التعديل الاخير 17/03/2018 "

فيكم تضلو على تواصل معنا عن طريق اللينك: www.ch-g.org

قواعد المنتدى:
التسجيل في هذا المنتدى مجاني , نحن نصر على إلتزامك بالقواعد والسياسات المفصلة أدناه.
إن مشرفي وإداريي منتدى الشباب المسيحي - سوريا بالرغم من محاولتهم منع جميع المشاركات المخالفة ، فإنه ليس بوسعهم استعراض جميع المشاركات.
وجميع المواضيع تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا يتحمل أي من إدارة منتدى الشباب المسيحي - سوريا أي مسؤولية عن مضامين المشاركات.
عند التسجيل بالمنتدى فإنك بحكم الموافق على عدم نشر أي مشاركة تخالف قوانين المنتدى فإن هذه القوانين وضعت لراحتكم ولصالح المنتدى، فمالكي منتدى الشباب المسيحي - سوريا لديهم حق حذف ، أو مسح ، أو تعديل ، أو إغلاق أي موضوع لأي سبب يرونه، وليسوا ملزمين بإعلانه على العام فلا يحق لك الملاحقة القانونية أو المسائلة القضائية.


المواضيع:
- تجنب استخدام حجم خط كبير (أكبر من 4) او صغير (أصغر من 2) او اختيار نوع خط رديء (سيء للقراءة).
- يمنع وضع عدد كبير من المواضيع بنفس القسم بفترة زمنية قصيرة.
- التأكد من ان الموضوع غير موجود مسبقا قبل اعتماده بالقسم و هالشي عن طريق محرك بحث المنتدى او عن طريق محرك بحث Google الخاص بالمنتدى والموجود بأسفل كل صفحة و التأكد من القسم المناسب للموضوع.
- إحترم قوانين الملكية الفكرية للأعضاء والمواقع و ذكر المصدر بنهاية الموضوع.
- مو المهم وضع 100 موضوع باليوم و انما المهم اعتماد مواضيع ذات قيمة و تجذب بقية الاعضاء و الابتعاد عن مواضيع العاب العد متل "اللي بيوصل للرقم 10 بياخد بوسة" لأنو مخالفة و رح تنحزف.
- ممنوع وضع الاعلانات التجارية من دون موافقة الادارة "خارج قسم الاعلانات".
- ممنوع وضع روابط دعائية لمواقع تانية كمان من دون موافقة الادارة "خارج قسم الاعلانات".
- لما بتشوفو موضوع بغير قسمو او فيو شي مو منيح او شي مو طبيعي , لا تردو عالموضوع او تحاورو صاحب الموضوع او تقتبسو شي من الموضوع لأنو رح يتعدل او ينحزف و انما كبسو على "التقرير بمشاركة سيئة" و نحن منتصرف.
- لما بتشوفو موضوع بقسم الشكاوي و الاقتراحات لا تردو على الموضوع الا اذا كنتو واثقين من انكم بتعرفو الحل "اذا كان الموضوع عبارة عن استفسار" , اما اذا كان الموضوع "شكوى" مافي داعي تردو لأنو ممكن تعبرو عن وجهة نظركم اللي ممكن تكون مختلفة عن توجه المنتدى مشان هيك نحن منرد.
- ممنوع وضع برامج الاختراق او المساعدة بعمليات السرقة وبشكل عام الـ "Hacking Programs".
- ممنوع طرح مواضيع او مشاركات مخالفة للكتاب المقدس " الانجيل " وبمعنى تاني مخالفة للايمان المسيحي.
- ممنوع طرح مواضيع او مشاركات تمس الطوائف المسيحية بأي شكل من الاشكال "مدح او ذم" والابتعاد بشكل كامل عن فتح اي نقاش يحمل صبغة طائفية.
- ضمن منتدى " تعرفون الحق و الحق يحرركم " بالامكان طرح الاسئلة بصيغة السؤال والجواب فقط ويمنع فتح باب النقاش والحوار بما يؤدي لمهاترات وافتراض اجوبة مسبقة.


عناوين المواضيع:
- عنوان الموضوع لازم يعبر عن محتوى الموضوع و يفي بالمحتوى و ما لازم يكون متل هيك "الكل يفوت , تعوا بسرعة , جديد جديد , صور حلوة , الخ ....".
- لازم العنوان يكون مكتوب بطريقة واضحة بدون اي اضافات او حركات متل "(((((((((العنوان)))))))))))) , $$$$$$$$$ العنوان $$$$$$$$$".
- عنوان الموضوع ما لازم يحتوي على اي مدات متل "الــعــنـــوان" و انما لازم يكون هيك "العنوان".


المشاركات:
- ممنوع تغيير مسار الموضوع لما بكون موضوع جدي من نقاش او حوار.
- ممنوع فتح احاديث جانبية ضمن المواضيع وانما هالشي بتم عالبرايفت او بالدردشة.
- ممنوع استخدام الفاظ سوقية من سب او شتم او تجريح او اي الفاظ خارجة عن الزوق العام.
- ممنوع المساس بالرموز و الشخصيات الدينية او السياسية او العقائدية.
- استخدام زر "thanks" باسفل الموضوع اذا كنتو بدكم تكتبو بالمشاركة كلمة شكر فقط.
- لما بتشوفو مشاركة سيئة او مكررة او مو بمحلها او فيا شي مو منيح , لا تردو عليها او تحاورو صاحب المشاركة او تقتبسو من المشاركة لأنو رح تنحزف او تتعدل , وانما كبسو على "التقرير بمشاركة سيئة" و نحن منتصرف.


العضوية:
- ممنوع استخدام اكتر من عضوية "ممنوع التسجيل بأكتر من اسم".
- ممنوع اضافة حركات او رموز لاسم العضوية متل " # , $ , () " و انما يجب استخدام حروف اللغة الانكليزية فقط.
- ممنوع اضافة المدات لاسم العضوية "الـعـضـويـة" و انما لازم تكون بهل شكل "العضوية".
- ممنوع استخدام اسماء عضويات تحتوي على الفاظ سوقية او الفاظ بزيئة.
- ممنوع وضع صورة رمزية او صورة ملف شخصي او صور الالبوم خادشة للحياء او الزوق العام.
- التواقيع لازم تكون باللغة العربية او الانكليزية حصرا و يمنع وضع اي عبارة بلغة اخرى.
- ما لازم يحتوي التوقيع على خطوط كتيرة او فواصل او المبالغة بحجم خط التوقيع و السمايليات او المبالغة بمقدار الانتقال الشاقولي في التوقيع "يعني عدم ترك سطور فاضية بالتوقيع و عدم تجاوز 5 سطور بحجم خط 3".
- ما لازم يحتوي التوقيع على لينكات "روابط " دعائية , او لمواقع تانية او لينك لصورة او موضوع بمنتدى اخر او ايميل او اي نوع من اللينكات , ما عدا لينكات مواضيع المنتدى.
- تعبئة كامل حقول الملف الشخصي و هالشي بساعد بقية الاعضاء على معرفة بعض اكتر و التقرب من بعض اكتر "ما لم يكن هناك سبب وجيه لمنع ذلك".
- فيكم تطلبو تغيير اسم العضوية لمرة واحدة فقط وبعد ستة اشهر على تسجيلكم بالمنتدى , او يكون صار عندكم 1000 مشاركة , ومن شروط تغيير الاسم انو ما يكون مخالف لشروط التسجيل "قوانين المنتدى" و انو الاسم الجديد ما يكون مأخود من قبل عضو تاني , و انو تحطو بتوقيعكم لمدة اسبوع على الاقل "فلان سابقا".
- يمنع انتحال شخصيات الآخرين أو مناصبهم من خلال الأسماء أو الصور الرمزية أو الصور الشخصية أو ضمن محتوى التوقيع أو عن طريق الرسائل الخاصة فهذا يعتبر وسيلة من وسائل الإحتيال.


الرسائل الخاصة:
الرسائل الخاصة مراقبة مع احترام خصوصيتا وذلك بعدم نشرها على العام في حال وصلكم رسالة خاصة سيئة فيكم تكبسو على زر "تقرير برسالة خاصة" ولا يتم طرح الشكوى عالعام "متل انو توصلكم رسالة خاصة تحتوي على روابط دعائية لمنتجات او مواقع او منتديات او بتحتوي على الفاظ نابية من سب او شتم او تجريح".
لما بتوصلكم رسائل خاصة مزعجة و انما ما فيها لا سب ولا شتم ولا تجريح ولا روابط دعائية و انما عم يدايقكم شي عضو من كترة رسائلو الخاصة فيكم تحطو العضو على قائمة التجاهل و هيك ما بتوصل اي رسالة خاصة من هالعضو.
و تزكرو انو الهدف من الرسائل الخاصة هو تسهيل عملية التواصل بين الاعضاء.


السياسة:
عدم التطرق إلى سياسة الدولة الخارجية أو الداخلية أو حتى المساس بسياسات الدول الصديقة فالموقع لا يمت للسياسة بصلة ويرجى التفرقة بين سياسات الدول وسياسات الأفراد والمجتمعات وعدم التجريح أو المساس بها فالمنتدى ليس حكر على فئة معينة بل يستقبل فئات عدة.
عدم اعتماد مواضيع أو مشاركات تهدف لزعزعة سياسة الجمهورية العربية السورية أو تحاول أن تضعف الشعور القومي أو تنتقص من هيبة الدولة ومكانتها أو أن يساهم بشكل مباشر أو غير مباشر بزعزعة الأمن والاستقرار في الجمهورية العربية السورية فيحق للادارة حذف الموضوع مع ايقاف عضوية صاحب الموضوع.


المخالفات:
بسبب تنوع المخالفات و عدم امكانية حصر هالمخالفات بجدول محدد , منتبع اسلوب مخالفات بما يراه المشرف مناسب من عدد نقط و مدة المخالفة بيتراوح عدد النقط بين 1-100 نقطة , لما توصلو لل 100 بتم الحظر الاوتوماتيكي للعضو ممكن تاخدو تنبيه بـ 5 نقط مثلا على شي مخالفة , و ممكن تاخد 25 نقطة على نفس المخالفة و ممكن يوصلو لل 50 نقطة كمان و هالشي بيرجع لعدد تكرارك للمخالفة او غير مخالفة خلال فترة زمنية قصيرة.
عند تلقيك مخالفة بيظهر تحت عدد المشاركات خانة جديدة " المخالفات :" و بيوصلك رسالة خاصة عن سبب المخالفة و عدد النقط و المدة طبعا هالشي بيظهر عندكم فقط.


الهدف:
- أسرة شبابية سورية وعربية مسيحية ملؤها المحبة.
- توعية وتثقيف الشباب المسيحي.
- مناقشة مشاكل وهموم وأفكار شبابنا السوري العربي المسيحي.
- نشر التعاليم المسيحية الصحيحة وعدم الإنحياز بشكل مذهبي نحو طائفة معينة بغية النقد السيء فقط.
في بعض الأحيان كان من الممكن أن ينحني عن مسار أهدافه ليكون مشابه لغيره من المنتديات فكان العمل على عدم جعله منتدى ديني متخصص كحوار بين الطوائف , فنتيجة التجربة وعلى عدة مواقع تبين وبالشكل الأكبر عدم المنفعة المرجوة بهذا الفكر والمنحى , نعم قد نشير ونوضح لكن بغية ورغبة الفائدة لنا جميعا وبتعاون الجميع وليس بغية بدء محاورات كانت تنتهي دوما بالتجريح ومن الطرفين فضبط النفس صعب بهذه المواقف.



رح نكتب شوية ملاحظات عامة يا ريت الكل يتقيد فيها:
• ابحث عن المنتدى المناسب لك و تصفح أقسامه ومواضيعه جيداً واستوعب مضمونه وهدفه قبل ان تبادر بالمشاركة به , فهناك الكثير من المنتديات غير اللائقة على الإنترنت .وهناك منتديات متخصصة بمجالات معينة قد لا تناسبك وهناك منتديات خاصة بأناس محددين.
• إقرأ شروط التسجيل والمشاركة في المنتدى قبل التسجيل به واستوعبها جيدأ واحترمها و اتبعها حتى لا تخل بها فتقع في مشاكل مع الأعضاء ومشرفي المنتديات.
• اختر اسم مستعار يليق بك وبصفاتك الشخصية ويحمل معاني إيجابية ، وابتعد عن الأسماء السيئة والمفردات البذيئة ، فأنت في المنتدى تمثل نفسك وأخلاقك وثقافتك وبلدك ، كما أن الاسم المستعار يعطي صفاته ودلالته لصاحبه مع الوقت حيث يتأثر الإنسان به بشكل غير مباشر ودون ان يدرك ذلك.
• استخدم رمز لشخصيتك " وهو الصورة المستخدمة تحت الاسم المستعار في المنتدى " يليق بك و يعبر عن شخصيتك واحرص على ان يكون أبعاده مناسبة.
• عند اختيارك لتوقيعك احرص على اختصاره ، وأن يكون مضمونه مناسباً لشخصيتك وثقافتك.
• استخدم اللغة العربية الفصحى وابتعد عن اللهجات المحكية " اللهجة السورية مستثناة لكثرة المسلسلات السورية " لانها قد تكون مفهومة لبعض الجنسيات وغير مفهومة لجنسيات أخرى كما قد تكون لكلمة في لهجتك المحكية معنى عادي ولها معنى منافي للأخلاق أو مسيء لجنسية أخرى . كذلك فإن استخدامك للغة العربية الفصحى يسمح لزوار المنتدى وأعضائه بالعثور على المعلومات باستخدام ميزة البحث.
• استخدم المصحح اللغوي وراعي قواعد اللغة عند كتابتك في المنتديات حتى تظهر بالمظهر اللائق التي تتمناه.
• أعطي انطباع جيد عن نفسك .. فكن مهذباً لبقاً واختر كلماتك بحكمة.
• لا تكتب في المنتديات أي معلومات شخصية عنك أو عن أسرتك ، فالمنتديات مفتوحة وقد يطلع عليها الغرباء.
• أظهر مشاعرك وعواطفك باستخدام ايقونات التعبير عن المشاعر Emotion Icon's عند كتابة مواضيعك وردودك يجب ان توضح مشاعرك أثناء كتابتها ، هل سيرسلها مرحة بقصد الضحك ؟ او جادة أو حزينه ؟ فعليك توضيح مشاعرك باستخدام Emotion Icon's ،لأنك عندما تتكلم في الواقع مع احد وجها لوجه فانه يرى تعابير وجهك وحركة جسمك ويسمع نبرة صوتك فيعرف ما تقصد ان كنت تتحدث معه على سبيل المزاح أم الجد. لكن لا تفرط في استخدام أيقونات المشاعر و الخطوط الملونة و المتغيرة الحجم ، فما زاد عن حده نقص.
• إن ما تكتبه في المنتديات يبقى ما بقي الموقع على الإنترنت ، فاحرص على كل كلمة تكتبها ، فمن الممكن ان يراها معارفك وأصدقائك وأساتذتك حتى وبعد مرور فترات زمنية طويلة.
• حاول اختصار رسالتك قدر الإمكان :بحيث تكون قصيرة و مختصرة ومباشرة وواضحة وفي صلب مضمون قسم المنتدى.
• كن عالمياً : واعلم أن هناك مستخدمين للإنترنت يستخدمون برامج تصفح مختلفة وكذلك برامج بريد الكتروني متعددة ، لذا عليك ألا تستخدم خطوط غريبة بل استخدم الخطوط المعتاد استخدامها ، لأنه قد لا يتمكن القراء من قراءتها فتظهر لهم برموز وحروف غريبة.
• قم بتقديم ردود الشكر والتقدير لكل من أضاف رداً على موضوعك وأجب على أسئلتهم وتجاوب معهم بسعة صدر وترحيب.
• استخدم ميزة البحث في المنتديات لمحاولة الحصول على الإجابة قبل السؤال عن أمر معين أو طلب المساعدة من بقية الأعضاء حتى لا تكرر الأسئلة والاستفسارات والاقتراحات التى تم الإجابة عنها قبل ذلك.
• تأكد من أنك تطرح الموضوع في المنتدى المخصص له: حيث تقسم المنتديات عادة إلى عدة منتديات تشمل جميع الموضوعات التي يمكن طرحها ومناقشتها هنا، وهذا من شأنه أن يرفع من كفاءة المنتديات ويسهل عملية تصنيف وتبويب الموضوعات، ويفضل قراءة الوصف العام لكل منتدى تحت اسمه في فهرس المنتديات للتأكد من أن مشاركتك تأخذ مكانها الصحيح.
• استخدم عنوان مناسب ومميِّز لمشاركتك في حقل الموضوع. يفضل عدم استخدام عبارات عامة مثل "يرجى المساعدة" أو "طلب عاجل" أو "أنا في ورطة" الخ، ويكون ذلك بكتابة عناوين مميِّزة للموضوعات مثل "كيف استخدم أمر كذا في برنامج كذا" أو "تصدير ملفات كذا إلى كذا".
• إحترم قوانين الملكية الفكرية للأعضاء والمواقع والشركات، وعليك أن تذكر في نهاية مشاركتك عبارة "منقول عن..." إذا قمت بنقل خبر أو مشاركة معينة من أحد المواقع أو المجلات أو المنتديات المنتشرة على الإنترنت.
• إن أغلب المنتديات تكون موجهه لجمهور عام ولمناقشة قضايا تثقيفية وتعليمية . لذلك يجب ان تكون مشاركتك بطريقة تحترم مشاعر الآخرين وعدم الهجوم في النقاشات والحوارات. وأي نشر لصور أو نصوص أو وصلات مسيئة، خادشة للحياء أو خارج سياق النهج العام للموقع.
• المنتدى لم يوجد من أجل نشر الإعلانات لذا يجب عدم نشر الإعلانات أو الوصلات التي تشير إلى مواقع إعلانية لأي منتج دون إذن او إشارة إلى موقعك أو مدونتك إذا كنت تمتلك ذلك.
• عدم نشر أي مواد أو وصلات لبرامج تعرض أمن الموقع أو أمن أجهزة الأعضاء الآخرين لخطر الفيروسات أو الدودات أو أحصنة طروادة.
•ليس المهم أن تشارك بألف موضوع فى المنتدى لكن المهم أن تشارك بموضوع يقرأه الألوف،فالعبرة بالنوع وليس بالكم.
• عدم الإساءة إلى الأديان أو للشخصيات الدينية.
•عند رغبتك بإضافة صور لموضوعك في المنتدى ، احرص على ألا يكون حجمها كبير حتى لا تستغرق وقتاً طويلاً لتحميلها وأن تكون في سياق الموضوع لا خارجه عنه.
•الالتزام بالموضوع في الردود بحيث يكون النقاش في حدود الموضوع المطروح لا الشخص، وعدم التفرع لغيره أو الخروج عنه أو الدخول في موضوعات أخرى حتى لا يخرج النقاش عن طوره.
• البعد عن الجدال العقيم والحوار الغير مجدي والإساءة إلى أي من المشاركين ، والردود التي تخل بأصول اللياقة والاحترام.
• احترم الرأي الآخر وقدر الخلاف في الرأي بين البشر واتبع آداب الخلاف وتقبله، وأن الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية.
• التروي وعدم الاستعجال في الردود ، وعدم إلقاء الأقوال على عواهلها ودون تثبت، وأن تكون التعليقات بعد تفكير وتأمل في مضمون المداخله، فضلاً عن التراجع عن الخطأ؛ فالرجوع إلى الحق فضيلة. علاوة على حسن الاستماع لأقوال الطرف الآخر ، وتفهمها تفهما صحيحا.
• إياك و تجريح الجماعات أو الأفراد أو الهيئات أو الطعن فيهم شخصياً أو مهنياً أو أخلاقياً، أو استخدام أي وسيلة من وسائل التخويف أو التهديد او الردع ضد أي شخص بأي شكل من الأشكال.
• يمنع انتحال شخصيات الآخرين أو مناصبهم من خلال الأسماء أو الصور الرمزية أو الصور الشخصية أو ضمن محتوى التوقيع أو عن طريق الرسائل الخاصة فهذا يعتبر وسيلة من وسائل الإحتيال.
• إذا لاحظت وجود خلل في صفحة أو رابط ما أو إساءة من أحد الأعضاء فيجب إخطار مدير الموقع أو المشرف المختص على الفور لأخذ التدابير اللازمة وذلك بإرسال رسالة خاصة له.
• فريق الإشراف يعمل على مراقبة المواضيع وتطوير الموقع بشكل يومي، لذا يجب على المشاركين عدم التصرف "كمشرفين" في حال ملاحظتهم لخلل أو إساءة في الموقع وتنبيه أحد أعضاء فريق الإشراف فوراً.
See more
See less

قصة الحضارة (ول ديورانت)

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • قصة الحضارة (ول ديورانت)

    عصر فولتير -> فرنسا -> الشعب والدولة -> مقدمة



    الكتاب الثاني




    فرنسا




    1723- 1756




    الفصل السابع




    الشعب والدولة


    كان عدد سكان فرنسا التي عاد إليها فولتير 1727، نحو تسعة عشر مليوناً من الأنفس، مقسمة إلى ثلاث طبقات: رجال الدين والنبلاء، ثم الطبقة الثالثة التي تضم بقية الشعب. وإذا أردنا أن نفهم الثورة الفرنسية فلا بد لنا من أن ندرس كل طبقة منها دراسة دقيقة.
    bestfriends
    Infinity and eternity

  • #2
    قصة الحضارة -> عصر فولتير -> فرنسا -> الشعب والدولة -> النبلاء

    1- النبلاءُ


    أطلق السادة الإقطاعيون الإقليميون الذين استمدوا ألقابهم من الأرض التي امتلكوها (وهي ربع أرض فرنسا تقريباً) على أنفسهم اسم "نبلاء السيف". وكانت مهمتهم الرئيسية أن ينظموا ويتولوا قيادة الدفاع عن سيادتهم وعن إقليمهم وعن وطنهم وعن ملكيهم. وفي النصف الأول من القرن الثامن عشر ترأس هؤلاء النبلاء نحو ثمانين ألف أسرة ضم نحو أربعمائة ألف من الأنفس(1). وكانوا شيعاً أو طبقات متحاسدة، أعلاها طبقة ذرية الملك الذي يتربع في دست الحكم وأولاد أخوته وأخواته. ويلي هؤلاء في منزلة أدنى، طبقة أشراف فرنسا: وتضم الأمراء من أبناء الملوك السابقين، ثم سبعة أساقفة وخمسين دوقاً. ويأتي بعد ذلك الأدواق الأقل شأناً، ثم الحاصلون على لقب مركيز، ثم لقب كونت، ثم لقب فيكونت، ولقب بارون وشيفالييه (نبيل من الدرجة الدنيا). وكانت ثمة امتيازات رسمية تميز هذه السلسلة من المراتب بعضها عن بعض. ومن هنا كان نزاع حاد فاجع حول حق السير تحت المظلة في مواكب عيد القربان أو حق الجلوس في حضرة الملك.
    ومن بين نبلاء السيف هؤلاء، تعقبت أقلية منهم أصول ألقابها وممتلكاتها عبر عدة أجيال، واختصت نفسها باسم "النبلاء ذوي المحتد الكريم"،

    ونظروا فيها بعين الازدراء إلى النبلاء الذين حصلوا على لقب النبالة عن طريق أسلاف حديثي العهد، أو حصلوا عليه هم أنفسهم في عهد لويس الثالث أو لويس الرابع عشر. كما أن بعض هذه الألقاب كانت تمنح لقاء خدمات للدولة في الحرب أو في الإدارة أو في التمويل، كما أن بعضها كان يبيعه الملك المعظم المعوز الراحل، مقابل ستة آلاف جنيه، وبهذه الطريقة، كما قال فولتير، "حصل عدد كبير من المواطنين-رجال المصارف والجراحون والتجار والكتبة وخدم الأمراء-على براءة النبالة(2)" وثمة مناصب حكومية معينة، مثل منصب المستشار أو كبير القضاة، كانت تضفي على شاغليها لقب النبالة تلقائياً. وفي عهد لويس الخامس عشر كان في مقدور أي رجل عادي أن يحصل على النبالة بشراء حق تعيينه وزيراً مقابل مائة وعشرين ألف جنيه. وفي عهد لويس السادس عشر ربما كان هناك نحو تسعمائة وزير وهمي أو صوري من هذا الطراز. كما أنه كان في الإمكان شراء اللقب بشراء ضيعة أحد النبلاء. ويحتمل أنه في 1789، كان نحو 59%، من مجموع النبلاء ينحدرون في الأصل من الطبقة الوسطى(3).
    ووصلت غالبية هؤلاء إلى درجة كبيرة من الأهمية ورفعة الشأن عن طريق دراسة القانون، ومن ثم حصلوا على مناصب القضاء والإدارة. ومن بينهم كان أعضاء البرلمانات الثلاثة عشر التي كانت بمثابة دور قضاء في كبريات المدن في فرنسا، ولما كان يجوز للقاضي أو الحاكم ترك منصبه لابنه، فقد تشكلت أرستقراطية وراثية-هم نبلاء الرداء (الروب). وكان الرداء بالنسبة لرجل القضاء، كما هو بالنسبة لرجل الدين، يمثل نصف السلطة أو السيادة. وكان أعضاء البرلمانات وهم يرفلون في أرديتهم القرمزية، وعباءاتهم الثقيلة والأكوام ذات الأهداب والشعور المستعارة المضمخة والقبعات ذات الريش، يجيئون في مرتبة أدنى من الأساقفة ونبلاء الأرض. ولكن حيث أن بعض الحكام والقضاة أصبحوا، عن طريق الرسوم القانونية التي كانوا يتقاضونها، أكثر ثراء من معظم ملاك الأرض
    ذوي الحسب والنسب، فقد تحطمت الحواجز بين نبلاء السلاح ونبلاء الرداء وما وافى عام 1789 حتى كان ثمة اندماج كامل تقريباً بين الطبقتين. وبلغت الطبقة التي تكونت عندئذ من وفرة العدد والقوة مبلغاً لم يستطع الملك معه أن يقف في وجهها أو يقاومها، وزعماء الثورة وحدهم هم الذين استطاعوا أن يقضوا على هذه الامتيازات الباهظة التكاليف.
    وانتاب الفقر كثيراً من النبلاء القدامى بسبب الإهمال في إدارة ممتلكاتهم أو تغيبهم عنها، أو بسبب أتباعهم أساليب متخلفة في زراعتها، أو إنهاك التربة، أو خفض قيمة العملة التي كانوا يتقاضون بها إيجار الأرض أو الرسوم الإقطاعية. ولما كان المفروض ألا يشتغل النبلاء بالتجارة أو الصناعة، فإن نمو هذه وتلك خلق اقتصاداً قائماً على المال، قد يمتلك المرء في ظله أرضاً شاسعة ولكنه يظل فقيراً. وكان هناك في بعض أقاليم فرنسا مئات من النبلاء يعانون من الفقر مثلما يعاني الفلاحون(4). ولكن أقلية كبيرة من النبلاء تمتعت بثروات ضخمة وبذروا تبذيراً. فكان الدخل السنوي لمركيز دي فييت 150 ألف جنيه، ولدوق دي شفريز 400 ألف جنيه، ولدوق دي بويون 500 ألف جنيه. وأعفى معظم النبلاء من الضرائب المباشرة، إلا في حالة الطوارئ، حتى تصبح الحياة لديهم أكثر احتمالاً ويسراً. وخشي الملوك أن يفرضوا عليهم الضريبة حتى لا يطالبوا بدعوة مجلس الطبقات، فقد تفرض الطبقات الثلاث في مثل هذا الاجتماع بعض الرقابة على الملك ثمناً للموافقة على الاعتمادات أو الإعانات. قال توكفيل "كان عدم المساواة في الضرائب يعمل على التفرقة بين الطبقات في كل عام حيث أعفى الأغنياء وأثقل كاهل الفقراء(5)". وفي عام 1749 فرضت على النبلاء ضريبة دخل قدرها 5% ولكنهم كانوا يفاخرون بالتهرب منها.
    وقبل القرن السابع عشر كان نبلاء الأرض يقومون بمهام الاقتصاد والإدارة والحرب، وأياً كانت طريقة إحراز الممتلكات، فإن هؤلاء السادة نظموا تقسيم الأرض وفلاحتها، إما عن طريق الرقيق أو عن طريق عقود الإيجار، وسهروا على القانون، وقاموا بإجراءات المحاكمة وأصدروا
    الأحكام، ونفذوا العقوبات، وتعهدوا المدارس والمستشفيات المحلية، ووزعوا الصدقات. وفي مئات من مناطق السيادة والنفوذ مارس السيد الإقطاعي هذه الوظائف والمهام، بالقدر الذي سمحت به الأنانية الطبيعية في الإنسان. وقد اعترف الفلاحون بانتفاعهم منه، ومن ثم فإنهم أطاعوه واحترموه وفي بعض الأحيان أحبوه.
    وأدى عاملان أساسيان إلى تبديل هذه العلاقة الإقطاعية: تعيين الحكام أو المحافظين على عهد الكاردينال ريشيليو وما بعده، وتحويل لويس الرابع عشر لكبار السادة الإقطاعيين إلى رجال حاشية. وكان هؤلاء المحافظون موظفين بيروقراطيين من الطبقة الوسطى، يبعث بهم الملك ليحكموا الأقسام الاثنين والثلاثين التي انقسمت إليها فرنسا من الناحية الإدارية. وكانوا عادةً ذوي كفاية ومقدرة ونيات حسنة، ولو لم يكونوا جميعاً من أمثال ترجو. وقاموا بتحسين الأحوال الصحية والإضاءة وتزيين المدن، وأعادوا تنظيم الشئون المالية، وبنوا السدود والخزانات على الأنهار من اجل الري، أو أقاموا الحواجز اتقاء لخطر الفيضانات، وزودوا فرنسا في هذا القرن بشبكة هائلة من الطرق لم يكن لها مثيل في سائر أنحاء العالم. وشرعوا في أن يغرسوا على جوانبها الأشجار التي تظللها اليوم وتزينها(6). وسرعان ما زحزح تفوقهم في الدأب على العمل والمقدرة والكفاية السادة الإقطاعيين المحليين عن حكم الأقاليم، ورغبة في التعجيل بهذه الزحزحة التي تركز الحكم في أيدي هؤلاء المحافظين، وعمد لويس الرابع عشر إلى دعوة السادة الإقطاعيين للانتظام في بلاطه الملكي. وهناك عينهم في وظائف بسيطة ذات ألقاب رفيعة وأوشحة مخدرة. وفقدوا الاتصال بالشئون المحلية على حين ظلوا يحصلون من مزارعهم على الموارد اللازمة للإنفاق على قصورهم وبطانتهم في باريس أو فرساي. وتشبثوا بحقوقهم الإقطاعية بعد أن تخلوا عن واجباتهم الإقطاعية. إن ضياع المهام الإدارية التي كانوا يقومون بها في مجال الاقتصاد والحكومة جعلهم عرضة للاتهام بأنهم كانوا طفيليات غير ضرورية عالة على فرنسا.
    bestfriends
    Infinity and eternity

    Comment


    • #3
      رد: قصة الحضارة (ول ديورانت)

      يعطيك العافية اليان

      متذكرة انو مارق معي هيك شي بالمدرسة بس ما بحب التاريخ
      lost without you
      Infinity and eternity

      Comment


      • #4
        رد: قصة الحضارة (ول ديورانت)

