• If this is your first visit, be sure to check out the FAQ by clicking the link above. You may have to register before you can post: click the register link above to proceed. To start viewing messages, select the forum that you want to visit from the selection below.

Announcement

Collapse

قوانين المنتدى " التعديل الاخير 17/03/2018 "

فيكم تضلو على تواصل معنا عن طريق اللينك: www.ch-g.org

قواعد المنتدى:
التسجيل في هذا المنتدى مجاني , نحن نصر على إلتزامك بالقواعد والسياسات المفصلة أدناه.
إن مشرفي وإداريي منتدى الشباب المسيحي - سوريا بالرغم من محاولتهم منع جميع المشاركات المخالفة ، فإنه ليس بوسعهم استعراض جميع المشاركات.
وجميع المواضيع تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا يتحمل أي من إدارة منتدى الشباب المسيحي - سوريا أي مسؤولية عن مضامين المشاركات.
عند التسجيل بالمنتدى فإنك بحكم الموافق على عدم نشر أي مشاركة تخالف قوانين المنتدى فإن هذه القوانين وضعت لراحتكم ولصالح المنتدى، فمالكي منتدى الشباب المسيحي - سوريا لديهم حق حذف ، أو مسح ، أو تعديل ، أو إغلاق أي موضوع لأي سبب يرونه، وليسوا ملزمين بإعلانه على العام فلا يحق لك الملاحقة القانونية أو المسائلة القضائية.


المواضيع:
- تجنب استخدام حجم خط كبير (أكبر من 4) او صغير (أصغر من 2) او اختيار نوع خط رديء (سيء للقراءة).
- يمنع وضع عدد كبير من المواضيع بنفس القسم بفترة زمنية قصيرة.
- التأكد من ان الموضوع غير موجود مسبقا قبل اعتماده بالقسم و هالشي عن طريق محرك بحث المنتدى او عن طريق محرك بحث Google الخاص بالمنتدى والموجود بأسفل كل صفحة و التأكد من القسم المناسب للموضوع.
- إحترم قوانين الملكية الفكرية للأعضاء والمواقع و ذكر المصدر بنهاية الموضوع.
- مو المهم وضع 100 موضوع باليوم و انما المهم اعتماد مواضيع ذات قيمة و تجذب بقية الاعضاء و الابتعاد عن مواضيع العاب العد متل "اللي بيوصل للرقم 10 بياخد بوسة" لأنو مخالفة و رح تنحزف.
- ممنوع وضع الاعلانات التجارية من دون موافقة الادارة "خارج قسم الاعلانات".
- ممنوع وضع روابط دعائية لمواقع تانية كمان من دون موافقة الادارة "خارج قسم الاعلانات".
- لما بتشوفو موضوع بغير قسمو او فيو شي مو منيح او شي مو طبيعي , لا تردو عالموضوع او تحاورو صاحب الموضوع او تقتبسو شي من الموضوع لأنو رح يتعدل او ينحزف و انما كبسو على "التقرير بمشاركة سيئة" و نحن منتصرف.
- لما بتشوفو موضوع بقسم الشكاوي و الاقتراحات لا تردو على الموضوع الا اذا كنتو واثقين من انكم بتعرفو الحل "اذا كان الموضوع عبارة عن استفسار" , اما اذا كان الموضوع "شكوى" مافي داعي تردو لأنو ممكن تعبرو عن وجهة نظركم اللي ممكن تكون مختلفة عن توجه المنتدى مشان هيك نحن منرد.
- ممنوع وضع برامج الاختراق او المساعدة بعمليات السرقة وبشكل عام الـ "Hacking Programs".
- ممنوع طرح مواضيع او مشاركات مخالفة للكتاب المقدس " الانجيل " وبمعنى تاني مخالفة للايمان المسيحي.
- ممنوع طرح مواضيع او مشاركات تمس الطوائف المسيحية بأي شكل من الاشكال "مدح او ذم" والابتعاد بشكل كامل عن فتح اي نقاش يحمل صبغة طائفية.
- ضمن منتدى " تعرفون الحق و الحق يحرركم " بالامكان طرح الاسئلة بصيغة السؤال والجواب فقط ويمنع فتح باب النقاش والحوار بما يؤدي لمهاترات وافتراض اجوبة مسبقة.


عناوين المواضيع:
- عنوان الموضوع لازم يعبر عن محتوى الموضوع و يفي بالمحتوى و ما لازم يكون متل هيك "الكل يفوت , تعوا بسرعة , جديد جديد , صور حلوة , الخ ....".
- لازم العنوان يكون مكتوب بطريقة واضحة بدون اي اضافات او حركات متل "(((((((((العنوان)))))))))))) , $$$$$$$$$ العنوان $$$$$$$$$".
- عنوان الموضوع ما لازم يحتوي على اي مدات متل "الــعــنـــوان" و انما لازم يكون هيك "العنوان".


المشاركات:
- ممنوع تغيير مسار الموضوع لما بكون موضوع جدي من نقاش او حوار.
- ممنوع فتح احاديث جانبية ضمن المواضيع وانما هالشي بتم عالبرايفت او بالدردشة.
- ممنوع استخدام الفاظ سوقية من سب او شتم او تجريح او اي الفاظ خارجة عن الزوق العام.
- ممنوع المساس بالرموز و الشخصيات الدينية او السياسية او العقائدية.
- استخدام زر "thanks" باسفل الموضوع اذا كنتو بدكم تكتبو بالمشاركة كلمة شكر فقط.
- لما بتشوفو مشاركة سيئة او مكررة او مو بمحلها او فيا شي مو منيح , لا تردو عليها او تحاورو صاحب المشاركة او تقتبسو من المشاركة لأنو رح تنحزف او تتعدل , وانما كبسو على "التقرير بمشاركة سيئة" و نحن منتصرف.


العضوية:
- ممنوع استخدام اكتر من عضوية "ممنوع التسجيل بأكتر من اسم".
- ممنوع اضافة حركات او رموز لاسم العضوية متل " # , $ , () " و انما يجب استخدام حروف اللغة الانكليزية فقط.
- ممنوع اضافة المدات لاسم العضوية "الـعـضـويـة" و انما لازم تكون بهل شكل "العضوية".
- ممنوع استخدام اسماء عضويات تحتوي على الفاظ سوقية او الفاظ بزيئة.
- ممنوع وضع صورة رمزية او صورة ملف شخصي او صور الالبوم خادشة للحياء او الزوق العام.
- التواقيع لازم تكون باللغة العربية او الانكليزية حصرا و يمنع وضع اي عبارة بلغة اخرى.
- ما لازم يحتوي التوقيع على خطوط كتيرة او فواصل او المبالغة بحجم خط التوقيع و السمايليات او المبالغة بمقدار الانتقال الشاقولي في التوقيع "يعني عدم ترك سطور فاضية بالتوقيع و عدم تجاوز 5 سطور بحجم خط 3".
- ما لازم يحتوي التوقيع على لينكات "روابط " دعائية , او لمواقع تانية او لينك لصورة او موضوع بمنتدى اخر او ايميل او اي نوع من اللينكات , ما عدا لينكات مواضيع المنتدى.
- تعبئة كامل حقول الملف الشخصي و هالشي بساعد بقية الاعضاء على معرفة بعض اكتر و التقرب من بعض اكتر "ما لم يكن هناك سبب وجيه لمنع ذلك".
- فيكم تطلبو تغيير اسم العضوية لمرة واحدة فقط وبعد ستة اشهر على تسجيلكم بالمنتدى , او يكون صار عندكم 1000 مشاركة , ومن شروط تغيير الاسم انو ما يكون مخالف لشروط التسجيل "قوانين المنتدى" و انو الاسم الجديد ما يكون مأخود من قبل عضو تاني , و انو تحطو بتوقيعكم لمدة اسبوع على الاقل "فلان سابقا".
- يمنع انتحال شخصيات الآخرين أو مناصبهم من خلال الأسماء أو الصور الرمزية أو الصور الشخصية أو ضمن محتوى التوقيع أو عن طريق الرسائل الخاصة فهذا يعتبر وسيلة من وسائل الإحتيال.


الرسائل الخاصة:
الرسائل الخاصة مراقبة مع احترام خصوصيتا وذلك بعدم نشرها على العام في حال وصلكم رسالة خاصة سيئة فيكم تكبسو على زر "تقرير برسالة خاصة" ولا يتم طرح الشكوى عالعام "متل انو توصلكم رسالة خاصة تحتوي على روابط دعائية لمنتجات او مواقع او منتديات او بتحتوي على الفاظ نابية من سب او شتم او تجريح".
لما بتوصلكم رسائل خاصة مزعجة و انما ما فيها لا سب ولا شتم ولا تجريح ولا روابط دعائية و انما عم يدايقكم شي عضو من كترة رسائلو الخاصة فيكم تحطو العضو على قائمة التجاهل و هيك ما بتوصل اي رسالة خاصة من هالعضو.
و تزكرو انو الهدف من الرسائل الخاصة هو تسهيل عملية التواصل بين الاعضاء.


السياسة:
عدم التطرق إلى سياسة الدولة الخارجية أو الداخلية أو حتى المساس بسياسات الدول الصديقة فالموقع لا يمت للسياسة بصلة ويرجى التفرقة بين سياسات الدول وسياسات الأفراد والمجتمعات وعدم التجريح أو المساس بها فالمنتدى ليس حكر على فئة معينة بل يستقبل فئات عدة.
عدم اعتماد مواضيع أو مشاركات تهدف لزعزعة سياسة الجمهورية العربية السورية أو تحاول أن تضعف الشعور القومي أو تنتقص من هيبة الدولة ومكانتها أو أن يساهم بشكل مباشر أو غير مباشر بزعزعة الأمن والاستقرار في الجمهورية العربية السورية فيحق للادارة حذف الموضوع مع ايقاف عضوية صاحب الموضوع.


المخالفات:
بسبب تنوع المخالفات و عدم امكانية حصر هالمخالفات بجدول محدد , منتبع اسلوب مخالفات بما يراه المشرف مناسب من عدد نقط و مدة المخالفة بيتراوح عدد النقط بين 1-100 نقطة , لما توصلو لل 100 بتم الحظر الاوتوماتيكي للعضو ممكن تاخدو تنبيه بـ 5 نقط مثلا على شي مخالفة , و ممكن تاخد 25 نقطة على نفس المخالفة و ممكن يوصلو لل 50 نقطة كمان و هالشي بيرجع لعدد تكرارك للمخالفة او غير مخالفة خلال فترة زمنية قصيرة.
عند تلقيك مخالفة بيظهر تحت عدد المشاركات خانة جديدة " المخالفات :" و بيوصلك رسالة خاصة عن سبب المخالفة و عدد النقط و المدة طبعا هالشي بيظهر عندكم فقط.


الهدف:
- أسرة شبابية سورية وعربية مسيحية ملؤها المحبة.
- توعية وتثقيف الشباب المسيحي.
- مناقشة مشاكل وهموم وأفكار شبابنا السوري العربي المسيحي.
- نشر التعاليم المسيحية الصحيحة وعدم الإنحياز بشكل مذهبي نحو طائفة معينة بغية النقد السيء فقط.
في بعض الأحيان كان من الممكن أن ينحني عن مسار أهدافه ليكون مشابه لغيره من المنتديات فكان العمل على عدم جعله منتدى ديني متخصص كحوار بين الطوائف , فنتيجة التجربة وعلى عدة مواقع تبين وبالشكل الأكبر عدم المنفعة المرجوة بهذا الفكر والمنحى , نعم قد نشير ونوضح لكن بغية ورغبة الفائدة لنا جميعا وبتعاون الجميع وليس بغية بدء محاورات كانت تنتهي دوما بالتجريح ومن الطرفين فضبط النفس صعب بهذه المواقف.



رح نكتب شوية ملاحظات عامة يا ريت الكل يتقيد فيها:
• ابحث عن المنتدى المناسب لك و تصفح أقسامه ومواضيعه جيداً واستوعب مضمونه وهدفه قبل ان تبادر بالمشاركة به , فهناك الكثير من المنتديات غير اللائقة على الإنترنت .وهناك منتديات متخصصة بمجالات معينة قد لا تناسبك وهناك منتديات خاصة بأناس محددين.
• إقرأ شروط التسجيل والمشاركة في المنتدى قبل التسجيل به واستوعبها جيدأ واحترمها و اتبعها حتى لا تخل بها فتقع في مشاكل مع الأعضاء ومشرفي المنتديات.
• اختر اسم مستعار يليق بك وبصفاتك الشخصية ويحمل معاني إيجابية ، وابتعد عن الأسماء السيئة والمفردات البذيئة ، فأنت في المنتدى تمثل نفسك وأخلاقك وثقافتك وبلدك ، كما أن الاسم المستعار يعطي صفاته ودلالته لصاحبه مع الوقت حيث يتأثر الإنسان به بشكل غير مباشر ودون ان يدرك ذلك.
• استخدم رمز لشخصيتك " وهو الصورة المستخدمة تحت الاسم المستعار في المنتدى " يليق بك و يعبر عن شخصيتك واحرص على ان يكون أبعاده مناسبة.
• عند اختيارك لتوقيعك احرص على اختصاره ، وأن يكون مضمونه مناسباً لشخصيتك وثقافتك.
• استخدم اللغة العربية الفصحى وابتعد عن اللهجات المحكية " اللهجة السورية مستثناة لكثرة المسلسلات السورية " لانها قد تكون مفهومة لبعض الجنسيات وغير مفهومة لجنسيات أخرى كما قد تكون لكلمة في لهجتك المحكية معنى عادي ولها معنى منافي للأخلاق أو مسيء لجنسية أخرى . كذلك فإن استخدامك للغة العربية الفصحى يسمح لزوار المنتدى وأعضائه بالعثور على المعلومات باستخدام ميزة البحث.
• استخدم المصحح اللغوي وراعي قواعد اللغة عند كتابتك في المنتديات حتى تظهر بالمظهر اللائق التي تتمناه.
• أعطي انطباع جيد عن نفسك .. فكن مهذباً لبقاً واختر كلماتك بحكمة.
• لا تكتب في المنتديات أي معلومات شخصية عنك أو عن أسرتك ، فالمنتديات مفتوحة وقد يطلع عليها الغرباء.
• أظهر مشاعرك وعواطفك باستخدام ايقونات التعبير عن المشاعر Emotion Icon's عند كتابة مواضيعك وردودك يجب ان توضح مشاعرك أثناء كتابتها ، هل سيرسلها مرحة بقصد الضحك ؟ او جادة أو حزينه ؟ فعليك توضيح مشاعرك باستخدام Emotion Icon's ،لأنك عندما تتكلم في الواقع مع احد وجها لوجه فانه يرى تعابير وجهك وحركة جسمك ويسمع نبرة صوتك فيعرف ما تقصد ان كنت تتحدث معه على سبيل المزاح أم الجد. لكن لا تفرط في استخدام أيقونات المشاعر و الخطوط الملونة و المتغيرة الحجم ، فما زاد عن حده نقص.
• إن ما تكتبه في المنتديات يبقى ما بقي الموقع على الإنترنت ، فاحرص على كل كلمة تكتبها ، فمن الممكن ان يراها معارفك وأصدقائك وأساتذتك حتى وبعد مرور فترات زمنية طويلة.
• حاول اختصار رسالتك قدر الإمكان :بحيث تكون قصيرة و مختصرة ومباشرة وواضحة وفي صلب مضمون قسم المنتدى.
• كن عالمياً : واعلم أن هناك مستخدمين للإنترنت يستخدمون برامج تصفح مختلفة وكذلك برامج بريد الكتروني متعددة ، لذا عليك ألا تستخدم خطوط غريبة بل استخدم الخطوط المعتاد استخدامها ، لأنه قد لا يتمكن القراء من قراءتها فتظهر لهم برموز وحروف غريبة.
• قم بتقديم ردود الشكر والتقدير لكل من أضاف رداً على موضوعك وأجب على أسئلتهم وتجاوب معهم بسعة صدر وترحيب.
• استخدم ميزة البحث في المنتديات لمحاولة الحصول على الإجابة قبل السؤال عن أمر معين أو طلب المساعدة من بقية الأعضاء حتى لا تكرر الأسئلة والاستفسارات والاقتراحات التى تم الإجابة عنها قبل ذلك.
• تأكد من أنك تطرح الموضوع في المنتدى المخصص له: حيث تقسم المنتديات عادة إلى عدة منتديات تشمل جميع الموضوعات التي يمكن طرحها ومناقشتها هنا، وهذا من شأنه أن يرفع من كفاءة المنتديات ويسهل عملية تصنيف وتبويب الموضوعات، ويفضل قراءة الوصف العام لكل منتدى تحت اسمه في فهرس المنتديات للتأكد من أن مشاركتك تأخذ مكانها الصحيح.
• استخدم عنوان مناسب ومميِّز لمشاركتك في حقل الموضوع. يفضل عدم استخدام عبارات عامة مثل "يرجى المساعدة" أو "طلب عاجل" أو "أنا في ورطة" الخ، ويكون ذلك بكتابة عناوين مميِّزة للموضوعات مثل "كيف استخدم أمر كذا في برنامج كذا" أو "تصدير ملفات كذا إلى كذا".
• إحترم قوانين الملكية الفكرية للأعضاء والمواقع والشركات، وعليك أن تذكر في نهاية مشاركتك عبارة "منقول عن..." إذا قمت بنقل خبر أو مشاركة معينة من أحد المواقع أو المجلات أو المنتديات المنتشرة على الإنترنت.
• إن أغلب المنتديات تكون موجهه لجمهور عام ولمناقشة قضايا تثقيفية وتعليمية . لذلك يجب ان تكون مشاركتك بطريقة تحترم مشاعر الآخرين وعدم الهجوم في النقاشات والحوارات. وأي نشر لصور أو نصوص أو وصلات مسيئة، خادشة للحياء أو خارج سياق النهج العام للموقع.
• المنتدى لم يوجد من أجل نشر الإعلانات لذا يجب عدم نشر الإعلانات أو الوصلات التي تشير إلى مواقع إعلانية لأي منتج دون إذن او إشارة إلى موقعك أو مدونتك إذا كنت تمتلك ذلك.
• عدم نشر أي مواد أو وصلات لبرامج تعرض أمن الموقع أو أمن أجهزة الأعضاء الآخرين لخطر الفيروسات أو الدودات أو أحصنة طروادة.
•ليس المهم أن تشارك بألف موضوع فى المنتدى لكن المهم أن تشارك بموضوع يقرأه الألوف،فالعبرة بالنوع وليس بالكم.
• عدم الإساءة إلى الأديان أو للشخصيات الدينية.
•عند رغبتك بإضافة صور لموضوعك في المنتدى ، احرص على ألا يكون حجمها كبير حتى لا تستغرق وقتاً طويلاً لتحميلها وأن تكون في سياق الموضوع لا خارجه عنه.
•الالتزام بالموضوع في الردود بحيث يكون النقاش في حدود الموضوع المطروح لا الشخص، وعدم التفرع لغيره أو الخروج عنه أو الدخول في موضوعات أخرى حتى لا يخرج النقاش عن طوره.
• البعد عن الجدال العقيم والحوار الغير مجدي والإساءة إلى أي من المشاركين ، والردود التي تخل بأصول اللياقة والاحترام.
• احترم الرأي الآخر وقدر الخلاف في الرأي بين البشر واتبع آداب الخلاف وتقبله، وأن الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية.
• التروي وعدم الاستعجال في الردود ، وعدم إلقاء الأقوال على عواهلها ودون تثبت، وأن تكون التعليقات بعد تفكير وتأمل في مضمون المداخله، فضلاً عن التراجع عن الخطأ؛ فالرجوع إلى الحق فضيلة. علاوة على حسن الاستماع لأقوال الطرف الآخر ، وتفهمها تفهما صحيحا.
• إياك و تجريح الجماعات أو الأفراد أو الهيئات أو الطعن فيهم شخصياً أو مهنياً أو أخلاقياً، أو استخدام أي وسيلة من وسائل التخويف أو التهديد او الردع ضد أي شخص بأي شكل من الأشكال.
• يمنع انتحال شخصيات الآخرين أو مناصبهم من خلال الأسماء أو الصور الرمزية أو الصور الشخصية أو ضمن محتوى التوقيع أو عن طريق الرسائل الخاصة فهذا يعتبر وسيلة من وسائل الإحتيال.
• إذا لاحظت وجود خلل في صفحة أو رابط ما أو إساءة من أحد الأعضاء فيجب إخطار مدير الموقع أو المشرف المختص على الفور لأخذ التدابير اللازمة وذلك بإرسال رسالة خاصة له.
• فريق الإشراف يعمل على مراقبة المواضيع وتطوير الموقع بشكل يومي، لذا يجب على المشاركين عدم التصرف "كمشرفين" في حال ملاحظتهم لخلل أو إساءة في الموقع وتنبيه أحد أعضاء فريق الإشراف فوراً.
See more
See less

أعمال أديب وشاعر - الأجنحة المتكسرة - جبران خليل جبران

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • أعمال أديب وشاعر - الأجنحة المتكسرة - جبران خليل جبران

    أعطني الناي وغني ..... فالـغـنا سـر الخـلـود
    وأنين النــاي يبـقـى ..... بعد أن يفنى الوجود




    إنها الأغنية الرقيقة التي شدت بها "فـيروز" ... وهي من قصيدة "المواكب" لشاعر المهجر الرومانسي "جبران خليل جبران"



    ولد "جبران" في يناير عام 1883م ،في قرية بشري ؛إحدى قرى جبل لبنان .. وكان أبوه يعمل في تجارة المواشي .. ولم يكن دخل الأسرة كافياً للإنفاق على ستة أشخاص مما جعل أخاه _بطرس_ يفكر في الرحيل مع الأسرة - عدا الأب - إلى بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية ..
    فيقيم "جبران" ويتلقى تعليمه في مدرسة الحكمة في بيروت ثم يرحل إلى باريس ليقيم فيها شهراً ،وحينما رحل مع الأسرة إلى بوسطن قرر الاستقرار بها والعمل بالكتابة والتصوير .

    وفي عام 1908 عاد إلى باريس ،ومكث بها ثلاث سنوات يستكمل فيها موهبته الفنية .. وعاد حاصلاً على إجازة عالية في التصوير من معهد الفنون الجميلة ... وقد اتصل "جبران" في باريس بالنحات العالمي "رودان" ،وسمع منه عن الشاعر الإنجليزي (ويليام بليك) ،وكيف التقى فيه الشاعر بالمصور ..
    وتمنى جبران أن يحذو حذو (ويليام بليك) ؛فأخذ يعد نفسه لهذا الهدف ..
    ثم يستقر "جبران" في نيويورك عام 1912 ،ويعتمد على نفسه وفنه في تحسين أوضاعه المادية ..فاتجه بكل طاقته نحو الرسم والتصوير ،وأقام معرضين نالا الإعجاب والإشادة ..

    ثم بدأت ابداعاته المكتوبة ؛فنشر عام 1918 كتاب ( المجنون ) ،ثم كتابه ( السابق ) الذي نشر عام 1920 ... تلاهما في عام 1923 كتاب ( النبي ) ؛الذي أحدث صدىً طيباً في الأوساط الثقافية الأمريكية . ثم توالت أعماله ومنها : عيسى بن الانسان ،وحديقة النبي ، ورمل وزبد ، والتائه ،..
    بما أنّكِ جعلتِ اهتمامَكِ ملائمًا لتسميتِكِ أحرزتِ الإيمان القويم مسكناً،


    فلذلك يا لابسة الجهاد تفيضين الأشفية وتتشفعين من أجل نفوسنا


    يا باراسكيفي المطابقة لاسمِها.




    best friends
    Infinity and eternity



  • #2
    وقد كان لجبران فضل كبير في تأسيس الرابطة القلمية في نيويورك ، ومعه إيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة ونسيب عريضة ورشيد أيوب وغيرهم.
    وكان جبران في حياته اليومية ،وفي كتاباته شخصية محببة للجميع

    وقد استطاع في كتاباته وأشعاره دراسة الكون من خلال تأملاته الدقيقة العميقة ؛ فهو إلى جانب ما يكتبه باللغة الأجنبية ،يكتب باللغة العربية شعراً ونثراً وقصةً ومقالات ومسرحيات .

    وقد حملت الرابطة القلمية لواء التجديد الذي اعتمد على المزج بين ثقافتي الشرق والغرب ... وحاربت التقليد .. والاستعباد ، ودعت إلى الحرية والانطلاق .