        2- رجال الدين


        كانت الكنيسة الكاثوليكية قوة أساسية ذات وجود بارز في كل ركن في الحكومة. وقدر رجال الدين الكاثوليك في فرنسا بنحو 260 ألفاً في 1667(7)، و420 ألفاً في 1715(8). و194 ألفاً في 1762(9). وهذه الأرقام كلها من قبيل التخمين، ولكن قد نفترض انخفاض هذا العدد بنسبة 30% في القرن الثامن عشر، على الرغم من تزايد عدد السكان، وحسب لاكروا أن فرنسا كان فيها عام 1763، 18 رئيس أساقفة، 109 أساقفة، و40 ألف قسيس، و50 ألف مساعد قسيس، و27 ألف كاهن، و20 ألف كاتب (من رجال الدين)، ومائة ألف راهب وراهبة وعضو أخوية دينية(10)، ومن بين 740 ديراً كان هناك 625 ديراً يتولى شئونها مساعدو رؤساء أديار، لمصلحة رؤساء أديار متغيبين عنها وكانوا يتمتعون باللقب وبنصف أو ثلثي دخل الدير، دون أن يكون مطلوباً منهم أن يحيوا حياة كنسية.
        وكان رجال الدين الأعلى مرتبة يشكلون من الوجهة العملية فرعاً من النبلاء، وكان الملك يعين كل الأساقفة، عادة، بناء على ترشيح السادة الإقطاعيين المحليين، على شرط موافقة البابا. ورغبة من الأسرات ذوات الألقاب في عدم تفتيت ممتلكاتهم بالتوريث، كفلت لصغار أبنائها المناصب الأسقفية ومناصب رؤساء الأديار، حتى أنه في 1789 لم يكن من بين المائة والثلاثين أسقفاً في فرنسا إلا واحداً فقط من الأفراد العاديين غير ذوي الألقاب(11). وأدخل أبناء الأسرات العريقة هؤلاء معهم إلى الكنيسة عاداتهم الني درجوا عليها في التمتع بترف الدنيا وزخرفها. ومن ذلك أن الأمير الكاردينال إدوارد دي روهان كان في القداس يرتدي ثوباً كهنوتياً له حواش من المخرمات المعقودة، قدرت
        قيمته بمائة ألف جنيه، وكانت أدوات مطبخه من الفضة الخالصة(12). وفسر رئيس الأساقفة ديللون دي ناربون للويس السادس عشر، السبب في أنه أي رئيس الأساقفة، استمر
        في ممارسة الصيد بعد أن حرمه على رجال الدين في أسقفيته، بقوله "مولاي إن رذائل رجالي من عند أنفسهم، ولكني ورثت رذائلي أنا عن أسلافي(13) لقد انقضى العصر الزاهر لرجال الكنيسة-من أمثال بوسويه وفينلون وبوردللو-وأفسح المرح الأبيقوري الصاخب في عهد الوصاية المجال أمام رجال مثل ديبو أوتنسان للترقي في مناصب الكنيسة على الرغم من انغماسهم في ملذات الصيد بنوعيه، اقتناص الحيوان واصطياد النساء. وقضى كثير من الأساقفة معظم حياتهم في فرساي أو باريس، مشاركين البلاط الملكي بهجته ومسراته ومباذله، فاحتفظوا بقدم في الآخرة وقدم في الدنيا، ولم ينسوا نصيبهم من متاعها.
        وكان للأساقفة ورؤساء الأديار حقوق السادة الإقطاعيين وواجباتهم، حتى إلى حد تقديم ثور لخدمة أبقار فلاحيهم(14). وكانت ممتلكاتهم الشاسعة، التي كانت تضم أحياناً مدن بأسرها، تدار كما تدار الممتلكات الإقطاعية. وكان جزء كبير من مدينة فرن ومعظم الأرض المحيطة بها ملكاً للأديار(15)، وفي بعض الكوميونات (وحدات التقسيم الإداري)، عين الأسقف كل القضاة والموظفين، وهكذا عين رئيس أساقفة كمبري الذي كان السيد الأعلى على منطقة تضم 75 ألفاً من السكان كل رجال الإدارة في كاتوكمبرسيس، ونصفهم في كمبراي(16). وعمر نظام الرقيق لأطول فترة في ضياع الأديار(17) وكان للكهنة في سان كلود في جبال جورا اثنا عشر ألفاً من الرقيق، وقاوموا بشدة الانتقاص من الخدمات الإقطاعية(18). وارتبطت حصانات الكنيسة وامتيازاتها بالنظام الاجتماعي القائم، كما جعلت لهيئة الكنيسة أقوى تأثير محافظ على القديم يناهض أي تغيير في فرنسا.
        وجمعت الكنيسة سنوياً، مع شيء من الاعتدال ومراعاة الظروف، العشور من نتاج كل مالك أرض وماشية، ولكن هذا نادراً ما كان العشر في الواقع، بل كان في الكثير الغالب جزءاً من اثني عشر، وأحياناً جزءاً من عشرين(19). وبهذه العشور، بالإضافة إلى الهبات والوصية والتوريث، وبدخل العقارات الثابتة، احتفظت الكنيسة بكهنة أبرشياتها فقراء معوزين
        على حين عاش الأساقفة مترفين منعمين. وأغاثت الكنيسة المحتاجين المعدمين وعلمت الصغار ولقنتهم مبادئها. وفي المقام التالي بعد الملك وجيشه، كانت الكنيسة أقوى وأغنى سلطة في فرنسا. وكانت تمتلك، طبقاً لمختلف التقديرات، ما بين 6% و20% من الأرض(20)، وثلث الثروة(21). وكان دخل أسقف سنس السنوي 70 ألف جنيه، وأسقف بوفيه 90 ألفاً، ورئيس أساقفة روان 100 ألف، ورئيس أساقفة ناريون 190 ألفاً، ورئيس أساقفة
        باريس 200 ألف، أما رئيس أساقفة ستراسبورج فقد أربى دخله السنوي على المليون من الجنيهات(22). وكان رأس مال كنيسة بريمونتريه بالقرب من لاؤون 45 مليوناً من الجنيهات. أما الاخوة الدومنيكان البالغ عددهم 236 في تولوز فقد بلغت مقتنياتهم من الأملاك الفرنسية والمزارع في المستعمرات ومن الرقيق الأسود ما قدرت قيمته بعدة ملايين من الجنيهات أما رهبان سانت مور فقد بلغت قيمة ممتلكاتهم 24 ملوناً من الجنيهات تدر ثمانية ملايين في العام.
        ولم تدفع الكنيسة أية ضرائب عن شيء من ممتلكاتها أو دخلها، ولكن كبار رجال الدين كانوا يقررون بصفة دورية في المجامع الوطنية إعانة اختيارية للدولة. وفي 1773 بلغت هذه الإعانة ستة عشر مليوناً من الجنيهات لمدة خمس سنوات. وقد اعتبرها فولتير نسبة عادلة من دخل الكنيسة(23). وفي 1749 اقترح ماشول دي ارنوفيل المراقب العام المالي أن يستبدل بهذه المنحة الاختيارية ضريبة مباشرة سنوية قدرها 5% من مجموع الدخل تفرض على الكنيسة وعلى عامة الناس وخشي رجال الدين أن تكون هذه خطوة أولى نحو سلب أموال الكنيسة بغية إنقاذ الدولة، فقاوموا الفكرة في "غضب شديد وإصرار(24)". كذلك اقترح ماشول تحريم التوريث بالوصية للكنيسة دون موافقة الدولة، وإلغاء المؤسسات الدينية التي قامت منذ 1636 دون ترخيص من الملك، ومطالبة شاغلي الرتب الكنسية ذوات الدخل بتقديم تقرير عن مواردهم إلى الحكومة. وأبت جمعية انعقدت من رجال الدين الامتثال لهذه القرارات، وقالوا: "لن نوافق إطلاقاً على أن يصبح ما كان حتى الآن ثمرة حبنا وإجلالنا ضريبة على طاعتنا"، وأمر لويس الخامس عشر
        بفض الاجتماع، كما أصدر المجلس الملكي أوامره إلى المحافظين بجمع ضريبة أولية مقدارها سبعة ملايين ونصف مليون جنيه على أملاك الكنيسة.
        وحاول فولتير تشجيع ماشول والملك فأصدر كتيباً عنوانه "صوت الحكمة وصوت الشعب" حرض فيه الحكومة على أن تفرض سيطرتها على الكنيسة، وأن تحول دون أن تكون الكنيسة دولة داخل الدولة، وأن تعهد إلى فلاسفة فرنسا بالدفاع عن الملك والوزارة ضد كل قوى الخرافة(25). ولكن لويس الخامس عشر لم ير سبباً يدعوه إلى الاعتقاد بأن الفلاسفة في مقدورها أن تكسب الجولة في الحرب مع الكنيسة. وأدرك أن نصف سيادته وسلطانه يتركز على مسحة الزيت المقدس وتتويجه بأيدي رجال الكنيسة، ليصبح بعد ذلك-في نظر الجماهير التي ليس في مقدورها أن تدنوا منه إلى حد تستطيع معه إحصاء عدد محظياته-نائب الله الذي يتحدث بمقتضى التفويض الإلهي. أن الإرهاب الروحي الذي يبثه رجال الدين في النفوس وتعززه قوى التقاليد والعادات والاحتفالات الدينية والملابس الكهنوتية
        والهيبة، نقول إن هذا الإرهاب قام مقام ألف من القوانين ومائة ألف من رجال الشرطة في المحافظة على النظام الاجتماعي، والإبقاء على طاعة الجماهير وامتثالها للحكومة والملك. وهل في مقدور أية حكومة، دون دعم من الرجاء والخوف الخارقين للطبيعة، أن تسيطر على ما فطر عليه الناس من نزعة التمرد على القانون أو عدم الخضوع له؟ وعقد الملك عزمه على الاستسلام للأساقفة، ونقل ماشول إلى منصب آخر، وصادر كتاب فولتير، ووافق على منحة اختيارية بدلاً من الضريبة على أملاك الكنيسة.
        إن قوة الكنيسة كانت تعتمد أساساً على نجاح كاهن الأبرشية، وإذا كان الناس يخشون رجال الدين الذين يضعون التيجان على رؤوسهم (الأساقفة مثلاً)، فانهم أحبوا الراعي المحلي الذي شاركهم فقرهم وعوزهم، وأحياناً كدحهم وكدهم في فلح الأرض. انهم تذمروا من جمع العشور، ولكنهم كانوا على يقين من أن رؤساء الراعي هم الذين أرغموه على جمعها،
        وأن ثلثي هذه العشور ذهب إلى الأسقف أو إلى أحد ذوي المناصب الكنسية الغائبين عنها، على أن كنيسة الأبرشية. ضناها ما كانت تعاني من خلل وحاجة إلى ترميم، مما تئن منه التقوى نفسها. إن هذه الكنيسة الحبيبة كانت دار بلديتهم، يعقدون فيها اجتماعاتهم القروية تحت رئاسة الكاهن. وفي سجل الأبرشية، وهو شاهد بقائهم صابرين متجلدين عبر الأجيال، كانت تدون مواليدهم وزيجاتهم ووفياتهم. وكان صوت أجراس هذه الكنيسة أنبل موسيقى ترن في آذانهم، والاحتفالات هي المسرحية التي تشد انتباههم وتبعث فيهم النشاط، وقصص القديسين ذخائر الأدب عندهم، كانت أعياد تقويم الكنيسة هي العطلات المحببة إلى نفوسهم. ولم ينظر الناس إلى عظات راعي الأبرشية ونصائحه وتحذيراته أو إلى تعليمه وتربيته لأبنائهم، على أنها تلقين مبادئ أسطورية لتدعيم لسلطان الكنيسة، بل نظروا إليها على أنها عون لا غنى عنه للنظام الأبوي والانضباط الخلقي، وعلى أنه إيحاء بنظام إلهي يتجلى فيه معنى الخلود الذي خفف من أسلوب حياتهم الممل الجاف في هذه الدنيا. فكانت العقيدة ثمينة أثيرة لديهم إلى حد الاستثارة إلى الفتك بمن يحاول انتزاعها منهم. ورحب الوالدان الفلاحان بالدين جزءاً من الواجبات اليومية في البيت، ونقلا إلى أولادهما الأساطير الدينية، وواظب الجميع على صلوات المساء والوالدان على رأسهم. وكان راعي الأبرشية يحب الناس كما أحبوه، فانضم إليهم في الثورة.
        وتناقص عدد الرهبان والراهبات وأخوة الطوائف الدينية، ولكن نمت فيهم روح الفضيلة(26) كما نمت ثروتهم. ونادراً ما كانوا الآن يتسولون أو يعيشون على الصدقات لأنهم وجدوا من الحكمة ومن الخير لهم أن ينتزعوا الوصية بالتوريث من الذين يدنو أجلهم ثمناً بدلاً من أن يستجدوا بعض البنسات من القرية، وفاضت بعض ثرواتهم على أعمال البر والإحسان، فأنفق كثير من الأديار على المستشفيات والملاجئ، ووزعت الطعام على الفقراء يومياً(27). وفي 1789 ألحت جماعات كثيرة على حكومة الثورة ألا تقضي على الأديار المحلية لأنها كانت المنظمات البارة المحسنة الوحيدة في
        نطاق أراضيها. (28) وأدت أديار الراهبات مهام كثيرة تؤدي الآن بطرق أخرى، فكانت توفر مأوى للأرامل، وللنساء اللائى افترقن عن أزواجهن، وللسيدات المراهقات مثل مدام دي ديفان التي رغبت في أن تنأى بنفسها عن
        صخب الدنيا. ولم تنكر الديار متاع الحياة الدنيا وزينتها إنكاراً تاماً، فقد استخدمها الأثرياء مأوى لما زاد عن الحد من بناتهم، وإلا فإن زواجهن إذا لم يلجأن إلى الأديار يتطلب مهوراً تنقص من ميراث الأبناء، ولم يكن هؤلاء العذارى المنبوذات ميالات دائماً إلى التقشف. وكان للأم أوريني (رئيسة دير للراهبات) عربة تجرها أربعة جياد، فكانت تستقبل في جناحها الفاخر أفراداً من الجنسين. وكانت الراهبات في ألكس يرتدين التنورات ذوات الأطواق الموسعة والأردية الحريرية المبطنة بالفرو، وكن في أديار أخرى يتناولن العشاء ويرقصن مع ضباط من المعسكرات المجاورة(29) وواضح أن هذه كانت ضروباً من التسلية البريئة غير الآثمة، فإن كثيراً من الأقاصيص التي رويت عن الفساد الخلقي في الأديار في القرن الثامن عشر كانت مبالغات شنيعة مثيرة استخدمت في حرب الدعاية بين المذاهب المتنابذة، وكانت الحالات التي لزم فيها البنات الدير على غير إرادتهن نادرة(30).
        وكان اليسوعيون قد ضعف سلطانهم ومكانتهم. إنهم ظلوا حتى 1792 يسيطرون على التعليم، وكانوا يزودون الملك والملكة بكهنة اعتراف ذوي تأثير قوي، ولكنهم عانوا من فصاحة بسكال، ومن تشكك أوصياء العرش غير الأتقياء، وكانوا يخسرون معركتهم الطويلة المريرة مع الجانسنيين فإن هؤلاء الكاثوليك المتعصبين لعقيدتهم عمروا بعد الاضطهادات الملكية والمراسيم البابوية، وكان عددهم كبير في مجال الأعمال والمهن والاشتغال بالقانون، وكانوا يقتربون من الهيمنة على برلمان باريس وغيره من البرلمانات. وبعد موت زعيمهم اللاهوتي المتقشف فرانسوا دي باريس (1727) حج الجانسنيون المتحمسون المغشي عليهم إلى جدته في مقبرة سان ميدارد، وهناك جلدوا أنفسهم بالسياط، حتى أصاب بعضهم نوبات من
        التشنج، ومن سموا "بالمتشنجين" وتوجعوا وبكوا وابتهلوا إلى الله أن يمن عليهم بالشفاء، وأدعى كثير منهم أنهم برئوا بمعجزة. وبعد ثلاثة أعوام من هذه الأحداث أغلقت السلطات هذه المقابر، وكما قال فولتير: حرم على الله بأمر من الملك أن يأتي بمعجزات هناك، وانقطعت التشنجات، ولكن الباريسيين السريعي التأثر مالوا إلى تصديق المعجزات، وفي 1733 ذكر أحد الصحفيين في مبالغة ظاهرة أن مدينة باريس الطيبة جانسنية قلباً وقالباً(31). وتحدياً للمرسوم الملكي الصادر في 1720 رفض صغار رجال الدين الامتثال للأمر البابوي الصادر في 1713 الذي استنكر فيه البابا إنوسنت الثالث عشر مائة مسألة ومسألة زعموا أن الجانسنيين أثاروها. وقضى رئيس أساقفة باريس بأن السر المقدس الأخير لا يجوز أن يقدم لأي فرد لم يكن قد أعترف لقسيس كان قد ارتضى الأمر البابوي. وأسهم هذا النزاع في إضعاف مركز الكنيسة المنقسمة أمام هجمات الفلاسفة.
        وكان الهيجونوت وغيرهم من البروتستانت الفرنسيين لا يزالون يعتبرون خارجين عن القانون، ولكن مجموعات صغيرة منهم كانت تجتمع سراً. واعتبر القانون أن زوجة البروتستانتي عاهرة وأن أبناءها غير شرعيين، ليس لهم أن يرثوا أية أملاك. وفي عهد لويس الخامس عشر شنت عدة حملات للاضطهاد والتعذيب. وفي 1717 قبض على أربعة وسبعين فرنسياً يقيمون الشعائر البروتستانتية، وأرسلوا للتجديف في القواديس أو المراكب الشراعية وزج بزوجاتهم في السجن، وقضى مرسوم صدر في 1724 بعقوبة الإعدام على الوعاظ البروتستانت، وبمصادرة أملاك كل من يشهد اجتماعات البروتستانت، مع إرسال الرجال للتجديف في السفن الشراعية. وحلق شعور النساء واعتقالهن مدى الحياة(32) وفي عهد الكاردينال فليري حدث شيء من التراخي في تنفيذ هذا المرسوم. ولكن بعث من جديد بعد موته، بناء على طلب الأساقفة الكاثوليك في جنوب فرنسا(33). وفي 1749 أمر برلمان بوردو بالتفريق بين 46 زوجاً وزوجة وفق الطقوس البروتستانتية.
        وكان من الجائز انتزاع الأطفال الذين يشتبه في أن آباءهم من البروتستانت؛ لتربيتهم وتنشئتهم في بيوت كاثوليكية. وإنا نسمع عن رجل ثري من الهيجونوت أنفق 200 ألف جنيه رشوة للموظفين الرسميين حتى يسمحوا له بالاحتفاظ بأبنائه. (34)وفيما بين عامي 1744 و1753 سجن نحو 600 بروتستانتي، وحكم على 800 آخرين بعقوبات مختلفة(35). وفي 1752 شنق في مونبلييه الواعظ البروتستانتي بينز-البالغ من العمر ستة وعشرين عاماً. وفي نفس العام، أمر لويس الخامس عشر، تحت تأثير مدام دي بمبادور، بوضع حد لهذه الاضطهادات. (36)وبعد ذلك استطاع البروتستانت في باريس أو قريباً منها، أن يتفادوا العقوبات، على شرط حضور الصلوات الكاثوليكية مرة في العام(37).
        وعلى الرغم من تعصب زعماء الكنيسة وانشغالهم بأمور الدنيا ورغبتهم في السلطة والنفوذ، فقد كان بين رجال الدين الفرنسيين مئات ممن امتازوا بالعلم الغزير والحياة التقية النقية. وبالإضافة إلى أولئك الأساقفة الذين بددوا في باريس العشور التي جمعوها من الفلاحين، كان هناك أساقفة آخرون إتسموا بالطهر والتقي قدر ما سمحت به المهام الإدارية. فكان الكاردينال لويس أنطوان دي نواي رئيس أساقفة باريس رجلاً ذكياً نبيلاً. وكان الناس يحبون جان بابتست ماسيون أسقف كلبر مونت على الرغم من عظاته الزاخرة بألوان العلم والمعرفة، والتي كان فولتير يحب أن يستمع إليها وقت تناول الطعام، لجمال أسلوبها على الأقل. أما جبرائيل دي كايلوس أسقف أوكسير فقد وهب كل ثروته للفقراء، وباع طبقه الفضي ليطعم الجياع؛ ثم اعتذر لمن التمسوا بعد ذلك بقوله "يا أبنائي، لم يبق لدي شيء أعطيكم إياه"(38). ولم يبرح الأسقف فونسوا دي بلزونس مكانه وسط الطاعون الرهيب الذي اجتاح مرسيليا 1720، حين هلك ثلث سكان المدينة، وفر منها معظم الأطباء ورجال الحكم والقضاء. وفي هذا كتب ليمونتي: "انظروا إلى بلزونس: وأنه أنفق كل ما يملك. لقد هلك كل الذين كانوا في خدمته بسبب العدوى، فسار على قدميه فقيراً بائساً في الصباح إلى مواطن
        التعاسة والشقاء؛ كما كان يرى مساء وسط الأماكن التي اكتظ بها ولوثها أولئك الذين يعانون سكرات الموت، ليطفئ ظمأهم، ويواسيهم وكأنه صديق لهم... وفي ساحة الموت هذه يأخذ بيد الأنفس التي لا معين لها. إن مثل هذا المثل الذي ضربه هذا الأسقف الذي يبدو أنه محصن ضد أي أذى كان كفيلاً بأن يدفع..... كهنة الأبرشيات والقساوسة والطوائف الدينية إلى محاكاته في شجاعته وبسالته، فلا يتخلى أحد عن موقعه، ولا يبالي أحد بما يلقى من عناء وتعب ولو ضحى بحياته. وهكذا أودى الوباء بستة وعشرين راهباً، وبثمانية عشر من بين ستة وعشرين يسوعياً. واستدعى الكيوشيون أخوتهم من الأقاليم الأخرى، فسارع هؤلاء إلى الاستشهاد في خفة المسيحيين
        الأولين وابتهاجهم بمثل هذا العمل. وقضى الطاعون على ثلاثة وأربعين من بين خمسة وخمسين منهم. أما سلوك الرهبان الأوراتوريين (طائفة كاثوليكية) فكان أروع من هذا. فقد بذلوا غاية جهدهم(39).
        ولنذكر، ونحن نسجل الصراع المرير بين الدين والفلسفة، ونشارك الفلاسفة مقتهم للرقابة الخانقة والخرافة الشائنة، أنه كان هناك بين رجال الكنيسة على اختلاف مراتبهم الورع والتقي كما كان هناك الغنى والثراء، بقدر سواء. كما كان هناك الإخلاص مع الفقر بين كهنة القرى، أما الناس فقد تغلغل فيهم حب راسخ يتعذر المساس به أو النيل منه، لعقيدة هيأت للزهو الهوى شيئاً من الانضباط المنقذ من الضلال، كما هيأت للأيام العصيبة الشاقة رؤيا وجد الناس فيها شيئاً من السلوى والعزاء.
        bestfriends
        Infinity and eternity

        Comment


        • #5
          رد: قصة الحضارة (ول ديورانت)

          3- الطبقة الثالثة




          أ - الفلاحون


          تساءل "الاقتصاد السياسي" الذي وصمه كارليل بأنه "العلم الكئيب" هل الفقراء فقراء، لأنهم جهلة، أم أنهم جهلة لأنهم فقراء. ويمكن أن نجيب على هذا السؤال، بالموازنة بين الاستقلال البهيج الذي يفاخر به الفلاح الفرنسي اليوم، وحالته في النصف الأول من القرن الثامن عشر.
          وفي 1723 كانت حال الفلاح آخذة في التحسن بالمقارنة بالمستوى المنحط الذي هبطت به إليه حروب لويس الرابع عشر وابتزازاته. فإنه خضع للرسوم الإقطاعية ولعشور الكنيسة، إلى جانب إنه امتلك نسبة متزايدة من أرض فرنسا، كانت تتراوح بين 20% في نورماندي وبريتاني و50% في لنجدوك وليموزين(40). ولكن متوسط حصة هؤلاء الملاك الصغار كان ضئيلاً-من ثلاثة إلى خمسة أفدنة-إلى حد اضطروا معه إلى الاشتغال بأجر في المزارع الأخرى ليعولوا أسراتهم. فإن معظم الأرض كانت ملكاً للنبلاء أو رجال الدين أو الملك، وكانوا يفلحها مستأجرون أو مزارعون نظير جزء من المحصول، أو عمال مياومة تحت إشراف قهرمان أو وكيل مسئول. وكان المالك يتقاضى من المستأجر مالاً وغلة وخدمات أما المزارعون فكانوا يعطون المالك نصف المحصول في مقابل الأرض والآلات الزارعة والبذور.
          وعلى الرغم من تزايد ملكية الفلاح ظلت هناك بقايا إقطاعية كثيرة، فإن أقلية ضئيلة من الملاك قد لا يتجاوز 2% هي التي وضعت يدها على أراض معفاة من الرسوم الإقطاعية. وكل الفلاحين باستثناء مالكي هذه الأرض المعفاة، كان مطلوباً منهم أن يعملوا للسيد الإقطاعي المحلي لعدة أيام في السنة تكفي لحرث أرضه وبذرها، وحصاد محصولها وتخزينه. وكانوا يدفعون له رسوماً مقابل صيد السمك في البحيرات أو الجداول المائية ومقابل رعي ماشياتهم في الحقول، مما يقع في زمام أرضه. (في فرائش كومتيه، وأوفرن، وبريتاني، حتى قيام الثورة كانوا يدفعون له مبلغاً من المال مقابل الأذن لهم بالزواج(41). وكان لزاماً عليهم أن يستخدموا طاحونته ومخبزه ومعصرة النبيذ أو الزيت التابعة له، وليس غيرها. وأن يدفعوا له مالاً في كل مرة يستخدمون فيها شيئاً من هذه. كما نفذوه مالاً عن كل مستوقد أقاموه وكل بئر حفروه وكل جسر عبروه في نطاق أرضه (إن أمثال هذه الضرائب موجود بيننا الآن في أشكال متغيرة، وتدفع للدولة). وكانت القوانين تحرم على السيد ورفاقه الإضرار بمزروعات الفلاح

          أو حيواناته عند الصيد، ولكن هذه القوانين أغفلت إغفالاً شديداً، وكان محظور على الفلاح أن يطلق النار على حمائم السيد، وهي تأكل محصوله(42) وبناء على تقدير يتسم بالتحفظ بلغت الرسوم الإقطاعية جملتها نحو 14% من إنتاج الفلاح أو دخله، وهناك تقديرات ترفع من هذه النسبة(43).
          وفي بعض الأماكن بقي الرق بمعناه الحقيقي، وقدر مؤرخ اقتصادي مشهور أن عدد الرقيق في فرنسا في القرن الثامن عشر لم يجاوز المليون(44)، ونقص عددهم، ولكن في 1789 كان لا يزال في فرنسا نحو 300 ألف من الأرقاء(45) ومثل هؤلاء الفلاحين كانوا مرابطين بالأرض ولم يكونوا يستطيعون قانوناً أن يهجروا أرضهم أو يبيعوها أو ينقلوها أو يغيروا محال إقامتهم دون موافقة سيدهم. فإذا ماتوا دون أبناء كانوا يعيشون معهم، وعلى استعداد للنهوض بشئون المزرعة، آلت المزرعة بكل معداتها إلى السيد.
          وكان على الفلاح، بعد دفع الرسوم الإقطاعية وعشور الكنيسة، أن يجد مالاً أو يبيع شيئاً من نتاجه أو ممتلكاته ليواجه الضرائب التي تفرضها عليه الدولة. ودفع الفلاح وحده ضريبة الأراضي، وبالإضافة إلى ذلك دفع ضريبة الملح، و5% من الدخل ضريبة الرأس عن كل فرد في البيت. وبهذا كان يدفع في الجملة ثلث دخل للمالك والكنيسة والدولة. (46)وكان من سلطة جباة الضرائب أن يدخلوا أو يقتحموا كوخه، ليفتشوا عن المدخرات المخبأة، ويستولوا على الأثاث تسديداً لمبلغ الضريبة المفروضة على الأسرة. وكما كان الفلاح ملزماً بالعمل ودفع الرسوم لسيده، فإنه بعد 1733 كان ملزماً بأن يعمل للدولة بدون أجر من 12 إلى 15 يوماً في السنة، في إقامة الجسور وبناء الطرق أو إصلاحها (أعمال السخرة). وكان يعاقب بالسجن إذا قاوم أو توانى.
          ومذ تصاعدت الضرائب بازدياد الدخل والتحسينات، فإنه لم يكن ثمة ما يحفز الفلاحين على الابتكار والعمل والمغامرة. وظلت أساليب الزراعة
          بدائية في فرنسا، إذا قورنت بالأساليب في إنجلترا المعاصرة. وكانت فرنسا تتبع نظام إراحة الأرض الذي يقضي بترك كل قطعة دون زراعة سنة في كل ثلاث سنين، على حين أدخلت إنجلترا نظام الدورة الزراعية. وكانت الزراعة المكثفة غير معروفة تقريباً، والمحاريث الحديدية نادرة الوجود. وكانت الحيوانات قليلة العدد في المزرعة، كما كان السماد قليلاً. وكان متوسط الأرض المملوكة ضئيلاً إلى حد لا يسمح باستخدام الآلات بشكل مجز.
          وروع السائحون الإنجليز في ذلك العصر لفقر الفلاح الفرنسي. ففي 1718 كتبت السيدة ماري مونتاجو: "في كل محطة كنا نقف فيها لتبديل خيول البريد كان أهل البلدة جميعاً يخرجون إلينا يسألوننا إحساناً، في وجوه أضناها البؤس والجوع وملابس رثة ممزقة، وما كانوا بعد ذلك في حاجة إلى دليل أبلغ من ذلك لإقناعنا بتعاسة أحوالهم(47). ولم يرسم المراقبون الفرنسيون صورة أكثر إشراقاً من هذه إلا في وقت متأخر من هذا القرن. وقال سان سيمون: "في 1825 كان الناس في نورماندي يعيشون على حشائش الحقول. إن أول ملك في أوربا عظيم لمجرد كونه ملك الشحاذين. وتحويله مملكته إلى مستشفى فسيح الأرجاء يقيم فيه أناس يعانون سكرات الموت، انتزع منهم كل شيء دون أن يبدوا شيئاً من التذمر(48)". وفي 1740 حسب المركيز رينيه لويس دي أرجنسون، أن عدد الفرنسيين الذين ماتوا بسبب الفقر والعوز في العامين الأخيرين أكبر من عدد من قتلوا في حروب لويس الرابع عشر كلها(49)". وقال بسنارد: "كانت ملابس الفقراء من الفلاحين-وكانوا كلهم تقريباً فقراء-تدعو إلى الإشفاق والرثاء، حيث لم يكن لدى الفرد منهم إلا ثوب واحد للصيف والشتاء معاً.... أما الحذاء الوحيد (المرقع الواهي المثبت بالمسامير) الذي اقتناه عند زواجه، فكان لزاماً أن يستخدمه بقية أيام حياته، أو على الأقل طيلة بقاء الحذاء(50)". وقدر فولتير أن مليوني فلاح فرنسي كانوا يستخدمون نعالاً خشبية في الشتاء، وكانوا يسيرون حفاة الأقدام في الصيف، لأن
          الضرائب الباهظة المفروضة على الجلود جعلت الأحذية ضرباً من الترف(51) أما مسكن الفلاح يبنى من الطين مع سقف من القش، وكان عادة يتكون من غرفة واحدة، منخفضة لا سقف لها في بعض الأجزاء في شمال فرنسا، على أن الأكواخ كانت تبنى أقوى حتى تحتمل البرد والرياح في الشتاء". وكان طعام الفلاح يتألف من الحساء والبيض ومنتجات الألبان وخبز الشعير أو الشوفان. أما اللحم وخبز القمح فكان أكلهما إسرافاً طاوئاً(53). ففي فرنسا، كما هو الحال في أي مكان آخر، كان أولئك الذين يطعمون الأمة لا يملكون من الغذاء إلا أقله.
          ووجد الفلاح بعض العزاء والسلوى من هذه الحياة الشاقة في الخمر والدين. وكانت الحانات كثيرة وصنع الجعة في الدار مشجعاً. وكانت الأخلاق خشنة جافة، طابعها الوحشية. وكثيراً ما تفجرت أعمال العنف بين الأفراد والأسرات والقرى . ولكن سادت الأسرة عاطفة حب قوية، ولو أنها صامتة، وكان الأبناء كثيرين، ولكن اختطفت يد المنون معظمهم قبل أن يبلغوا رشدهم. وكاد ألا يكون هناك زيادة في سكان فرنسا فيما بين عامي 1715 و1740. فقد أحدثت الحرب والمرض والقحط أثرها بانتظام وفق ما جاء في نظرية مالتس.
          bestfriends
          Infinity and eternity

          Comment


          • #6
            رد: قصة الحضارة (ول ديورانت)

            ب - البروليتاريا (العمال الكادحون)