    مـــات جبران مهاجراً في أبريل عــام 1931 م بأحد مشافي نيويورك ، وفي أغسطس نقل جثمانه ؛ليدفن في قريته التي ولد فيها ... بشرى ...
    بما أنّكِ جعلتِ اهتمامَكِ ملائمًا لتسميتِكِ أحرزتِ الإيمان القويم مسكناً،


    فلذلك يا لابسة الجهاد تفيضين الأشفية وتتشفعين من أجل نفوسنا


    يا باراسكيفي المطابقة لاسمِها.




    best friends
    Infinity and eternity


    Comment


    • #3
      قصيدة المواكب





      الخير في الناس مصنوع إذا جبروا
      .......... ..... والشر في الناس لا يفنى وإن قبروا
      وأكـثــر الـناس آلات تحــركـهـا
      .......... ..... أصـابـع الـدهـر يـومـاً ثـم تـنـكـسـر
      فـلا تقــولـن هــذا عـالـم عـلـم
      .......... ..... ولا تــقـولــن هــذا الـسـيـد الـوقـــر
      فأفضل الناس قطعان يسير بها
      .......... ..... صوت الرعاة ومن لم يمش يندثر

      ليس في الغابات راعٍ
      .......... ..... لا ولا فيهـا الـقطيـع
      فالشتا يمشي ولكن
      .......... ..... لا يـجاريه الربـيـع
      خلق الناس عبيداً
      .......... ..... للذي يأبى الخضوع
      فإذا ما هب يوماً
      .......... ..... سائراً سار الجميع


      أعطني الناي وغني
      .......... ..... فالغنا يرعى العقول
      وأنين الناي أبقى
      .......... ..... من مجيد وذليل


      وما الحياة سوى نوم تراوده
      .......... ..... أحلام من بمراد النفس يأتمر
      والسر في النفس حزن النفس يستره
      .......... ..... فإن تولى فبالأفراح يستتر
      والسر في العيش رغد العيش يحجبه
      .......... ..... فإن أزيل تولى حجبه الكدر
      فإن ترفعت عن رغد وعن كدر
      .......... ..... جاورت ظل الذي حارت به الفكر

      ليس في الغابات حزن
      .......... ..... لا ولا فيها الهموم
      فإذا هب نسيم
      .......... ..... لم تجئ معه السموم
      ليس حزن النفس إلا
      .......... ..... ظل وهمٍ لا يدوم
      وغيوم النفس تبدو
      .......... ..... من ثناياها النجوم


      أعطني الناي وغني
      .......... ..... فالغنا يمحو المحن
      وأنين الناي يبقى
      .......... ..... بعد أن يفنى الزمن


      وقل في الأرض من يرضى الحياة كما
      .......... ..... تأتيه عفواً ولم يحكم به الضجر
      لذاك قد حولوا نهر الحياة إلى
      .......... ..... أكواب وهم إذا طافوا بها خدروا
      فالناس إن شربوا سروا كأنهم
      .......... ..... رهن الهوى ،وعلى التخدير قد فطروا
      فذا يعربد إن صلى ،وذاك إذا
      .......... ..... أثرى ،وذلك بالأحلام يختمر
      فالأرض خمارة والدهر صاحبها
      .......... ..... وليس يرضى بها غير الألى سكروا
      فإن رأيت أخا صحوٍ فقل عجباً!
      .......... ..... هل استظل بغيمٍ ممطرٍ قمر ؟


      ليس في الغابات سكر
      .......... ..... من مدام أو خيال
      فالسواقي ليس فيها
      .......... ..... غير إكسير الغمام
      إنما التخدير ثديّ
      .......... ..... وحليب للأنام
      فإذا شاخوا وماتوا
      .......... ..... بلغوا سن الفطام



      أعطني الناي وغني
      .......... ..... فالغنا خير الشراب
      وأنين الناي يبقى
      .......... ..... بعد أن تفنى الهضاب



      والدين في الناس حقل ليس يزرعه
      .......... ..... غير الألى لهم في زرعه وطر
      من آملٍ بنعيم الخلد مبتشرٍ
      .......... ..... ومن جهول يخاف النار تستعر
      فالقوم لولا عقاب البعث ما عبدوا
      .......... ..... رباً ،ولولا الثواب المرتجى كفروا
      كأنما الدين ضرب من متاجرهم
      .......... ..... إن واظبوا ربحوا ،أو أهملوا خسروا

      ليس في الغابات دين
      .......... ..... لا ولا الكفر القبيح
      فإذا البلبل غنى
      .......... ..... لم يقل هذا الصحيح
      إن دين الناس يأتي
      .......... ..... مثــل ظل ويروح
      لم يقم في الأرض دين
      .......... ..... بعد طــه والمسيح



      أعطني الناي وغني
      .......... ..... فالغنا خير الصلاة
      وأنين الناي يبقى
      .......... ..... بعد أن تفنى الحياة


      والعدل في الأرض يبكي الجن لو سمعوا
      .......... ..... به ويستضحك الأموات لو نظروا
      فالسجن والموت للجانين إن صغروا
      .......... ..... والمجد والفخر والإثراء إن كبروا
      فسارق الزهر مذموم ومحتقر
      .......... ..... وسارق الحقل يدعى الباسل الخطر
      وقاتل الجسم مقتول بفعلته
      .......... ..... وقاتل الروح لا تدري به البشر


      ليس في الغابات عدل
      .......... ..... لا ولا فيها العقاب
      فإذا الصفصاف ألقى
      .......... ..... ظله فوق التراب
      لا يقول السرو هذي
      .......... ..... بدعة ضد الكتاب
      إن عدل الناس ثلج
      .......... ..... إن رأته الشمس ذاب



      أعطني الناي وغني
      .......... ..... فالغنا عدل القلوب
      وأنين الناي يبقى
      .......... ..... بعد أن تفنى الذنوب



      والحق للعزم ،والأرواح إن قويت
      .......... ..... سادت ،وإن ضعفت حلت بها الغير
      ففي العرينة ريح ليس يقربه
      .......... ..... بنو الثعالب غاب الأسد أم حضر
      وفي الزرازير جبن وهي طائرة
      .......... ..... وفي البزاة شموخ وهي تحتضر
      والعزم في الروح حق ليس ينكره
      .......... ..... عزم السواعد شاء الناس أم نكروا
      فإن رأيت ضعيفاً سائداً فعلى
      .......... ..... قوم إذا ما رأوا أشباههم نفروا


      ليس في الغابات عزم
      .......... ..... لا ولا فيها الضعيف
      فإذا ما الأسد صاحت
      .......... ..... لم تقل هذا المخيف
      إن عزم الناس ظل
      .......... ..... في فضا الفكر يطوف
      وحقوق الناس تبلى
      .......... ..... مثل أوراق الخريف


      أعطني الناي وغني
      .......... ..... فالغنا عزم النفوس
      وأنين الناي يبقى
      .......... ..... بعد أن تفنى الشموس


      والعلم في الناس سبل بان أولها
      .......... ..... أما أواخرها فالدهر والقدر
      وأفضل العلم حلم إن ظفرت به
      .......... ..... وسرت ما بين أبناء الكرى سخروا
      فإن رأيت أخا الأحلام منفرداً
      .......... ..... عن قومه وهو منبوذ ومحتقر
      فهو النبيّ ،وبرد الغد يحجبه
      .......... ..... عن أمة برداء الأمس تأتزر

      وهو الغريب عن الدنيا وساكنها
      .......... ..... وهو المجاهر لام الناس أو عذروا
      وهو الشديد ،وإن أبدى ملاينةً
      .......... ..... وهو البعيد ،تدانى الناس أم هجروا



      وللقــصــيدة بقيــــــــة ....
      بما أنّكِ جعلتِ اهتمامَكِ ملائمًا لتسميتِكِ أحرزتِ الإيمان القويم مسكناً،


      فلذلك يا لابسة الجهاد تفيضين الأشفية وتتشفعين من أجل نفوسنا


      يا باراسكيفي المطابقة لاسمِها.




      best friends
      Infinity and eternity


      Comment


      • #4
        مانك طبيعي كلود ....


        عنجد شوفة أسمك عبارة عن رواء متلج بالنسبة ل إلي ...

        ميرسي كتير ع المواضيع اللي بتجنن ... وإلك مني
        مشتقلك ياجورج وع بالي زورك
        الله يرحمك يا جورج
        بوعدك ماانساك شو ماصار
        ياأحلى ملاك
        تعبان ومتدايق وبدي ابكي
        ومادخل الرجولية بالدموع وإذا مااقتنعت مني ...
        أنا ماني رجال

        Comment


        • #5
          الله يجبر بخاطرك متل ما جبرت بخاطري
          بما أنّكِ جعلتِ اهتمامَكِ ملائمًا لتسميتِكِ أحرزتِ الإيمان القويم مسكناً،


          فلذلك يا لابسة الجهاد تفيضين الأشفية وتتشفعين من أجل نفوسنا


          يا باراسكيفي المطابقة لاسمِها.




          best friends
          Infinity and eternity


          Comment


          • #6
            Originally posted by cloude View Post
            الله يجبر بخاطرك متل ما جبرت بخاطري
            طول عمرو لساني متل مبرد البولاد ومابرحم حدا ...

            وأنا ماني عم جاملك ولاني عم أجبر بخاطرك

            وأنتا طول عمرك واحد مننا ... وبعمري ماحسيت بكلمة مشرف مكتوبة تحت أسمك .. لأنو مابحسسك بتستعملها

            مابدي أكتب قصيدة فيك هلق .. لأني مشغول شوي ..

            بس راجعلك

            مشتقلك ياجورج وع بالي زورك
            الله يرحمك يا جورج
            بوعدك ماانساك شو ماصار
            ياأحلى ملاك
            تعبان ومتدايق وبدي ابكي
            ومادخل الرجولية بالدموع وإذا مااقتنعت مني ...
            أنا ماني رجال

            Comment


            • #7
              لك تسلم يا غالي
              بما أنّكِ جعلتِ اهتمامَكِ ملائمًا لتسميتِكِ أحرزتِ الإيمان القويم مسكناً،


              فلذلك يا لابسة الجهاد تفيضين الأشفية وتتشفعين من أجل نفوسنا


              يا باراسكيفي المطابقة لاسمِها.