            وكان خدم المنازل أدنى مكانة من الفلاحين في السلم الاجتماعي، وكانوا فقراء إلى حد لم يهيئ إلا لقليل منهم أن يتزوجوا. وكانت طبقة البروليتاريا في المدن أعلى قليلاً من الفلاحين، وكانت تشكل الحرفيين في الحوانيت والمصانع وحمالي البضائع ومتعهدي الخدمات وعمال البناء أو الترميم. وكان معظم الصناعة لا يزال منزلياً أو محلياً يقوم في أكواخ ريفية أو في الدور في المدن الصغيرة. وكان التجار يقدمون المواد الخام، ويجمعون الإنتاج، ويستولون على كل الربح تقريباً. وكانت الصناعة في المدن إلى حد كبير في الطور النقابي (نظام نقابات العمال وطوائفهم في العصور الوسطى)، فكان هناك المعلمون والغلمان الذين يتدربون، وعمال المياومة المهرة،
            يعملون جميعاً وفقاً للقواعد القديمة التي حددت النقابة والحكومة بمقتضاها ساعات العمل وشروطه، وطرز الإنتاج ونوعيته وسعره والمنطقة المحدودة المسموح فيها بالبيع. إن هذه التنظيمات والقواعد جعلت من التحسينات أمراً عسيراً، واستبعدت حافز المنافسة الخارجية، وأسهمت مع رسوم التجارة الداخلية في تعويق التنمية الصناعية. وكانت النقابات قد أصبحت أرستقراطية عمالية، وارتفعت الرسوم على القبول في سلك المعلمين الصناعيين إلى ألفي جنيه، واتجهت هذه المهنة إلى أن تكون وراثية. (53)وكان العمل في الحوانيت يبدأ مبكراً وينتهي متأخراً. وكان عامل المياومة حول فرساي يبدأ عمله في الرابعة صباحاً وينتهي منه في الثامنة مساءاً. (54)ولكن العمل كان أقل إجهاداً منه في المصانع اليوم، كما أن أعياد الكنيسة هيأت أيام عطلة كثيرة.
            وكانت الصناعة في معظمها "صغيرة" تستخدم ثلاثاً أو أربعاً من "الأيدي العاملة" من خارج الأسرة. بل أن المدابغ ومصانع الزجاج والمصابغ كانت مؤسسات صغيرة. وكان عدد العمال في بوردو لا يتجاوز أربعة أمثال أصحاب العمل. واحتفظت الحكومة على أية حال ببعض مصانع كبيرة-مصانع الصابون، ومصانع نسيج الجوبلان (المزدان بالرسوم) ومصانع الخزف الصيني في سيفر. وأخذت عملية التعدين في التوسع بعد أن حل الفحم محل الخشب في الوقود. وثارت الاحتجاجات على دخان الفحم الذي يلوث الهواء، ولكن الصناعة آنذاك، كما هو الحال اليوم، مضت تشق طريقها، وتعرضت صحة الناس في باريس، وفي لندن على حد سواء، للخطر نتيجة لتنفس هذا الهواء الملوث. وكانت هناك مصانع للصلب في دوفيني، ومصانع للورق في أنجوموا. وتوسعت مصانع النسيج توسعاً ملحوظاً في الشمال، فاستخدم فان روبيه 1500 عامل في مصنع واحد في آبفيل واستخدم فان دركروسن ثلاثة آلاف رجل في ليل(55). وشجع ازدياد العمال هذا على تقسيم العمل والتخصص فيه، وحفز على اختراع الآلات للعمليات المكررة على نسق واحد (الروتينية) وتضمنت دائرة
            معارف ديدرو (1751 وما بعدها) أوصافاً ورسوماً مدهشة لآلات متنوعة معقدة أدخلت بالفعل في الصناعة في فرنسا، يندر أن تكون قد نالت استحساناً أو ترحيباً من البروليتاريا. وحين أقيم نول جاكار (لحياكة الأقمشة المصورة) في ليون، عمد عمال نسيج الحرير إلى تهشيمه، خشية أن يلقى بهم في عرض الطريق بلا عمل(56).
            ورغبة في تشجيع الصناعات الجديدة فإن حكومة فرنسا-كما فعلت حكومة إنجلترا في عصر اليزابث-منحت عدة احتكارات، مثال ذلك أنها منحت أسرة فإن روبية احتكار إنتاج الأقمشة الهولندية الرفيعة، كما ساعدت مشروعات أخرى بمعونات وقروض دون فوائد. وفرضت الحكومة على كل الصناعة تنظيماً صارماً موروثاً عن كولبير. وأثار هذا الأسلوب اعتراضاً متزايداً من جانب أصحاب المصانع والتجار الذين دفعوا بأن الاقتصاد ينمو ويزدهر إذا تحرر من تدخل الحكومة، وترديداً لهذا المطلب، قال فنسنت دي جورناي (حوالي 1755) عبارته التاريخية اتركه وحده "اتركه يعمل" التي عبرت في الجيل التالي، على لسان فرانسوا كني وترجو، عن المذهب الفيزيوقراطي الذي نادى بحرية العمل والتجارة.
            واستاء الحرفيون أيضاً من هذه القواعد والتعليمات التي وقفت حجر عثرة في سبيل تنظيمهم من اجل ظروف عمل وأجور أفضل. ولكن أهم ما هاج حفيظتهم هو أن عمال الريف والمصانع كانوا ينتزعون السوق من أيدي النقابات. فما وافى عام 1756 حتى كان أصحاب المصانع قد هبطوا بالحرفيين في المدن الكبرى-حتى بالمعلمين النقابيين-إلى مستوى الإجراء الذين يعتمدون في عملهم على المقاولين أو الملتزمين. (57)وفي نطاق النقابات أجرى المعلمون-تخفيضاً في أجور عمال المياومة الذين عمدوا إلى الإضراب على نحو دوري. وكان الفقر في القرى شديداً مثلما هو في المدن تقريباً. ووصل نقص المحاصيل بالطبقة الكادحة، البروليتاريا، في المدن إلى حد المجاعة والشغب كل بضع سنين، كما حدت في تولوز 1747، وفي باريس

            1751، وفي تولوز 1752(58) وكان القسيس الملحد جان مزلييه قد اقترح بالفعل، حوالي 1749 استبدال شيوعية قائمة على الحرية بالنظام القائم(59).
            وفي أواسط القرن كانت باريس وروان وليل وليون وبوردو ومرسيليا تعج بالبروليتاريا. وتفوقت ليون بوصفها مركزاً صناعياً لبعض الوقت على باريس. وقد وصفها الشاعر الإنجليزي توماس جراي في 1739 بأنها "ثانية مدن المملكة من حيث الاتساع والمكانة. وشوارعها بالغة الضيق والقذارة، ودورها بالغة الارتفاع والاتساع (تتكون الدار من خمسة طوابق في كل طابق 25 غرفة)، مكتظة بالسكان". (60)وكانت باريس خلية هائجة، يقطنها 800 ألف منهم 100 ألف خادم، و20 ألف متسول، وفيها الأكواخ الكئيبة والقصور الفخمة، والأزقة والحارات المظلمة والشوارع القذرة وراء المتنزهات الأنيقة، وفيها الفن إلى جانب الإملاق والفقر المدقع. وسارت فيها المركبات الكبيرة والمركبات العامة ذات الجواد الواحد والمحفات يصطدم بعضها ببعض مع تبادل السباب والشتائم، واختناق شديد في حركة المرور. وكانت بعض الشوارع قد صفت منذ 1690 وعام 1742 رصف تريساكيه الطرق بأحجار ملساء، ولكن معظم الشوارع كانت قذرة تماماً، مملوءة بالحصى الكبير الذي يصلح لإقامة المتاريس في أثناء الثورات. وبدأت مصابيح الشوارع تحل محل الفوانيس في 1745 ولكنها لم تكن تضاء إلا إذا لم يكن القمر بدراً. وظهرت لافتات أسماء الشوارع في 1728. ولكن لم توضع للبيوت أرقام قبل الثورة. وكان للأغنياء وحدهم صنابير ماء في بيوتهم، أما سائر الناس فكان يزودهم بالماء عشرون ألف سقاء يحمل الواحد منهم دلوين بهما أحياناً سبع مجموعات من درجات السلم. أما المراحيض في المنازل والحمامات المزودة بالماء الجاري الساخن والبارد، فكانت امتياز لكبار الأثرياء. وظلت آلاف الحوانيت، المشهورة بشعاراتها الرائعة المثيرة، على حالتها من الفوضى في الموازين والمقاييس المتضاربة والمشتبه فيها، إلى أن وضعت الثورة النظام المتري (العشري). وكان هناك أصحاب حوانيت أمناء في "متاجر الثقة"، ولكن الغالبية
            اشتهرت بالتطفيف في المقاييس والتلاعب في الأسعار ورداءة أنواع السلع. (61)وكان بعض الحوانيت ينتحل عظمة زائفة خداعة لأن أصحابها كانوا يستقلون العربات. وكان الفقراء من الناس يعتمدون في شراء حاجياتهم أساساً على الباعة المتجولين الذين حملوا بضاعتهم جاهدين في دلاء أو سلال على ظهورهم، والذين أسهموا في موسيقى الشوارع بصيحاتهم ونداءاتهم التقليدية غير المفهومة التي يدعون بها الناس إلى الشراء، من "البطاطس المطبوخة" إلى الموت للفئران "فقد نازعت الفئران الناس على تيسيرات السكنى في المدينة، وزاحم الرجال النساء والأطفال الفئران في مسابقة الحصول على الطعام. قال رجل فارسي كان في زيارة مونتسكيو": "البيوت مرتفعة إلى حد يظن معه أنه لا يقطنها إلا منجمون. ولك أن تتخيل مدينة بنيت في الهواء، فيها أقيمت ستة أو سبعة منازل الواحد منها فوق الآخر وهي مزدحمة بالسكان، حتى إذا نزلوا جميعاً إلى الشارع، رأيت هناك حشداً رائعاً. لقد بقيت هنا شهراً، لم يقع نظري فيه على شخص واحد يسير بخطى وئيدة. وليس في العالم كله مثل الرجل الفرنسي وهو يجتاز الطريق، إنه يعدو أو يطير(62). أضف إلى ذلك المتسولين والمتشردين والنشالين والمغنين في الشوارع والنافخين في الأرغن والدجالين بائعي الأدوية المزيفة. وجملة القول أنهم شعب تشيع فيه مائة من أخطار البشر، لا يوثق به إطلاقاً، متلهف على الكسب، مسرف في الدنس والتجديف بكل معنى الكلمة. ولكنه إذا أوتي اليسير من الطعام أو النبيذ فهو ألطف شعوب العالم وأكرمها وأكثرها مرحاً وابتهاجاً.

            bestfriends
            Infinity and eternity

            Comment


            • #7
              رد: قصة الحضارة (ول ديورانت)

              واعتبر القانون أن زوجة البروتستانتي عاهرة وأن أبناءها غير شرعيين،

              القانون لا يحوي المغفلين
              ... بحبـك حتـى نجـوم الليـل ...
              ... نجمـة ونجمـة توقـع ...

              Comment


              • #8
                رد: قصة الحضارة (ول ديورانت)

                جـ - البرجوازية


                وفيما بين الطبقتين الدنيا والعليا قامت الطبقة الوسطى، تضمر لها أولاهما البغض والكراهية، وتزدريها الثانية، وكانت تضم الأطباء والأساتذة ورجال الإدارة وأصحاب المصانع والتجار ورجال المال، وهي طبقة شقت طريقها إلى الثروة والنفوذ والسلطة في حذق ومهارة وصبر وجلد.
                وقام أرباب المصانع بمغامرات اقتصادية وتطلبوا من أجلها عائداً وفاقاً. وشكوا من انهم يتعرضون لمائة من المضايقات التي تسببها لهم تعليمات الحكومة ورقابة النقابات على السوق والعمال المهرة، واغتاظ التجار الذين يوزعون المنتجات من فرض ألف من المكوس والرسوم التي تعوق حركة البضائع، ذلك أنه عند كل نهر أو قناة أو مفترق طرق كان هناك وكيل عن النبيل أو رجل الكنيسة مالك الأرض، ليتقاضى رسماً على الترخيص بمرور البضائع. وأوضح السيد المالك أن هذه المكوس غنما هي تعويض معقول له عما ينفق في صيانة الطرق والجسور والمعابر وإصلاحها لتبقى صالحة للاستعمال. وألغى مرسوم ملكي صادر في عام 1724 ألفاً ومائتين من هذه المكوس، ولكن بقيت بعد ذلك منها مئات لعبت دوراً في كسب البورجوازية إلى جانب الثورة وتأييدها لها.
                أما التجارة الفرنسية التي كانت معوقة في الداخل فقد انتشرت واتسعت فيما وراء البحار. وسيطرت مرسيليا، وكانت ميناء حرة، على تجارة أوربا مع تركيا والشرق. ومدت شركة الهند التي أعيد تأسيسها 1743، أسواقها ونفوذها السياسي في البحر الكاريبي ووادي الميسيسيبي وأجزاء من الهند. ورفعت بوردو، وهي، المنفذ السياسي لتجارة الأطلنطي، تجارتها البحرية من أربعين ملوناً من الجنيهات في عام 1724 إلى 250 مليوناً في 1748. وأبحر أكثر من 300 سفينة سنوياً من بوردو ونانت إلى أميركا، يحمل معظمها العبيد ليعملوا في مزارع قصب السكر في جزر الأنتيل ولويزيانا(63). وفاقت نسبة المبيعات من السكر المنتج من أمريكا الفرنسية مثيلتها من السكر الإنجليزي المنتج في جمايكا وباربادوس في الأسواق الأوربية،(64)وربما كان هذا من أسباب حرب السنين السبع، وارتفعت جملة تجارة فرنسا الخارجية من 215 مليوناً من الجنيهات في 1715 إلى 600 مليون في 1750.(65)وقدر فولتير أن عدد السفن التجارية التي استخدمتها فرنسا زاد من 300 سفينة في 1715 إلى 800 في 1738.(66)
                وكانت الأرباح المتزايدة من التجارة البحرية الدافع الأساسي لغزو
                المستعمرات. وكانت حماسة التجار والمبشرين الفرنسيين قد كسبت لفرنسا معظم كندا وحوضي الميسيسيبي وبعض الجزر في البحر الكاريبي. وتحدت إنجلترا هذه الممتلكات الفرنسية على اعتبار أنها تضيق الخناق على مستعمراتها في أمريكا وتعرضها للخطر. والحرب هي التي يمكن أن تحسم هذه القضية، ودب الخلاف بين إنجلترا وفرنسا في الهند بسبب منافسة مماثلة. وكان الفرنسيون في 1683 قد وطدوا مركزهم على الساحل الشرقي جنوبي مدراس، وفي 1688 حصلوا من إمبراطور المغول على حق السيطرة الكاملة على شاندرناجور شمالي كلكتا. وفي ظل القيادة النشيطة اليقظة لجوزيف دوبليكس، استولى هذان الثغران على كثير من التجارة والثروة إلى حد أحست معه شركة الهند الشرقية الإنجليزية، التي كانت قد أقامت لها مراكز في مدراس (1639) وبمباي (1668) وكلكتا (1686)-أنها مضطرة إلى خوض الحرب مع الفرنسيين من أجل مملكة المغول التي تتمزق أوصالها.
                ولما رأت إنجلترا وفرنسا أنهما على طرفي نقيض في حرب الوراثة النمساوية (1744) فان ماهي دي لابور دونيه-الذي كان قد ضرب رقماً قياسياً في الإقدام والمغامرة في إدارة جزر موريشيوس وبوربون الفرنسية في المحيط الهندي-عرض على حكومة فرساي خطة "للقضاء على التجارة وعلى المستعمرات الإنجليزية في الهند".(67)وهاجم مدراس بأسطول فرنسي، بموافقة دوبليكس الحسود، وسرعان ما أرغم المدينة على الاستسلام (1746) وتحت مسئوليته الخاصة وقع مع السلطات الإنجليزية اتفاقية تقضي بإعادة مدراس إليهم لقاء تعويض قدره 420 ألف جنيه. ورفض دوبليه التصديق على الاتفاقية، ولكن لابوردونيه أصر في عناد، وأبحر على سفينة هولندية إلى أوربا: وأسرته سفينة إنجليزية، وأطلق سراحه تحت وعد شرف، ودخل باريس فزج به في الباستيل بتهمة التمرد والخيانة، وطلب المحاكمة، وبعد عامين قضاهما في السجن حوكم وقضى له بالبراءة (1751) وتوفي 1753. وفي تلك الأثناء حاصر أسطول إنجليزي قوى بوندشيري (أغسطس

                1748) فدافع عنها دوبليكس دفاعاً مجيداً حتى رفع الحصار عنها (أكتوبر). وبعد ذلك بسبعة أيام وصلت الأنباء إلى الهند بأن معاهدة إكس لاشابل أعادت مدراس إلى إنجلترا. ذلك أن الحكومة الفرنسية أدركت أنه مقضي عليها بالهزيمة في الهند بسبب ضعف قواتها البحرية، فرفضت أن تدعم مشروعات دوبليكس في الغزو والفتح، وأرسلت إليه قوات واعتمادات هزيلة، وأخيراً استدعته إلى فرنسا (1754). وامتد به الأجل حتى رأى الإنجليز يوقعون بالفرنسيين هزيمة منكرة في الطور الهندي من حرب السنين السبع.
                وكان "رجال المال" في قمة الطبقة الثالثة وكانوا من مقرضي النقود على نطاق ضيق، من الطراز العتيق المحافظ، أو من أصحاب المصارف بكل معنى الكلمة، الذين يتعاملون في الودائع والقروض والاستثمارات، أو من "ملتزمي الضرائب" الذين يعملون للدولة باعتبارهم "وكلاء الدخل". وكانت القيود التي فرضتها الكنيسة الكاثوليكية على تقاضي فوائد الأموال قد ضعف أثرها أو أصبحت غير ذات موضوع تقريباً، في تلك الأيام. ورأى جون لو أن نصف فرنسا متلهف على الاتجار في الأسهم والسندات، وافتتحت باريس سوق الأوراق المالية (البورصة) فيها سنة 1724.
                وكان بعض (رجال المال) أغنى من معظم النبلاء. فكان باريس مونتمارتل يمتلك مائة مليون جنيه، ولينورمان دي تورنهيم عشرين مليوناً، وصمويل برنارد 33 مليوناً(68). وزوج برنارد بناته من أزواج أرستقراطيين حيث دفع لكل منهن مهراً قدره 800 ألف جنيه(69). وكان سيداً مهذباً محباً لوطنه. وفي 1715 حدد بنفسه الضرائب المستحقة على ممتلكاته بمبلغ تسعة ملايين من الجنيهات، ومن ثم كشف ثروة كان يمكن أن يخفيها جزئياً(70). وعندما قضى نحبه (1739)، أماط فحص حساباته اللثام عن المدى الواسع لصدقاته الخفية(71). أما الاخوة الأربعة الذين حملوا لقب "باريس" فقد طوروا مؤسستهم المصرفية إلى سلطة سياسية. وتعلم منهم فولتير كثيراً من براعته المالية، فأذهل أوربا لكونه فيلسوفاً و "مليونيراً" في الوقت معاً.

                وكان "الملتزمون العامون" أبغض رجال المال في فرنسا في القرن الثامن عشر. وكان النظام "الملتزم العام" قد أدخل في 1697 لجمع الضرائب غير المباشرة-أساساً الضرائب على الإعانات والتسجيلات والطلبات والملح والتبغ-ولكي تنفق الحكومة هذه الإيرادات قبل جمعها ألزمت بها شخصاً يدفع لها المبلغ المتعاقد عليه، مقابل حق جبايتها على مدى ست سنوات. وانعكس ازدياد الضرائب والثروة والتضخم في ارتفاع ثمن هذا العقد الرابح: 80 مليوناً 1726، 92 مليوناً 1744، 152 مليوناً 1774. ولم تقع أية حكومة يوماً في حيرة جرياً وراء الطرق التي تنفق بها أموال شعبها وفوضت للمتعاقد مهمة جمع الضرائب بالتعاقد إلى أربعين "ملتزماً عاماً" أو أكثر، دفع كل منهم كلوناً من الجنيهات أو أكثر ضماناً مقدماً، ولعق أصابعه كلما مرت بها الإيرادات، وهكذا، فيما بين عامي 1726-1730 جاوزت أرباح الملتزمين العامين الأربعين 156 مليوناً من الجنيهات(73). وابتاع كثير من أمثال هؤلاء الجباة الضياع والألقاب وشادوا القصور الفخمة وعاشوا حياة غاية في البذخ والترف، مما أثار حنق الأرستقراطية ورجال الكنيسة. وجمع بعضهم روائع الفن وأحاطوا أنفسهم بالفنانين والشعراء والخليلات، وفتحوا أبواب بيوتهم مأوى أو منتدى للصفوة من أهل الفكر وكان "ألطف الفلاسفة، هلفشيوس، واحداً من أكرم "الملتزمين العاميين". وقضى روسو فترة طويلة في ضيافة مدام دي ابيناي زوجة أحد الملتزمين. واستمتع رامو وفانلو بكرم الضيافة لدى الاسكندر دي لابوبلنيير الذي اشتهر من بين رجال المال بأنه يمثل ميسيناس (رجل الدولة الروماني من رعاة الدب صديق هوراس وفرجيل في القرن الأول ق.م) وثار كبار أفراد البورجوازية المتلهفون على الاعتراف بمكانتهم الاجتماعية، لأنفسهم من استهجان الكنيسة واحتقار النبلاء لهم، بمناصرة الفلاسفة ضد الكنيسة، ثم ضد النبلاء فيما بعد، وربما كان رجال المال هم الذين أمدوا الثورة بالمال.

                bestfriends
                Infinity and eternity

                Comment


                • #9
                  رد: قصة الحضارة (ول ديورانت)

                  جاري القراية يسلمون اليانو
                  بما أنّكِ جعلتِ اهتمامَكِ ملائمًا لتسميتِكِ أحرزتِ الإيمان القويم مسكناً،


                  فلذلك يا لابسة الجهاد تفيضين الأشفية وتتشفعين من أجل نفوسنا


                  يا باراسكيفي المطابقة لاسمِها.




                  best friends
                  Infinity and eternity


                  Comment


                  • #10
                    رد: قصة الحضارة (ول ديورانت)