              best friends
              Infinity and eternity


              Comment


              • #8
                من كتاب "رمل و زبد و الموسيقى"
                على هذه الشواطىء ، أتمشى أبدا ،
                بين الرمل و الزبد .
                ان المد سيمحو آثار قدمي .
                و ستذهب الريح بالزبد .
                أما البحر و الشاطىء فيظلان الى الأبد .
                ***
                ملأت يدي مرة بالضباب .
                ثم فتحتها ، فإذا بالضباب قد صار دودة .
                و أغلقت يدى و فتحتها ثانية ، فإذا هنالك عصفور .
                ثم أغلقت يدى و فتحتها للمرة الثالثة ، فإذا فى راحتها رجل حزين الوجه ينظر الى العلأ .
                و أغلقت يدى رابعة ، و عندما فتحتها لم أر فيها غير الضباب .
                و لكننى سمعت أغنية بالغة الحلاوة .
                ***
                خيل الى فى الأمس انى ذرة تتموج مرتجفة فى دائرة الحياة بغير انتظام ، و اليوم أعرف كل المعرفة أنى أنا الدائرة ، و أن الحياة بأسرها تتحرك فى بذرات منتظمة .
                ***
                يقولون فى يقظتهم :
                "ما أنت و العالم الذى تعيش فيه سوى حبة رمل على شاطىء غير متناه ، لبحر غير متناه "
                و فى حلمى أقول لهم :
                " أنا هو البحر غير المتناهى ، و ما جميع العوالم سوى حبات من الرمل على شاطئى "
                ***
                ما عييت الا ، أمام من سألني ، " من أنت ؟ "
                (عييت : تعنى عجزت عن التعبير )
                ***
                فكر الله ، فكان فكره الأول ملاكا ،
                و تكلم الله ، فكانت كلمته الأولى انساناً
                ***
                كان الانسان مخلوق هائما ينشد ذاته الضاله فى الاحراج قبل أن منحه البحر و الريح كلماته بألف ألف سنة .
                فكيف يستطيع و الحالة هذه أن يعبر عن العتيق من الأيام فيه بأصوات حقيرة لم يتعلمها الا فى الأمس القريب
                ***
                تكلم أبو الهول مرة واحده فى حياته . و اليك ما قاله :
                "حبة الرمل صحراء ، و الصحراء حبة رمل "
                قال هذا و سكت ثانية و لم يفتح فاه .
                قد سمعت ما قاله أبو الهول ، بيْد أننى لم أفهم .
                ***
                رأيت وجه امرأة ، فرأيت أولادها و لم يولدوا بعد .
                و نظرت امرأة الى وجهي ، فعرفت آبائي و جدودي ، و قد ماتوا قبل أن تولد
                ***
                أود الآن أن لا يتاح لي أن أكمل ذاتي . و لكن أنى لي ذلك اذا لم أتحول الى سيادة يعيش عليها العاقلون من الأحياء ؟
                أليست هذه ضالة كل إنسان على الأرض
                ***
                الدرة هيكل بناه الألم حول حبة رمل .
                فما هو الحنين الذى بنى أجسادنا ؟ و ما هى الحبوب التى بنيت حولها؟
                ***
                عندما رمانى الله ، حصاة صغيرة فى هذه البحيرة العجيبة ، أزعجت هدؤها بأن أحدثت على سطحها دوائر لا يحصى عديدها .
                و لكنني عندما بلغت الى أعماقها صرت هادئا مثلها .
                ***
                أعطنى الصمت اقتحم غمرات الليل .
                ***
                قد ولدت ثانية عندما وقع جسدي بحب نفسي و تزوجا معا .
                عرفت فى حياتي رجلا حاد السمع و لكنه أبكم ، فقد خسر لسانه فى معركة .
                و أنا أعرف اليوم الحروب التى حاربها هذا الرجل قبل أن حل به قضاء الصمت الرهيب ، و يسرني جدا أنه قد مات لأن العالم على سعته لا يكفى لنا معا .
                ***
                طويلا نمت فى أرض مصر ، صامتا غافلا عن الفصول .
                ثم ولدتنى الشمس ، فوقفت و مشيت على حافتي النيل ، مترنما ، حالما مع الليالي . و الآن تغمش الشمس على بألف قدم لكي أنام ثانية فى أرض مصر .
                و لكن هو ذا الأعجوبة و الأحجية !
                فإن الشمس نفسها التى جمعتنى لا تستطيع أن تفرقنى . لذلك ما برحت منتصبا أمشى بخطى ثابتة على حافتي النيل .
                التذكار شكل من أشكال اللقاء .
                ***
                النسيان شكل من أشكال الحرية . نحن
                ***
                نحن نقيس الزمان بمقتضى حركة الشموس التى لا تحصى ، و هم يقيسون الزمان بآلات صغيرة يحملونها فى جيوبهم
                فقل لى رعاك الله كيف يمكن أن نجتمع فى مكان واحد و في وقت واحد .
                ***
                ليس الفضاء فضاء بين الأرض و الشمس لمن ينظر اليه من نوافذ المجرة .
                الإنسانية نهر من النور يسير من أودية الأزل الى بحر الأبد .
                ***
                ألا تحسد الأرواح القاطنة فى الأثير الإنسان على كآبته .
                ***
                فى طريقي الى المدينة المقدسة لقيت حاجا آخر ، فسألته قائلا :
                " أهذه حقيقة الطريق الى المدينة المقدسة ؟ "
                فأجابني قائلا :
                "هلم ورائي تصل الى المدينة المقدسة فى يوم و ليلة "
                فتبعته للحال . و سرنا أياما و سرنا لياي و لكننا لم نبلغ الى المدينة المقدسة . و شد ما كانت دهشتي عظيمة إذ عرفت أنه غضب لأنه لم يسر بى الصراط المستقيم .
                ***
                اجعلنى يا الله فريسة الأسد قبل أن تجعل الأرنب فريستي .
                قال ل منزلي : "لا تهجرنى لأن ماضيك يقطن فى ".
                و قالت لى الطريق : " هلم ورائي ، فأنا مستقبلك " .
                أما أنا فأقول لمنزلي و للطريق معا :" ليس لى ماضٍ و لا مستقبل "
                " ذا أقمت هنا ففى اقامتي ذهاب ، و اذا ذهبت فهنالك اقامة فى ذهابى قإن المحبة و الموت وحدهما يغيران كل شيء " أخسر
                ***
                كيف أخسر إيماني بعدل الحية و أنا أعرف أن أحلام الذين ينامون على الريش ليست أجمل من أحلام الذين ينامون على الأرض .
                ***
                ما أغربني عندما أشكو ألماً فى لذتي ؟
                ***
                سبع مرات احتقرت نفسى .
                أولاً : عندما رأيتها تتلبس بالضعة لتبلغ الى الرفعة .
                ثانياً : عندما رأيتها تقفز أمام المخلصين .
                ثالثا : عندما خيرت بين السهل و الصعب فاختارت السهل .
                رابعا : عندما اقترفت إثما ثم جاءت تعزي ذاتها بأن غيرها يقترف الإثم مثلها .
                خامساً : عندما احتملت ما حل بها لضعفها ، و لكنها نسبت صبرها للقوة .
                سادساً : عندما احتقرت بشاعة وجه ما هو عند التحقيق سوى برقع من براقعها .
                سابعاً : عندما أنشدت أغنية ثناء و مديح و حسبتها فضيلة .
                ***
                أنا لا أعرف الحقيقة المجردة . و لكني أركع متضعا أمام جهلي و فى هذا فخري و أجري .
                ***
                بين خيال الانسان و ادراكه مسافة لا يجتازها سوى حنينه
                ***
                الفردوس قئم هناك ، وراء ذلك الباب ، فى الغرفة المجاورة ، و لكنى أضعت مفتاح الباب .
                و لعلى لم أضعه بل وضعته فى غير موضعه .
                أنت أعمى و أنا أصم أبكم ، اذن ضع يدك بيدى فيدرك أحدنا الآخر
                ***
                بما أنّكِ جعلتِ اهتمامَكِ ملائمًا لتسميتِكِ أحرزتِ الإيمان القويم مسكناً،


                فلذلك يا لابسة الجهاد تفيضين الأشفية وتتشفعين من أجل نفوسنا


                يا باراسكيفي المطابقة لاسمِها.




                best friends
                Infinity and eternity


                Comment


                • #9

                  من هنا مررت........

                  Comment


                  • #10
                    النبي ...

                    النبي
                    جبران خليل جبران
                    بماذا أجيب على كلماتك بشأن كتاب "النبي " ؟ ماذا أقول لك؟ليس هذاالكتاب سوى القليل من الكثير الذي رأيته وأراه في كل يوم في قلوب الناس الصامتة وفيأرواحهم المشتاقة إلى البيان . لم يقم في الأرض من استطاع أن يأتي بشيء من عندهكفرد واحد منفصل عن الناس كافة . وليس بيننا اليوم من يقدر على أكثر من تدوين مايقوله الناس له على غير معرفة منهم.إنما النبي يامي أول حرف من كلمة ..توهمت في الماضي أن هذه الكلمة لي وفيّ ومني ، لذلك لم أستطعتهجئة أول حرف من حروفها وكان عدم استطاعتي سبب مرضي بل وكان سبب ألم وحرقة في روحي ...وبعد ذلك شاء الله وفتح عيني فرأيت النور ..ثمشاء الله وفتح أذني فسمعت الناس يلفظون هذا الحرف الأول ، شاء الله وفتح شفتي فرددتلفظ الحرف : رددته مبتهجا فرحا لأنني عرفت للمرة الأولى أن الناس هم هم كل شيءوأنني بذاتي المنفصلة لست شيئا . وأنتِ أعرف الناس بما كان في ذلك من الحريةوالراحة والطمأنينة، أنتِ أعرف الناس بشعور من وجد نفسه فجأة خارج حبس ذاتيتهالمحدودةوأنتِ يا مي ، أنت صغيرتي الكبيرة ،تساعدينني الآن على الإصغاء إلى الحرف الثاني وسوف تساعدينني على لفظه ، وستكونينمعي دائما .قربي جبهتك يا مريم ، قربيها ففي قلبيزهرة بيضاء أريد أن أضعها على جبهتك . ما أعذب المحبة عندما تقف مرتعشة مخجولة أمامنفسها .والله يباركك . الله يحرس صغيرتي المحبوبة، والله يملأ قلبها بأناشيد ملائكته
                    جبران
                    3 كانون الأول 1922

                    هذه الرسالة التي أرسلها جبران لميزيادة يحدثها عن كتابه النبي ..





                    النبي



                    و ظل المصطفى , المختار الحبيب , الذي كان فجراً لذاته , يترقب عودة سفينته في مدينة اورفيليس اثنتي عشرة سنة ليركبها عائداً إلى الجزيرةالتي ولد فيها .
                    و في السنة الثانية عشرة, وفي اليوم السابع من أيلول شهر الحصادصعد إلى قمة إحدى التلال القائمة وراء جدران المدينة و ألقى نظرة عميقة إلى البحر, فرأى سفينته تمخر عباب البحر مغمورة بالضبابفاختلج قلبه في أعماقه, وطارت روحهفوق البحر فرحاً , فأغمض عينيه , ثم صلىّ في سكون نفسه .
                    غير أنه ما هبط عنالتلة حتى فاجأته كآبة صماء, فقال في قلبه: كيف انصرف من هذه المدينة بسلام, وأسيربالبحر من غير كآبة ؟ كلا ! إنني لن أبرح هذه الأرض حتى تسيل الدماء من جراحروحيفقد كانت أيام كآبتي طويلة ضمن جدرانها , وأطول منها كانت ليالي وحدتي وانفرادي , ومن ذا يستطيع أن ينفصل عن كآبته ووحدته من غير أن يتألم قلبه؟كثيرة هي أجزاء روحي التي فرقتها في هذهالشوارع و كثير هم ابناء حنيني الذين يمشون عراة بين التلال فكيف أفارقهم من غير أناثقل كاهلي و أضغط روحي !
                    فليس ما أفارقه بالثوب الذي انزعه عني اليوم ثم ارتديهغدا , بل هو بشرة أمزقها بيديكلا و ليس فكراً أخلفه ورائي بل هو قلب جمّلتهمجاعتي و جعله عطشي رقيقاً خفوقاًبيد أني لا أستطيع أن أبطئ في سفريفإنالبحر الذي يدعو كل الأشياء إليه يستدعيني فيجب عليّ أن أركب سفينتي و أسير فيالحال إلى قلبهولو أقمت الليلة ههنا فإنني مع أن ساعات الليل ملتهبة أجمد وأبلور و أتقيد بقيود الأرض الثقيلةو إنني أود لو يتاح لي أن يصحبني جميع الذينههنا ولكن أنى يكون لي ذلك ؟فإن الصوت لا يستطيع أن يحمل اللسان و الشفتيناللوتي تسلحن بجناحيه و لذلك فهو وحده يخترق حجب الفضاءأجل و النسر يا صاح لايحمل عشه بل يطير وحده محلقا في عنان السماء

                    وعندما بلغ المصطفى سفح التلة التفت ثانية "إلى البحر فرأىسفينته تدنو من المرفأ و أبناء بلاده يروحون ويجيئون على نقدّمهافهتف لهم منصميم فؤاده و قال :
                    يا أبناء أمي الاولى أيها الراكبون متون الأمواج المذللونمدها و جزرها كم من مرة أبحرتم في أحلامي ! و ها قد أتيتم و رأيتكم في يقظتي لتي هيأعمق أحلامي .
                    إنني على اتم الأهبة للإبحار و في اعماقي شوق عظيم يترقب هبوبالريح على القلوع بفارغ الصبرو لكنني أود أن اتنفس مرة واحدة في هذا الجوالهادئ و أن ابعث بنظرة عطف واحدة إلى الوراءو حينئذ أقف معكم ملاحا بينالملاحينأما انت أيها البحر العظيم أيها الأم الهاجعةأنت أيها البحر العظيمالذي فيك وحدك يجد النهر و الجدول سلامهما و حريتهمافاعلم أن هذا الجدول لنيدور إلا دورة واحدة بعد و لن يسمع أحد خريره على هذا المعبر اليوم و حينئذ آتيإليك نقطة طليقة إلى اوقيانوس طليقو فيما هو ماش رأى عن بعد رجالاً و نساءيتركون حقولهم و كرومهم و يهرولون إلى أبواب المدينةوسمعهم يصرخون بعضهم ببعضمن حقل إلى حقل مرددين اسمه وكل منهم يحدث رفيقه بقدوم سفينته