                    4- الحكومة


                    كانت الطبقة الوسطى آنذاك أكثر فعالية وقوة في الدولة، لأنها شغلت كل المناصب، فيما عدا مناصب الوزارة التي كانت تتطلب عبير شجرة الأسرة أو عراقة الحسب والنسب، وكان أفرادها يشكلون البيروقراطية وصقلت مواهبهم بالانتقاء الطبيعي في ميدان الاقتصاد، وأثبتوا أنهم أمهر وأقدر من النبلاء سليلي الأسرات الواهنين الخاملين الذين ليس لهم ما يحفزهم على الجد والعمل. وفي الحق أن نبلاء الرداء في البرلمانات والحكام كانوا ينتسبون إلى البرجوازية من حيث الأصل والخلق. وتولت الطبقة الوسطى شئون الكوميونات والأربعين مقاطعة، وإدارات الحرب والتموين والمواصلات والمناجم والطرق والشوارع والجسور والأنهار والقنوات والثغور. وكان قواد الجيش من النبلاء، ولكنهم قاموا بحملات خططها لهم في باريس رجال من الطبقة الوسطى، بارعون في تخطيط الحرب(73). إن نمط البرجوازية الفرنسية في القرن التاسع عشر كان قد سبق تشكيله في القرن الثامن عشر.
                    وكان المعترف به بصفة عامة أن الإدارة في فرنسا كانت أحسن إدارة في أوربا، ولكن كانت تشوبها عيوب قاتلة: كانت مركزية متغلغلة، مفصلة إلى حد إنها عوقت الابتكار والمبادرة والحيوية المحلية، وضيعت كثيراً من الوقت في نقل الأوامر والتقارير. وبالمقارنة بإنجلترا كانت فرنسا استبدادية مطلقة خانقة. فلم يكن مسموحاً بالاجتماعات العامة، ولم يؤخذ بالاقتراع الشعبي إلا في المسائل المحلية التافهة، ولم يقف أي برلمان في وجه الملك. وحسن لويس الخامس عشر الحكومة بإهمالها، ولكنه فوض إلى وزرائه سلطات ملكية مثل إصدار أوامر القبض أو الرسائل المختومة، وغالباً ما أسيء استخدام هذه السلطة. حقاً إن مثل هذه "الرسائل السرية"، أفلحت أحياناً في تسيير شئون الحكومة بسرعة عن طريق تجنب التفاصيل الفنية في الإجراءات الإدارية "الروتين الحكومي". وبإحدى هذه الرسائل أسس لويس الرابع عشر "الكوميدي فرانسيز" في عام 1680. وأنقذت بعض الرسائل سمعة إحدى الأسرات، بالزج بوغد لئيم في السجن دون
                    بطاء ودون محاكمة علنية ربما كانت تكشف عن كوارث خاصة. كما أن بعض هذه الرسائل؛ كما حدث عند انتقال فولتير وسجنه للمرة الثانية، حال بين أحد الحمقى الذين يمكن الصفح عنهم، وبين إتمام حماقته. وفي حالات كثيرة صدرت الرسائل بناء على طلب والد يائس (مثل ميرابو الأكبر) من تقويم اعوجاج ابن جامح. وفي مثل هذه الحالات كان السجن خفيفاً قصير الأمد. ولكن كانت هناك حالات كثيرة من القسوة الصارخة، ومن أمثلتها احتجاز الشاعر ديفورج لمدة ست سنوات (1750-1756) في حجرة من الحديد لأنه استنكر تصرف الحكومة في نفي شارل إدوارد ستيوارت حفيد جيمس الثاني من فرنسا (وكانوا يسمونه المطالب الصغير بالعرش).(74) وإذا كان لنا أن نصدق رواية الكاتب الألماني ولهلم جريم، وهو دقيق بصفة عامة، فإن الحكومة قدرت أعظم التقدير انتصارات موريس دي ساكس في المعارك إلى حد أنها أرسلت إلى الشاعر شارل فافار أمراً سرياً ليضم زوجته إلى قائمة خليلات دي ساكس.(75)إن أية إساءة إلى أحد النبلاء من رجل عادي، أو أي نقد شديد يوجه إلى الحكومة، كان من شأنه أن يؤدي إلى صدور رسالة سرية مختومة تتضمن أمراً بالقبض والزج في السجن دون محاكمة أو قضية مبينة. ومثل هذه الأوامر التعسفية أثارت استياء متزايداً على مر السنين في هذا القرن الثامن عشر.
                    وعوق القانون الفرنسي مع تقدم الإدارة الفرنسية، وكان يختلف من مقاطعة إلى مقاطعة مما أعاد إلى الأذهان انفراد المقاطعات بعضها عن بعض باستقلالها الذاتي، في سالف الأيام. وكان في مختلف أقاليم فرنسا. 350 هيئة قانونية متباينة. وكان كولبير قد قام بمحاولة غير موفقة في تنظيم القانون الفرنسي وتحديده في "قانون العقوبات" الذي صدر في 1670 ولكن قانونه خلط بشكل مضطرب بين تشريع العصور الوسطى والحديثة، والتشريع الألماني والروماني، والتشريع الكنسي والمدني. وكان الملك يسن القوانين الجديدة وفقاً لمتطلبات الساعة، وعادة بناء على إلحاح وزرائه مع التسرع في التحقق من انسياقها مع القوانين القائمة. وكان من العسير على المواطن أن يتبين أي القوانين ساري المفعول في محل إقامته أو في قضيته.
                    وتولت "الشرطة الراكبة" تنفيذ قانون العقوبات في الأقاليم، أما في المدن الكبيرة فكان يتولاه "شرطة البلدية"، التي نظمها ودربها أحسن تدريب وتنظيم في باريس، مارك رينيه دي فواييه دي آرجنسون، الذي لم ينجب أبناء لامعين فحسب، بل أنه كذلك بوصفه قائد الشرطة من 1679 إلى 1718، اكتسب لقب "اللعين"، لأنه كان يبدو وكأنه شيطان، وأنه كان على أية حال مصدر رعب وفزع لمجرمي باريس، لأنه كان يعرف أوكارهم وأساليبهم، ومع ذلك كان (كما يؤكد لنا سان سيمون) "يتسم بالروح الإنسانية"(76)-عطوفاً على البؤساء.
                    وكان الشخص المقبوض عليه يسجن قبل المحاكمة، ويعامل معاملة لا تكاد تختلف عن معاملته وهو مذنب محكوم عليه بالعقوبة. وقد يقضي-مثل جين كالاس-شهوراً في السلاسل والأغلال والتعذيب العقلي، معرضاً للمرض في كل يوم بين الأقذار. وإذا حاول الهرب تصادر ممتلكاته، وإذا اتهم بجريمة كبرى لا يسمح له بالاتصال بمحام. ولم يكن هناك حق التحقيق في قانونية أمر الاعتقال (هابياس كوربس)، أو حق المحاكمة عن طريق المحلفين. وكان الشهود يسألون سراً، كل على حدة. وإذا أعتقد القاضي بأن المتهم مذنب، ولكن ليس هناك أدلة كافية لإدانته، كان له سلطة تعذيبه لينتزع منه اعترافاً. وقل حدوث مثل هذا التعذيب القضائي وخفت حدته على عهد لويس الخامس عشر، ولكنه ظل جزءاً من الإجراءات القانونية في فرنسا حتى 1780.
                    وتراوحت العقوبات من الغرامات إلى تمزيق الوصال. وكانت المشهرة مفضلة في عقاب عدم الأمانة في العمل. وكان اللصوص وصغار المجرمين يجلدون بالسياط، وهم يجرون مربوطين في ذيل عربة في الشوارع. وكان يمكن أن يكون الإعدام عقوبة الخدم إذا اقترفوا السرقة، ولكن مخدوميهم نادراً ما تمسكوا بتنفيذ هذا القانون. وفي 1748 أبطل بصفة رسمية الحكم بالتجديف في السفن الشراعية الكبيرة. وكان الإعدام هو العقوبة القانونية لمجموعة كبيرة متباينة من الجرائم منها السحر والشعوذة والتجديف على الله
                    وسفاح ذوي القربى واللواط والعلاقة الجنسية بين إنسان وحيوان. ولم يعودوا يلجئون إلى قطع العنق أو شد المجرم إلى الخازوق لإحراقه. ولكن كان يمكن أن يزيدوا من روعة تنفيذ الحكم "بسحب المحكوم عليه وتمزيق أوصاله إلى أربعة أجزاء" أو تحطيم أطرافه بقضيب حديدي وهو مربوط إلى "دولاب" التعذيب. وروي "أن الناس، وبخاصة في باريس، كانوا دائماً يتطلعون في ابتهاج وسرور إلى تنفيذ حكم الإعدام(77)".
                    وكان النظام القضائي معقداً مثل القانون تقريباً. وكان في الريف آلاف المحاكم الإقطاعية التي تطبق القانون المحلي، ويرأسها قضاة يعينهم السادة الملاك، وكان يمكن لهذه المحاكم أن تنظر في القضايا الصغيرة فقط، وليس لها أن تفرض من العقوبات إلا الغرامة البسيطة، وكانت أحكامها عرضة للاستئناف، ولكن الفلاح وجد أن من العسير عليه، ومما يكلفه نفقة باهظة أن يكسب قضية ضد السيد المالك. وعلاوة على محاكم السادة الملاك هذه كانت هناك محاكم محلية، وكان في كثير من المدن محاكم خاصة بالكوميونات وفوق كل هذه المحاكم الدنيا كانت هناك المحاكم الإقليمية التي تطبق القانون الملكي، وللملك أن يعين محاكم خاصة لأغراض خاصة. وكانت الكنيسة تحاكم رجالها بمقتضى قانونها الكنسي الخاص بها في محاكم كنسية. وكان المحامون يحتشدون في مختلف المحاكم وفيما حولها، مستفيدين من ولع الفرنسيين بالتقاضي. وكان في المدن الكبرى الثلاث عشرة برلمانات تتألف من قضاة يعملون على هيئة محاكم عليا لهذه المدن وما حولها، وعلى الأساس كان برلمان باريس يخدم ثلث فرنسا تقريباً. وطالب كل برلمان بأن أي مرسوم ملكي أو حكومي لا يصبح قانوناً إلا إذا عرض على البرلمان ووافق عليه وسجله. ولم يسلم المجلس الملكي للدولة بهذا الطلب قط، ولكنه في الغالب سمح للبرلمان بحق الاعتراض. ودارت أشد حقب التاريخ الفرنسي كآبة حول هذه المطالب المتعارضة والمتنازع عليها بين الملك والبرلمانات.
                    وبين برلمان باريس والملك قام الوزراء والبلاط. وشكل كل الوزراء معاً "مجلس الدولة" وكان البلاط يتألف من الوزراء علاوة على النبلاء
                    أو رجال الدين أو أعيان العامة الذين كانوا قد قدموا إلى الملك، بالإضافة إلى معاوني رجال البلاط وخدمهم. وكانت هناك مراسم صارمة (بروتوكول) تحدد وضع كل رجل في البلاط ومسوغاته وأسبقيته وامتيازاته وواجباته، كما انه كانت هناك قواعد تشريفات معقدة مدروسة مفصلة تيسر الاحتكاك بين عدة مئات من الأفراد المزهوين الذين تملأ الغيرة والحقد قلوبهم، كما تثقل كواهلهم. كما أن المراسم والتشريفات الباذخة المسرفة لطفت من رتابة نظام الحاشية. وهيأت جو الغموض الذي لا غنى عنه للحكومة الملكية. وكانت ضروب التسلية الأثيرة لدى أفراد الحاشية هي الانهماك في القيل والقال والكل، والميسر والصيد والقنص والزنى. وقال سفير نابلي "إن تسعة أعشار الناس في فرنسا يموتون جوعاً، والعشر يموت من عسر الهضم(78) وكانت مبالغ الخسارة والمكسب على موائد القمار جسيمة. ولكي يسدد رجال الحاشية ديونهم كانوا يبيعون نفوذهم لمن يدفع مبلغاً محترماً لأحد أفراد الحاشية، وكان لكل زوج في البلاط، تقريباً، عشيقة، ولكل زوجة تقريباً عشيق. ولم ينكر أحد على الملك خليلاته، وكل ما شكا منه النبلاء أن الملك صحب معه إلى فراشه مدام دي بمبادور وهي سيدة من عامة الشعب على حين انهم ربما أحسوا أنه قد يشرفهم أن يفترع جلالته بناتهم البكارى.
                    وعلى الرغم من أن لويس الخامس عشر كان قد بلغ سن الرشد رسمياً في 1723، فإنه كان آنذاك في سن الثالثة عشرة، وعهد بالإدارة إلى لويس هنري، الدوق دي بوربون. وكان التفكير قد اتجه لشغل هذا المنصب إلى كونت دي تولوز، وهو أحد أبناء لويس الرابع عشر الذين أضيفت عليهم صفة الشرعية، ولكنه استبعد "لأنه لفرط أمانته لا يصلح أن يكون وزيراً(79)" وكان السيد الدوق دي تولوز "نفسه رجلاً طيب الشعور، بذل كل ما في وسعه للتخفيف من فقر الشعب، وفكر في تحقيق هذا الغرض عن طريق وضع نظام يحدد الأسعار والأجور بصفة رسمية، ولكن قانون العرض والطلب جيب آماله. وتجاسر على فرض ضريبة دخل قدرها 2% على كل الطبقات فاحتج رجال الدين وتآمروا على سقوطه(80)
                    وأباح لعشيقته المركيزة دي بري من النفوذ والسلطان أكثر مما ينبغي، وكانت ذكية، ولكن ذكاءها كان دون جمالها، فاحتالت على زواج لويس الخامس عشر من ماري لزكزنسكا، أملاً في أن تستبقي الملكة الشابة تحت تأثيرها. ومهما يكن من أمر فإن ماري سرعان ما فقدت نفوذها وعطفت مدام دي براي على فولتير، وأقصت رجال الدين ودفعت الدوق إلى مهاجمة الأسقف الذي يتولى تعليم الملك، والذي كان قد أوصى الملك باختيار الدوق ليكون وزيره الأول. ولكن الملك كان يعجب بمعلمه ويثق فيه أكثر من أي رجل آخر في الدولة.
                    وكان أندريه هركيل دي فليري قد عين أسقفاً في فريجيس 1698 ثم مؤدباً للملك 1715. وسرعان ما أصبح ذا تأثير شديد على عقل الصبي. وكان الأسقف فارع الطول وسيماً مرناً لبقاً، كسولاً بعض الشيء لا يتعجل الحظ والثراء أبداً، ولو أنه وصل إلى ما يصبوا إليه. واعتقد ميشيليه وسانت بيف أن فليري، باعتباره معلماً، كان قد أضعف شخصية الملك الصغير بإطلاق العنان لرغباته وشهواته في ابتهاج خال من الهموم والتفكير، ورباه على مساندة اليسوعيين والعطف عليهم(81). ولكن فولتير، الذي لم يكن صديقاً لرجال الدين، أعجب بفليري، وقدره أعظم تقدير، معلماً ووزيراً، على حد سواء وأخذ فليري على عاتقه أن يشكل ذهن تلميذه ويدربه على العمل والتكتم والاستقامة والأمانة، وعلى أن يصون نفسه وسط تعجل الحاشية وهياجها وصخبها، طيلة الفترة التي لم يبلغ فيها الملك سن الرشد، والتي نعم فيها بحسن تأثير الوصي وتقدير الشعب. ولم يمن فليري قط بقيمة خدماته، ولم يشكك قط من الآخرين، ولم يغمس يده في مكائد الحاشية ودسائسهم قط. وحاول سراً أن يتعرف على شئون المملكة في الداخل ومصالحها في الخارج. وصفوة القول إن سلوكه الواعي الحذر ومزاجه اللطيف جعلا كل فرنسا تود أن تراه على رأس الإدارة فيها(82).
                    ولما علم فليري بأن تأثيره المستمر في تقرير السياسة استفز الدوق دي بوربون ليوصي بطرده من البلاط، ولم يبذل أي محاولة للاحتفاظ بمركزه
                    بل انسحب في هدوء إلى دير السلبيشيانر في Issy، إحدى ضواحي باريس (18 ديسمبر 1725). وأمر الملك الدوق أن يطلب إلى فليري أن يعود، وعاد بالفعل، وفي 11 يونية، استجابة لما وضح من رغبة الحاشية ورجال الدين والجمهور،(83)أمر لويس الخامس عشر، بشكل مفاجئ، بوربون "أن يأوي إلى شانتيللي ويبقى هناك لحين صدور أوامر أخرى". وأبعدت مدام دي بري إلى قصرها في نورماندي، حيث تولاها الضجر والسأم إلى أبعد الحدود، فتناولت السم وفارقت الحياة (1727).
                    وظل فليري يخطو إلى الأمام بفضل تراجعه، ولم يحظ بأي منصب رسمي، بل إنه على العكس، حث الملك على ان يعلن أنه سيتولى الحكم بنفسه منذ الآن. ولكن لويس آثر الصيد أو لعب القمار، وأصبح فليري الوزير الأول في كل الشئون إلا اللقب (11 يونية 1726). وكان آنذاك في الثالثة والسبعين من العمر، وكم من نفس طموحة تطلعت إلى أن يعاجله الموت، ولكنه حكم فرنسا سبعة عشر عاماً.
                    ولم ينس فليري أنه قسيس، فألغى ضريبة ال2% فيما يتعلق برجال الكنيسة، فكان جوابهم على هذا أنهم قدموا للدولة منحة اختيارية قدرها خمسة ملايين جنيه، وطلب فليري أن يساندوه في تنصيبه كاردينالاً، وكان في حاجة إلى اللقب ليكون له حق الصدارة والأسبقية على الأدواق في مجلس الدولة، فكان له ما أراد (5 نوفمبر)، ولم يحاول منذ تلك اللحظة أن يخفي الحقيقة، تلك هي أنه كان يحكم فرنسا.
                    ولشد ما كانت دهشة الحاشية حين رأوه متواضعاً وهو في أوج السلطة مثلما كان متواضعاً وهو يمهد لها. وعاش في بساطة تكاد تتسم بالتقتير، قانعاً بالحقيقة الواقعة دون امتيازات السلطة ومقتضياتها. وكتب فولتير "إن ارتفاع مكانته لم يغير من عاداته وسلوكه، ودهش الجميع ليجدوا في شخص رئيس وزارة، أعظم رجال الحاشية جاذبية وفي نفس الوقت أعظمهم نزاهة وتجرداً"(84) وقال هنري مارتن "كان أول وزير عاش بعيداً عن الترف والبذخ ومات فقيراً".(85) وكان أميناً غاية الأمانة،
                    ولم يسئ استغلال منصب قط.(86) وكان إلى أبعد الحدود أكثر تسامحاً ممن يحيطون به"(87) وعامل فولتير معاملة ودية لطيفة وتغاضى عن ممارسة الطقوس البروتستانتية سراً، ولكنه لم يتسامح قط مع الجانسنيين.
                    ولم يعكف، بطريقته المتروية المتأنية، على تقرير السياسة فحسب، بل على إدارة الحكومة كذلك. وأختار معاونيه بعد حكم فاصل مدقق، وساسهم في حزم وكياسة. وفي عهده تابع هنري فرانسوا دي أجوسو مهمته الطويلة المدى (1728-1751) في إصلاح القوانين وتنسيقها، وأعاد فيلبيرت أورى النظام والاستقرار إلى مالية الدولة. وتجنب فليري الحرب حتى أكره عليها بسبب الأطماع الأسرية في الأسرة الحاكمة، ومن ثم هيأ لفرنسا فترات سلام وهدوء طويلة، سمحت لها باستعادة الانتعاش الاقتصادي. وبدا أن نجاحه برر مقدماً الحجج التي رددها الفيزيوقراطيين "أن نحكم حكماً يسيراً معناه أن نحكم حكماً مطلقاً" (حرية التجارة والصناعة وعدم تدخل الحكومة فيهما). ووعد بوقف التضخم، وأوفى بوعده. واتسعت التجارة الداخلية والخارجية، وزاد الدخل. وحيث أنفق الإيرادات في قصد أكيد بعيد عن التبذير، وحد من نفقات مهرجانات الحاشية الملكية، فإنه استطاع أن يلغي ضريبة ال2% على الدخل بالنسبة لكل الطبقات، وأن يخفف ضريبة الأملاك التي أبهظت كاهل الفلاحين. وأعاد إلى المدن الكبيرة والصغيرة الحق في انتخاب موظفيها الرسميين. وإقتداء بالمثل الذي ضربه فليري في الاستقامة تحسنت أخلاق رجال البلاط على كره منهم.
                    وفي مقابل هذه المفاخر والمزايا تطل بعض المآخذ الجسيمة برؤوسها. إنه أرخص للملتزمين العامين في الاستمرار في جمع الضرائب دون تدخل من جانب الوزارة. وتعزيزاً من للمشروع الضخم الذي وضعه المحافظون، أقر نظام السخرة الذي فرض على الفلاحين والعمل دون مقابل اللهم إلا الطعام. وأسس مدارس عسكرية لأبناء الأرستقراطية، ولكنه قبض يده بشكل مخل غير حكيم بإهماله إصلاح البحرية والتوسع فيها، وسرعان ما باتت تجارة
                    فرنسا ومستعمراتها تحت رحمة الأساطيل الإنجليزية. إنه وثق ثقة عمياء في قدرته على المحافظة على السلام بينه وبين إنجلترا.
                    وطيلة حكم روبرت وولبول في إنجلترا نجحت سياسة السلام التي انتهجها الكاردينال.فإن الرجلين، ولو أنهما كانا على طرفي نقيض في الخلق والطباع، اتفقا على أن السلام أمر مرغوب فيه. على أنه في 1733، حضه مستشاروه في الشئون الخارجية على القيام بمحاولة فاترة لاجلاس ستانسلاس لزكزنسكي، وهو حمو الملك، على عرش بولندة، ولكن ستانسلاس اقترح إصلاح دستور بولندة وتشكيل حكومة قوية، وآثرت كل من روسيا والنمسا أن تكون بولندة عاجزة مهيضة الجناح، فرفضتا هذا الاقتراح. وفي حرب الوراثة البولندية (1733-1738) طردتا لزكزنسكي من وارسو ثم من دانزج. ولما كان فليري يعارض أي صراع خطير، فإنه نصح ستلانسلاس بأن يلجأ إلى نانسي ولونفيل حاملاً لقب "ملك اللورين". ولم تقع الكارثة، فإن لزكزنسكي والدول اتفقوا على أنه عند وفاته تعود إلى فرنسا اللورين التي كانت فرنسية إلى أبعد حد، وهذا ما حدث في 1766.
                    وجاهد فليري الذي كان في الثامنة والثمانين قدر طاقته المتضائلة، أن ينأى بفرنسا عن حرب الوراثة النمساوية (1740)، ولكن امرأة فرضت سلطانها عليه. ذلك أن فليسيتيه دي نسل مركيزة فنتيميل، التي كانت آنذاك تشارك الملك فراشه أصغت في بهجة وفرح إلى شارل أوجست فوكيه، كونت دي بل أيل، حفيد المختلس البارع نيقولا فوكيه الذي كان لويس الرابع عشر قد أحسن صنعاً بعزله. إن بل أيل هذا أبلغ المركيزة أن فليري رجل هرم أحمق، وأنه في مهاجمة فردريك الثاني ملك بروسيا للملكة الشابة ماريا تريزا ملكة النمسا، فرصة ذهبية لتمزيق إمبراطوريتها، وأن فرنسا ينبغي أن تنضم إلى فردريك، وتقتسم الغنائم. وصبت العشيقة الفاتنة هذه الكلمات في آذان الملك الولهان. وأقنعته بأن ينتزع زمام الأمور من بين يدي الكاردينال اللتين ترتعدان خوفاً وجبناً، ويستعيد مجد فرنسا.
                    وناشد فليري بأن الشرف والمصلحة تحولان دون المضي في مشروع بل آيل. فإن إنجلترا لن تسمح بتدمير النمسا لتصبح فرنسا عظيمة إلى حد ينذر بالخطر. وأن على فرنسا أن تدخل في حرب مع إنجلترا أيضاً، وأن فرنسا في خير حال في السلم! وفي 7 يونية 1741 أعلن لويس الحرب على النمسا. وفي 25 نوفمبر استولى بل آيل على براج، واتفقت معه كل فرنسا تقريباً على أن فليري عجوز أحمق.
                    وبعد عام في الحرب تخلى فردريك المراوغ عن فرنسا وعقد سراً هدنة مع النمسا، وإذ تحررت الجيوش النمساوية على هذا النحو، تقدمت إلى بوهيميا، وشرعت في تطويق براج. ولم تكن إلا مسألة وقت، ليضطر إلى التسليم بل آيل وجيشه المؤلف من عشرين ألف رجل، أقضى مضاجعهم وأزعجهم الأهالي الذين أضمروا لهم العداء. وفي 11 يونية 1742 أرسل فليري إلى القائد النمساوي كونت فون كونجزج نداء مذلاً يناشده فيه شروطاً معتدلة للحامية الفرنسية، وقال فيه "يعلم كثير من الناس كم كنت أرض القرارات التي اتخذناها، وإني أرغمت بطريقة ما على الموافقة عليهما"(88) فأرسل كونجزج الخطاب إلى ماريا تريزا التي نشرته على العالم. وأرسل جيش فرنسي لإنقاذ بل آيل، ولكنه لم يصل إليه قط. وفي ديسمبر ترك بل آيل وراءه ستة آلاف من المرضى والجرحى، وغادر بقواته الأصلية براج إلى الحدود عند إيجو، ولكن عملية الفرار هذه حدثت في قلب الشتاء عبر مائة ميل جبال ومستنقعات مغطاة بالجليد أو الثلوج، ولم تنقطع غارات العدو عليهم طيلة انسحابهم، وهلك من الأربعة عشر ألف رجل الذين بدءوا هذه المسيرة اثني عشر ألفاً في الطريق، وامتدحت فرنسا هذا الإنقاذ الرائع بالارتداد المذهل. وتخلى فليري عن الوزارة، وآوى إلى الدير في أسى حيث فارق الحياة (29 يناير 1743) وهو في سن التسعين.
                    وأعلن الملك أنه سيتولى رياسة الوزارة بنفسه منذ الآن.


                    bestfriends
                    Infinity and eternity

                    Comment


                    • #11
                      رد: قصة الحضارة (ول ديورانت)


                      5- لويس الخامس عشر


                      عجباً: ماذا يكون شعور الإنسان عندما يكون ملكاً وهو في سن الخامسة؟ أن الصبي الذي قدر له أن يحكم فرنسا تسعة وخمسين عاماً، كان لا يكاد يسترعي الانتباه أو الملاحظة في طفولته المبكرة، كان ضعيفاً هزيلاً، يتوقعون أن يعاجله الموت بين آونة وأخرى. وفجأة في 1712 توفي والداه دوق ودوقة برجندي بالجدري، وأصبح الصبي وريث العرش، وبعد ثلاث سنوات كان هو الملك.
                      واتخذت كل الاحتياطات لجعله غير صالح للحكم. وقلقت مربيته مدام دي فنتادور أشد القلق على صحته، وعملت على وقايته من قسوة الجو، وغرس فيه كاهن اعتراف يسوعي احتراماً رهيباً للكنيسة. وكان فليري، معلمه ومؤدبه، كيساً متسامحاً، ويبدو أنه فكر في أنه من الخير لفرنسا أن يكون مليكها كسولاً بليداً. أما معلمه الخاص ماريشال دي فيلروا فقد دبر سماً عكسياً، حيث قاده إلى نافذة في قصر التويلري ليرى الجماهير التي احتشدت لتصفق وتهلل وتهتف له، وهو يقول "أنظر يا مولاي، هذا الجمع وهؤلاء الناس كلهم لك تابعون لك. أنت مليكهم وسيدهم.(89)واقترنت القدرة على كل شيء بالعجز وعدم الأهلية لأي شيء.
                      لقد افسد لويس هالة القداسة التي أضفوها عليه، وكان أنانياً في سلطته بليداً عنيداً، ومن ثم نشأ شاباً ضجراً صموتاً، مع التجاوز عن تجنبه مراقبة حراسه وفيما بعد تجنبه مراسم حاشيته وخنوعها ليجد متنفساً في الحفر على الخشب وشغل الإبرة وحلب البقر واللعب مع الكلاب.(90)إن عناصر القسوة التي تكمن فينا جميعاً تمكنت عنده من أن تظهر إلى السطح من خلال جبنه. ويروى أنه كان في صباه يجد لذة في صيد الحيوانات بل قتلها.(91)وفي سني نضجه هذب من هذه القسوة إلى مجرد الصيد، وربما برزت في سوء معاملته، وسرعة نبذه للبنات اللائى شاركنه فراشه بعد تدريبهن على ذلك في "متنزه الظباء" على أن معاملته

                      لأصدقائه تميزت بقدر من الحساسية المقرونة بالحذر والخجل ومراعاة شعورهم وحقوقهم.
                      وكان له ذهن سليم، كان من الممكن أن يتفوق لو أن الأخلاق ساندته ودعمته. وأدهش الجميع بقوة ذاكرته وسرعة بديهيته. وكان بطبيعته يؤثر الألعاب على الدرس. ولكنه استوعب بعض التعليم الصحيح في اللاتينية والرياضيات والتاريخ وعلم النبات والفنون العسكرية. وشب فارع الطول نحيل القوام، ولكن عريض المنكبين، مع بشرة جميلة وشعر ذهبي متجعد. وقال عنه ماريشال دي ريشيليو أنه "أكثر الصبية وسامة وملاحة في مملكته"(92)يحتفظ متحف فرساي بصورة رسمها له فانلر، وهو في الثالثة عشرة بالسيف والدرع، مما يكاد يتلاءم مع الوجه الصبياني. وقارنه رينيه لوس دي آرجنسون بإله الحب عند اليونان "ايروس" (كيوبيد عند الرومان). ووقعت النساء في غرامه لأول نظرة. وحين مرض في 1722 صلت كل فرنسا من أجله، وعندما أبل من مرضه بكت كل فرنسا فرحاً وابتهاجاً. إن
                      هذا الشعب الذي كثيراً ما عانى وقاسى من ملوكه طرب وابتهج لما رواده من أمل في أن الشاب سرعان ما يتزوج وينجب ابناً يحفظ العرش في الأسرة الكريمة العريقة.
                      والحق إنه كان قد خطب (1721) وهو في سن الحادية عشرة، ماريا آنا فكتوريا، وعمرها عامان، ابنة فيليب الخامس ملك أسبانيا. وكانت قد انتقلت إلى باريس، وكانت الآن تنتظر أن تبلغ سن الزواج. ولكن مدام دي بري رأت أنها قد تستطيع الاحتفاظ بنفوذها المتزايد بفسخ هذا القران المرتقب، وتزويج لويس من ماري لزكزنسكي ابنة ملك بولندة المخلوع. وشرعت في تنفيذ خطتها، وأعيدت الأميرة إلى أسبانيا (1725) وتلك إهانة لم يغتفرها البلاط الأسباني قط. وكان ستانسلاس في مأواه في ويزمبرج في الألزاس حين تلقى طلب ملك فرنسا يد أبنته، فدخل إلى الحجرة الني كانت أبنته وأمها تعملان فيها وقال "فلنسجد شكراً لله". فتعجبت ماري فرحة مبتهجة وقالت "أبي العزيز، هل دعيت ثانية لارتقاء
                      عرش بولندة؟ "فأجاب ستانسلاس" بل إن الله من علينا بنعمة مذهلة أكثر. لقد أصبحت ملكة فرنسا"(93)إن ماري لم تكن تحلم قط بارتقاء أعظم عرش في أوربا. وكانت قد رأت صور لويس الخامس عشر، شاباً يكلله المجد والرفعة، وسيماً قوياً، إلى أبعد حد. وأرسلت إليها الخزانة الفرنسية الأردية والثياب والملابس الداخلية والأحذية والقفازات والمجوهرات، ووعدتها بمائتين وخمسين ألف جنيه لدى وصولها إلى فرساي، وبراتب سنوي قدره عشرون ألف كراون ذهباً مدى الحياة. وتلقت ماري هذا كله في ذهول وهي لا تكاد تصدق، واتجهت إلى الله بالشكر على حظها السعيد. وفي 15 أغسطس 1725 عقد قرانها على الملك بتوكيل في ستراسبورج، وسارت فرحة إلى باريس عبر طرق تجتاحها العواطف لعدة أيام قاسية. وزفت إلى الملك في فونتنبلو في 5 سبتمبر. وكان هو في الخامسة عشرة، وكانت هي في الثالثة والعشرين من العمر، ولم تكن جميلة، بل طيبة فقط.
                      أما لويس الذي قد أبدى بعد ولعاً بالنساء، فإنه أفاق عندما مس عروسه المتواضعة، وعانقها في حرارة أدهشت حاشيته، وكانت حياتهما لبعض الوقت مثالاً للحب والسعادة، وحظيت باحترام الناس وولائهم، ولكنها لم تكن يوماً ذات شعبية أو محبوبة. وكانت لطيفة ودودة رقيقة حساسة، لا تعوذها الدعابة المرحة، ومع ذلك افتقدت فرساي فيها الذهن المتوقد والحديث المرح المفعم بالحيوية، مما أصبح لزاماً أن تتحلى به سيدات البلاط. وصعقت ماري لأخلاقيات الأرستقراطية الفرنسية، ولكن نقدها لها لم يجاوز أنها ضربت مثلاً للزوجة الأمينة المخلصة الحريصة على إسعاد زوجها وعلى إنجاب وريث له. وعلى مدى اثني عشر عاماً وضعت عشرة أطفال، وفي سنوات أخرى عانت كثيراً من الإجهاض. وكان إشباع شهوة الملك معضلة واجهت الملكة. أنها توسلت إليه أن يتعفف ويستعصم، على الأقل أيام الاحتفال بأعياد كبار القديسين، وأصيبت في غمرة جهودها وواجباتها "بناسور" خبيث، والتمست "الحرارة" التي تضطرم بين جنبي

                      الملك منافذ أخرى. وكان عرفانها بحسن صنيع مدام دي بري والدوق دي بوربون محنة ابتليت بها وأصغت في صبر ناقد حين هاجم الدوق بوربون فليري في حضرة الملك. وعندما تولى زمام السلطة أرسل بناتها إلى دير ناء بحجة الاقتصاد في النفقات. ورجح نفوذه المتزايد من كفة أعدائها. ولما زاد فتور الملك نحوها آوت إلى حلقة محدودة من أصدقائها، ولعبت الورق ونسجت البسط، وحاولت الرسم، ووجدت بعض السلوى والعزاء في التقوى وأعمال البر. "وعاشت حياة الدير والرهبنة وسط انفعالات الحاشية وعبثها"(94).
                      وكان ينبغي للملك أن يلهو ويتسلى، ولكن مدام دي بري كانت قد اختارت له زوجة غير مسلية. على أنه لم يتخذ خليلة إلا بعد سبعة أعوام من زواجه، وعند ذاك اتخذ أربعاً على التعاقب، مع قدر محدود من الإخلاص، لأنهن كن أخوات. ولم يكن رائعات الجمال، ولكن كن جميعاً نشيطات مسليات مفعمات بالحيوية، وكن جميعاً ما عدا واحدة ذوات خبرة بأساليب الغنج والدلال والعبث. وواضح أنه كان للويزا دي نسل كونتيسة دي مللي الشرف في أن تكون سباقة إلى إغراء الملك وإغوائه (1732). إنها، مثل لويزا دي لآفالبير، أخلصت في حبها لعشيقها الملكي، ولم تكن تسعى للثراء أو السلطة، وكل ما سعت إليه هو أن تسعده. فلما زاحمتها أختها فليسيتيه، وكانت لتوها قد غادرت الدير، على مخدع الملك، فإن لويزا شاركتها في لويس (1739) في قران رباعي مهرطق-لأنه ظل يتردد على الملكة. وأزعج هذا التعقيد ضمير الملك، وتجنب تناول القربان المقدس، لفترة من الوقت، بعد أن سمع قصصاً رهيبة مفزعة عن أناس كانوا قد تناولوا القربان في فم آثم خاطئ.(95)إن هذه المرأة المغوية الخطرة (السيرانه: عند الإغريق كائن أسطوري له رأس امرأة وجسم طائر، كانت تسحر الملاحين بغنائها فتوردهم موارد الهلاك)-كما تروي إحدى أخواتها "كان لها شكل الغرناد (سمك بحري) وعنق الغرنوق (طائر ذو عنق طويل) ورائحة القرد"(96). ومع ذلك احتالت
                      التحمل. وحفاظاً على ماء الوجه وآداب المجتمع أوجد لها لويس زوجاً، وعينها مركيزة فنتميل. وفي 1740 آوت مدام دي ميللي إلى أحد الأديار، ولكنها غادرت بعد عام واحد لترعى منافستها المنتصرة التي كانت تعاني سكرات الموت أثناء الولادة (1741). وبكى الملك وبكت مدام دي ميللي معه. ووجد بعض العزاء بين ذراعيها، وعادت عشيقة له من جديد.
                      وثمة أخت ثالثة، أدليد نسل، البدينة الدميمة، وكانت بارعة ذكية، عملت على تسلية الملك بحركاتها الجسدية وسرعة بديهتها وأجوبتها السريعة. واستمتع الملك بها، ووجد لها زوجاً، وظل على علاقة بها. أما الأخت الرابعة، مدام دي فلافاكور، فإنها صدت الملك وصادقت الملكة. ولكن الأخت الخامسة، أقدرهن جميعاً، هي ماري آن دمي نسل دي لاتورنل، أقنعت مدام دي ميللي بأن تقدمها للملك. ولم تغز ماري قلب الملك فحسب، بل أنها أصرت كذلك على أن تكون المحظية الوحيدة، وأقصيت ميللي فقيرة معدمة، وهوت بين عشية وضحاها من أبهة الملكية إلى كآبة الدير. وهكذا أزاحت كل من الأخوات من بنات نسل أختاً لها. وبعد ذلك بقليل كانت ماري تشق طريقها لتصل إلى مقعدها في كنيسة نوتردام، فكان في هذا إزعاجاً لجماعة من المصلين، وتذمر أحدهم قائلاً: "كل هذه الضجة من اجل بغي فاجرة" فقالت هي: "سيدي، مادمت عرفتني جيداً فأرجو أن تمن علي بالصلاة لله من اجلي.(97)" ولا بد من أن الله سبحانه وجد من اليسير أن يغفر لها.
                      وكانت السيدة نسل الجديدة أجمل الأخوات. إن الصورة التي رسمها لها ناثييه-وجه وسيم، صدر بارز منتفخ، قوام رشيق، في ثوب من حرير مهفهف متموج يكشف عن قدمين صغيرتين رقيقتين-لتفسر شدة اندفاع الملك نحوها وميله إليها. وإلى هذا كله كانت تجمع ذكاء متقداً قدر بريق عينيها. وعلى النقيض من دي ميللي كانت ماري تتلهف على الثروة والسلطان. وقدرت أن نفقاتها تستحق أن يكون لها دوقية شاتورو
                      التي تدر 85 ألف فرنك في العام، فحصلت عليها وعلى لقب دوقة (1743). ودخلت التاريخ لمدة عام.
                      وتحيز لها وساندها حزب قوي في البلاط، كان يأمل في استخدام نفوذها في كسب الملك إلى جانب سياسة عسكرية فعالة، تعود فيها سلطة الحكومة من البيروقراطية البرجوازية إلى النبالة العسكرية (نبلاء السيف) وكان لويس في بعض الأحيان، شعوراً منه بالواجب، ينهمك في العمل مع وزرائه، ولكنه على الأغلب كان يفوض إليهم سلطاته وواجباته. ونادراً ما اجتمع بهم، أو عارضهم، وأحياناً وقع مراسيم اقترحها أو عرضها عليه أعوان متنافسون. وهرب من قواعد التشريفات في البلاط إلى كلابه وجياده وإلى الصيد والقنص. فإذا لم يخرج يوماً للصيد قال رجال الحاشية "أن الملك لا يفعل شيئاً اليوم". وعلى الرغم من انه لم تعوزه الشجاعة، فإنه لم يكن يميل إلى الحرب، وكان يؤثر الفراش على الخندق.
                      وفي المخدع وفي حجرة الجلوس حرضت الدولة الشهوانية اللعوب-مستعيدة ذكرى أجنيس سوريل-الملك على القيام بدور فعال في الحرب ضد إنجلترا والنمسا. وصورت له لويس الرابع عشر يقود جيشه إلى المجد والعظمة في مونزونامور، وتساءلت: لماذا لا يتألق لويس الخامس عشر الوسيم الشجاع في درعه وسيفه وعلى رأس جيشه، مثلما كان يفعل جده العظيم. ونجحت الخطة، وماتت الدوقة منتصرة. وأفاق الملك الكسول لحظة من سباته. وربما كان نتيجة لاستحثاثها وتحريضها، إنه عندما حانت منية فليري المسالم، أعلن لويس أنه سيحكم ويملك معاً. وفي 26 أبريل 1744 استأنفت فرنسا الحرب الفعلية ضد النمسا، وفي 22 مايو تجدد التحالف مع فردريك ملك بروسيا الذي بعث بشكره وامتنانه إلى مدام شاتوره. وتقدم لويس إلى الجبهة في أبهته الملكية وتبعه بعد يوم واحد خليلاته وسائر سيدات البلاط، تحيط بهن كل كظاهر البذخ والترف المألوفة، وكسبت القوات الفرنسية الرئيسية التي يقودها الملك، ولكن يخطط عملياتها
                      أدريان موريس دي نواي وموريس دي ساكس، انتصارات يسيرة في كورتراي ومنان وأبيرس وفورنيس. وبدا وكان لويس الرابع عشر والقرن العظيم ولدا من جديد.
                      ووسط المهرجانات والإبتهاجات ترامت الأنباء بأن قوة فرنسية تخلي عن مساندتها إلى حد كاف حلفاءها البافاريون، كانت قد هيأت الفرصة لجيش نمساوي مجري أن يحتل أجزاء من الألزاس واللورين، مما اضطر معه ستانسلاس الذي لم يفارقه سوء الطالع، إلى الهرب من لونفيل. وترك لويس فلاندرز وأسرع إلى متز أملاً في استثارة همم الجيش المنهزم بوجوده. ولكنه، هناك، نتيجة المشاغل المتنوعة وسوء الهضم وحرارة أواسط الصيف، انتابه مرض شديد، وازدادت الحالة سوءاً بسرعة إلى حد أنه في 11 أغسطس ظن أن في خطر من أن يهلك، وكانت خليلته قد لحقت به، وهي الآن تسهر على العناية به ورفض أسقف سواسون أن يناوله الأسرار المقدمة الأخيرة إلا إذا طردت الدوقة. واستسلم لويس، وأقصاها إلى نحو 150 ميلاً بعيداً عن الحاشية (14 أغسطس 1744) وشيعها الأهالي بصيحات الاحتقار والاستنكار وهي تغادر المدينة.
                      وفي الوقت نفسه كانت ماري لزكزنسكي قد عجلت بالسفر عبر فرنسا لتكون إلى جانب زوجها وهو طريح الفراش. وعلى الطريق التقى ركبها بعربة شاتور وبطانتها. وعانق الملك الملكة قائلاً "لقد سببت لك ما لا تستحقين من الحزن والأسى، وأرجو أن تغتفري لي هذا كله". فكان جوابه "ألا تعرف أنك لست في حاجة أبداً إلى الصفح من جانبي. إن الخطأ في حق الله وحده". وعندما بدأ الملك يسترد صحته كتبت الملكة إلى مدام دي موريا بأنها "أسعد مخلوقة على وجه الأرض". واغتبطت فرنسا كلها أيما اغتباط بشفاء الملك وندمه على ما فات، وعانق المواطنون بعضهم بعضاً في الشوارع، وعانق بعضهم جواد الرسول الذي حمل هذه الأنباء السارة. وأطلق بعضهم على الملك "لويس المحبوب جداً" ورددت الأمة هذه العبارة. وعندما سمع بها لويس تعجب قائلاً "ماذا فعلت لأجعلهم يحبونني إلى هذا الحد؟"(98)إنه كان رمز الوالد لشعبه.
                      وأنقذ فردريك الألزاس بغزو بوهيميا، فإن الجيش النمساوي المجري ترك الألزاس لإنقاذ براج. وأنضم لويس، وهو لا يزال ضعيفاً إلى جيشه المتقدم نحو ألمانيا، ورآه يستولي على فريبورج-أم بريسجو. وفي نوفمبر عاد الملك إلى فرساي، وأعاد مدام دي شاتورو إلى سابق حظوتها ومكانتها، ونفي أسقف سواسون. ولكن في 8 ديسمبر، وبعد أن عانت من الحمى والهذيان لعد أيام، قضت الخليلة نحبها. ودفنت في ظلام الليل، تفادياً لامتهان الجمهور لرفاتها. واستاء الملك من رجال الدين فامتنع عن تناول الأسرار المقدسة في عيد الميلاد، وظل يترقب غراماً جديداً.

                      ونسيت الأمة لبعض الوقت خطايا "المحبوب جداً" وسط انتصارات جيشه، وكان قائد ألماني بروتستانتي هو بطل فرنسا. ذلك أن موريس دي ساكس كان ابن أوغسطس القوي ناخب مكسونيا وملك بولندة. وكانت أمه هي الكونتيس ماريا أورورا فون كونجز مارك التي اشتهرت بين محظيات الملك بالجمال والذكاء إلى حد أطلق معه فولتير عليها "أنها أشهر امرأة على مدى قرنين من الزمان"(99). وفي سن الثانية عشرة تزوج موريس من جرهانا فكتوريا، كونتيس فون لوين، وكانت سيئة الخلق مثل أبيه. وبدد ثروتها واستنكر دعارتها وفجورها وطلقها (1721). وبعد أن أظهر شجاعته في حملات كثيرة قصد باريس لدراسة الرياضيات. وفي 1720 حصل على منصب في الجيش الفرنسي. وبعد أن نجا من كل محاولات زوجته لقتله بالسم، عثر على خليلة مخلصة في شخص أدريين لكوفرير التي برزت مكانتها في الكوميدي فرانسيز آنذاك (1721). وفي 1725 غادر فرنسا ليؤسس له مملكة في كورلند (جزء من لتفيا الحالية). أما الممثلة العظيمة، فإنها على الرغم من حزنها الشديد على فقد حبيبها، منحته، عوناً على تنفيذ مشروعه، كل ما لديها من فضة وحلي ومصوغات، قيمتها أربعون ألف جنيه. وبهذا المبلغ، بالإضافة إلى سبعة آلاف طالير (عملة فضية ألمانية قديمة) من والدته، قصد إلى كورلند، وانتخب لعرش الدوقية (1726). ولكن كاترين
                      الأولى قيصرة روسيا وأياه ساندا مجلس الديت البولندي في مناهضة ارتقائه العرش، وطردت القوات البولندية من كورلند، الجندي الذي لم يكن ليقهر لولا هذه المقاومة، ولما عاد إلى باريس (1728) وجد أن الممثلة الكبيرة كانت تنتظره مخلصة له، ولكنه كان قد ورث عن أبيه خلقه وتقلبه، ورضى بها صاحبة الحظوة الأولى بين عشيقاته.
                      ومع هذا الانحلال الخلقي الجدير بالازدراء وتقلبه بين أحضان النساء الواحدة بعد الأخرى دون أن يبادلهن إخلاصهن، أصبح موريس في ميدان القتال عبقرياً لا يجارى في استراتيجية الحرب، جريئاً في تفكيره، يقظاً لأي خطر يتهدده، وأية فرصة تسنح له. وقال عنه فردريك الأكبر منافسه الوحيد في ذاك العصر إنه "قادر على تلقين الدروس لأي قائد في أوربا"(100)وفي ربيع 1745 عين قائداً عاماً للجيش الفرنسي، وصدرت إليه الأوامر بالتقدم نحو الجبهة. وكان على شفا الموت آنذاك في باريس، حيث أنهكه إفراطه في الشراب وآلام داء الاستسقاء المبرحة، وسأله فولتير كيف يذهب إلى ميدان القتال في مثل هذه الحالة، فأجابه موريس "ليس المهم أن أعيش ولكن المهم أن أبدأ"(101). وفي 11 مايو التحم بجيشه البالغ 52 ألف رجل مع قوات الإنجليز والهولنديين البالغ عددهم 46 ألفاً من الرجال الأشداء، في فونتنوي. وكان لويس والدوفين يتابعان سير المعركة الشهيرة على ربوة قريبة، أما موريس الذي أقعده الاستسقاء عن ركوب الخيل، فكان يديرها وهو على كرسي من الأغصان المجدولة. ويروي لنا فولتير، فيما كان يمكن أن يتطور إلى أسطورة وطنية،(102)أنه عندما أصبح مشاة العداء وجهاً لوجه على مرمى البنادق، صاح لورد تشارلز هاي قائد الحرس الإنجليزي "أيها الفرنسيون أطلقوا النار" فأجابه كونت دي أنتروخ عن الفرنسيين "أيها الرجال، نحن لن نبدأ بإطلاق النار، فهل تبدءون أنتم"(103)وأياً كان الأمر كياسة أو خدعة حربية، فإن الثمن كان غالياً، حيث قتل بالطلقات الأولى تسعة ضباط و434 من المشاة، وجرح 35 ضابطاً و430 جندياً.(104)واضطرب المشاة الفرنسيون وتفرقوا وولوا الأدبار. وأرسل موريس إلى الملك يعرض عليه الانسحاب، فأبى لويس، حتى حين وصل
                      إلى مكانه الجنود العائدون، وربما أخجلهم تصميمه. فما كان من موريس إلا أن امتطى صهوة جواد، وأصدر أوامره إلى قوته من جديد وأعاد تنظيمها، وأطلق القوات الملكية الخاصة على العدو. وقد رأى الفرنسيون مليكهم في خطر الأسر أو الهلاك، وحيث شجعهم وجود ماريشال دي ساكس المتهور تحيط به طلقات النار من كل مكان في أية لحظة، فإنهم جددوا القتال، وأبدى النبلاء والعامة بطولة عظيمة مشربة بروح الانتقام في ساحة المجد. وأخيراً هزم الإنجليز واختلت صفوفهم، وأرسل موريس إلى الملك يبشره بالفوز في هذا الالتحام المرير. وفقد الإنجليز والهولنديون 7500 رجل، والفرنسيون 7200. وحنى لويس رأسه خجلاً حين حياه الجنود الباقون على قيد الحياة. والتفت إلى الدوفين ولي العهد قائلاً "انظر يا بني كم يكلف النصر، احرص على أن تكون ضنيناً بدماء رعاياك"(105). وبينما عاد الملك ومرافقوه إلى فرساي، تقدم موريس للاستيلاء على غنت وبروجز وأودينارد وأوستند وبروكسل. ودانت الفلاندرز كلها فترة من الزمن.
                      وضيع فردريك نتائج فونتنوي بتوقيعه صلحاً منفرداً مع النمسا (ديسمبر 1745) وتركت فرنسا تقاتل وحدها على ست جبهات من الفلاندرز إلى إيطاليا. وبمقتضى معاهدة إكس لاشبال (1748) تخلت عن الفلاندرز، وكان عليها أن تقنع بالحصول على دوقيات بارما وبياشنزا وجوستللا لصهر لويس الجديد (زوج ابنته) الأمير دون فيليب الأسباني. وعاش موريس أوف سكوسونيا حتى عام 1750، غنياً معززاً مكرماً، ومثقلاً بالأمراض. وكان يجد فسحة من الوقت، بين الغواني، ليدون بعض نظرات فلسفية حالمة: "ماذا نرى اليوم في الأمم! نفر من الناس يعيشون في فراغ وسرور وجدة على حساب الجماهير التي لا تعيش إلا على توفير ملذات جديدة دوماً لهذه القلة من الناس. إن هذه المجموعة من الظالمين والمظلومين تشكل ما نسميه مجتمعاً"(106).
                      وتجاسر رجل آخر من القلة المرموقة المنعمة على أن يحلم بنظام أرحم وأكرم. ذلك أن ريننيه لويس دي فواييه، مركيز أرجنسون الذي تولى منصب وزير الخارجية لمدة ثلاث سنوات (1744-1747)، كتب في 1739 "تأملات في حكومة فرنسا"، ولم يجرؤ على نشره إلا في 1765. وجاء فيه أن هؤلاء الذين يفلحون الأرض هم أعظم قطاع من السكان قيمة، وينبغي أن يتحرروا من كل الرسوم والالتزامات الإقطاعية، والحق أنه يجدر بالحكومة، أن تقرض صغار الفلاحين أموالاً لتساعدهم على الإنفاق على زراعاتهم(107). والتجارة حيوية لازدهار الأمة ويجب تحريرها من المكوس والرسوم الداخلية، بل من رسوم التصدير والاستيراد كلما أمكن ذلك. والنبلاء هم أقل العناصر قيمة في الدولة، أثبتوا عجزهم في الإدارة، وهم عالة على المجتمع". وإذا قال أحد بأن هذه المبادئ تتفق مع الديموقراطية، وتميل إلى القضاء على طبقة النبلاء فلن يكون مخطئاً". وإنه ليجدر بالتشريع أن يهدف إلى أكبر قدر ممكن من المساواة. وينبغي أن يحكم الكوميونات موظفون ينتخبون محلياً، على ان تبقى السلطة المطلقة الرئيسية في يد الملك، لأن الملكية المطلقة وحدها هي القادرة على حماية الناس من ظلم (108). واستبق دي آرجنسون الفلاسفة في التطلع إلى الإصلاح على يد ملك مستنير، وقص على النبلاء ما لم يعترفوا به إلا في 4 أغسطس 1789 حين تنازلوا عن امتيازاتهم الإقطاعية، ومن ثم كان مرحلة في طريق فرنسا إلى روسو وإلى الثورة.
                      وفي 1747 استسلم لويس لتحريض نواي ومورياس وبمبادور وعزل دي آرجنسون. وفقد المركيز ثقته في الملوك.وفي 1753 تنبأ بما حدث في عام 1789: "إن المساوئ والشرور الناجمة عن الحكومة الملكية الاستبدادية لتقنع كل فرنسا وكل أوربا بأنها أسوأ الحكومات.... وإن هذه الفكرة لتبرز وتنتشر وتزداد قوة، وقد تؤدي إلى ثورة وطنية... وكل شيء يمهد الطريق إلى حرب أهلية.. وأذهان الناس مهيأة للتمرد والعصيان، ويبدو أن كل شيء يتجه إلى ثورة كبرى في الدين والحكومة معاً(109)".
                      أو كما قالت خليلة الملك الجديدة "من بعدي الطوفان".
                      bestfriends
                      Infinity and eternity

                      Comment


                      • #12
                        رد: قصة الحضارة (ول ديورانت)


                        6- مدام دي بمبادور


                        هي من أشهر النساء في التاريخ، وأوتيت من الرشاقة والجمال ما أعمى أبصار معظم الرجال عن آثامها وخطاياها، ومع ذلك وهبت من قوة الذهن ما مكنها لمدة عقد زاهر من السنين، من أن تحكم فرنسا وتحمي فولتير وتنقذ موسوعة ديدرو، مما أدى بالفلاسفة إلى القول بأنها تنتسب إليهم. ومن العسير أن ننظر إليها في الصورة التي رسمها لها بوشيه دون أن نفقد نزاهة المؤرخ في الافتتان بالإنسان. فهل كانت دي بمبادور إحدى روائع الطبيعة، أو إحدى روائع بوشيه فحسب؟
                        وكانت قد بلغت الثامنة والثلاثين حين رسمها، وكانت صحتها الهزيلة تتدهور، ولم يحط من قدرها بالحسية أو الشهوانية السطحية في صوره العارية المشرقة. وبدلاً من ذلك أبرز تقاطيع وجهها الرائعة، ورشاقة قوامها، والذوق في ملابسها. والرقة الناعمة في يديها، "وتسريحة" شعرها الخفيف الأسمر عالياً فوق الجبين. وربما زاد من قيمة هذه المفاتن بخياله ومهارته، ولكنه مع ذلك لم ينقل ضحكتها المرحة المستهترة، ولا ريحها الوديعة، بل لم ينقل ذكاءها الحاد الماكر ولا قوة شخصيتها الهادئة، ولا صلابة إرادتها التي لا تلين ولا ترحم أحياناً.
                        وكانت جميلة منذ ولادتها تقريباً. ولكنها لم تحسن اختيار والديها، فكان عليها أن تناضل طوال حياتها ضد ازدراء الأرستقراطية للطبقة الوسطى التي نبتت فيها. وكان والدها سماناً (بقالاً)، وهو فرانسوا بواسون الذي لم يستطع يوماً أن يتخلى من اسمه (بواسون بالفرنسية معناها سمك). واتهم بالاختلاس فحكم عليه بالإعدام شنقاً، ولكنه هرب إلى همبرج، وتحايل للحصول على العفو عن جريمته، وعاد إلى باريس
                        (1741). أما والدتها فكانت ابنة "متعهد لتموين العجزة". وشغلت بالارتماء في أحضان الرجال، بينما كان زوجها يستدر العطف في همبرج. واستمتعت بعلاقة غرامية طويلة بملتزم ثري، هو شارل فرانسوا لينورمانت دي تورنهيم، الذي تولى الإنفاق على تعليم البنت الجميلة التي وضعتها مدام بواسون في 1721.
                        وأتيح لهذه الابنة، جين أنطوانيت بواسون. أحسن ما يمكن أن يتاح من المعلمين، جليوت، الجهير العظيم، للغناء، وكربيون الأب لفن الإلقاء، حتى باتت في الوقت المناسب تنافس نجوم المسرح في الغناء والرقص والتمثيل. وكان صوتها في حد ذاته إغواء".(110)وتعلمت الرسم والحفر، وعزفت على البيان القيثاري إلى حد تحمست له مدام دي ميللي في استحسان عزفها. ولما كانت جين في التاسعة من عمرها تنبأت لها سيدة عجوز (كافأتها فيما بعد على نبوءتها) بأنها ستصبح يوماً ما "عشيقة الملك"(111)ولما بلغت الخامسة عشرة دعا جمالها وأعمالها البارعة أمها إلى القول بأنها "طبق شهي للملك"، ولو أنه من المؤسف أنها لن تكون ملكة.(112)ولكن "الطعام الشهي الملكي" كانت قد بدأت تسعل دماً.
                        وفي سن العشرين أغراها مسيو دي تورنيهم بأن تتزوج ابن أخيه شارل غليوم لينورمانت دي اتوال، ابن أمين صندوق دار سك النقود. وهام الزوج يحب زوجته، وقدمها إلى المنتديات مفاخراً مزهو بها. والتفت في منتدى مدام دي تنسان بمونتسكيو وفونتنيل وديكلو وماريفو، وأضافت فن الحديث إلى مفاتنها الأخرى. وسرعان ما استضافت هي نفسها، مع فونتنيل، مونتسكيو وفولتير في بيتها. وكانت سعيدة. وأنجبت طفلين وأقسمت "أنه لن يحملها أحد في العالم، إلا الملك، على أن تخون زوجها أو تكون غير مخلصة له"(113)أية بصيرة نافذة هذه!
                        وفكرت الوالدة في أن هذا الاستثناء من المستطاع تدبيره. ورأت أنه يمكن أن تقصد جين مستقلة مركبة فاخرة إلى غابات سينار حيث يذهب لويس للصيد. وكثيراً ما رأى الملك وجهها الذي لا يمكن نسيانه. وقدمت
                        الرشاوي إلى غلمان الملك ليطروا جمالها لديه. وفي 28 فبراير 1745 شهدت حفلة رقص تنكرية أقيمت في أوتيل دي فيل بمناسبة زواج الدوفين، وتحدثت إلى الملك، وطلب منها أن تخلع القناع لحظة، ففعلت، ثم انصرفت وهي ترقص، وفي إبريل رآها في مسرحية هزلية تمثلها إيطالية في فرساي. وبعد ذلك بعدة أيام أرسل إليها دعوة لتناول العشاء. ونصحتها أمها "بأن تسلي الملك وتدخل السرور على قلبه" وفعلت جين، واستسلمت للملك. وعرض عليها جناحاً في فرساي فقبلت. وحث مسيو تورنهيم الزوج على أن يأخذ المسألة بروح فلسفية: "لا تعرض نفسك للسخرية بالاسترسال في الغضب مثل أي برجوازي، أو بخلق مشكلة(114)وعين الملك مسيو دي أتوال ملتزماً عاماً، وكيف الرجل نفسه ليكون جامع ضرائب، وابتهجت الأم بارتفاع مكانة ابنتها، وقضت تحبها. وفي سبتمبر حصلت جين على ثروة عريضة، وأصبحت المركيزة دي بمبادور، وقدمت بهذه الصفة إلى الحاشية وإلى الملكة التي هدأت من روعها ولاطفتها في ارتباك طفيف. إن الملكة غفرت لها باعتبارها شراً لا بد منه، ودعتها للعشاء. أما الدوفين فإنه، على أية حال، أطلق عليها "مدام هور" (السيدة البغي) واستاءت الحاشية لاقتحام سيدة برجوازية مخدع الملك واستيلائها على أمواله، وما فاتها أن يلاحظوا انزلاقها من حين إلى حين إلى التفوه بألفاظ الطبقة الوسطى أو انتهاج أساليبهم. وتمتعت باريس بالمقطوعات الساخرة والهجاء اللاذع "لخادمة الملك الشابة". وعانت في صمت وجلد بغض الناس لها، حتى باتت قادرة على تثبيت انتصارها وفرض سلطانها.
                        وإذا رأت لويس وقد بلغ به السأم والضجر ذروته، وهو الذي يملك كل شيء، ولكن كل شيء كان قد فقد عنده كل نكهته وطلاوته، فإنه تفننت وأظهرت عبقريتها في تسليته والترفيه عنه. فألهته بحلبات الرقص والمسرحيات الهزلية والحفلات الموسيقية وروايات الأوبرا، وحفلات العشاء والنزهات والصيد والقنص، وفيما بين هذا وذاك أدخلت على قلبه البهجة والسرور بمرحها وحيويتها وحديثها البارع وذكائها. وأقامت في فرساي
                        "مسرح البيت الصغير"، وأقنعت الحاشية بالقيام بأدوار على المسرح، كما كان الحال في أيام لويس الرابع عشر، ومثلت هي نفسها في مسرحيات موليير الهزلية، وقامت بدورها على خير وجه، إلى حد أن الملك قال عنها "أشد النساء فتنة في فرنسا"(115). وتنافس النبلاء على تمثيل الأدوار وقام الدوفين الصارم نفسه بدور أمام "السيدة البغي". وتفضل بأن يكون دمثاً معها في دنيا النفاق. وأصابت الملك بعض نوبات دينية، فهدأت من روعه بالموسيقى الدينية التي عزفتها بشكل يأسر لبه، حتى نسي خوفه من الجحيم. وأصبح يعتمد عليها كل الاعتماد لولعه بالحياة وتعلقه بها، فأكل معها، ولعب ورقص وقاد عربته واصطاد معها، وقضى معها كل ليلة تقريباً. وما هي إلا بضع سنين حتى خارت قواها وتدهورت صحتها.
                        وشكا البلاط من أن مدام دي بمبادور صرفت الملك عن مهامه بوصفه حاكماً، وأنها كانت عبئاً ثقيلاً على خزانة الدولة، فقد ازدانت بأغلى الثياب والجواهر، وتألقت غرفة ملابسها بآنية الزينة المصنوعة من البلور والفضة والذهب. وازدانت حجرتها بالأثاث المطلي باللك أو الخشب الأطلساني أو المطعم بالصدف والعاج والمعادن، وأروع آنية الخزف المصنوعة في درسدن وسيفر والصين واليابان، وكانت تضاء بثريات فخمة من الفضة والزجاج، تنعكس أنوارها على مرايا ضخمة على الجدران، أما سقوفها فكانت مغطاة بالصور التي بوشية وفانلو لإلهات الحب التي تبهج الحواس وتثيرها. ولما أحست بأنها سجينة وسط هذا الترف والبذخ، سحبت مبالغ من المال من الملك أو من الخزانة لتشيد أو تؤثث قصوراً وبررت تجهيزاتها المسرفة وحدائقها الشاسعة بأنها لازمة لاستضافة صاحب الجلالة. وكان لها الضيعة والقصر في كريسي في دري، وشادت قصر "المنظر الجميل" الفخم على ضفاف السين بين سيفر ومودون. وأقامت صوامع أو أدياراً صغيرة في غابات فرساي وفونتنبلو وكومبيين واتخذت من "أوتيل دي بونتشارتران مقراً لإقامتها في باريس، ثم انتقلت إلى قصر كونت دي افري في شارع فوبورج سانت أونوريه، ويبدو أن السيدة

                        الفاتنة أنفقت ما يبلغ في جملته 36.327.268 جنيهاً(116)، كان جزء منه فناً بقي في حوزة فرنسا. وبلغت نفقاتها الخاصة 33 ألف جنيه سنوياً(117). واتهمتها فرنسا بأنها كانت تكلفها أكثر مما تكلفها الحرب.
                        وجمعت دي بمبادور من السلطة والنفوذ قدر ما جمعت من الثروة وأصبحت المجرى الرئيسي الذي يفيض بالتعيينات والرواتب وأوامر العفو وغيرها من النعم والعطايا من الملك.. وحصلت لذوي قرباها على المنح والهبات والألقاب والوظائف ذات العمل اليسير والدخل الكبير. ولم تهيئ لابنتها الصغيرة ألكسنرين التي كانت تسميها "فانفان" شيئاً يذكر، ولكنها كانت تحلم بتزويجها لأحد أبناء لويس الخامس عشر من مدام دي فنتميل، ولكن فانفان ماتت في سن التاسعة، وحطمت قلب أمها. أما أخوها آبل-الوسيم الدمث-فإنه بنفسه كسب عطف الملك الذي كان يدعوه "بالأخ الصغير"، وكثيراً ما كان يدعوه على العشاء. ونصبته بمبادور مركيز دي ماريني وعينته مديراً عاماً للمباني، فقام بوظيفته في جد وكفاية، إلى حد رضي معه وسر به الجميع تقريباً. وعرضت بمبادور عليه أن ترقي به إلى مرتبة الدوق فرفض.
                        وانتشر أثرها على الفن الفرنسي بل الأوربي، ويرجع هذا إلى حد ما إلى الملك، ولكن أكبر الفضل فيه يرجع إلى شخصها هي. وأخفقت محاولاتها في أن تكون هي بنفسها فنانة، ولكنها أحبت الفن من كل قلبها، وما لمست شيئاً إلا وصار جميلاً. وازدهرت الفنون الصغيرة بشكل يبهر الألباب بفضل تشجيعها. وأقنعت لويس الخامس عشر بأن فرنسا تستطيع صنع الخزف اللازم لها، بدلاً من استيراده من الصين ودرسدن، مما يكلفها 500 ألف جنيه سنوياً. وثابرت على ذلك حتى تعهدت الحكومة بتمويل مصانع الخزف في سيفر، واكتسب الأثاث وأدوات الأكل وساعات الحائط والمراوح والمركبات وأواني الزهر والزجاجات والصناديق والنقوش على الأحجار الكريمة والمرايا، واكتسب كل أولئك فتنة دقيقة سريعة الزوال حتى يتفق مع ذوقها الرفيع الذي يتطلب مهارة فائقة،
                        وأصبحت "ملكة الروكوكو"(118). (فن الزخرفة المعقدة). وكان قدر كبير من إسرافها في النفقة يرجع إلى الرعاية التي أسبغتها على الرسامين والمثالين والنقاشين على الخشب والمعادن ونجاري الأثاث الفاخر والمعماريين. وأغدقت على بوشية وأودري ولاتور ومائة غيرهم من الفنانين. وأوحت إلى فانلو وشاردان أن يصورا مشاهد الحياة العامة، فأنهت بذلك التكرار المبتذل لموضوعات من تاريخ العصور القديمة والوسطى وأساطيرها، واحتملت في تسامح باسم تذمر لاتور ووقاحته، حين كان يرسم لها صورة. وأطلق اسمها على المراوح وتسريحات الشعر والثياب والأطباق والأرائك والكراسي والأشرطة، وعلى "وردة بمبادور" المصنوعة من الخزف المفضل لديها، وفي هذه الحقبة، لا في عهد لويس الرابع عشر، على الأرجح، بلغ تأثير فرنسا على المدينة الأوربية ذروته.
                        وربما كانت بمبادور أكثر نساء زمانها ثقافة. وكان لها مكتبة تضم 3500 مجلد منها 738 في التاريخ، و315 في الفلسفة، ومجلدات كثيرة في الفن، وبعض مجلدات في السياسة أو القانون، إلى جانب عدة قصص في الحب. وواضح أنها إلى جانب تسلية الملك ومكافحة أعدائها والمساعدة على حكم فرنسا، كانت تجد فسحة من الوقت لقراءة الكتب القيمة، لأنها هي نفسها كتبت لغة فرنسية رائعة، في رسائل زاخرة بالمادة ساحرة البيان. وكم توسلت إلى حبيبها أن يباري جده في رعايته للأدب، ولكن ورعه وبخله قعدا به عن ذلك. وعندما حاولت أن تخجله وتحرجه بقولها: بأن فردريك الأكبر أجرى على دالمبرت راتباً قدره ألف ومائتا جنيه، أجاب بقوله "هنا أفذاذ أكثر مما في بروسيا. وقد أكون مضطراً إلى إقامة مأدبة عشاء كبيرة لأجمعهم كلهم". وبدأ يعدهم على أصابعه "موبرتيوس، فونتنيل، لاموت، فولتير، فريرون، بيرون، ديتوش، مونتسكيو، كاردينال دي بوليناك". وأضاف من كانوا حوله، "دالمبرت، كليرو، كريبيون الابن، بريفوسث".. وعندئذ تنهد الملك قائلاً "حسناء معنى هذا أن كل هؤلاء كان يمكن أن يتناولوا الغداء أو العشاء معي طوال خمسة وعشرين عاماً(119)".

                        وعلى ذلك احتلت بمبادور مكان الملك في رعاية الأدب. فأتت بفولتير إلى البلاط، وأغدقت عليه، وحاولت أن تحميه من سوء تصرفاته، وساعدت منتسكيو، ومارمونتل، وديكلوس، وبيفون وروسو، ويسرت انضمام فولتير وديكلوس إلى الأكاديمية الفرنسية. ولما سمعت بما يعاني كريبيون الأب من الفقر أجرت عليه راتباً، وخصصت له جناحاً في اللوفر، وعاونت على إحياء مسرحيته "كاتيلينا"، وأصدرت تعليماتها إلى إدارة المطبعة الملكية بإصدار طبعة أنيقة من روايات الكاتب العجوز. واختارت فرانسوا كيزني طبيباً خاصاً لها وهو من أنصار المذهب الفزيوقراطي وخصصت له جناحاً تحت جناحها مباشرة في فرساي، وكانت تستقبل هناك ديدرو ودالمبرت وديكلوس وهلفيشيوس وترجو، وغيرهم، مما كان يمكن أن تكون أفكارهم مصدر إزعاج الملك، ويروي مارمونتل: "ولما لم تكن تستطيع أن تدعو هذه المجموعة من الفلاسفة إلى "صالونها" فإنها كانت تنزل لهم لتجتمع بهم على المائدة وتتجاذب معهم أطراف الحديث(120)".
                        وكان طبيعياً أن ينظر رجال الدين وجماعة الأتقياء في الحاشية وعلى رأسهم الدوفين، بعين الرعب والفزع إلى تدليل هؤلاء الكفار. وفوق ذلك، كان معروفاً أن بمبادور كانت تؤيد فكرة فرض الضرائب على أملاك الكنيسة، بل حتى تجريدها من الصفة الدينية أو انتزاعها من يد الكنيسة، إذا كان هذا هو المهرب الوحيد من إفلاس الدولة(121). وأشار اليسوعيون على كاهن اعتراف الملك أن يمتنع عن مناولته الأسرار ما دام يحتفظ بعلاقته بهذه العشيقة الخطرة(122). ودافع أبناء الملك عن رجال الدين، واستخدمت ابنته الكبرى هنريت التي يؤثرها بحبه، نفوذها في التفريق بينه وبين بمبادور. وكان عيد الفصح كم كل عام مثار أزمة بين العاشقين. ففي 1751 أظهر لويس تلهفاً شديداً على تناول القربان المقدس. وفي محاولة منها لتهدئته واسترضاء كاهن الاعتراف، الأب بيروسو، واظبت على إقامة الشعائر الدينية وحضور القداس يومياً والصلوات بشكل يلفت الأنظار، كما أكدت للكاهن أن علاقتها الآن بالملك علاقة
                        أفلاطونية بريئة تماماً. ولما لم يقتنع الكاهن بهذا، فإنه طلب إليها، أن تغادر البلاط، شرطاً مسبقاً للسماح للملك بتناول الأسرار المقدسة. ومات بيروسو، ولكن خلفه ديمارتس وكان متشدداً مثله. وثبتت بمبادور في مكانها، ولكنها داومت على ورعها الظاهري. ولم تغتفر قط لليسوعيين أنهم لم يأخذوا "تحولها" مأخذ الجد، وربما كان لاستيائها منهم دور صغير في طردهم من فرنسا في 1762.
                        وربما كان قولها الحق في أنه لم يعد لها اتصال جنسي بالملك لويس. وقد أكد دارجنسون أحد أعدائها هذه الحقيقة(123). وكانت بالفعل قد أفضت إلى بعض خلصائها بأنها تجد مشقة متزايدة في الاستجابة للنيران المتقدة بين جنبيه(124)، واعترفت بأن عدم تحمسها لمضاجعته ذات مرة أوهن ما اشتد من قوته، وأصابه عجز جنسي وتملكه الغضب(125). وتناولت "عقاقير الحب"(126)دون نتيجة تذكر، اللهم إلا الإضرار بصحتها. وأدرك أعداؤها في البلاط هذا الوضع فجددوا مؤامرتهم لاقتلاعها من مركزها. وفي 1753 دبر دارجنسون خطة تنفذ بها مدام دي شوازيل رومانت إلى أحضان الملك، ولكنها طالبت بثمن باهظ ظن أنه لا يتكافأ مع تضحيتها وسرعان ما تمكنت بمبادور من طردها. وهنا آن الأوان أن تأوي المحظية الأولى المنهوكة إلى "متنزه الظباء" البغيض.
                        وفي "متنزه الظباء" في طرف ناء من فرساي جهز مسكن لإقامة شابة أو شابتين مع خدمهما ومرافقيهما حتى يحين الوقت ليستقبلهما لويس في جناحه الخاص، أو يقصد إليهما في مسكنهما متنكراً في زي كونت بولندي عادة. وتناثرت الشائعات بأن هؤلاء البنات كن كثيرات، وأضافت الأساطير أن سن بعضهن لم تزد على تسع سنوات أو عشر. والظاهر أنه لم يكن يوجد منهن في وقت واحد أكثر من اثنتين(127)، وكان يؤتى بمجموعات منهن على التعاقب، ليتدربن على أن يقدمن للملك "حق السيادة" فإذا حملت إحداهن أعطيت مبلغاً من المال يتراوح بين عشرة آلاف ومائة ألف جنيه، يساعدها على العثور على زوج لها في الأقاليم، وكان الأطفال
                        الذين يولدون عن هذا الطريق يمنحون راتباً سنوياً قدره أحد عشر ألف جنيه. وعلمت مدام دي بمبادور بأمر هذا "الحريم" الذي لا يصدق، فلزمت الصمت. ورغبة منها في ألا تحتل مكانها عشيقة من النبيلات ستعمل من غير شك على إبعادها عن البلاط، بل ربما عن باريس، آثرت أن تترك للشابات الوضيعات أن يشبعن أذواق الملك الفاسدة، وانهارت حالتها المعنوية إلى الحضيض وقالت لمدام دي هوست "كل ما أضن به هو قلبه، وكل هؤلاء الفتيات غير المتعلمات لن يسلبنني إياه(128)".
                        ولم تنزعج الحاشية انزعاجاً ملموساً لهذه الترتيبات الجديدة لأن كثيراً من رجالها احتفظوا هم أنفسهم بأكواخ في "منتدى الظباء" هذا لخليلاتهم(129). ولكن أعداء بمبادور افترضوا أن سلطانهم قد آذن بزوال. ولكن خاب فألهم، فإن الملك ظل صديقها المخلص لفترة طويلة بعد أن انقطعت عن أن تكون "خليلته". وكان في 1752 قد خلع عليها رسمياً لقب دوقة. وفي 1756، وعلى الرغم من احتجاجات الملكة منحها المنصب الرفيع "مديرة قصر الملكة" (كبير وصيفات الملكة). فلازمت الملكة، وحضرت معها العشاء ورافقتها إلى القداس. ولما كانت وظيفتها الجديدة تقتضي الإقامة في البلاط فإن اليسوعيين تنازلوا عن طلبهم إبعادها وألغي "الحرم من الكنيسة" الذي ظل مفروضاً عليها لفترة طويلة"، وأجيز لها تناول الأسرار المقدسة. أما بنات الملك اللاتي ناصبها العداء منذ زمن طويل فكن يقصدن إلى زيارتها في "شوازي".
                        وقضى لويس معها مدة ساعات في كل يوم تقريباً، حيث ظل يجد لذة في طلاوة حديثها ورقتها الفاتنة التي لا تنضب معينها. واستمر يحترم، وغالباً ما يتبع، مشورتها في التعيينات، وفي المسائل الداخلية، بل حتى في السياسة الخارجية. وأصدرت الأوامر إلى الوزراء، واستقبلت السفراء واختارت القواد، وتحدثت أحياناً باسم الملك وباسمها، وكأنها تشترك في الحكم، فكانت تقول "نحن" سننظر (في الأمر). وكان طلاب الوظائف يزحمون حجرة انتظارها، فكانت تحسن استقبالهم وتلاطفهم. وسلم أعداؤها بسعة إطلاعها المدهشة في الشئون السياسية، ولباقتها في الأحاديث الدبلوماسية،
                        ونظراتها التي كثيراً ما كانت ثاقبة(130). وكانت قد أشارت منذ زمن بعيد إلى أن عجز قواد فرنسا هو أساس اضمحلالها العسكري. وفي 1750، اقترحت على لويس أن ينشئ مدرسة حربية يتلقى فيها الفنون والعلوم العسكرية أبناء الموظفين والضباط الذين قتلوا أو استنزفت قواهم في خدمة الدولة. ووافق الملك ولكنه أبطأ في توفير الاعتمادات اللازمة للمشروع. فنقلت بمبادور إلى هذا المشروع دخلها الخاص لمدة عام، ووفرت له أموالاً إضافية عن طريق "يانصيب"، وضريبة على لعب الورق، وأخيراً فتحت المدرسة 1758 ملحقة "بقصر الانفاليد".
                        والآن نصح هذا الوزير الساحر بلا وزارة بمراجعة جريئة لسياسة فرنسا الخارجية وإعادة تقييمها. وربما جاءت المبادرة بهذا "النقض المشئوم للأحلاف" من كونت فون كونتز سفير النمسا في باريس. وقد عززها التنازل الكاره من جانب الإمبراطورة التقية ماريا تريزا التي خاطبت بمبادور "بصديقتي العزيزة"، و "ابنة عمي"، كما عززها فردريك الأكبر بإشارته المهنية إلى المركيزة دي بمبادور "بحكم المرأة" في البلاط الفرنسي. وكانت مدام دي شاتور ودارجنسون قد وجها السياسة الخارجية نحو الصداقة مع بروسيا، وأوضح كونتز وبمبادور أن بروسيا الحديثة-التي قويت بالانتصار في حرب الوراثة النمساوية، والتي لديها جيش قوامه ألف جندي أحسن تدريبهم تحت إمرة قائد قدير طموح لا يبالي بأية مبادئ خلقية، وملك غدر بفرنسا مرتين بتوقيعه صلحاً منفرداً-إن بروسيا هذه لا بد أنها سرعان ما تشكل خطراً أشد من خطر النمسا التي كانت قد فقدت آنذاك سيليزيا، ولم تعد تتوقع أي عون أو تأييد من أسبانيا في ظل حكم آل بوريون، وقد انقضى تطويق النمسا لفرنسا. وقويت هذه الحجة حين عقدت بروسيا في 16 يناير 1754 تحالفاً مع إنجلترا-عدوة فرنسا التقليدية ورد مجلس الدولة الفرنسي على هذا بإبرام تحالف مع النمسا (أول مايو). وهنا نجد أن المركيزة دي بمبادور التي عادت الآن تبصق دماً، وكانت في الخامسة والثلاثين، ولم يبق لها من العمر إلا ثمان سنوات، نجد أنها قد لعبت دورها في التمهيد لإشعال حرب السنين السبع.
                        bestfriends
                        Infinity and eternity