                    وسمعهم يصرخون بعضهم ببعض من حقل إلى حقل مرددين اسمهوكل منهم يحدث رفيقه بقدوم سفينتهفقال في نفسه:
                    أيكون يوم الفراق يومالاجتماع ؟أم يجري على الأفواه أم مسائي كان فجراً لي ؟وماذا يجدر بي أنأقدم للفلاح الذي ترك سكته في نصف تلمه و للكرّام الذي أوقف دولاب معصرته؟أيتحول قلبي إلى شجرة كثيرة الأثمار فأقطف منها و أعطيهم ؟أم تفيض رغباتيكالينبوع فأملأ كؤوسهم ؟هل أنا قيثارة فتلامسني يد القدير أم أنا مزمار فتمر بيأنفاسه ؟أجل إنني هائم أنشد السكينة و لكن ماهو الكنز الذي وجدته في السكينةلكي أوزعه بطمأنينة ؟و إن كان هذا اليوم يوم حصادي ففي أية حقول بذرت بذاري وفي أي فصل من الفصول المجهولة كان ذلك ؟و إن كانت هذه هي الساعة التي يجدر بيأن أرفع فيها مصباحي واضعا إياه على منارتي فإن النور الذي يتصاعد منه ليس منيلأنني سأرفع مصباحي فارغا مظلماو لكن حارس الليل سيملأ ه زيتا و سينيرهأيضاقال هذا معبرا عنه بالألفاظ ولكن كثيرة مثل هذا حفظه في قلبه من غير أنيعلنه لأنه نفسه لم يقدر أن يوضح سره العميقو عندما دخل المدينة استقبله الشعببأسره و كانوا يهتفون له مرحبين به بصوت واحدفوقفه شيوخ المدينة وقالوا له: بربك لا تفارقنا هكذا سريعا, فقد كنت ظهيرة في شفقنا, وقد أوحى شبابك الأحلام فينفوسناو أنت لست غريب بيننا كلا و لا أنت بالضيف بل أنت ولدنا و قسيم أرواحناالحبيبفلا تجعل عيوننا تشتاق إلى رؤية وجهك

                    ثم قال له الكهان و الكاهنات:
                    لا تأذن لأمواج البحر أنتفصل بيننا فتجعل الأعوام التي قضيتها بيننا نسياً منسياً, فقد كنت فينا روحامحيية, وكان خيالك نورا يشرق على وجوهنا وقد عشقتك قلوبنا و علقتك أرواحناولكنمحبتنا تقنعت بحجب الصمت فلم نستطيع أن نعبر عنها, بيد أنها تصرخ إليك الآن بأعلىصوتها و تمزق حجبها لكي تظهر لك حقيقتهافإن المحبة منذ البدء لا تعرف عمقهاإلا ساعة الفراقثم جاء إله كثيرون متوسلين متضرعين فلم يرد على أحد جوابا ولكنهكان يحني رأسه وكان الواقفون حوله ينظرون عبراته تتساقط بغزارة على وجنتيهوصدرهوظل يمشي مع الشعب حتى وصلوا إلى الساحة الكبرى أمام الهيكل.




                    المطرة
                    وحدث إذ ذاك أم امرأة عرافة خرجت من المقدس اسمهاالمطرة فنظر إليها نظرة ملؤها الحي و الحنان لأنها كانت أول من سعى إليه و آمن بهمع أنه لم يكن له إلا ليلة و ضحاها في مدينتهمفحيته باحترام و قالت له : يانبي الله قد طالما كنت تسعى وراء ضالتك المنشودة مفتشاً عن سفينتك التي كانت بعيدةعنكوها قد وصلت سفينتك و لم يبق من بد لسفركعظيم هو حنينك إلى أرض أحلامكو تذكاراتك و مواطن الفائقات من رغباتك و لذلك فإن محبتنا لا تقيدك و حاجتنا إليكلا تمسك بك و لكننا واحدة نسألك قبل أن تفارقنا :
                    أن تخطب فينا و تعطينا من الحقالذي عندك , ونحن نعطيه لأولادنا و أولادنا لأولادهم و حفدتهم و هكذا يثبت كلامكفينا على مر العصورففي وحدتك كنت ترقب أيامنا و في يقظتك كنت تصغي إلى بكائنا وضحكنا في غفلتنالذلك نضرع إليك أن تكشف مكنوناتنا لذواتنا و تخبرنا بكل ماأظهر لك من أسرار الحياة من المهد إلى اللحدفأجاب قائلا:
                    با أبناء اورفيليسبماذا أحدثكم إن لم أظهر لكم ما يختلج في نفوسكم و تتحرك به ضمائركم حتى في هذهالساعة ؟



                    المحبة
                    حينئذقالت له المطرة : هات لنا خطبة في المحبةفرفع رأسه و نظر إلى الشعب نظرة محبةوحنان فصمتوا جميعهم خاشعين فقال لهم بصوت عظيم :
                    إذا أشارت المحبة إليكمفاتبعوها , و إن كانت مسالكها صعبة متحدرةو إذا ضمتكم جناحيها فأطيعوها , و إنجرحكم السيف المستور بين ريشهاو إذا خاطبتكم المحبة فصدقوها , و إن عطل صوتهاأحلامكم و بددها كما تجعل الريح الشمالية البستان قاعا صفصفاًلآنه كما أنالمحبة تكللكم فهي أيضا تصلبكم , وكما تعمل على نموكم هكذا تعلمكم و تستأصل الفاسدمنكمو كما ترتفع إلى أعلى شجرة حياتكم فتعانق أغصانها اللطيفة المرتعشة أماموجه الشمس ,
                    هكذا تنحدر إلى جذورها الملتصقة بالتراب و تهزها في سكينة الليلالمحبة تضمكم إلى قلبها كأغمار الحنطةو تدرسكم على بيادرها لكي تظهرعريكمو تغربلكم لكي تحرركم من قشوركمو تطحنكم لكي تجعلكم أنقياء كالثلج وتعجنكم بدموعها حتى تلينواثم تعدكم لنارها المقدسة لكي تصيروا جبزاً مقدساًيقرب على مائدة الرب المقدسةكل هذا تصنعه المحبة بكم لكي تدركوا أسرار قلوبكمفتصبحوا بهذا الادراك جزءاً من قلب الحياةغير أنكم إذا خفتم و قصرتم سعيكم علىالطمأنينة و اللذة في المحبة فلأجدر بكم أن تستروا عريكم و تخرجوا من بيدر المحبةإلى العالم البعيد حيثما تضحكون ولكن ليس كل ضحككم ولكن ليس كل ما في مآقيكم منالدموعالمحبة لا تعطي إلا نفسها , ولا تأخذ إلا من نفسهاالمحبة لا تملكشيئا و لا تريد أن يملكها أحدلأن المحبة مكتفية بالمحبةأما أنت إذا أحببتفلا تقل : " إن الله في قلبي " بل قل بالأحرى : " أنا في قلب الله "
                    و لا يخطرلك البتة أنك تستطيع أن تتسلط على مسالك المحبة لأن المحبة إن رأت فيك استحقاقاًلنعمتها تتسلط هي على مسالككو المحبة لا رغبة لها إلا في أن تكمل نفسهاولكن إذا أحببن و كان لا بد من أن تكون لك رغبات خاصة بك فلتكن هذه رغباتك :
                    أنتذوب و تكون كجدول متدفق يشنف آذان الليل بأنغامهأن تخبر الآلام التي في العطفالمتناهيأن يجرحك إدراكك الحقيقي للمحبة في حبة قلبك و أن تنزف دماؤك و أنت راضمغتبطأن تنهض عند الفجر بقلب مجنح خفوق فتؤدي واجب الشكر ملتمسا يوم محبةآخرأن تستريح عند الظهيرة وتناجي نفسك بوجد المحبةأن تعود إلى منزلك عندالمساء شاكراً :
                    فتنام حينئذ و الصلاة لآجل من أحببت تتردد في قلبك و أنشودةالحمد و الثناء مرتسمة على شفتيك.




                    الزواج
                    ثم قالت له المطرة ثانية : وما رأيك في الزواج أيهاالمعلم ؟فأجاب قائلاً :
                    قد ولدتم معا و ستظلون معا إلى الأبدو ستكونونمعا عندما تبدد أيامكم أجنحة الموت البيضاء أجل وستكونون معا حتى في سكون تذماراتاللهولكن فليكن بين وجودكم معا فسحات تفصلكم بعضكم عن بعض حتى ترقص أرياحالسموات فيما بينكماحبوا بعضكم بعضا ولكن لا تقيدوا المحبة بالقيود بل لتكنالمحبة بحرا متموجا بين شواطئ نفوسكمليملأ كل واحد منكم كأس رفيقه ولكن لاتشربوا من كأس واحدة أعطوا من خبزكم كل واحد لرفيقه ولكن لا تأكلوا من الرغيفالواحدغنوا ارقصوا معا وكونوا فرحين ابدا ولكن فليكن كل منكم على حدهكما أنواتار القيثارة يقوم كل منها وحده ولكنها جميعا تخرج نغما واحداليعط كل منكمقلبه لرفيقه ولكن حذار أن يكون هذا العطاء لأجل الحفظ لأن يد الحياة وحدها تستطيعأن تحتفظ بقلوبكمقفوا معا ولكن لا يقرب احدكم من الاخر كثيرا لن عمودي الهيكليقفان منفصلينو السنديانة والسروة لا تنمو الواحدة منهما في ظلرفيقتها




                    العطاء
                    ثم قال له رجل غني : هات حدثنا عن العطاءفأجابقائلا:
                    إنك إذا اعطيت فإنما تعطي القليل من ثروتكو لكن لا قيمة لما تعطيهما لم يكن جزءاً من ذاتك لأنه أي شيء هي ثروتك ظألبست مادة فانية تخزنها فيخزائنك و تحافظ عليها جهدك خوفا من أن تحتاج إليها غدا ؟و الغد , ماذا يستطيعالغد أن يقدم للكلب البالغ فطنة الذي يطمر العظام في الرمال غير المطروقة و هو يتبعالحجاج إلى المدينة المقدسة ؟أو ليس الخوف هو الحاجة هو الحاجة بعينها ؟أوليس الظمأ الشديد للماء عندما تكون بئر الظامئ ملآنة هو العطش الذي لا تروى غلته؟من الناس من يعطون قليلاً من الكثير عندهم وهم يعطونه لأجل الشهرة و رغيتهمالخفية في الشهرة الباطلة تضيع الفائدة من عطاياهمو منهم من يملكون قليلاً ويعطونه بأسرهومنهم المؤمنون بالحياة و بسخاء الحياة هؤلاء لا تفرغ صناديقهم وخزائنهم ممتلئة ابداومن الناس من يعطونه بفرح و فرحهم مكافأةو منهم منيعطونه بألم و ألمهم معمودية لهم



                    و هنالك الذين يعطون ولا يعرفون معنى الألم في عطائهم ولا يتطلبون فرحا و لا يرغبون في إذاعة فضائلهم هؤلاء يعطون مما عندهم كما يعطيالريحان عبيره العطر في ذلك الواديبمثل أيدي هؤلاء يتكلم الله و من خلال عيونهميبتسم على الأرضجميل أن تعطي من يسألك ما هو في حاجة إليهولكن أجمل من ذلكأن تعطي من لا يسألك و أنت تعرف حاجتهفإن من يفتح يديه و قلبه للعطاء يكونفرحه بسعيه إلى من يتقبل عطاياه و الاهتداء إليه أعظم منه بالعطاء نفسهوهل فيثروتك شي تقدر أن تستبقيه لنفسك ؟فإن كل ما تملكه اليوم سيفترق ولا شك يوما ما , ذلك أعط منه الآن ليكون فصل العطاء من فصول حياتك أنت دون ورثتكوقد طالماسمعتك تقول متبجحاً : إنني أحب أن أعطي و لكن المستحقين فقطفهل نسيت يا صاح أنالأشجار في بستانك لا تقول قولك و مثلها القطعان في مراعيك ؟فهي تعطي لكي تحيالأنها إذا لم تعط عرضت حياتها للتهلكةالحق أقول لك إن الرجل الذي استحق أنيقتبل عطية الحياة و يتمتع بأيامه و لياليه هو مستحق لكل شيء منكو الذي استحقأن يشرب من أوقيانوس الحياة يستحق أن يملأ كأسه من جدولك الصغيرلأنه أي صحراءأعظم من الصحراء ذات الجرأة و الجسارة على قبول العطية بما فيها من الفضل و المنة؟

                    و أنت من أنت حتى أن الناس يجب أن يمزقوا صدورهم ويحسروا القناع عن شهامتهم و عزة نفوسهم لكي ترى جدارتهم لعطائك عارية و أنفتهممجردة عن الحياء ؟فانظر أولا هل أنت جدير بأن تكون معطاء و ألة عطاءلأنالحياة هي التي تعطي الحياة في حين أنك و أنت الفخور بأن قد صدر العطاء منك لستبالحقيقة سوى شاهد بسيط على عطائكأما أنتم الذين يتناولون العطاء و الإحسان وكلكم منهم فلا تتظاهروا بثقل واجب معرفة الجميل لئلا تضعوا بأيدكم نيراً ثقيل الحملعلى رقابكم و رقاب الذين أعطوكمبل فلتكن عطايا المعطي أجنحة ترتفعون بهامعهلأنكم إذا أكثرتم من الشعور بما أنتم عليه من الدين فإنكم بذلك تظهرون الشكو الريبة في أريحية المحسن الذي أمة الأرض السخية و أبوه الرب الكريم .




                    الغذاء

                    و بعد ذلك جاء إليه فندقي شيخ و قال له: هات حدثنا عنالمأكل و المشربفأجاب قائلا: أود لو أنك تقدر أن تعيش على عبير الأرض تكتفيبالنور كنباتات الهواءغير أنك مضطر أن تقتل لتعيش و أن تسرق المولود الصغير منحضن أمه مختطفا حليبها لتبريد ظمأكلذلك فليكن عملك مظهرا من مظاهرالعبادةولتكن مائدتك مذبحا تقرب عليه التقادم التقية الطاهرة من الحقول والسهول ضحية لما هو أكثر منها نقاوة في أعماق الإنسانو إذا ذبحت حيوانا فقل لهفي قلبك:
                    إن القوة التي أمرت بذبحك ستذبحني نظيركو عندما تحين ساعتي سأحترقمثلكلأن الشريعة التي أسلمتك إلى يدي ستسلمني إلى يدي من هو أقوى منيوليسدمك ودمي سوى عصارة قد أعدت منذ الأزل غذاء لشجرة السماء

                    وإذا نهشت تفاحة بأسنانك فقل لها في قلبك:
                    إن بذورك ستعيشفي جسدي, والبراعم التي ستخرج منها في الغد ستزهر في قلبيو سيتصاعد عبيرك معأنفاسي , وسأفرح معك في جميع الفصولو إذا قطفت العنب من كرومك في أيام الخريفو حملته إلى المعصرة فقل له في قلبك:
                    أنا كرمة مثلك و ستجمع أنماري و تحمل إلىالمعصرة و سيضعونني كالخمر الجديدة في زقاق جديدةو عندما تستقي الخمرة فيزقاقها أيام الشتاء أنشد في قلبك أنشودة لكل كأس تشربهاو ليكن لك من أناشيدكأجمل التذكارات لأيام الخريف و للكرمة و المعصرة


                    العمل
                    ثم جاءإليه فلاح وقال له: هات حدثنا عن العملفأجاب قائلاً:
                    إنكم تشتغلون لكيتجاروا الأرض و نفس الأرض في سيرهالأن الكسول غريب عن فصول الأرض و هائم لايسير في موكب الحياة السائرة بعظمة و جلال في فضاء اللانهاية إلى غيرالمتناهيفإذا استغلت فما أنت سوى مزمار تختلج في قلبك مناجاة الأيام فتتحول إلىموسيقى خالدةومن منكم يود أن يكون قصبة خرساء صماء و جميع ما حولها يترنم معابأنغام متفقة ؟قد طالما أخبرتم أن العمل لعنة والشغل نكبة ومصيبةأما أنافأقول لكم إنكم بالعمل تحققون جزءاّ من حلم الأرض البعيد جزءاً خصص لكم عند ميلادذلك الحلمفإذا واظبتم على العمل النافع تفتحون قلوبكم بالحقيقة لمحبة الحياةلأن من أحب الحياة بالعمل النافع تفتح له الحياة أعماقها و تدنيه من أبعدالأسرار

                    لأن من أحب الحياة بالعمل النافع تفتح له الحياة أعماقها و تدنيه من أبعدأسرارهاولكن إذا كنتم وأنتم في الآلام تدعون الولادة كآبة و دعامة الجسد لعنةمكتوبة على جباهكم فإنني الحق أقول لكم إنه ما من شيء يستطيع أن يمحو هذه الكتابة ويغسل جباهكم من آثارها سوى سعيكم و جهادكم و قد ورثتم عن جدودكم القول إن الحياةظلمة فرحتم في عهد مشقتكم ترددون ما قاله قبلكم جدودكم المزعجونفالحق أقول لكمإن الحياة تكون بالحقيقة ظلمة حالكة إذا لم ترافقها الحركةو الحركة تكون عمياءلا بركة فيها إن لم ترافقها المعرفةو المعرفة تكون عقيمة سقيمة إن لم يرافقهاالعملو العمل يكون باطلاً و بلا ثمر إن لم يقترن بالمحبة لأنكم إذا اشتغلتمبمحبة فإنما تربطون أنفسكم و أفرادكم بعضها ببعض و يرتبط كل واحد منكم بربهوماهو العمل المقرون بالمحبة ؟هو أن تحوك الرداء بخيوط مسحوبة من نسيج قلبك مفكراًأن حبيبك سيرتدي ذلك الرداءهو أن تبني البيت بحجارة مقطوعة من مقلع حنانك وإخلاصك مفكراً أن حبيبك سيقطن في ذلك البيتهو أن تبذر البذور بدقة وعناية وتجمع الحصاد بفرح و لذة كأنك تجمعه لكي يقدم على مائدة حبيبكهو ان تضع في كلعمل من أعمالك نسمة من روحك , وتثق بأن جميع الأموات الأطهار محيطون بك يراقبونويتأملونو كثيراً ما كنت أسمعكم تناجون أنفسكم كأنكم في نوم عميق قائلين : إنالذي يشتغل بنحت الرخام فيوجد مثالاً محسوساً لنفسه من الحجر الأصم هو أشرف منالفلاح الذي يحرث الأرضو الذي يستعير من قوس قزح ألواناً يحول بها قطعة منالنسيج الحقيرة إلى صورة إنسان هو أفضل من الاسكافي الذي يصنع الأحذية لأقدامنا"
                    ولكني أقول لكم لا في نوم الليل بل في يقظة الظهيرة البالغة إن الريح لا تخاطبالسنديانة الجبارة بلهجة أحلى من اللهجة التي تخاطي بها أحقر أعشابالأرضوالعظيم العظيم ذلك الذي يحول هيمنة الريه إلى أنشودة تزيدها محبته حلاوةو عذوبةأجل إن العمل هو الصورة الظاهرة للمحبة الكاملةفإذا لم تقدر أنتشتغل بمحبة و كنت متضجرا ملولاً فلأجدر بك أن تترك عملك و تجلي على درجات الهيكلتلتمس صدقة من العملة المشتغلين بفرح وطمأنينةلأنك إذا خبزت خبزاً و انت لا تجدلك لذة في عملك فإنما أنت تخبز علقماً لا يشبع سوى نصف مجاعة الإنسانو إذاتذمرت و أنت تعصر عنبك فإن تذمرك يدس لك سماً في الخمرة المستقطرة من ذلكالعصيرو إن أنشدت أناشيد الملائكة و لم تحب أن تكون منشداً فإنما أنت تصم آذانالناس بأنغامك عن الإصغاء إلى أناشيد الليل و النهار







                    الفرح والترح
                    ثم قالت له امرأة : هات لنا شيئاً عن الفرح و الترحإن فرحكم هو ترحكم ساخرا...
                    و البئر الواحدة التي تستقون منها ماء ضحككم قدطالما ملئت بسخين دموعكموهل في الإمكان أن يكون الحال على غير هذا المنوال؟فكما أعمل وحش الحزن أنيابه في أجسادكم تضاعف الفرح في اعماق قلوبكملأنهأليست الكأس التي تحفظ خمرتكم هي نفس الكأس التي أحرقت في أتون الخراف قبل أن بلغتإليكم؟أم ليست القيثارة التي تزيد طمأنينة أرواحكم هي نفس الخشب الذي قطعبالمدى والفؤوس؟فإذا فرحتم فتأملوا ملياً في أعماق قلبوكم تجدوا أم ما أحزنكمقبلا يفرحكم الآن و إذا احاطت بكم جيوش الكآبة ببصائركم ثانية إلى أعماق قلوبكم وتأملوا جيدا تروا هنالك بالحقيقة أنكم تبكون لما كنتم تعتقدون أنه غابة مسراتكم علىالأرضو يخيل إلي أن فريقاً منكم يقول : " إن الفرح أعظم من الترح " فيعارضهفريق آخر : " كلا , بل الترح أعظم من الفرح "
                    أما أنا فالحق أقول لكم : انهماتوأمان لا ينفصلان يأتيان معاً و يذهبان معاً فإذا جلس احدهما منفرداً إلى مائدتكمفلا يغرب عن أذهانكم أن رفيقه يكون حينئذ مضطجعاً على أسرتكمأجل إنكم بالحقيقةمعلقون ككفتي الميزان بين ترحكم وفرحكم و أنتم بينهما متحركون أبداً و لا تقفحركتكم إلا إذا كنتم فارغين فب أعماقكمفإذا جاء أمين خزائن الحياة يرفعكم لكييزن ذهبه وفضته فلا ترتفع كفة فرحكم و لا ترجح كفة ترحكم بل تثبتان على حالةواحدة







                    المساكن
                    حينئذ دنا منه بناء وقال له : هاتحدثنا عن البيوتفأجاب وقال :ابن من خيالك مظلة في الصحراء قبل أنتبني في داخل أسوار المدينة لأنه كما كان لك بيتاً مقبلا في شفق حياتك كذلك للغريبالهائم فيك بيت كبيتكإن بيتك هو جسدكالأكبرينمو في حرارة الشمس وينام في سكينة الليل و كثيرا ما ترافق نومهالأحلام أفلا يحلم بيتك و هل يترك الحلم المدينة و يسير إلى الغابة أم إلى رأسالتلة ؟أواه لو أستطيع أن أجمع بيوتكم بيدي فأبددها في الأحراج و الرياض كمايبذر الزارع في الحقولأود لو كانت الأودية شوارع لكم و مسالكالتلال الخضراء أزفة تطرقها أقدامكم عوضاً عن أزقتكم و شوارعكم القذرة و ياليتكمتنشدون بعضكم بعضا بين الدوالي و الكروم ثم تعودون حاملين عطر الأرض في طياتأثوابكمو لكن هذه جميعها تمنيات لم تحن ساعتهابعدلأن آبائكم و جدودكم إذ خانوا عليكم الضياع و الضلال جمعوكم معا لكيتكونوا قريبين من بعض و سبقى هذا الخوف مجمعا لكم زمنا بعد و ستظل أسوار المدينةفاصلة مواقدكم عن حقولكم ولكن إلى حينبربكم أخبروني يا أبناء اورفيليس ماذاتملكون في هذه البيوت و أي شيء تحتفظون به في داخل هذه الأبوابالموصدة؟هل عندكم السلام و هو القوة الصامتة التي تظهر ذاتكم الشديدة العزمالمستترة في اعماقكم ؟هل عنكم التذكارات و هي القناطراللامعة التي تصل قنن الفكر الانساني بعضها ببعض؟هل عندكم الجمال الذي يرتفع بالقلب من مصنوعات الخشب والحجارة إلىالجبل المقدس ؟بربكم اخبروني هل عندكم كل هذا في بيوتكم؟أم عندكم الرفاهية فقط و التحرق للرفاهية الممزوج بالطمع الرفاهية التيتدخل البيت ضيفا ثم لا تلبث أن تصير مضيفا فسيداً عاتياً عنيفاًثمتتحول إلى رائض جبار يتقلد السوط بيمينه و الكلاب بيساره متخذا ورغباتكم الفضلىألعوبة يتلهى بهاومع أن بنان هذه الرفاهية حريري الملمسفإن قلبها حديدي صلد فهي تهدىء من حدتكم لكي تناموا ثم تقف أمام أسرتكم هازئة بكم وبجلال أجسادكمتضحك من حواسكم المدركة و تطرح بها بين الأشواك كأنها أوعية سهلةالانكسار لأن التحرق للرفاهية ينحر أهواء النفس في كبدها فيرديها قتيلة ثم يسير فيجنازتها فاغرا شدقيه مرغياً مزبداًأما انتم يا ابناء الفضاء العائيشين فيالراحة والنعيم غير المستريحين فإنكم لن تؤخذوا بالأشراك ولن يقدر رائض على ترويضكملأن بيتكم لن يكون مرساة و ثكنة سيكون ساريةكلا و لن يكون غشاء براقا تغطى بهالجراح بل جفنا تحفظ به العين و انتم لن تطووا أجنحتكم لكي تستطيعوا أن تدخلوا منالأبواب و لن تحنوا رؤوسكم لئلا تنطح السقف كلا و لن تخشى أن تتنفسوا خوفا من أنتقوض أساسات الجدران و تسقط على الأرضأجل و لن تقطنوا في القبور التي بناهاأبناء الموت لأبناء الحياةومع كل ما يزين مناولكم من الجلال والجمال فإنها لن تستطيع أن تحتفظ بسركم أو أن تؤوي حنينكم لأن غير المحدود فيكميقطن من منزل السماء الذي بوابته سحابة الصباح و نوافذه سكون الليل و أناشيده