                        Comment


                        • #13
                          رد: قصة الحضارة (الأخلاق والتعليم -> التعليم)

                          الأخلاق والعادات




                          1- التعليم


                          كان بين الصراعات الكثيرة الأساسية التي شهدتها فرنسا في القرن الثامن عشر، محاولة الكنيسة الاحتفاظ بسيطرتها على التعليم، إلى جانب محاولة الفلاسفة وغيرهم إنهاء هذه السيطرة والقضاء عليها. وبلغ الصراع ذروته بطرد اليسوعيين من فرنسا في 1762، وتأميم المدارس الفرنسية، وغلبة التعليم العلماني في الثورة الفرنسية. وكان خلاف قد بدأ يبرز في النصف الأول من القرن الثامن عشر فقط.
                          ولم تكن الغالبية العظمى من الفلاحين تعرف القراءة. وفي كثير من المجتمعات الريفية، كانت الهيئات البلدية، حتى إلى عام 1789، "لا تكاد تعرف الكتابة"(1). وكان في معظم الأبرشيات على أية حال "مدرسة صغيرة" يقوم فيها الكاهن بنفسه، أو من يعينه هو، بتعليم القراءة والكتابة والدين المسيحي على صورة سؤال وجواب، للأولاد الذكور أساساً، في مقابل رسم زهيد يدفعه الآباء عن كل تلميذ(2)، أما الأولاد الذين يعجز آباؤهم عن الدفع فكانوا يتعلمون بالمجان إذا طلبوا ذلك. وكان اللحاق بهذه المدرسة مطلوباً قانوناً بمقتضى مراسيم 1694 و1724، ولكن هذه المراسيم لم تنفذ(3)، وامتنع كثير من الآباء الفلاحين عن إرسال أبنائهم إلى المدرسة، لحاجتهم إليهم في المزرعة من ناحية، ومن ناحية أخرى لأنهم رأوا أن التعليم أمر مزعج لا ضرورة له لمن قدر عليهم أن يشتغلوا في الأرض. فالتعليم لم يكن يكفل أي ارتفاع في المركز الاجتماعي لأن الحواجز الطبقية كانت عقبة لا يمكن التغلب عليها تقريباً في النصف الأول من القرن. وفي القرى والمدن الصغيرة نادراً ما كان الذين تعلموا القراءة يقرئون شيئاً غير ما تعلق بعملهم اليومي. وكان كل إنسان يعرف قواعد الدين، وفي المدن الكبيرة وحدها كان هناك شيء من المعرفة بالأدب والعلوم والتاريخ.
                          وفي الطبقات المتوسطة والعليا كان معظم التعليم على أيدي المربيات والمؤدبين، أو المعلمين الخاصين، وأخيراً على أيدي معلمي الرقص، وهؤلاء الأخيرين كان مفروضاً فيهم أن يعلموا الجنسين كليهما الفنون الشاقة، وهي فنون الجلوس والوقوف والمشي والحديث والإيماء، في كياسة ورقة. وتلقت بعض الفتيات دروساً خاصة في اللاتينية، وفوق هذا كله تقريباً، تعلم الفقراء الغناء والعزف على البيان القيثاري. وقام التعليم العالي للبنات في الأديار، حيث ارتقين في الدين والتطريز والموسيقى والرقص وقواعد السلوك القويم الذي يجدر بالشابة أو الزوجة أن تتحلى به.
                          وكان كل التعليم الثانوي للذكور تقريباً في يد اليسوعيين، ولو أن الرهبان الأوراتوريين والبندكتيين أسهموا فيه. وكان المتشككون من أمثال فولتير وهلفيشيوس من بين الخريجين العديدين المرموقين في كلية اليسوعيين "لويس الأكبر" حيث كان الأب شارل بوريه يقوم بتدريس "البلاغة" (أي اللغة والأدب وعلم الكلام) وترك في تلاميذه ذكريات طيبة. وما كاد المنهج في المدارس اليسوعية ليتغير طوال قرنين من الزمان. وعلى الرغم من تركيز هذا المنهج على الدين والأخلاق، فإن مادته كانت كلاسيكية إلى حد بعيد، فكان التلاميذ يدرسون مؤلفات روما القديمة في نصوصها الأصلية، فأكب التلاميذ الصغار على دراسة الفكر الوثني لمدة خمس أو ست سنوات، فلا عجب أن ساورتهم بعض الريبة في عقيدتهم المسيحية. وأكثر من هذا فإن اليسوعيين "لم يدخروا وسعاً في تنمية ذكاء تلاميذهم وغيرتهم"(4). فكانوا يشجعون على المناقشة والتحدث علانية وعلى تمثيل الروايات، وكانوا يتعلمون قواعد لترتيب أفكارهم والتعبير عنها، ومن ثم كان جزء من وضوح الأدب الفرنسي وصفاته من غرس المدارس اليسوعية، وأخيراً تلقى الطالب مناهج قاسية في المنطق والميتافيزيقا وعلم الأخلاق عن أرسطو من ناحية وفلاسفة العصور الوسطى السكولاسيين (المدرسيين) من ناحية أخرى. وهنا مرة أخرى، نجد أن النتائج كانت تقليدية، إلا أن عادة التفكير والاستنتاج والتعليل بقيت-وأصبحت بالفعل-علامة مميزة لهذا العصر
                          "عصر العقل" بوجه خاص. وكان الجلد بالسياط أيضاً جزءاً من المنهج، حتى لطلاب الفلسفة، ودون تميز في المرتبة أو المكانة الاجتماعية، فقد جلد من أصبح فيما بعد مركيز دارجنسون ودوق بوفلرز، أمام أقرانهما في الفصل، لأنهما قذفا أساتذتهما الأجلاء بحبات البازلاء(5).
                          وعلت الشكوى بالفعل من أن المنهج لم يول عناية تذكر بما وصلت إليه المعرفة من تقدم وازدهار، وأن التعليم كان نظرياً إلى حد كبير، ولا يعد للحياة العملية، وإن الإلحاح الشديد على التعليم الديني قد أفسد الأذهان أو أغلقها. وفي "رسالة عن التعليم" كانت يوماً مشهورة (1726-1728) دافع شارل رولان رئيس جامعة باريس عن المنهج الكلاسيكي (القديم التقليدي) وعن التركيز على الدين. وكان من رأيه أن الهدف الأسمى من التعليم هو خلق أناس أفضل. وأفاضل المعلمين "لا يعنون كثيراً بالعلوم، حيث لا تساعد هذه العلوم على التمسك بأهداب الفضيلة. ولم يكونوا يأبهون كثيراً بالتزود بألوان المعرفة، إذا لم تقترن بالاستقامة وحسن الخلق. وكانوا يؤثرون الرجل الأمين على الرجل العالم الواسع الإطلاع(6). وقال رولان إنه من الصعب أن نشكل الخلق القويم دون تأسيسه على عقيد دينية. ومن ثم "ينبغي أن يكون الهدف من جدودنا، والغرض من تعليمنا هو الدين"(7)وسرعان ما يثير الفلاسفة الجدل حول هذا الموضوع، ويستمر الجدل حول ضرورة الدين للأخلاق طوال القرن الثامن عشر، والقرن الذي يليه. وهو جدل حي في أيامنا هذه.
                          bestfriends
                          Infinity and eternity

                          Comment


                          • #14
                            رد: قصة الحضارة (ول ديورانت)


                            2- الأخلاق


                            ويبدو أن حجة رولان كانت تؤيدها الفروق الطبقية في المبادئ الأخلاقية. وإن الفلاحين الذين تمسكوا بدينهم عاشوا حياة أخلاقية نسبياً، وربما كان هذا، على أية حال راجعاً إلى حقيقة أن الأسرة كانت وحدة الإنتاج الزراعي، وأن الأب كان أيضاً المستخدم أي صاحب العمل، وكان نظام الأسرة يرتكز في جذوره على نظام اقتصادي يفرضه تعاقب الفصول ومتطلبات الأرض. واستمسكت الطبقات الوسطى بقدر كبير من العقيدة
                            الدينية، مما عزز سلطة الأبوين أساساً للنظام الاجتماعي. أما مفهوم الأمة باعتبارها رابطة من الأسرات عبر الأجيال، فقد هيأ لأخلاقيات الطبقة الوسطى قوة التماسك والتقاليد. وكانت الزوجة البرجوازية نموذجاً للجد والتقوى والأمومة. وكانت تتحمل آلام الوضع في صبر وجلد، وسرعان ما كانت تعود إلى عملها. وكانت قانعة ببيتها وعلاقاتها مع جيرانها، وقليلاً ما انزلقت إلى زخرف الدنيا الخداع التي يسخر الناس فيها من الإخلاص على أنه شيء عتيق بال. ونادراً ما نسمع عن حوادث الزنى عند زوجات الطبقة الوسطى. وضرب كل من الأب والأم معاً مثلاً رائعاً في العادات القويمة والتمسك بالدين والحب المتبادل. وتلك هي الحياة التي خلد شاردان ذكرها معتزاً بها، في لوحته مثل "البركة".
                            ومارست كل الطبقات أعمال البر والإحسان وكرم الضيافة. وكانت الكنيسة تجمع الصدقات وتوزعها. ودعا الفلاسفة المعادون للدين إلى عمل الخير، وبنوا دعوتهم على أن هذا الحب للإنسانية لا حب لله، ومن ثم كانت "الإنسانية" الحديثة نتاجاً للدين والفلسفة معاً. وأمدت الأديار الجياع بالطعام، وعنيت الراهبات بالمرضى، وقامت المستشفيات وملاجئ الفقراء والأيتام والعجزة على الموال التي تدفعها الدولة للكنيسة والنقابات. وكان بعض الأساقفة مبذرين منصرفين إلى متاع الدنيا. ولكن نفراً آخر منهم-مثل أساقفة أوكسير وميربوا وبولون ومرسيليا-وهبوا ثرواتهم وحياتهم لأعمال البر والإحسان. ولم يكن موظفو الدولة مجرد طالبي مناصب أو نفعيين طفيليين، فإن موظفي بلدية باريس كانوا يوزعون الطعام وحطب الوقود والنقود على الفقراء" وفي ريمس خصص أحد أعضاء البلدية 500 ألف جنيه للصدقات. وكان بالملك لويس الخامس عشر نزعات إلى الشفقة والعطف والحنان المشوب بالجبن. وعندما خصص مبلغ 600 ألف جنيه للألعاب النارية احتفالاً بمولود دوق برجندي الجديد (1751)، ألغى الملك العرض وأمر بتوزيع المبلغ مهوراً لستمائة من أفقر بنات باريس، وحذت مدن أخرى حذوه. وعاشت الملكة عيشة مقتصدة غير مسرفة وأنفقت معظم
                            دخلها في الأعمال الخيرية. وكذلك أنفق دوق أورليان ابن الوصي المشاغب الخليع ثروته في أعمال البر والإحسان. ويبدو الجانب غير المشرق في هذا الموضوع في الفساد والإهمال اللذين شوها إدارة المؤسسات الخيرية. فهناك عدة أمثلة لمديري مستشفيات استولوا لأنفسهم على الأموال التي كانت تصلهم من اجل العناية بالمرضى والفقراء.
                            وعكست الأخلاقيات الاجتماعية طبيعة الإنسان-أناني وكريم، وحشي ولطيف، يخلط بين قواعد اللياقة وسفك الدماء في المعركة. ولعب رجال الطبقات العليا والدنيا ونساؤها الميسر في تهور بالغ، دون إحساس بالمسئولية وبددوا ثروات أسراتهم، وكان الغش في اللعب سائداً إلى حد كبير(8). وفي فرنسا، كما كان الحال في إنجلترا، أفادت الحكومة من حب الناس للمقامرة بإنشاء "يانصيب" وطني. أما أسوأ مظاهر الحياة الفرنسية وأكثرها مجافاة للأخلاق فهو أرستقراطية الحاشية البالغ الخالي من الرحمة، تلك الأرستقراطية التي كانت تعيش على الدخول التي كانت تبتزها من الفلاحين الفقراء. فإن ملاءات سرير الدوقة دي لافري كانت مشغولة بالمخرمات الغالية الثمن، وتكلفت 40 ألف كراون، وكانت لآلئ ومجوهرات مدام اجمونت تساوي 400 ألف كراون(9)، وكانت الخيانة والخداع أمرين عاديين مألوفين من أعمال الموظفين، واستمر بيع الوظائف والمناصب، وكان مشتروها يستغلونها في الإثراء غير المشروع تعويضاً لهم عما دفعوا فيها ولم يكن قدر كبير مما يجبى من الضرائب يصل إلى خزانة الدولة. وفي غمرة هذا الفساد نمت روح الوطنية، ولم يكف الرجل الفرنسي عن حب فرنسا، ولك يطق الرجل الباريسي أن يعيش طويلاً بعيداً عن باريس. وامتاز كل فرنسي تقريباً بالبسالة. وفي حصار ماهون، ورغبة من المارشال دي ريشيليو في منع جنوده من تعاطي المسكرات، أصدر هذا القائد قراراً يقول فيه "أن أي فرد منكم يوجد ثملاً في المستقبل لن يكون له شرف الاشتراك في الهجوم" فتوقف شرب الخمر تقريباً(10)، واستمرت المبارزة على الرغم من كثرة قرارات تحريمها. وقال لورد تشسترفيلد "إن المرء ليلحقه الخزي والعار إذا لم يثر للإهانة، وإنه ليلقى حتفه إذا استاء لها(11)".

                            وكان عقاب اللواط الإعدام حرقاً. ولكن هذا القانون كان ينفذ في الفقراء وحدهم، كما حدث مع أحد رعاة البغال 1724. وفي 1725 ألقي القبض على الراهب ديفونتين، الذي كان قد اشتغل بالتدريس في إحدى الكليات اليسوعية لمدة خمسة عشر عاماً، واتهم بمثل هذه الفعلة، فأهاب بفولتير لمساعدته، فنهض من فراش مرضه قاصداً إلى فونتبنلو، واستحث فليري ومدام دي بري لاستصدار عفو عنه(12)، وطيلة العشرين عاماً اللاحقة كان ديفونتين من ألد أعداء فولتير. وكان بعض خدم الملك منحرفين جنسياً. ويبدو أن أحدهم، وهو تريمو ويل، اتخذ من الملك ذي الستة عشر ربيعاً غلاماً له(13).
                            وانتشر البغاء بين الفقراء والأغنياء. وفي المدن الصغيرة كان أصحاب الأعمال ينقدون مستخدماتهم الإناث مبالغ لا تفي بنفقاتهن الضرورية، وأجازوا لهن أن يكملن أجورهن اليومية بالاستجداء وممارسة الدعارة ليلاً(14). وقدر كاتب معاصر عدد البغايا في باريس بأربعين ألفاً. وهناك تقدير آخر بأنهن ستون ألفاً(15)وكان الرأي العام-فيما عدا الطبقة الوسطى متسامحاً مترفقاً بأمثال هؤلاء النسوة، حيث أدرك أن كثيراً من النبلاء ورجال الدين ووجوه المجتمع ساعدوا على خلق هذا الطلب الذي أدى إلى هذا العرض، وتذرع الرأي العام بشيء من اللياقة، فأدان الفقيرات اللاتي يبعن أعراضهن أقل مما أدان الذين يشترون المتعة، أي أن مسئولية هؤلاء عن هذا العمل الشائن أكبر. وكانت نظرة رجال الشرطة إلى هذا الأمر تختلف عن ذلك اللهم إلا إذا قدمت شكوى خاصة أو عامة ضد هؤلاء "البنات" وهنا يتم الاعتقال بالجملة، تبرئة لساحة الحكومة، وعندئذ يساق النساء للمثول أمام أحد القضاة، وقد يحكم القاضي بإيداعهن السجن أو المستشفى، حيث تحلق رءوسهن بالموس ويعاقبن ويوضعن تحت المراقبة ثم يطلق سراحهن، وتنمو شعورهن من جديد. وإذا خلقن متاعب جمة لأحد ذوي النفوذ والسلطان أو أسأن إليه، فيمكن إرسالهن إلى لويزيانا. وعرضت محظيات الحاشية أو المومسات اللاتي يتردد عليهن
                            الأغنياء، مركباتهن وحليهن ومجوهراتهن في طريق "كور-لا-رين" في باريس، أو في متنزه "لونجشامب"(16). وإذا حصلن على عضوية الكوميدي فرانسيز أو الأوبرا، حتى لتمثيل الأدوار القصيرة، اكتسبن الحصانة ضد الاعتقال بتهمة بيع مفاتنهن أو أعراضهن. وارتفع بعضهن ليكن نماذج للفنانين (لرسم الصور العارية)، أو يتخذهن النبلاء ورجال المال أخداناً لهم خاصة. واقتنص بعضهن أزواجاً، وحصلن على ألقاب وثروات، وأصبحت واحدة منهن بارونة سانت شاموند.
                            وكانت الزيجات القائمة على الحب، دون موافقة الأبوين، تزداد في عددها وفي الإنتاج الأدبي. وكان من الممكن الاعتراف بشرعيتها إذا عقدت أمام كاتب العدل أو الموثق. ولكن في معظم الأحوال، حتى بين الفلاحين ظل الآباء هم الذين يرتبون أمر الزواج باعتباره اتحاداً بين الممتلكات والأسرات، لا مجرد اتحاد الأفراد. فالأسرة، لا الفرد، هي وحدة المجتمع، ومن ثم كانوا يرون أن بقاء الأسرة وممتلكاتها أهم من الملذات العابرة أو العواطف السريعة الوهن عند الشباب المتهور. وفوق هذا قال فلاح لابنته "الحظ أقل عمى من الحب(17)".
                            وكانت السن القانونية للزواج هي الرابعة عشرة للذكور والثالثة عشر للإناث. ولكن كان يمكن قانوناً أن تتم الخطبة في سن السابعة، وهي التي حددها فلاسفة العصور الوسطى مبدأ "سن العقل" وكانت الشهوة الجامحة عند الشبان تدفع بهم إلى مطاردة الآنسات مطاردة عنيفة، إلى حد أن الآباء زوجن بناتهن حالما كان ممكناً ميسوراً تفادياً لإنفضاض البكارة قبل الأوان، وهكذا كانت المركيزة دي سوفبيف أرملة في الثالثة عشرة من عمرها. ولزمت بنات الطبقتين الوسطى والعليا الدير حتى يتم اختيار الأزواج لهن، وعندئذ يعجل بهن من حياة الدير إلى حياة الزوجية، وكان لزاماً تشديد الحراسة عليهن في الطريق. وبهذا النظام القاسي المنافي للأخلاق السيئ، كان كل النساء تقريباً عذارى عند الزواج.
                            وإذ احتقرت الأرستقراطية الفرنسية التجارة والصناعة، ونادراً ما
                            غطت الدخول الإقطاعية نفقات الإقامة في البلاط وما تقتضيه من مظاهر، فإنها وطنت النفس على تزويج أبنائها للذين توافرت لهم الأرض ولم يتوافر لديهم المال، من بنات الطبقة البرجوازية العليا اللاتي لا يملكون أرضاً، ولكن يملكن كالاً. ولما اعترض ابن دوقة شولن على زواجه من ابنة التاجر بونييه ذات الصداق الكبير، أوضحت له أمه "أن زواج المنفعة ممن هي دونك مرتبة، هو مجرد حصولي على الروث لتسميد الأرض"(18). وفي مثل هذه الزيجات عادة، كان الزوج النبيل أو ذو اللقب، وهو يستغل أموال زوجته، يذكرها من حين لآخر بأصلها الوضيع، وسرعان ما يتخذ خليلة، وفي هذا خير شاهد على احتقاره لزوجته. ولم يغب هذا أيضاً عن ذاكرة الطبقة الوسطى حين ساعدت الثورة.
                            ولم يوصم الزنى بأية وصمة عار اجتماعي، في البيئة الأرستقراطية، بل كان أمراً مقبولاً باعتباره بديلاً ساراً عن الطلاق الذي حرمته الديانة الوطنية. وقد يتخذ الزوج الذي يخدم في الجيش أو في الأقاليم له خليلة، دون أن يبدي لزوجته سبباً مقبولاً للشكوى. وقد يفترقان الواحد منهما عن الآخر، بالخدمة في الحاشية أو في الضيعة، وهنا أيضاً قد يتخذ خليلة ومذ كان عقد الزواج يتم دون الزعم بأن العاطفة يمكن أن تتجاوز عن الثراء فإن كثيراً من الزوجين من النبلاء عاشا فترة طويلة من حياتهما منفصلين، وأباح كل منهما للآخر زلاته، شريطة أن تكون هذه الزلات مستورة بلباقة، كما تكون في حالة المرأة مقصورة على رجل واحد في نفس الوقت وأجرى مونتسكيو على لسان سائحه الفارسي قوله: "إن الرجل الذي يريد أن يستحوذ على زوجته له هو وحده يعتبر معكراً لصفو السعادة العامة، غبياً يريد أن يستأثر بالاستمتاع بضوء الشمس، ويحجبها عن سائر الناس(19)". وسئل يوماً دوق دي لوزون الذي لم يكن رأى زوجته طيلة عشر سنين، ماذا يقول لو أن زوجته أرسلت إليه تنبئه بأنها حامل، فأجاب، مثل أي سيد ماجد في القرن الثامن عشر: "أكتب إليها لأقول إني مبتهج فرح لأن الله بارك زواجنا، اعتن بصحتك، سأحضر لأقدم لك إحتراماتي هذا المساء(20)" فالغيرة كانت أمراً مرذولاً.

                            وكان بطل الزنى وفتى العصر ونموذج الأناقة في ذاك الزمان هو لويس فرانسوا أرمان دي فينيرو دي بلسيس، دوق ريشيليو حفيد أخي الكاردينال الصارم المتقشف. وقد انزلقت إلى مخدعه عدة سيدات نبيلات من ذوات الألقاب، الواحدة تلو الأخرى، تجرهن إليه مكانته وثروته وشهرته. ولمما وبخ ابنه وهو في العاشرة من عمره على بطء تقدمه في دراسته اللاتينية، أجاب في سرعة مفحمة: "أن أبي لا يعرف اللاتينية، ولكنه مع ذلك يحظى بأجمل نساء فرنسا(21)". وهذا لم يمنع اختياره للأكاديمية الفرنسية قبل فولتير، صديقه ودائنه، بثلاث وعشرين سنة، وكان فولتير يكبره بعامين. ومهما يكن من أمر فإن الرأي العام استهجن سلوك هذا الدوق لأنه كان يجلب إلى الملك النساء لهذا الغرض الدنيء. ومنعته جيوفران من التردد على ندوتها لأنه يجمع بين عديد من أمهات الكبائر(22)". وعمر حتى بلغ الثامنة بعد التسعين، ومات قبل قيام الثورة بعام واحد.
                            وإذا كانت العلاقة بين الزوجين على هذا النحو، فإننا نستطيع أن نتصور مصير أبنائهما. وكان النبلاء يعتبرون صراحة أن أبنائهم عوائق في طريقهم، ويدفعون بهم عند ولادتهم إلى المرضعات، ويتولى تنشئتهم مربيات ومعلمون خاصون، حيث يرون والديهم بين الحين والحين. وروى تاليران أنه لم ينم قط تحت السقف الذي نام تحته أبوه وأمه. وكان من رأي الأبوين أنه من الحكمة أن يباعدوا بينهم وبين أبنائهم، فكانت العلاقة الحميمة أمراً شاذاً، وكانت الألفة أمراً غير معروف. فخاطب الابن أباه بقوله "سيدي" وقبلت البنت يد أمها. وإذ كبر الأبناء أرسلوا إلى الجيش أو الكنيسة أو الدير. وكانت كل الممتلكات تؤول إلى الابن الأكبر، كما كان الحال في إنجلترا.
                            واستمر أسلوب الحياة هذا سائداً في نبلاء الحاشية، حتى ارتقاء لويس السادس عشر عرش فرنسا في 1774. وكشف هذا الأسلوب، من جهة أخرى، عن فقدان الأيمان بالدين عند الطبقات العليا. وتخلى الناس تماماً عن مفهوم الزواج في المسيحية، مثله في ذلك مثل مفهوم الفروسية في
                            العصور الوسطى. وأصبح الجري وراء اللذة والمتعة "وثنياً" بشكل أشد سفوراً منه في أي وقت منذ عصر روما الإمبراطورية المضمحلة. ونشرت كتب كثيرة في "الأخلاقيات في فرنسا في القرن الثامن عشر"، ولكن كانت هناك أيضاً كتب كثيرة تعالج البذاءة والفحش بطريقة مدروسة متعمدة، وكانت أوسع انتشاراً ورواجاً ولو كانت سرية. وكتب فردريك الأكبر يقول :إن الفرنسيين ولا سيما سكان باريس، أصبحوا الآن مترفين منغمسين في الملذات، أوهنتهم المتعة والدعة"(23)وحوالي 1749 رأى مركيز دارجنسون في انحطاط الوعي الخلقي نذيراً آخر بكارثة وطنية: "القلب قوة نسلب أنفسنا إياها كل يوم لأننا لا نروضه ولا ندربه أبداً. على حين أننا نشحذ الذهن ونصقله باستمرار، فنصبح عقلانيين-لا عاطفيين-أكثر فأكثر... وإني لأتنبأ بأن هذه المملكة لا بد هالكة، نتيجة لإخماد القوى التي تنبع من القلب، إننا لا نكسب أصدقاء، ولم نعد نحب عشيقاتنا، فكيف نحب بلادنا؟... إن الناس يفقدون يوماً بعد يوم تلك الخلة الحميدة التي نسميها رقة الشعور. ويختفي الحب والحاجة إلى الحب... وحسابات المصلحة تشغلنا وتستنزفنا دائماً. وكل شيء سبيل إلى الدسيسة والمكيدة... وتنطفئ جذوة النار الداخلية (العواطف) لأننا لا نغذيها، ومن ثم يزحف الشلل إلى القلب(24)".
                            وهذا هو صوت بسكال يردد مذهب طائفة بورت رويال (مذهب الجانسنيين) وصوت روسو، قبل ظهور جان جاك بجيل واحد، أو صوت الأرواح المرهفة الحس في أي عصر من عصور القلق الفكري والتحرير، ولسوف يطرق أسماعنا ثانية.
                            bestfriends
                            Infinity and eternity

                            Comment


                            • #15
                              رد: قصة الحضارة (ول ديورانت)


                              3- العادات


                              لم ير التاريخ قط أخلاقيات طائشة مثل هذه، مزخرفة مموهة بتهذيب ورقة في السلوك وأناقة في الملبس والحديث، وتنوع في المتع والملذات، وفتنة في النساء، وكياسة متأنقة في المراسلات، وإشراق في الفكر والذكاء.
                              "ولم يوجد قط في فرنسا من قبل، أو في أوربا المعاصرة... بل ولا في العالم منذ وجد العالم، مجتمع مهذب ذكي مبهج، مثل المجتمع الفرنسي في القرن الثامن عشر"(25) قال هيوم في 1741 إن الفرنسيين "أتقنوا بدرجة كبيرة ذلك الفن، وهو انفع الفنون وأليقها ألا وهو فن الحياة، فن المجتمع، فن الحديث"(26). ولم تستخدم كلمة "مدنية" إلا في أخريات هذه الحقبة، فلم تظهر في قاموس جونسون 1755، ولا في "المعجم الكبير" الذي صدر في 30 مجلداً في باريس في 1768.
                              وأحس الفرنسيون بالمدنية بوجه خاص في ملابسهم، ونافس الرجال النساء منافسة كبيرة في العناية بالثياب. واقتضى الزي العصري السائد أن يلبس أفراد الطبقة العليا قبعات كبرى ذوات ثلاث زوايا، مزدانة بالريش والأشرطة الذهبية، ولما كانت هذه القبعات تفسد ترتيب شعورهم المستعارة، فإنهم وضعوا القبعات عادة تحت أذرعتهم. وكانت الشعور المستعارة آنذاك أصغر مما كانت عليه أيام الملك العظيم (لويس الرابع عشر)، وكانت أكثر شيوعاً حتى بين الحرفيين. وكان في باريس ألف ومائتا حانوت للشعور المستعارة، يعمل فيها ستة آلاف عامل. وكان الشعر الطبيعي والمستعار يدهن بالمساحيق. وكان شعر الذكور طويلاً عادة، ويلم بشريط أو في كيس وراء الرقبة. وكانوا يرتدون سترة طويلة زاهية اللون-من المخمل عادة-فوق البذلة الداخلة التي تكشف عن صدرة مفتوحة عند الحلق، وعن قميص حريري رقيق، ورباط عنق عريض، وأكمام تنتهي إلى "كشكشات" مزخرفة عند المعصم. وكانت "بنطلونات" الركوب القصيرة ملونة، والجوارب من الحرير الأبيض. وكانت الأحذية تشد بمشابك من فضة. ولبس أفراد الحاشية أحذية ذات كعوب حمراء، علامة مميزة لهم، واستخدم بعضهم عظام فك الحوت ليحتفظوا بأذيال ستراتهم ممتدة على نحو صحيح. وتزين بعضهم بالماس في عري ستراتهم. وكان الجميع يحملون سيوفاً. وحمل بعضهم العصى. وكان حمل السيف محرماً على الخدم وغلمان الحرفيين والموسيقيين(27). وكانت ملابس أفراد الطبقة البرجوازية
                              بسيطة: سترة و "بنطلون" قصير من قماش عادي قاتم، وجوارب صوفية سوداء أو رمادية، وأحذية ذات نعال سميكة وكعوب وطيئة. وارتدى الحرفيون وخدم المنازل الأردية التي كان الأغنياء ينبذونها. وتذمر ميرابو الأكبر من انه لا يستطيع التمييز بين الحداد واللورد!
                              وظلت السيدات تتمتعن بحرية أرجلهن داخل الرحاب الفسيح لتنوراتهن ذات الأطواق الموسعة. وشجب رجال الدين النساء اللائي ارتدين مثل هذه التنورات "بأنهن إناث قردة أو أعوان الشيطان" ولكن النساء أحببنها لأنها تضفي عليهن جلالاً حتى ولو كن حبالى. وتروي مدام دي كريكي "أنها لم تستطع أن تهمس أذن مدام دي اجمونت لأن التنورة ذات الأطواق الموسعة حالت دون اقتراب الواحدة منهما من الأخرى"(28)أما حذاء السيدة ميلادي "ذو الكعب العالي المصنوع من جلد ملون والمرصع بتطريزات من الذهب والفضة-فقد أضفى على قدميها فتنة تسلب الألباب إذا لم يراهما أحد. وارتقى صانع حذائها إلى مصاف البرجوازية العليا بسبب إبداعه في فنه، وكم من قصة حب كتبت عن قدم جميلة، وهي عادة حذاء جميل وكان مثيراً إلى مثل هذا الحد تقريباً، ذلك "الخف" المزين برسوم الأزهار، الذي لا نعل له، والذي كانت تلبسه ميلادي في البيت. وكانت مقيدة أيضاً الأهداب والحواشي والمراوح والملابس التحتية المزخرفة التي كانت تجذب عين الرجل الزائغة أو تخفي جسم المرأة الحائرة في كل ناحية. وكان مشد الخصر والردفين (الكورسيه) المصنوع من عظام فك الحوت يساعد على تشكيل هذا الجسم في القوام الأنيق الذي يقتضيه العصر ويلائم المكانة الاجتماعية. وبرز جزء معقول من الصدر ليشهد بالامتلاء المناسب المريح. وكان الحلاقون وضيعين بسطاء. ولم تظهر تسريحة الشعر العالية إلا في 1763. وعالجت مستحضرات التجميل والتطرية لليدين والذراعين والوجه والشعر. وتخلف الرجال قليلاً عن النساء في استخدام العطور. وكان وجه السيدة ينقش ويطلى بالمساحيق، وتوضع عليه بطريقة بارعة لصوق تجميلية أو شامات من الحرير الأسود مقطعة على شكل قلوب
                              أو قطرات من الدموع أو أقمار أو نيازك أو نجوم، ويمكن أن يكون للسيدة العظيمة سبع أو ثمان من هذه اللصوق على جبهتها، وصدغيها وقرب عينيها وعلى جوانب الفم. وكانت تحمل صندوقاً للصوق فيه شامات إضافية تعوض بها ما قد يتساقط منها. وكانت المائدة في حجرة ملابس السيدة الغنية تتألق بالأدوات والمواد اللازمة لها-صناديق من الذهب والفضة أو الحجر اللازوردي، مخصصة لحفظ أدوات الزينة. وتلألأت الجواهر الثمينة على الذراعين والرقبة والأذنين والشعر. وكان يسمح للرجال ذوي الحظوة بالدخول إلى حجرة ملابس السيدة ميلادي ليجاذبوها أطراف الحديث، بنما كانت وصيفاتها تقمن بإعدادها لبرنامج اليوم. وكان الرجال في الطبقة الأرستقراطية عبيداً للنساء كما استعبدوا للزي السائد للنساء، أما الزي فيحدده مصممو ملابس النساء. وبعد 1704 أعرضت فرنسا عن محاولات تحديد الزي او الملابس، عن طريق قوانين ضبط الإنفاق. واتبعت أوربا الغربية بصفة عامة أزياء فرنسا، ولكن كانت هناك أيضاً موجة معاكسة فإن زواج لويس الخامس عشر من ماري لزكزنسكا أتى بطرز بولندية وأدخلت الحرب ضد النمسا والمجر أزياء مجرية، وعمل زواج الدوفين من الأميرة الإسبانية ماريا تريزا رافاييلا على انتشار "الطرحة" في فرنسا من جديد.
                              ولم تكن وجبات الطعام منمقة مزخرفة مثل الثياب، ولكنها تطلبت علماً دقيقاً متنوعاً، كما تطلبت فناً رقيقاً. وكان المطبخ بالفعل النموذج الذي يحتذى في العالم المسيحي ومكمن الخطر فيه. وفي 1749 حذر فولتير قومه من أن وجبات الطعام الثقيلة التي يتناولونها "قد تصيب آخر الأمر أذهانهم بالتبلد"(29). وضرب مثلاً طيباً للغذاء البسيط وسلامة العقل والفطنة. وكلما ارتقت الطبقة، ازداد ما تتناول من طعام. وعلى هذا كانت وجبة العشاء على مائدة لويس الخامس عشر تتكون من حساء، وشواء من لحم تتكون من حساء، وشاء من لحم البقر، وطبق من لحم العجل، وبعض الدجاج، والحجل والحمام، ثم الفاكهة الطازجة والفاكهة المحفوظة(30)ويقول فولتير "كان نفر قليل من الفلاحين يذوقون طعم اللحم لأكثر من مرة واحدة في الشهر"(31).