                    الثياب
                    ثم قال له الحائك : هات حدثنا عن الثيابفأجاب قائلاً : إن ثيابكم تحجب الكثير من جمالكم ولكنها لاتستر غير الجميل و مع أنكم تنشدون بثيابكم حرية التستر و الانفراد , فإنها تفسدكم وتستعبدكمويا ليت في وسعكم أن تستقبلوا الشمس و الريحبثياب بشرتكم عوضاً عن ثياب مصانعكملأن أنفاس الحياة في أشعةالشمس , ويد الحياة تسير مع مجاري الرياحيقول بعضكم : " إن الريحالشمالية دون غيرها قد حاكت الثياب التينلبسها."أنا أقول لكم : " نعم إن الريح الشمالية قدفعلت ذلك , ولكن العار كان نولاً لها , و لدونة العضلات كانت لها خيطاً .وعندما فرغت من عملها ضحكت منكم و هي تعصففي قلب الغابولكن لا يغرب عن اذهانكم أن الحشمة هي ترسمنيع متين للوقاية من عيون المدنسينفإذا زال المدنسون منالجود , أفلا تصير الحشمة قيداً للفكر و تلويثاً له في حمأة العبودية؟لذلك ضعوا نصب عيونكم أن الأرض تبتهجبملامسة أقدامكم العاية . و الرياح تتوق إلى ملاعبة شعوركمالمسترسلة.






                    البيع و الشراء


                    ثم دنا منه تاجر و قال له : هات حدثنا عن البيعوالشراءفأجاب وقال : إن الأرض تقدم لكم ثمارها , ولو عرفتم كيف تملئون أيديكم من خيراتها لما خبرتم طعم الحاجة فيحياتكم.لأنكم بغير مبادلة عطايا الأرض لن تجدواوفراً من الرزق ولن يشبع جشعكمفيجدر بكم أن تتموا هذهالمقايضة بروح المحبة و العدالة و إلا فإنها تؤدي بالبعض منكم إلى الشراهة و بغيرهمإلى الطمع و المجاعةو إذا ذهبتم إلى ساحة المدينة أيها الدائبونفي خدمة البحر و الحقول و الكروم فاجتمعوا بالحاكة و الخزافين و جامعي الحنوط والطيوبو اضرعوا في تلك الساعة إلى الروح المتسلطةعلى الأرض أن تحل عليكم وتبارك مقاييسكم وموازينكم التي تعينون بها مقدار ما تجريعليه مقايضاتكمو لا تأذنوا لذوي الأيدي العقيمة من ذويالبطالة أن يشتركوا في معاملاتكم لأنه لا شيء لهم يتاجرون به سوى أقوالهم التييبيعونها لكم بأعمالكمبل قولوا لأمثالهؤلاء:" تعالوا معنا إلى الحقل , أو اذهبوا معاولادنا إلى البحر و ألقوا هناك شباككم , لأن الأرض و البحر يجودان عليكم ,متىعملتم , كما يجودان علينا "و إن جائكم المغنون والراقصون والعازفون , فاشتروا من عطاياهم و لاترفضوهم , لأنهم يجمعون الأثمار و العطور نظيركم ومعأن ما يقدمونه لكم مصنوع من مادة الأحلام , فإنه أجمل كساء و أفضل غذاءلنفوسكم.و قبل أن تبرحوا ساحة المدينة انظروا ألاينصرف أحد منها فارغ اليدينلأن الروح السيدة فيالأرض لا تنام بطمأنينة وسلام على تموجات الرياح حتى تشاهد بعينيها أن الصغير فيكمقد نال كالكبير بينكم كل ما هو في حاجة إليه .




                    الجرائم و العقوبات


                    حينئذ وقف أحد قضاة المدينة وقال له : هات لنا خطبة في الجرائموالعقوباتفأجاب و قال : عندما تسير أرواحكم هائمةفوق الرياح و تمسون منفردين ليس لكم طوارئ السوء , حينئذ تقترفون الاثم ضد غيركم وضد أنفسكمو لأجل ذلك الاثم الذي تقترفونه يجب أنتقرعوا برهة و تنتظروا على بوابة القدوسفإن ذاتكم الإلهية بحرعظيمكانت نقية منذ الازل و ستظل نقية إلى آخرالدهوروهي كالأثير لا ترفع إلا ذوي الاجنحةأجل إن ذاتكم الالهية كالشمس , لا تعرفطرق المناجذ *( جمع خلد من غير لفظه ) و لا تعبأ بأوكارالأفاعيغير أنها لا تقطن و حيدة في كيانكملأن كثيراً منكم لا يزال بشراً و كثيراًغيره لم يصر بشراً بعد بل هو مسخ لا صورة له يسير غافلاً في الضباب وهو ينشد عهديقظتهفلا أود أن احدثكم الآن إلا عن هذا الانسان فيكم , لأن هذا الانسان دونذاتكم الإلهية و دون المسخ الهائم في الضباب هو الذي يعرف الجرائم والعقوبات علىالجرائم في كيانكمقد طالما سمعتكم تتخاطبون فيما بينكم عمن يقترف اثما كأنه ليس منكم بلغريب عنكم و دخيل فيما بينكمولكنني الحق أقول لكم كما أن القديس والبار لا يستطيعان أن يتساميا فوق الذات الرفية التي في كل منكمهكذاالشرير و الضعيف لا يستطيعان أن ينحدرا إلى أدنى من الذات الدنيئة التي في كل واحدمنكموكما أن ورقة الشجرة الصغيرة لا تستطيع أن تحوّل لونها من الخضرة إلى الصفرة إلابإرادة الشجرة و معرفتها الكامنة في أعماقهاهكذا لا يستطيع فاعل السوء بينكم أنيقترف إثما بدون إرداتكم الخفية و معرفتكم التي في قلوبكمفإنكمتسيرون معاً في موكب واحد إلى ذاتكم الإلهيةأنتم الطريق و أنتمالمطرقونفإذا عثر أحد منكم فإنما تكون عثرته عبرة للقادمين وراءه فيتجنبون الحجرالذي عثر بهأجل و تكون عثرته توبيخاً للذين يسيرون أمامه بأقدام سريعة ثابته لأنهملم ينقلوا حجر العثار من طريقهو إليكم يا أبناء اورفيليس هذه الكلمةالتي و إن جلت ثقيلة على قلوبكم , فهي القيقة بعينها :

                    إنالقتيل ليس بريئاً من جريمة القتلوليس المسروق بلا لوم فيسرقتهلايستطيع البار أن يتبرأ من أعمال الشرير و الطاهر النقي اليدين من بريء الذمة منقذارة
                    المدنسين
                    كثيرا ما يذهب المجرم ضحية لمن وقع عليه جرمه , كما يغلب أن يحمل المحكومعليه الاثقال التي كان يجب أ، يحملها الأبرياء غير المحكومينلذلك لاتستطيعون أن تضعوا حداً يفصل بين الأشرار و الصالحين أو الابرياء و المذنبين لأنهميقفون معاً أمام وجه الشمس كما أن الخيط الأبيض و الخيط الأسود ينسجمان معاً نولواحدفإذا انقطع الخيط الأسود ينظر الحائك إلى النسيج بأسره ثم يرجع إلى نولهيفحصه و ينظفهلذلك إذا جاء أحدكم بالزوجة الخائنة إلى المحاكمة فليزن أولا قلب زوجهابالموازين و ليقس نفسه بالمقاييسو كل من شاء ان يلطم المجرم بيمينه يجدربه اولا أن أن ينظر ببصيرة ذهنه إلى روح من أوقع الجرمعليهولإ، رغب أد منكم في أن يضع الفأس على أصل الشجرة الشريرة باسم العدالة فلينظر اولاًإلى أعماق جذورهاو هو لا شك واجد أن جذور الشجرة الشيرة و جذور الصالحة و غير المثمرةكلها متشابكة معاً في قلب الأرض الصامتأما أنتم أيها القضاة الذين يريدون أنيكونوا أبرارا أي نوع من الأحكام تصدرون على الرجل الأمين بجسده السارق بروحه؟أم أيعقاب تنزلون بذلك الذي يقتل الجسد مرة ولكن الناس يقتلون روحه ألف مرة؟و كيفتطاردون الرجل الذي مه أنه خداع ظالم بأعماله فهو موجع القلب , ذليل , مهان بروحه؟أجل , كيف تستطيعون أن تعاقبوا اللذين لهم توبيخ ضمائرهم وهو أعظم من جرائمهم أكبر قصاصعلى الأرض ؟أليس توبيخ الضمير هو نفسه العدالة التي تتوخاها الشريعة التي تتظاهرونبخدمتها؟فأنتم لا تستطيعون أن تسكبوا بلسم توبيخ الضمير في قلوب الأبراء كما أنكملا تقدرون أن تنزعوه من قلوب الأشقياءفهو يأتي لذاته في ساعة من الليل لاننتظرها , داعيا الناس إلى النهوض من غفلتهم و التأمل بحياتهم وما فيها منالتداعيات و المخالفاتو أنتم أيها الراغبون في سبر غور العدالةكيف تقدرون أن تدركوا كنهها إن لم تنظروا إلى جميع الأعمال بعين اليقظة في النورالكامل؟في مثل هذا النور تعرفون أن الرجل المنتصب و الرجل الساقط على الأرض همابالحقيقة رجل واحد في الشفق بين الليل ذاته الممسوخة و نهار ذاته الإلهيةو أن حجر الزاوية في الهيكل ليس بأعظممن الحجر الذي في أسفل أساساته





                    الشرائع


                    ثم قال له مشرع : وماذا تعتقد بشرائعنا أيهاالمعلمفأجاب قائلاً : إنكم تستلذون أن تضعوا شرائع لأنفسكم , بيد أنكمتستلذون أكثر أن تكسروها و تتعدوافرائضهالذلك أتم كالأولاد الذين يلعبون على الشاطئ يبنون أبراجعظيمة من الرمل بصبر وثبات , ثم لا يلبثون أن يهدوموها ضاحكينصاخبينفعندما تبنون ابراجكم الرملية يأتي البحر برمال جديدةإلى الشاطئ و عندما تهدمون أبراجكم يضحك البحر منكم في نفسه لأن البحر يضحك منالأبرياء ابداًولكن أقول لكم في منليست الحياة بحراً في عقيدتهم بل ليست الشرائع التي تسنها حكمة الانسان البالغةأبراجا من الرمال فحسبأولئك الذين يحسبون أنالحياة صخرة صلدة و أن الشريعة إزميل حاد يأخذونه بأيديهم لكي ينحتوا هذه الصخرةعلى صورتهم و مثالهم وفي الثور الذي يحب نيره و يتهم الوعل و الإبل و الظبي أنهاحيوانات متمردة ناشزة ؟وفي الأفعى العتيقةالأيام التي لا تستطيع أن تخلع جلدها و لذلك تنبري متهمة جميع الحيوانات بالعريوقلة الحياء ؟وفي ذلك الذي يسبق غيرهإلى وليمة العرس و عندما يملأ جوفه من الأطعمة و يبلغ حده من النهم و اشراهة يتركالوليمى و يذهب في طريقه قائلاً إن جميع الولائم مخالفة للناموس و جميع الذينيجتمعون إليها متعدّو الشريعة ؟ماذا أقول في امثالهؤلاء؟ انهم كجميع الناس يقفون في أشعة الشمس و لكنهم يولون الشمسظهورهمفهم لذك لا ينظرون سوى ظلالهم و ظلالهم هي عند التحقيقشرائعهم المقدسةو هل اعترافاتهمبالشريعة سوى انهم ينحون و يطأطئون رؤوسهم لكي يستقصوا ظلالهم على الأرض؟أما أنتم الذين يمشون وهم يحدقون إلى الشمس بأجفان غيرمرتعشة فهل في الأرض من صورة تستطيع أن تستوقفكم هنيهة؟و أنتم المسافرون مع الريح أية صفحة من الصفحات الدالةعلى مجاري الرياح تقدر أن تقودكم في مسالككم؟وما هي الشريعة البشرية التي تفيدكم إذا كنتم لم تحطموانيركم على باب سجن من سجون الانسان؟و أية شرائع ترهبون إذاكنتم ترقصون ولكنكم لا تعثرون بقيد من قيوم العالم الحديدية؟ومن هو الرجل الذي يستطيع أن يأتي بكم إلى المحاكمة إذامزقتم أثوابكم و لكنكم لم تضعوها في طريق أحد الناس؟أجل يا أبناء اورفليس إنكم تستطيعون أن تخمدوا صوتالطبل و تحلوا أوتار القيثارة ولكن مَن مِن أبناء الانسان يستطيع أن يمنع قبرةالسماء عن الغناء ؟