                              وكانت الخضراوات ضرباً من الترف في المدينة حيث كان يصعب الاحتفاظ بها طازجة. وانتشر أكل السمك "الأنقليس". وكان بعض السادة الكبار ينفقون 500 ألف جنيه سنوياً على المطبخ، وأنفق أحدهم 72 ألف جنيه على مأدبة عشاء أعدها للملك والحاشية. وكان رئيس الخدم في البيوتات الكبيرة شخصية مهيبة تثير الإعجاب، يلبس ثياباً فاخرة ثمينة، ويحمل سيفاً، ويتألق في إصبعه خاتم من الناس. وكانت النساء الطباخات موضع ازدراء واحتقار، وكم طمع الطباخون وجهدوا في ابتداع أطباق جديدة ليخلدوا أسماء سادتهم، فأكلت فرنسا طبق شرائح لحم العجل المنظر الجميل (بل في)-قصر مدام دي بمبادور المفضل لديها-"ودجاج فيلروا" وصلصة الميونيز، تخليداً لذكرى انتصار ريشيليو في "ماهون"(32). وكانوا يتناولون الأكلة الرئيسية في الساعة الثالثة أو الرابعة بعد الظهر، والعشاء في التاسعة أو العاشرة ليلاً.
                              وكانت القهوة آنذاك تنافس النبيذ شراباً.ولا بد أن ميشيليه (المؤرخ الفرنسي 1798-1874) أحب القهوة كثيراً، حيث رأى أن تزايد تدفق البن من شبه الجزيرة العربية والهند وجزيرة البوريون والبحر الكاريبي أسهم في انتعاش الروح الذي ميز عصر الاستنارة(33). وكانت كل صيدلية تبيع البن حبوباً أو القهوة المعدة للشراب على المنضدة الطويلة بداخلها. وفي 1715 كان في باريس 300 مقهى، وفي 1750 زادت إلى 600، كما وجد منها عدد مناسب في كل مدينة في الأقاليم وفي مقهى "بروكوب" وكان يسمى أيضاً "كاف الكهف لأنه كان دائماً مظلماً" كان ديدرو ينشر أفكاره، كما كان فولتير يقصد إليه متنكراً ليسمع التعليقات على أحدث رواياته. وكان مثل هذا المقهى منتدى العامة حيث يلعبون الشطرنج أو "الضامة" أو "الدومينو"، وفوق هذا وذاك يتجاذبون أطراف الحديث لأن الناس ازداد شعورهم بالوحدة والوحشة بازدياد السكان في المدن.

                              وكانت الأندية عبارة عن مقاه خاصة، عضويتها مقيدة، وتغلب عليها رعاية مصالح من نوع محدد. وحوالي 1721 أسس الراهب آلاري نادي
                              "دي لا نترسول" (عبارة عن طابق مسروق بين الطابق الأرضي والطابق الذي فوقه، في دار الراهب، حيث كان يجتمع نحو عشرين من رجال السياسة والقضاء والحكم والأدب ليتدارسوا شئون الساعة، دينية أو سياسية وكان بولنجبروك هو الذي جاء بهذا الاسم فأدخل لفظة club إلى اللغة الفرنسية، وهناك شرح الراهب دي سانت بيير برامجه للإصلاح الاجتماعي والسلام الدائم، مما أزعج الكاردينال فليري فأمر بفض النادي في 1731. وبعد ذلك بثلاث سنوات أسس أيضاً أنصار جيمس الثاني اللاجئون من إنجلترا في باريس أول دار فرنسية للبنائين الأحرار (الماسونيين)، كانت ملجأ للربوبيين، ووكراً للدسائس السياسية، وأصبحت منفذاً للنفوذ الإنجليزي ومهدت الطريق للفلاسفة.
                              إن الرجال والنساء، وقد أصابهم الضجر والسأم من الكدح والنصب في أعمالهم اليومية كانوا يقصدون زرافات ووحداناً إلى المتنزهات وقاعات الرقص والمسارح وفرق الموسيقى والأوبرا، وأولع الأثرياء بالصيد والقنص والبرجوازيون بالنزهات الخلوية. وكانت غابة بولونيا والشانزلزيه وحدائق التويرلري وحدائق لكسمبرج وحديقة النباتات أو حديقة الملك، كما كانوا يسمونها آنذاك-أماكن مفضلة للتنزه في المركبات أو مشياً على الأقدام، ولقاء العشاق وعروض عيد الفصح. أما إذا لزم الناس بيوتهم فإنهم كانوا يتسلون بالألعاب المنزلية والرقص والموسيقى والتمثيليات الخاصة. وكان كل إنسان يرقص. وكان "البالية" قد أصبح فناً ملكياً معقداً. ظفر الملك فيه بنصيب من حين إلى حين. وكان راقص الباليه مثل كامارحو أو لاجوسان معبود الجماهير في المدينة ومشتهى أصحاب الملايين.
                              bestfriends
                              Infinity and eternity

                              Comment


                              • #16
                                رد: قصة الحضارة (ول ديورانت)

                                هي من أشهر النساء في التاريخ، وأوتيت من الرشاقة والجمال ما أعمى أبصار معظم الرجال عن آثامها وخطاياها، ومع ذلك وهبت من قوة الذهن ما مكنها لمدة عقد زاهر من السنين، من أن تحكم فرنسا وتحمي فولتير وتنقذ موسوعة ديدرو، مما أدى بالفلاسفة إلى القول بأنها تنتسب إليهم. ومن العسير أن ننظر إليها في الصورة التي رسمها لها بوشيه دون أن نفقد نزاهة المؤرخ في الافتتان بالإنسان. فهل كانت دي بمبادور إحدى روائع الطبيعة، أو إحدى روائع بوشيه فحسب؟

                                ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟


                                شوهي آثامها وخطاياها ابو اللون

                                ومشكر عالموضوع ناطر هيك قصة عن ايطاليا بس اقصر شوي
                                وكتر من مدامات بمبادورات
                                محلى ليالي ليالي الحب والقمر يسهر معانا
                                وكل نجمة في السما تبارك هوانا


                                سوا


                                bestfriends
                                Infinity and eternity

                                Comment


                                • #17
                                  رد: قصة الحضارة (ول ديورانت)


                                  4- الموسيقى


                                  كانت الموسيقى في فرنسا قد انحطت منذ تفوق للي على موليير في تسلية الملك الأعظم فلم يكن هنا في فرنسا هذا الجنون أو الولع الشديد بالموسيقى الذي أدى بإيطاليا إلى نسيان إذلالها أو خضوعها السياسي، ولا التفاني الشديد في أساليب التلحين، الذي أوجد القداسات الضخمة والألحان الموسيقية
                                  المطولة المبنية على رواية الإنجيل لآلام المسيح في ألمانيا على عهد باخ.
                                  وكانت الموسيقى الفرنسية في عصر انتقال من الشكل التقليدي إلى زخرفة الباروك، إلى رقة الروكوكو، ومن الطباق المعقد ذي الألفاظ المشوهة للحن، إلى ألحان سلسة متدفقة وأفكار رئيسية رقيقة تتلاءم مع الطبيعة الفرنسية. واستمر مؤلفو الموسيقى يخرجون أغاني الغزل أو الهجاء أو أغاني حزينة تتحدى الفتيات، وتتحدى الملوك، وتستنكر العزوبة والتواني. وامتدت رعاية الموسيقى من الملوك الذين يتطلبون العظمة والجلال إلى رجال المال الذين يدافعون عن حظوظهم مع الفرق الموسيقية والمسرحيات والشعر مما يستأثر به القلة من ذوي الجاه والنفوذ. وأخرجت أوبرا روسو "الموزيات الأنيقات" (إلهات تسع تحمين الشعر والغناء في الأساطير اليونانية) Les Muses Galantes في بيت الملتزم العام بوبلنيير. وكان لبعض الأغنياء فرق موسيقية خاصة بهم. وكانت العروض أو الحفلات المفتوحة للجمهور مقابل رسم دخول، تقدمها بانتظام في باريس "فرق الموسيقى الروحية" التي أنشئت 1725 وتبعتها في ذلك سائر المدن. وقدمت الأوبرا في باليه رويال" في وقت متأخر بعد الظهر عادة، حتى إذا انتهت في الثامنة والنصف مساء، قصد المتفرجون للتنزه في حدائق التويلري، وأطربهم المغنون والعازفون في الهواء الطلق. وكان هذا واحداً من المظاهر الفاتنة في الحياة في باريس.
                                  وإنا لندرك من مطالعة كتاب ديدرو "ابن أخي رامو" كم من الملحنين والموسيقيين البارعين أقبل الناس عليهم إقبالاً شديداً في هاتيك الأيام، على حين جر عليهم النسيان اليوم ذيوله. وثمة ملحن فرنسي واحد من تلك الحقبة خلف لنا أعمالاً لا تزال تتشبث بالحياة. إن جين فيليب رامو أولع أيما ولع بالموسيقى. وكان أبوه عازف الأرغن في كنيسة سانت اتيين في ديجون. ويؤكد لنا كتاب السير المتحمسون أن جين استطاع في سن السابعة أن يقرأ أية موسيقى توضع أمامه بمجرد زقزق نظره عليها. وفي الكلية استغرق كل جهده في الموسيقى إلى حد أن الآباء اليسوعيين فصلوه، وبعد ذلك
                                  كاد جين لا يفتح كتاباً إلا في الموسيقى أو عن الموسيقى. وسرعان ما أصبح بارعاً في العزف على الأرغن والبيان القيثاري والكمان مما لم يكن بعده زيادة لمستزيد في ديجون. ولما وقع الشاب في شراك الغرام، ورأى الوالد أن في هذا مضيعة لمواهبه أرسله إلى إيطاليا ليدرس أسرار الألحان فيها (1701).
                                  ولما عاد جان إلى فرنسا، عمل عازفاً على الأرغن في كليرمونت فراند وخلف أباه في ديجون (1709-1714)، ثم رجع أدراجه إلى كليرمونت عازفاً على الأرغن، في الكاتدرائية (1716)، ثم استقر به المقام في باريس 1721. وهناك في 1722 وهو في التاسعة والثلاثين كتب مؤلفه الرائع عن النظرية الموسيقية في فرنسا في القرن الثامن عشر "رسالة عن علم الإيقاع موجزاً في أسسه الطبيعة".وحاول رامو أن يبرهن أنه يوجد دائماً في التأليف الموسيقي السليم، سواء كان موزعاً أو غير موزع-"قاعدة أساسية" يمكن أن تستمد منها كل الأنغام التي فوقها، وأن كل النغمات المتآلفة يمكن أن تستخرج من سلسلة إيقاعات النغمات الجزئية، وأن كل هذه الأنغام يمكن أن تقلب دون أن تفقد هويتها. إن رامو كتب بأسلوب لا يفهمه إلا أكثر الموسيقيين تبحراً ومعرفة بالموسيقى، ولكن أفكاره سرت دالمبرت الرياضي، الذي شرحها بشكل أوفى 1752 وإنك لتجد أن قوانين الترابط الوتري التي صاغها رامو، مقبولة في عصرنا هذا أساساً نظرياً للتأليف الموسيقي(34).
                                  وشن النقاد هجومهم على رامو، فرد عليهم هو بتآليف وتفاسير، حتى حظي بالتقدير والإجلال بما أخضع له الموسيقى من قوانين، كما فعل نيوتن بالنسبة للنجوم(35). وفي 1726-وهو في سن الثالثة والأربعين تزوج من ماري ماجنو، إذ ذاك في الثامنة عشرة. وفي 1727 وضع موسيقى مسرحية فولتير الغنائية "سمسون" ولكنهم حظروا إخراجها على أساس أن قصص الكتاب القدس لا يجوز تحويلها إلى أوبرا. وكان على رامو أن يكسب قوته بالعمل عازفاً للأرغن في كنيسة "سانت كروادي لا بروتنيري. وبلغ الخمسين من العمر قبل أن يغزو مسرح الأوبرا.
                                  وفي 1733 قدم له الراهب بللجرين أوبرا "هبوليريت وأريسيمي" المبنية على رواية راسين "فدر" ولكن الراهب حصل من رامو على صك بمبلغ خمسمائة جنيه ضماناً في حالة سقوط الأوبرا. ولما مثلت على سبيل التجربة ابتهج الراهب بموسيقاها أيما ابتهاج، إلى حد أنه مزق الصك في نهاية الفصل الأول. ولما مثلت أمام الجمهور في أكاديمية الموسيقى أدهشت المتفرجين بخروجها الجريء عن الأنماط التي كانت قد أصبحت تقاليد مقدسة منذ عهد للي. واعترض النقاد على ما أتى به رامو من إيقاعات جديدة غريبة، وتغييرات مبتدعة في طبقة الصوت وتعقيدات في التوزيع الموسيقي بل أن الفرقة الموسيقية نفسها كرهت الموسيقى. وفكر رامو لبعض الوقت في التخلي عن محاولاته في مجال الأوبرا ولكن محاولاته الثانية Les Indes Galantes (1735) حظيت بإعجاب المتفرجين بتدفق ألحانها المنسقة، أما أوبرا Castor Et Polluy 1737 فكانت من أروع الانتصارات في تاريخ الأوبرا الفرنسية.
                                  وأفسده النجاح، وتفاخر بأنه في مقدوره أن يحول أي نص إلى أوبرا جيدة وأن ينقل صحيفة أي جريدة إلى موسيقى. وأنتج(36)سلسلة طويلة من الأوبرات غير الهامة. ولما ضاق مديرو أكاديمية الموسيقى ذرعاً به انصرف إلى تأليف قطع للبيان القيثاري والكمان والفلوت. وأخذ لويس الخامس عشر-أو بالأحرى مدام بمبادور-بيده، باستخدامه في كتابة موسيقى رواية فولتير "أميرة نافار"، التي لقيت في فرساي نجاحاً أعاد له مكانته (1745) ونال رضا الأكاديمية من جديد، وكتب مزيداً من روايات الأوبرا. ومذ ألفت باريس أسلوبه فإنها نسيت للي، ونادت برامو ملكاً على دنيا الموسيقى بلا منازع.
                                  وفي 1752 وجد نفسه يواجه تحدياً جديداً. ذلك أن بعض الفنانين العازفين والملحنين كانوا قد قدموا من إيطاليا. ومن ثم بدأت حرب صاخبة بين الموسيقى الفرنسية والموسيقى الإيطالية التي بلغت ذروتها في السبعينات بالموسيقار بتشيني ينافس جلك Gluck. وفي دار الأوبرا في باريس قدمت
                                  فرقة إيطالية مع أوبرا برجوليزي "La Serva Randona" فاصلاً موسيقياً وهي من روائع الأوبرا الهزلية ورد أنصار الموسيقى الفرنسية على ذلك بالنشرات ويقطع رامو. وانقسمت الحاشية إلى معسكرين وناصرت مدام بمبادور الموسيقى الفرنسية على حين دافعت الملكة عن الموسيقى الإيطالية، وهاجم جريم الأوبرا الفرنسية بأسرها (1752) وأعلن روسو أن الموسيقى الفرنسية بغيضة لا تطاق. والعبارة الأخيرة في مؤلفه "رسالة في الموسيقى الفرنسية" (1753) تدل أبلغ دلالة على خلله العاطفي قال: "وفي اعتقادي أني قد أوضحت أن الموسيقى الفرنسية مجردة من الوزن والتناغم معاً، لأن اللغة لا توفرها لها هذا أو ذاك. والغناء الفرنسي مجرد نباح وشكوى متصلتين ولا تطيقه الأذن غير المتحيزة، وأن إيقاعها غير مستساغ وأنها لا تعبر عن شيء ولا تشعر إلا بما تلقت عن معلمها، وأن النغم الفرنسي ليس نغماً، وأن المقاطع الصوتية الفرنسية ليست مقاطع صوتية. ومن ثم انتهيت إلى أن الفرنسيين ليس لديهم موسيقى، ولن يكون لهم شيء منها قدر لهم أن يكون لديهم شيء من الموسيقى فستكون وبالاً عليهم".
                                  وانتقم أنصار الموسيقى الفرنسية بخمس وعشرين نشرة أصدروها ضد روسو، وأحرقوا تمثالاً على باب دار الأوبرا(37)واستخدم رامو، على كره منه، عنصراً رئيسياً في حرب المهرجين، فلما هدأت المعركة وأعلن انتصاره فيها اعترف هو نفسه بأن الموسيقى الفرنسية لا تزال في حاجة إلى أن تتعلم الشيء الكثير عن الموسيقى الإيطالية، وقال إنه لو لم تكن سنه قد كبرت إلى هذا الحد، لعاد إلى إيطاليا ليدرس طرق برجوليزي وغيره من الأساتذة الإيطاليين.
                                  وكان رامو آنذاك في قمة شعبيته، ولكن كان له أعداء كثيرون قدامى وجدد. وأضاف إليهم بنشرة أصدرها يعرض فيها أخطاءه التي وردت في المقالات التي ظهرت عن الموسيقى في دائرة المعارف. فما كان من روسو، وهو كاتب معظم هذه المقالات إلا أن انقلب عليه وازداد مقتاً له. أما ديدرو أبو دائرة المعارف فإنه كان السباب للملحن العجوز في لباقة تبعث
                                  على الاحترام في "ابن أخي رامو" التي لم ينشرها تفضلاً منه وكرماً، قال: إنه الموسيقار الشهير الذي خلصنا من موسيقى للي المتعددة الأصوات التي ترنمنا بها لأكثر من قرن من الزمان، والذي كتب كلاماً كثيراً خيالياً غير مفهوم وحقائق غامضة عن نظرية الموسيقى-وهي كتابات لم يفهمها هو، ولا أحد غيره قط. إنه أخرج لنا عدداً من الأوبرات التي يجد فيها المرء أنغاماً متآلفة وشيئاً من الغناء، والأفكار غير المترابطة والثرثرة في سرعة وجلبة، والحركات السريعة ومواكب النصر والحراب والمثل العليا وألحان الرقص... مما سيبقى إلى الأبد(38).
                                  وحين ظهر رامو في إحدى المقصورات 1760-وهو في سن السابعة والسبعين لمناسبة إعادة أوبرا "داردانوس" وهي من إخراجه، لقي احتفاء وترحيباً حماسياً كاد يفوق ما قوبل به فولتير بعد ذلك بثمانية عشر عاماً. ومنح الملك براءة النبالة. وأعفته هو وأسرته ديجون الفخورة بابنها من الضرائب البلدية مدى الحياة. وانتابته وهو في قمة مجده حمى التيفوييد، وذبل بسرعة وقضى نحبه في 12 ديسمبر 1764 وشيعته باريس باحتفال مهيب حيث ووري التراب في كنيسة سانت أوستاش. وأقامت مدن كثيرة في فرنسا الصلوات تكريماً له.
                                  bestfriends
                                  Infinity and eternity

                                  Comment


                                  • #18
                                    رد: قصة الحضارة (ول ديورانت)


                                    5- الصالونات


                                    كانت باريس العاصمة الثقافية للعالم، أكثر منها فرنسا. قال ديكلوس "إن هؤلاء الذين يعيشون على مسافة مائة فرسخ من العاصمة إنما يبعدون عنها بمائة عام من حيث أساليب السلوك والتفكير(39)وربما لم توجد عبر التاريخ قط مدينة تعج بحياة متنوعة الألوان. فالمجتمع المهذب المصقول وفنون الأدب الرفيع ائتلفا في رباط وثيق مذهل. وكان الخوف من الجحيم قد زال عن الباريسيين المتعلمين وتركهم في حالة المرح والابتهاج لم يسبق لها مثيل، لا يلقون بالاً في وثوقهم الجديد بأنه ليس هناك عملاق رهيب قدير في السموات، يسترق السمع إلى خطاياهم ويحصيها عليهم. ومن تحرير الذهن على هذا النحو لم تنجم بعد آثار كئيبة من عالم مجرد من القداسة
                                    والهدف الخلقي، عالم برتجف في زمهرير التفاهة والحقارة، وكان الحديث شائقاً تتخلله الدعابة والمرح. وغالباً ما انتقل إلى هزل ظاهري، وهنا كان التفكير ينحصر في ظواهر الأمور خشية عدم العثور على شيء في أعماقها. وكان القيل والقال والفضائح تنتشر بسرعة من ناد إلى ناد ومن بيت إلى بيت، وكثيراً ما تطرق الحديث إلى آفاق خطيرة في السياسة والدين والفلسفة، مما قد يتيسر الخوض فيه اليوم إلا نادراً.
                                    وكان المجتمع متألقاً، لأن السيدات كن مبعث الحياة فيه، وكن المعبودات التي قدسها هذا المجتمع، وهن اللائي تولين توجيهه، وبطريقة ما وبرغم العرف والعوائق أتيح لبعضهن قدر من التعليم يكفي لتبادل الحديث في فطنة وذكاء مع أئمة الفكر الذين أحببن أن يستضيفوهم. ونافسن الرجال في الاستماع إلى محاضرات رجال العلم(40). إذ عاش الرجال قليلاً في المعسكرات وطالت إقامتهم في العاصمة وفي الحاشية فقد تزايد إحساسهم بالمفاتن غير الملموسة في النساء-رشاقة الحركة، عذوبة الصوت حيوية الروح ومرحها، بريق العينين، رهافة الذوق، الجزع المشوب بالحنان والحب، النفس المشربة بالرحمة والشفقة. إن تلك الصفات جعلت المرأة محبوبة في كل مدينة ولكنا ربما لا نجد في أية ثقافة أخرى أن الطبيعة والتعليم والملابس والحلي وأدوات التجميل والزينة قد جعلت من المرأة مخلوقاً يسحر الألباب بقدر مل كانت عليه في فرنسا القرن الثامن عشر. وكل هذا المفاتن والمغريات لا تستطيع على أية حال أن تفسر سلطان المرأة وقوتها. إن الذكاء في معالجة الرجال وسياستهم أمر ضروري. وبارى ذكاء النساء عقل الرجال وفي بعض الأحيان تفوق عليه. وعرف النساء الرجال أفضل مما عرف الرجال النساء. والرجال يندفعون في تهور بالغ إلى أفكار لتنضج حتى تفهم، على حين إن التراجع المحتشم المطلوب حتى من السيدة المتفتحة، هيأ لهل فسحة من الوقت للملاحظة والتجريب وتخطيط حملتها أو هجومها.
                                    وكلما ازدادت حساسية الرجل اتساعاً وعمقاً، نما تأثير المرأة ونفوذها. وفتشت البسالة في ميدان الحب عن جزاء وفاق لها في الصالون وفي مخدع
                                    المرأة وفي الحاشية على حد سواء. وكم اهتز الشعراء طرباً حين وجدوا آذاناً صاغية من الجنس الرقيق. وكم رفع من شأن الفلاسفة تفضل السيدات ذوات التهذيب الرفيع والمكانة العالية بالاستماع إليهم، بل إن أغزر العلماء علماً وأوسعهم إطلاعاً وجدوا في الصدور الناعمة وفي حفيف الرقص مثاراً للفكر والعقل. وهكذا مارست المرأة قبل "تحريرها" سيادة طبعت العصر بطابعها المتميز. وتذكرت مدام فيجي لبرون فيما بعد "كانت المرأة تحكم آنذاك، ثم ثلت الثورة عرشها"(41). إن النساء لم يعلمن الرجال آداب السلوك والعادات فحسب، بل إنهن كذلك رفعن أو خفضن من درجاتهم في الحياة السياسية، بل حتى في الحياة العلمية. من ذلك أن مدام دي تنسان هيأت اختيار ماريفو بدلاً من فولتير، لعضوية مجمع الخالدين "الأكاديمي فرانسيز) في 1742. وكان شعار "فتش عن المرأة" وسيلة النجاح، فإنك إذا عثرت على المرأة التي يحبها الرجل، كشفت عن المنفذ الذي تصل منه إلى الرجل الذي تريد.
                                    كانت كلودين الكسندرين دي تنسان-بعد بمبادور-هي السيدة الأكثر إمتاعاً وتشويقاً بين النساء اللاتي سيطرن على فرنسا في النصف الأول من القرن الثامن عشر. وقد عرفنا كيف هربت من أحد الأديار، وأنجبت دالمبرت، واتخذت لها مسكناً في باريس في شارع سانت أونوريه حيث استقبلت مجموعة متعاقبة من العشاق، بينهم بولنجبروك، ريشيليو، فونتنيل (صموت ولكنه نشيط قوي في سن السبعين) وعدداً من الرهبان ومدير الشرطة في باريس. وأضافت الشائعات أخاها بيير إلى قائمة المترددين عليها، ولكن ربما أحبته لمجرد أنها أخت حنون مصممة على تنصيبه كاردينالاً، إن لم يكن رئيساً للوزراء. وعن طريقه وعن طريق غيره دبرت أن تكون ركناً قوياً في حياة فرنسا.
                                    إنها جمعت المال أولاً:. واستثمرته على طريقة دكتور لو، ولكنها باعت الأسهم في الوقت المناسب. وقبلت الحراسة على ثروة شارل جوزيف دي لا فرزني، ثم أبت إعادتها إليه، فانتحر في دارها، تاركاً وصية
                                    يتهمها فيها بالسرقة (1726)، وأرسلت إلى الباستيل ولكن أصدقائها دبروا أمر الإفراج عنها، واحتفظت بمعظم الثروة. وتحدت ثرثرة المدينة والحاشية، وخرجت منها سالمة.
                                    وحوالي 1728 أفاضت مدام دي تنسان إلى مخدعها صالوناً اتخذته سلماً ترقى به إلى السلطة والقوة، واستقبلت فيه مساء يوم الثلاثاء من كل أسبوع، على مائدة العشاء عدداً من الرجال البارزين، أطلقت عليهم "معرض الوحوش" منهم مونتنيل، مونتسكيو، ماريفو، بريفوست، هلفشيوس، استروك، مارمونتل، هينولت، ديكلوس، مابلي، كوندرسيه، وأحياناً تشسترفيلد. وكانت المجموعة كلها من الرجال عادة لأن تنسان لم تكن تطيق على مائدتها أية منافسات. ولكنها أطلقت "لوحوشها" العنان، ولم تغضب قط لرافضهم السافر للمسيحية. وتساوي كل الناس من كل الطبقات هناك، فكان الكونت النبيل في مستوى الرجل من العامة، وقد تروى التقاليد فيما بعد أنه هنا كانت تجري أكثر المناقشات تألقاً ودقة طوال هذا القرن، قرن الحديث الذي لا حدود له(42).
                                    وعن طريق ضيوفها وعشاقها وكهنة اعترافها استخدمت نفوذها لتحقيق أهدافها بطريقة سرية فيما بين فرنسا وروما. ولم يكن أخوها طموحاً، بل كان يتوق إلى الباسطة في الحياة والهدوء في الأقاليم، ولكنها وسعت حتى عين رئيس أساقفة ثم كاردينالاً، وأخيراً وزيراً في مجلس الدولة. وعاونت على أن تجعل من مدام شاتورو خليلة للملك، واستحثتها على حث الملك ليقود جيشه في الحرب. إنها رأت في بلادة لويس وتكاسله مصدراً للاضمحلال السياسي ونذيراً بهذا الاضمحلال. وربما كانت على صواب فيما فكرت فيه من أنها لو تولت رياسة الوزارة للقيت الحكومة نجاحاً أكبر، وأظهرت نشاطاً وحيوية أكثر. وناقش رواد صالونها في جرأة انحلال الملك واحتمال قيام الثورة.
                                    وفي شيخوختها نسيت خطاياها، وانضمت إلى اليسوعيين وشنت الحملات على الجانسينين، وتبادلت رسائل المودة مع البابا بندكت الرابع عشر الذي
                                    أرسل إليها صورته اعترافاً منه بخدمتها للكنيسة. إن رقة الفؤاد التي ازدانت بها أخطاؤها، وجدت لها منافذ كثيرة. ولما قابل الجمهور في بداية الأمر كتاب مونتسكيو "روح القانون" (1748) بعدم الاكتراث اشترت تنسان كل نسخ الطبعة الأولى تقريباً، ووزعتها مجاناً على أصدقائها الكثيرين. وتولت رعاية مارمونتل الشاب وأسدت إليه النصح أن يعقد فوق كل شيء، أواصر الصداقة مع النساء، لا الرجال، وسيلة للارتقاء والصعود في هذا العالم(43). وأصبحت هي نفسها، في سني شيخوختها وضعفها الأخيرة، كاتبة ومؤلفة، وسترت الطيش والحماقة بإغفال ذكر اسمها على ما ألفت. وقارن أصدقاؤها النقاد قصتها بقصة مدام دي لافاييت (برنسيس دي كليف Prnicesse De Cleves).
                                    وفارقت مدام تنسان الحياة في 1749 وهي في الثامنة والستين. وعندئذ تساءل فونتينل العجوز "أين أتناول العشاء مساء يوم الثلاثاء الآن؟" ولكنه أجاب لنفسه في ابتهاج على الفور "حسناً"، عند مدام جيوفرين(44). وربما التقينا به هناك.
                                    كان صالون مدام دي دفاند قديماً قدم صالون تنسان، كما عمر مثل ما عمر صالون جيوفرين تقريباً. إن ماري دي فيشي شامروند باتت يتيمة وهي في سن السابعة فوضعت في دير اشتهر بالتعليم، فبدأت تدرس وتتأمل في سن مبكرة الأوان، وكانت تلقي أسئلة تتسم بالتشكك إلى حد مزعج، وإذ وقعت الراهبة في حيرة من أمر الصبية وأسئلتها فإنها أحالتها إلى الواعظ المتفقه ماسيون، الذي عجز عن تفسير المسائل الغامضة، فتخلى عنها يأساً من إنقاذها من الضلال. وفي سن الحادية والعشرين أصبحت مركيزة دي ديفان بزواج تم عن تراض بين الطرفين، ولكنها سرعان ما تبينت أن زوجها شخص مبتذل ممل إلى حد لا يحتمل، فافترقا بعد اتفاق وفر لها ثروة لا بأس بها. وفي باريس وفرساي انصرفت إلى لعب الميسر في اندفاع شديد "لم أفكر في شيء إلا القمار" ولكن بعد ثلاثة أشهر منيت فيها بخسائر فادحة، "تولاني جزع شديد، وحزنت على ما أنا فيه، ونأيت بنفسي
                                    عن هذه الحماقة". وقضيت فترة قصيرة خليلة للوصي(45). ثم تنحت عنه إلى عدوته الدوقة دي مين. وفي مسكو التقت بشارل هنولت رئيس مجلس التحقيق العسكري، الذي أصبح عشيقاً لها، ثم صديقاً مدى الحياة.
                                    وبعد أن أقامت لبعض الوقت مع أخيها انتقلت إلى نفس الدار في شارع دي بون، التي قضى فيها فولتير نحبه. وإذ اشتهرت بجمالها وعينيها البراقتين وذكائها الحاد، فإنها جذبت إلى مائدتها (حوالي 1739) نفراً من مشاهير الرجال الذين جاءوا ليؤلفوا صالوناً يذيع صيته كما ذاع صيت صالون تنسان تقريباً: هنولت، مونتسكيو، فولتير، مدام دي شانيليه، ديدرو، دالمبرث، مارمونتل، مدام دي ستال دي لونيه...... وفي 1747، وقد بلغت آنذاك الخمسين، وخفضت من غلوائها بعض الشيء، استأجرت شقة جميلة في دير سان جوزيف في شارع سان دومنيك. وكان من عادة الأديار تأجير غرف للعرائس والأرامل والنساء اللائي افترقن عن أزواجهن، وكانت هذه المساكن عادة في أبنية خارج المبنى الأساسي الخاص بالراهبات. ولكن في حالة هذه المتشككة الثرية، كان المسكن داخل جدران الدير، والحق إنه المسكن الذي كان قد آوى تحت سقفه مؤسسة هذا الدير الآثمة، مدام دي مونتسبان. وتبع صالون المركيزة شخصها إلى مقرها الجديد. ولكن ربما أزعجت البيئة المحيطة به الفلاسفة، فلم يعد ديدرو يحضر ونادراً ما كان يجيء مارمونتل، وكان جريم يتردد بين الحين والحين، وسرعان ما أنقطع دالمبرث. ومعظم المجموعة الجديدة في سان جوزيف كانوا من سلالة الأرستقراطية القديمة: مارشال لكسمبورج ومارشال ميربوا وعقيلتاهما، دوقا ودوقتا دي بوفلوز ودي شوازيل ودوقات اجوبون وجرامونت وفليروا وصديق مدام دي ديفاند من أيام طفولتها ولمدى الحياة، وهو بونت دي فيل. وكانوا يلتقون في السادسة، ويتناولون العشاء في التاسعة ثم يلعبون الورق والميسر؛ ويتناولون بالتحليل والتفصيل الأحداث الجارية في عالم السياسة والأدب والفن، ثم يفترقون. في نحو الساعة الثامنة صباحاً. وكان الأجانب البارزون، والوافدون على باريس يحتالون للحصول على
                                    دعوة إلى "مأوى النبلاء" هذا. وروى لورد باث في 1751 "إني لأذكر أمسية دار الحديث فيها عن تاريخ إنجلترا، وكم دهشت وارتبكت حين وجدت أن هؤلاء القوم عرفوا من تاريخ بلادنا خيراً مما عرفنا نحن عنه!(46).
                                    وتفردت دي ديفاند بأصفى ذهن وأسوأ خلق بين صاحبات الصالونات فكانت مغرورة متغطرسة عيابة شكاكة، أنانية أكثر مما يليق بالمرء أن يكون. ولما عالج كتاب هلفشيوس "الروح" ما ذهب إليه لاروشفوكول من أن كل الدوافع الإنسانية أنانية، علقت هي بقولها في ازدراء "إنه إنما كشف عن سر كل إنسان"(47)وكانت تجيد الهجاء المشوب بالحقد والضغينة كما فعلت في وصفها مدام دي شاتيليه. ولم تر في الحياة الفرنسية إلا الجوانب التافهة الضعيفة. وذهبت إلى ان الفقراء اشتركوا، بقدر ما سمحت به ظروفهم في رذائل الأغنياء ومساوئهم. ولم تضف شيئاً إلى التطلعات المثالية للفلاسفة سوى ما جاءت به العقيدة العتيقة من أساطير مغرية مريحة للنفس. وتجنيب الاستنتاجات وآثرت العادات القويمة. واحتقرت ديدرو ونعته بأنه جلف ساذج. وأحبت دالمبرث ثم عادت فكرهته. وأعجبت بفولتير لأنه سيئ السلوك حاد الذهن. والتقت به في 1721 وعندما هرب من باريس، ثم شرعت في 1736 تبادله الرسائل التي تعد من الروائع في الأدب الفرنسي ولم تقل رسائلها عن رسائله. رقة وعمقاً وصفاء وروعة ولكنها لم تبلغ ما بلغه في رسائله من لطف وسهولة وبعد عن التكلف والكياسة.
                                    وفي سن الخامسة والخمسين بدأت تفقد بصرها، واستشارت كل متخصص في طب العيون، ثم بجأت إلى كل دجال ومشعوذ. وبعد ثلاث سنوات من الكفاح والعناء ذهب بصرها تماماً (1754)، ويومذاك أنذرت أصدقاءها بأنهم إذا استمروا في شهود أمسياتها فإنه يجدر بهم أن يحتملوا السيدة العجوز الضريرة. وعلى الرغم من هذا قصدوا إليها. وأكد لها فولتير من جنيف أن ذكاءها وفطنتها باتا أكثر تألقاً مما كانت حتى وهي بصيرة، وشجعاها على المضي في الحياة لمجرد أن تثير غضب من يدفعون لها
                                    رواتبها السنوية. ووجدت في جولي دي لسبيناس شابة لطيفة نشيطة فاتنة تعاونها على أن تستقبل وتستضيف الأصدقاء. وكانت هي آنذاك تتصدر المائدة وكأنها هومر الأعمى يتصدر مائدة مستديرة وحوله الحكماء وشعراء الملاحم البطولية، وكانت تتنقل هنا وهناك وقورة شامخة متحدية لمدة ستة وعشرين عاماً آخر. وإنا لنأمل أن نلتقي بها هي أيضاً مرة أخرى.
                                    ولقد كان عصراً مشرقاً زاهياً، لأن النساء تألقن فيه، وجمعن فيه بين الذكاء والجمال، مما لم يسبق له مثيل. وبفضلهن ألهب الكتاب الفرنسيون الفكر بالعاطفة، وزينوا الفلسفة بالظرف وخفة الروح. وكيف كان يتسنى لفولتير أن يكون فولتير بغير وجودهن؟ حتى ديدرو الفظ الغامض اعترف بقوله "إن النساء عودتنا أن نناقش أشد الموضوعات جفافاً وتعقيداً، بشكل ساحر واضح، إننا نحدثهم حديثاً متواصلاً، ونريد منهن الإصغاء إلينا، ونخشى أن يتولاهن التعب أو الضجر. ومن ثم كنا نستخدم طريقة معينة في إيضاح آرائنا لهن في يسر وسهولة. وكانت هذه الطريقة تنتقل من مجرد الكلام إلى أسلوب"(48)وبفضل النساء أصبح النثر الفرنسي أكثر إشراقاً ووضاءة من الشعر واكتسب اللغة الفرنسية سحراً رقيقاً، ورشاقة في العبارة ولباقة في الحديث مما جعلها بهيجة ذات مكانة رفيعة. وبفضل النساء انتقل الفن الفرنسي من طراز الباروك الغريب الشاذ إلى الشكل المهذب المصقول والذوق الرفيع، مما ازدانت به كل مظاهر الحياة في فرنسا.
                                    bestfriends
                                    Infinity and eternity

                                    Comment


                                    • #19
                                      رد: قصة الحضارة (عبادة الجمال )


                                      الفصل التاسع




                                      عبادة الجمال




                                      1- انتصار الروكوكو


                                      في هذا العصر، فيما بين الوصايا وحرب السنين السبع-عصر طراز لويس الخامس عشر-كانت النساء تتحدى الآلهة: أي الفريقين أحق بالعبادة، وكان السعي وراء الجمال ينافس الانصراف إلى التبتل والورع، والاندفاع إلى الحرب. وفي الفن والموسيقى، كما في العلوم والفلسفة، تراجع كل ما هو فوق الطبيعة أمام كل ما هو طبيعي. إن هيمنة المرأة على ملك حساس شهواني، هيأت اعتباراً جديداً أو مكانة جديدة للرهافة ورقة الوجدان. كما أن الاتجاه إلى مذهب اللذة والمتعة في الحياة الذي كان قد بدأ على عهد فيليب دي أورليان، بلغ ذروته في أيام بمبادور. وأصبح الجمال أكثر من أي وقت مضى، أمراً ذا "قيم ملموسة" فكان شيئاً يسر المرء أن يلمسه بيده أو تقع عليه عيناه، ابتداء من خزف سيفر إلى لوحات بوشيه العارية. وتخلى المهيب الفخم عن مكانه للبهيج السار والجليل الوقور للرشيق الرقيق، وكبر الحجم لفتنة الرشاقة، وكان الروكوكو فن أقلية أبيقورية غنية متلهفة على الاستمتاع بكل لذة قبل انقضاء دنياها السريعة الزوال، وفي غمرة طوفان من التغيير تتعجل حدوثه. وفي هذا الطراز الدنيوي الصريح طفرت الخطوط فرحاً، ورقت الألوان، وخلت الأزهار من الأشواك، وتجنبت الموضوعات الفاجعة لتؤكد الإمكانات الباسمة المشرقة في الحياة، وكان الروكوكو آخر مرحلة في الباروك من تمرد الخيال على الحقيقة والواقع، ومن ثورة الحرية والانطلاق على النظام والقواعد. ومع ذلك لم تكن حرية مخلة، بل ظل إنتاجها يحتفظ بالمنطق والتركيب، ويعطي المغزى شكلاً. ولكنها كرهت الخطوط المستقيمة والزوايا الحادة، ونفرت من التماثيل، وآلمها أن تترك أية قطعة أثاث دون نقوش. وعلى
                                      الرغم من أناقة الروكوكو الجذابة، فإنه أنتج آلافاً من الأشياء التي لا يفوقها شيء في رشاقتها وزخرفتها. ولمدة نصف قرن من الزمان جعل الروكوكو من الفنون الصغيرة أسمى فن في فرنسا.
                                      وعلى قدر علمنا لم يوجد قط مثل هذا النشاط من قبل، وقليلاً ما كان مثل هذا التفوق والامتياز، في مجالات الأعمال الجمالية، تلك المجالات التي كانت يوماً أقل شأناً. وفي تلك الحقبة صار الفنان والحرفي مرة أخرى شخصاً واحداً كما كان الحال في أوربا في العصور الوسطى، وكان هؤلاء القادرون على تجميل الجوانب الخصوصية في الحياة موضع تكريم مع الرسامين والمثالين والمعماريين في هذا العصر.
                                      ولم يبلغ الأثاث قط من قبل هذه الدرجة من الروعة والإتقان. ولم يعد أثاث طراز "لويس الخامس عشر ضخماً مثل ما كان في عهد الملك العظيم، وقد كان تصميمه مقصوداً للراحة، ولا للعظمة والوقار، وكان أكثر ملاءمة لجسم المرأة وملابسها، منه للجلال والتباهي، واتخذت الأرائك أشكالاً شتى، لتتناسب مع الأوضاع الجسمية والأمزجة. وكتب فولتير "إن السلوك الاجتماعي أيسر اليوم منه في الماضي، ويمكن أن ترى السيدات يقرأن على الأرائك أو أسرة النهار (سرير ضيق يحول في النهار إلى أريكة) دون أن يسببن أي إزعاج أو مضايقة لأصدقائهن ومعارفهن(1). وكان السرير يتوج بظلة رقيقة جميلة وتزين ألواحه بالصور والرسوم أو تنجد، وتنفش قوائمه نقشاً جميلاً. وطورت أنماط جديدة من الأثاث لتواجه حاجات جيل آثر فينوس على مارس (آثر آلهة الجمال على إله الحرب) وأخذ الكرسي المنجد ذو الذراعين والوسادة الوثيرة (البرجير) والأريكة المكسوة بنسيج مزدان بالصور والرسوم، والكرسي الطويل (شيزلنج) ومائدة الكتابة والقراءة (ما يوضع عليه الكتاب عند القراءة) ومنضدة الحوض في حجرة النوم والمائدة المثبتة إلى الحائط تحت مرآة (الكونسول)، ومسند القدمين، والخزنة العالية ذات الأدراج، وصان السفرة-كل هذه الأشياء أخذت آنذاك أشكالها، وفي الغالب أسماءها التي احتفظت في الواقع
                                      بها إلى يومنا هذا. وأسرفوا في النقش وغيره من ألوان الزخرفة والتزيين إلى حد أثار رد فعل في النصف الثاني من القرن، وتطعيم خشب الأثاث بالصدف أو المعادن الذي أدخله أندريه شارل بولليه في عهد لويس الرابع عشر، وأهمله أبناؤه من بعده، حيث كانوا نجاري الأثاث لدى لويس الخامس عشر وغطت تشكيلة كبيرة من التطعيم سطح الخشب الملون أو المكسو بقشرة رقيقة أو المدهون بورنيش الك "ووضع فولتير" أشغال الك "في فرنسا القرن الثامن عشر، في مرتبة سواء مع ما كان يرد منها من الصين أو اليابان. أما الحرفيون من أمثال كرسنت، أو بورد اوبن، كافييري، وميسونيه فقد بلغوا من التفوق والتبريز في تصميم الأثاث وزخرفته درجة حدت بنجاري الأثاث الأجانب إلى القدوم إلى فرنسا لدراسة أساليبهم، ثم نشروا الطراز الفرنسية من لندن إلى بطرسبرج. وجمع جوست أوريل ميسونييه بين عشرة فنون أو تزيد، فبنى البيوت، وزخرف أجزاءها الداخلية، وصنع الأثاث على أحدث طراز، وصنع "الشمعدانات" والآنية الفضية للمائدة وصمم علب السعوط وأغطية الساعات، ونظم المشاهد الفاخرة، وألف عدة كتب دون فيها مهاراته وفنونه. وكاد أن يكون الرجل العالمي في زمانه.
                                      وقد حلت الألفة والعلاقات الحميمة في الحياة على عهد لويس الخامس عشر محل التمسك بالرسميات الذي ساد القرن السابع عشر، فإن الزخرفة الداخلية انتقلت من الفخامة والأبهة إلى الرقة. وفي هذا أيضاً بلغ العصر الذروة، فالأثاث والبسط والسجاد والتنجيد والقطع الفنية، وساعات الحائط والمرايا، والإطارات والأنسجة المزدانة بالصور والرسوم والستائر واللوحات والسقوف والشمعدانات، حتى خزائن الكتب-صنعت كلها في تناسق في الألوان والطراز يسر الناظرين. وقد يساورنا الظن بأن الكتب كانت تشترى للون جلدتها والمادة المصنوعة منها قدر ما تشترى من أجل محتوياتها، ولكنا يمكن أن ندرك هذه اللذة أيضاً. وإنا لننظر بعين الحسد إلى المكتبات الشخصية الخاصة المرصوصة وراء الزجاج في خزائن جميلة
                                      مرتكزة على الحائط: وكانت حجرات الطعام نادرة في فرنسا قبل 1750، أما موائد الطعام فكانت تصنع بحيث يمكن بسهولة تمديدها لمضاعفة عدد الجالسين إليها وإزالتها، لأن ضيوف العشاء قد يبلغون عدد كبيراً لا يمكن التنبؤ به. ولم تعد المدافئ من ذاك الطراز الضخم الذي كان قد انحدر من العصور الوسطى إلى لويس الرابع عشر، ولكنها ازدانت بزخرفة مترفة، وفي بعض الأحيان (وهذا مثال نادر للذوق السقيم في هذه الحقبة) كانت تماثيل للمرآة تستخدم بمثابة أعمدة تحمل رفوف المدفأة, وكانت كل التدفئة تقريباً عن طريق مدافئ مفتوحة تسترها حواجز مزخرفة، ولكنا كنا نجد هنا وهناك في فرنسا، كما كان في ألمانيا، موقداً مكسواً بالخزف المزخرف. وكانت الإضاءة بالشموع التي تثبت بمائة طريقة مختلفة، تبلغ أقصى روعتها في الشمعدان الضخم المتألق، المصنوع من البلور أو الزجاج أو البرونز. وإنا لنعجب من كثرة القراءة على ضوء الشموع، ولكن ربما قللت المشاق من إنتاج الهراء واستهلاكه.
                                      ومع تقدم القرن، حلت اللوحات الحائطية الزاهية الألوان والمزخرفة زخرفة رقيقة محل النسيج المزدان بالصور والرسوم، وفي هذه الفترة كانت قمة ازدهار فن هذا النسيج. وفي كل أنواع النسيج تقريباً-من الدمقسي والمطرزات والمقصبات إلى البسط والسجاجيد والستائر الممتازة تحدت فرنسا في تلك الأيام أفخر منسوجات الشرق. وتخصصت أميان في المخمل المنقوش واشتهرت ليون وتور ونيم بالحرير المزركش. وفي ليون ابتدع جان بيلمنت وجان بابتست هويه وغيرهما سجاجيد تعلق على الجدران ممهورة ومخيطة بموضوعات ومناظر صينية أو تركية أسرت لب بمبادور. وكان هذا النسيج يصنع في مصانع المؤممة في باريس وبوفيه، وفي الحوانيت الخاصة في أوبيسون وليل. وكانت هذه المنسوجات إذ ذاك قد فقدت وظيفتها في الانتفاع بها للحماية من الرطوبة والتيارات الهوائية، وأصبحت للتزين فقط وغالباً ما صغر حجمها لتلتئم مع النزعة إلى تصغير الحجرات. وسار النساجون في مصانع الجوبلان وبوفيه وفق التصميمات والرسوم
                                      التي وضعها، والألوان التي تصح باستخدامها أئمة الرسم في ذاك العصر، وكانت جميلة بصفة خاصة تلك القطع الخمس عشرة التي نسجتها مصانع جوبلان (1717) وفق الرسوم التي أعدها شارل أنطوان كوبيل لتصوير قصة "دون كيشوت". أما نساجو بوفيه فإنهم، كما سنرى أنتجوا قطعاً رائعة من النسيج، صمم رسومها الفنان بوشيه. وفي 1712 أعيد تنظيم مصانع "سافونيري" وكانت في الأصل لصنع الصابون-وأطلق عليها المصنع الملكي لصناعة السجاد على طراز فارس والشرق الأدنى وسرعان ما أنتج سجاجيد ضخمة امتازت برسوم دقيقة وألوان متنوعة ووبر ناعم مخملي، وهذه أجمل سجاجيد ذات وبر في فرنسا القرن الثامن عشر. وكانت مصانع النسيج المزدان بالصور والرسوم هي التي تقوم بالتنجيد الذي يتطلب المثابرة وبذل أقصى الجهد لكراسي الأثرياء، ولا بد أن كثيراً من الأصابع المتواضعة الذليلة قد تعبت وتصلبت لتوفر لهؤلاء الأثرياء مقاعد وثيرة تقيهم عناء الجلوس.
                                      وأقبل الخزافون الفرنسيون على عصر من المغامرة. وهيأت لهم حروب لويس الرابع عشر الفرصة. ذلك أن الملك العجوز صهر ما لديه من فضة لتمويل جيوشه وأحل الخزف مكان الفضة، وأمر رعاياه بأن يحذو حذوه. وسرعان ما لبت مصانع الخزف في روان وليل وسكو وستراسبورج وموستير سانت ماري ومرسيليا هذا المطلب الجديد. وبعد موت لويس الرابع عشر شجع الميل إلى الأطباق وغيرها من الأشياء المصنوعة من الخزف-شجع الخزافين إلى إنتاج أجمل ما عرف منها في تاريخ أوربا. ورسم مشاهير الفنانين من أمثال بوشيه وفلكونيه وباجو المناظر على الخزف الفرنسي وابتدعوا أشكالاً كثيرة منه.
                                      وفي نفس الوقت كانت فرنسا تتجه إلى إنتاج الخزف الصيني. وكانت أنواع متعددة من العجينة الملساء تصنع في أوربا منذ مدة طويلة ترجع إلى 1582 في فلورنسه و1673 في روان، وكانت كلها على أية حال تقليداً للنماذج الصينية. ولم تكن مصنوعة من العجينة الصلبة المأخوذة

                                      من مادة الكاوين أي الصلصال الصيني، أو حجر الطفل الصيني الذي يذاب في درجة حرارة عالية في الشرق الأقصى. وإنما كانت من صلصال أقل صلابة يسخن في درجة حرارة منخفضة ثم يغطى "بالغربتة" وهي مادة متكلسة أو شبه منصهرة ومصقولة. وحتى هذا الخزف الصيني المصنوع من العجينة الطرية-وبخاصة في شانتبللي، وفنسن ومنسي-فيلروا (بالقرب من باريس) كان جميلاً جداً، واستمر استيراد الخزف المصنوع من الصلصال الصلب من الصين أو در سدن. وفي 1740 انتزعت مدام دي بمبادور مائة ألف جنيه من لويس الخامس عشر، و250 ألفاً من مصادر خاصة للتوسع في إنتاج الخزف من العجينة الطرية في فنسن. وفي 1756 نقلت عمال فنسن المائة إلى مبنى أوسع وأوفى بالغرض في سيفر (بين باريس وفرساي) وهناك في 1769 بدأت فرنسا إنتاج الخزف الصيني الحقيقي من الصلصال الصلب.
                                      وأفاد صائغو الذهب والفضة من أن ملك فرنسا استخدم من منتجاتهم رصيداً احتياطياً قومياً، محولاً السبائك إلى أشكال مسرفة في الجمال، ولكن يمكن في الحال صهرها إذا دعت الضرورة. وفي عهد لويس الخامس عشر ازداد طلب الطبقات المتوسطة على المشغولات الفضية بوصفها أدوات نافعة أو وسائل للزينة. وتكاد كل أنماط السكاكين التي نستخدمها اليوم تكون قد اتخذت شكلها الراهن في فرنسا القرن الثامن عشر: شوكات المحار، ملاعق المثلجات، ملاعق السكر، أطقم الصيد، طقم الرحلات، سكاكين وشوكات الأكل، أضف إلى ذلك مملحة المائدة، وفناجين الشاي والأباريق والأواني وأدوات التجميل والشمعدانات، وكلها مزدانة بنقوش بديعة أو مصنوعة ف أشكال جميلة.. "وكان أحسنها في هذا المجال طراز لويس الخامس عشر من بين كل الطرز الفرنسية(2)وصنع صائغوا الذهب والفضة صناديق أو علباً صغيرة حملها الرجال والنساء على السواء، لحفظ السعوط أو الأقراص أو المساحيق أو الحلوى، كما صنعوا مائة صنف من الأواني والأوعية والصناديق لمنضدة الزينة وحجرة النوم والملابس، وكان في حوزة
                                      الأمير دي كونتي مجموعة من ثمانمائة صندوق من مختلف الأشكال، من المعادن النفيسة، وكلها رائعة متقنة الصنع. واستخدمت مواد أخرى كثيرة لمثل هذه الأغراض: العقيق، عرق اللؤلؤ، اللازورد.... وكان قطع الجواهر وتركيبها الامتياز الذي تفرد به 350 من مهرة الحرفيين الذين ضمتهم نقابة الصائغين.
                                      وحملت أشغال المعادن سمعة العصر في رقة القوالب والأشكال والصقل والإتقان. واتخذت مناصب أو مساند الحطب المشتعل أشكالاً خرافية من التصميمات أو الرسوم المعقدة من الحيوانات الخيالية عادة. واستخدم البرونز الذهبي اللون لصنع أو زخرفة هذه المناصب والمشاعل والشمعدانات ذوات الشعب أو تحليتها بالزخارف، أو لتركيب ساعة الحائط أو البارومتر أو حجر الشب أو الخزف الصيني. فبلغ البرونز الحديث ذروه استخدامه في القرن الثامن عشر، فكان من الممكن أن تكون ساعات الحائط في أشكال ضخمة غريبة وساعات الجيب أو اليد صلبة جميلة-من البرونز أو المينا أو الفضة أو الذهب، ومزدانة بنقوش غاية في الجمال والإتقان. وكانت المشاعل في بعض الأحيان تحفاً رائعة في فن النحت، مثل تلك التي أبدعها فالكونيه لقصر فرساي. وكانت المنمنمات والرسوم الفاخرة من روائع هذا العصر. وأنتجت أسرة واحدة هي أسرة رومتيير، خمسة أشكال من الرصائع (الميداليات) المحفورة على مدى قرن من الزمان، تميزت كلها بدقة الصنع إلى أن الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة رحبت بانضمامها إليها، في عداد كبار الرسامين والمثاليين. إن القرن الثامن عشر عرض في الأشياء الصغيرة في الحياة أعظم ثروته خلواً من الهموم، كما عرض أكثر فنونه دقة وإتقاناً. وقال تلليران "إن أولئك الذين لم يعيشوا قبل 1789 لن يدركوا أبداً إلى أي حد يمكن أن الحياة حلوة"(3)، إذا تسنى للمرء أن يختار الطبقة التي ينتمي إليها ويتفادى المقصلة.
                                      bestfriends
                                      Infinity and eternity

                                      Comment


                                      • #20
                                        رد: قصة الحضارة (ول ديورانت)


                                        2- فن العمارة


                                        وتجاهل فن العمارة الروكوكو تقريباً. وتتغير الطرز ببطء في البناء أكثر منها في الزخرفة لأن مقتضيات الرسوخ والثبات أقل مرونة من تقلبات الذوق. وكانت الأكاديمية الملكية لفن العمارة التي نظمها كولبير في 1681 يتولى توجيهها الآن ورثة تقاليد لويس الرابع عشر. وواصل روبرت دي كوت عمل جول هردوين مانسار الذي كان قد أكمل قصر فرساي. وكان جرمين بوفران تلميذاً لمانسار، وكان جاك جول جبراييل وابنه جاك آنج خلفين غير مباشرين لمناسار، ومن ثم حصر تيار هذه التقاليد مجراه في قوة وصلابة، واحتفظ هؤلاء الرجال بطراز الباروك، بل بالطراز نصف الكلاسيكي، بالمظاهر الخارجية التي سادت في القرن العظيم، مثل الأعمدة وتيجانها والعتبات، ولكنهم سمحوا بمسحة من الروكوكو فيما شادو من مبان.
                                        وخفف ضعف الإيمان من حدة التحمس لبناء كنائس جديدة، ولكن جددت على أية حال واجهتا كنيستين قديمتين. ذلك أنه في 1736 أقام روبرت دي كوت لكنيسة سانت روش أعمدة وقوصرة (مثلث أعلى الواجهة) كلاسيكية. وفيما بين 1743-1745 زود جان نيقولا سرفاندوني كنيسة سانت سولبيس برواق ضخم ذي طابقين في مدخلها، قائم على أعمدة دورية وأيويية من طراز بللاديو الروماني الكئيب، ولكن العمارة المدنية هي التي عبرت عن روح العصر وتحولت فيما بعد عدة قصور بنيت في تلك الفترة إلى وزارات وطنية أو دور للسفارات الأجنبية. من ذلك قصر ماتنيون 1721 الذي أصبح سفارة النمسا، ثم داراً لرئيس الوزراء، وقصر البوربون (1722-1750) الذي أدمج جزء منه في مجلس النواب، وقصر سوبيز (الذي عدل بناؤه 1742) والذي أصبح داراً للمحفوظات الوطنية.
                                        وفي عهد المركيز دي ماريني، مدير المباني، ازدهرت أحوال عدد
                                        كبير من المهندسين المعماريين والمثالين والرسامين ومهندسي الزخرفة، ووجد مساكن وأعمالاً لهم ورأى أنهم يؤجرون أجراً حسناً. وكان المهندس المعماري الأثير لديه هو جاك آنج جيراييل الذي ارتضى التقليد الكلاسيكي عن طيب خاطر. وبعد صلح اكس لاشابل (1748) انهمك إدم بوشاردون في إقامة تمثال فارس للملك لويس الخامس عشر، وعهد إلى جبريل بتصميم المكان الذي يحيط بالتمثال. فوضع حول مساحة مكشوفة بين حدائق التويلري والشانزليزليه، دائرة من "الدرابزينات" والحدائق الغائرة، وشاد في الطرف الشمالي قصر كحريون الحالي ووزارة البحرية الحالية، وكلاهما على طراز كلاسيكي بحت، وعمد إلى تزيين الميدان بإقامة أربعة تماثيل أسطورية سرعان ما أطلق عليها الباريسيون أسماء خليلات الملك-ميللي فنتيميل، شاتورو، بمبادور. وأطلق على الميدان اسم لويس الخامس عشر، ونسميه اليوم ميدان الكونكورد. وقد يسرنا أن نعلم أنه كان هناك ازدحام في حركة المرور منذ مائتي عام. وجيمس انجل جبرائيل هذا هو نفسه الذي شاد في 1752 المدرسة الحربية المتناسقة الأجزاء إلى حد بالغ والتي تضاهي رشاقة أعمدتها مثيلتها في أية ساحة رومانية قديمة.
                                        ولم تكن باريس هي وحدها التي جددت مبانيها وغيرت وجهها في هذا العصر ففي شاتنيللي عهد دوق بوربون إلى جان أوبيرت بإقامة أسطبلات لجياده وكلابه، بلغت من الفخامة حداً يدعو إلى المقابلة بينها وبين أكواخ الفلاحين. وفي اللورين جعل ستانسلاس لزكزنسكي من نانسي واحدة من أجمل مدن فرنسا، وهناك أكمل بوفران بناء الكاتدرائية التي كان قد بدأها أستاذه جول هاردوين "انسار" وفيما بين عامي 1750-1757 أقام أمانويل هيري دي كورني "المدينة الجديدة" في نانسي: دار البلدية من طراز الروكوكو، وميدان ستانسلاس الذي يؤدي عبر حديقة عامة وقوس النصر إلى ميدان دي لاكاريير ودار الحكومة، وأحاط جان لامور ميدان ستانسلاس بحواجز من قضبان حديدية متصالبة (1751-1755) هي أجمل ما صنع من نوعها في الفن الحديث. وأقامت ليون آنذاك ميدان
                                        كويس الأكبر وافتتحت كل من نانت وروان وريمس وبوردو ميدان الملك. وشادت تولوز مبنى فخماً للبرلمان، وأقامت روان نافورات جميلة وزينت الجسور الفخمة مدينة سنس. وعمت المتنزهات الواسعة نانت وبلوا ومونبلييه. وفيما بين عامي 1730-1760 حول جان جاك جبراييل بوردو إلى مدينة حديثة ذات ميادين شاسعة وشوارع واسعة ومتنزهات طلقة الهواء وواجهة جميلة تطل على المياه، وشيدت فيها المباني العامة على طراز عصر النهضة الرائع.
                                        وأخيراً تخطت العمارة الفرنسية الحدود، فعهد إلى رجال العمارة الفرنسيين بإقامة المباني في سويسرا وألمانيا والدنمرك وروسيا وإيطاليا وإسبانيا. وفي أواسط القرن وحين ضعفت قوة فرنسا العسكرية ومكانتها السياسية نجد أنها بلغت ذروة النفوذ والتأثير في مجال العادات والفن.
                                        bestfriends
                                        Infinity and eternity

                                        Comment

                                        Working...
                                        X