                    الحرية


                    ثم قالله خطيب : هات حدثنا عن الحرية
                    فأجاب قائلاً : قد طالما رأيتكم ساجدين على ركبكم أمام أبواب المدينةو إلى جوانب المواقد تعبدون حريتكمو أنتم بذلك أشبهبالعبيد الذين يتذللون أمام سيدهم العسوف الجبار يمدحونه و ينشدون له وهو يعملالسيف في رقابهمنعم , وفي غابة الهيكلوظل القلعة كثيراً ما رأيت أشدكم حرية حمل حريته كنير ثقيل لعنقه و غل متين ليديه ورجليهرأيت كل ذلك فذاب قلبي في اعماق صدري و نزفت دماؤهلأنكم لا تستطيعون أن تصيروا أحراراً حتى تتحول رغبتكم في السعي وراء الحرية إلىسلاح تتسلحون يه و تنقطعوا عن التحدث بالحرية كغايتكم و مهجتكمإنكم تصيرون أحرار بالحقيقة إذا لم تكن أيامكم بلا عملتعملونه و لياليكم بلا حاجة تفكرون بها أو كآبة تتألمونذكراهابل تكونون أحراراً عندما تنطق هموم الحياة و أعمالهاأحقاءكم بمنطقة الجاد و العمل و تثقل كاهلكم بالمصاعب و المصائب و لكنكم تنهضون منتحت أثقالها غزاة طليقينلأنكم كيف تستطيعون أنترتفعوا إلى ما فوق أيامكم و لياليكم إذا لم تحطموا السلاسل التي أنتم أنفسكم فيفجر إدراككم قيدتم بها ساعة ظهيرتكم الحرة؟الا إن ما تسمونه حرية إنما هو بالحقيقة أشد هذهالسلاسل قوة و إن كانت حلقاته تلمع في نور الشمس و تخطفأبصاركمو ماذا يجدر بكم طرحه عنكم لكي تصيروا أحراراً سوى كسرصغيرة رثة في اذنكم البالية ؟فإذا كانت هذه الكسرشريعة جائرة وجب نسخها لأنها شريعة سطرتها يمينكم و حفرتها على جبينكمبيد أنكم لا تستطيعون أن تمحوها عن جباهكم بإحراق كتبالشريعة التي في دواوينكم كلا و لا يتم لكم ذلك بغسل جباه قضاتكم ولو سكبتم عليهاكل ما في البحار من مياهو إن كانت طاغية تودونخلعه عن عرشه فانظروا أولاً إن كان عرشه القائم في اعماقكم قدتهدملأنه كيف يستطيع طاغية أن يحكم الاحرار المفتخرين مالميكن الطغيان أساسا لحريتهم و العار قاعدةلكبريائهم؟و إن كانت هماً ترغبونفي التخلص منه فإن ذلك الهم إنما أنتم اخترتموه ولم يضعه أحد عليكمو إن كانت خوفاً تريدون طرده عنكم فإن جرثومة هذا الخوفمغروسة في صميم قلوبكم وليست في يدي منتخافونالحق أقول لكم إن جميع الأشياء تتحرك في كيانكم متعانقةعلى الدوام عناقاً نصفياً : كل ما تشتهون و ما تخافون وما تتعشقون وما تستكرهون وماتسعون وراءه وما تهربون منهجميع هذه الرغبات تتحركفيكم كالأنوار و الظلال , فإذا اضمحل الظل ولم يبق له من أثر أمسى النور المتلألئظلاً لنور آخر سواه
                    وهكذا الحال في حريتكم إذا حلتقيودها أمست هي نفسها قيداً لحرية أعظم منها .






                    العقل و العاطفة


                    ثم طلبت إليه العرافة ثانية قائلة : هات حدثنا عن العقل والهوىفأجاب قائلاً : كثيرا ما تكون نفوسكم ميداناً تسير فيهعقولكم ومدارككم حربا عواناً على اهوائكم وشهواتكم و إنني أود أم أكون صانع سلام فينفوسكمفأحول ما فيكم من تنافر و خصام إلى وحدة و سلام و لكنأنى يكون لي ذلك إذا لم تصيروا أنتم صانعي سلام لنفوسكم ومحبين جميع عناصركم علىالسواءإن العقل و الهوى هما سكان* ( * دفة السفينة ) النفس وشراعها وهي سائرة في بحر العالم فإذا انكسر السكان أو تمزق الشراع فإن سفينة النفسلا تستطيع أن تتابع سيرها بل ترغم على ملاطمة الأمواج يمنة و يسرة حتى تقذف بكم إلىمكان أمين تحتفطون به في وسط البحرلأن العقل اذا استقلبالسلطان على الجسد قيد أهواءه و لكن الاهواء إذا لم يرافقها العقل كانت لهيباًيتأجج ليفني نفسهفاجعل نفسك تسمو بعقلكإلى مستوى أهوائك و حينئذ ترى منها ما يطربك و يشرح لكصدركوليكن لك من عقلك دليل و قائد لأهوائك لكي تعيش أهواؤكفي كل يوم بعد موتها و تنهض كالعنقاء متسامية فوق رمادهاو أرغب إليكم أن تعنوا بالعقل و الهوى عنايتكم بطيفينعزيزين عليكم فإنكم ولا شك لا تكرمون الواحد أكثر من الثاني لأن الذي يعتني بالواحدو يهمل الآخر يخسر محبة الاثنين و ثقتهماو إذا جلستم في ظلالالحور الوارفة بين التلال الجميلة تشاطرون الحقول و المروج البعيدة سلامها وسكينتها و صفائها فقولوا حينئذ في أعماق قلوبكم متهيبين خاشعين : إن الله يتحرك فيالاهواءوما دمتم نسمة من روح الله وورقة في حرجه فأنتم أيضايجب أن تستريحوا في العقل و تتحركوا في الأهواء












                    الألم

                    ثم نهضت من بين الجمع امرأة و قالت له : هات حدثنا عنالألمفأجاب و قال : إن ما تشعرون به من الألم هو انكسارالقشرة التي تغلف إدراككمو كما أن القشرة الصلدةالتي تحجب الثمرة يجب أ، تتحطم حتى يبرز قلبها من ظلمة الأرض إلى نور الشمسهكذا أنتم أيضا يجب أن تحطم الآلام قشوركم قبل أنتعرفوا معنى الحياة لأنكم لو استطعتم أن تعيروا عجائب حياتكم اليومية حقها منالتأمل و الدهشة لما كنتم ترون آلامكم أقل غرابة منأفراحكمبل كنتم تقبلون فصول قلوبكم كما قد قبلتم في غابرحياتكم الفصول التي مرت في حقولكمو كنتم ترقبون وتتأملون بهدوء و سكون شتاء أحزانكم وآلامكمأنتم مخيرون في الكثير منآلامكمو هذا الكثير من آلامكم هو الجرعة الشديدة المرارة التيبواسطتها يشفي الطبيب الحكيم الساهر في أعماقكم أسقام نفوسكمالمريضةلذلك آمنوا بطبيب نفوسكم , وثقوا بما يصفه لكم منالدواء الشافي و تناولوا جرعته بسكينة و طمأنينةلأن يمينه و إن بدت لكم ثقيلة قاسية فهي مقودة بيمينغير المنظور اللطيفة و الكأس التي يقدمها إليكم و إن أحرقت شفاهكم فهي مصنوعة منالطين الذي جلبته يدا الفخاري الأزلي بدموعهالمقدسة.



                    معرفةالنفس
                    ثم قال له رجل : هات حدثنا عن معرفةالنفس
                    فأجاب قائلاً : إن قلوبكم تعرف في السكينة أسرار الأيام و الليالي , ولكنآذانكم تتشوق لسماع صوت هذه المعرفة الهابطة على قلوبكم غير أنكم تودون لو تعرفونبالألفاظ و العبارات ما تعرفونه بالأفكار و التأملاتو تتوقون إلى أ، تلمسوا بأصابعكم جسدأحلامكم العاريوحسن أنكم تتوقون إلى جميع ذلك فإن الينبوعالكامن في أعماق نفوسكم سينفجر يوما ما و يجري منحدراً إلى البحر و الكنز المطمورفي أعماقكم غير المتناهية سينقب في ساعة لا تعلمونها و تفتح أبوابه أمامعيونكمولكن حذار أن تأخذوا معكم موازينكم لكيتزنوا بها كنزكم غير المعروفكلا , و لا تسبروا غورمعرفتكم بقياس محدود أو حبل مشدود لأن الذات بحر ولا وزن ولا قياسلهأجل ولا تقل في ذاتك : " قد وجدت الحق " بلقل بالأحرى : " قد وجدت حقاً " و لا تقل : " قد وجدتطريق النفس " بل قل بالأولى : " قد رأيت النفس تمشي على طريقي "لأن النفس تمشي على جميع المسالك والطرقالنفس لا تمشي على حبل أو خيط كلاّ ولا هيتنمو كالقصبة , النفس تطوي ذاتها كالبشنين ( نبات يقوم على ساق لا ورق له ) ذيالبتلات التي لا تحصى عديدها.
                    Attached Files

                    من هنا مررت........

                    Comment


                    • #11
                      Originally posted by cloude View Post
                      أعطني الناي وغني ..... فالـغـنا سـر الخـلـود
                      وأنين النــاي يبـقـى ..... بعد أن يفنى الوجود




                      إنها الأغنية الرقيقة التي شدت بها "فـيروز" ... وهي من قصيدة "المواكب" لشاعر المهجر الرومانسي "جبران خليل جبران"



                      ولد "جبران" في يناير عام 1883م ،في قرية بشري ؛إحدى قرى جبل لبنان .. وكان أبوه يعمل في تجارة المواشي .. ولم يكن دخل الأسرة كافياً للإنفاق على ستة أشخاص مما جعل أخاه _بطرس_ يفكر في الرحيل مع الأسرة - عدا الأب - إلى بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية ..
                      فيقيم "جبران" ويتلقى تعليمه في مدرسة الحكمة في بيروت ثم يرحل إلى باريس ليقيم فيها شهراً ،وحينما رحل مع الأسرة إلى بوسطن قرر الاستقرار بها والعمل بالكتابة والتصوير .

                      وفي عام 1908 عاد إلى باريس ،ومكث بها ثلاث سنوات يستكمل فيها موهبته الفنية .. وعاد حاصلاً على إجازة عالية في التصوير من معهد الفنون الجميلة ... وقد اتصل "جبران" في باريس بالنحات العالمي "رودان" ،وسمع منه عن الشاعر الإنجليزي (ويليام بليك) ،وكيف التقى فيه الشاعر بالمصور ..
                      وتمنى جبران أن يحذو حذو (ويليام بليك) ؛فأخذ يعد نفسه لهذا الهدف ..
                      ثم يستقر "جبران" في نيويورك عام 1912 ،ويعتمد على نفسه وفنه في تحسين أوضاعه المادية ..فاتجه بكل طاقته نحو الرسم والتصوير ،وأقام معرضين نالا الإعجاب والإشادة ..

                      ثم بدأت ابداعاته المكتوبة ؛فنشر عام 1918 كتاب ( المجنون ) ،ثم كتابه ( السابق ) الذي نشر عام 1920 ... تلاهما في عام 1923 كتاب ( النبي ) ؛الذي أحدث صدىً طيباً في الأوساط الثقافية الأمريكية . ثم توالت أعماله ومنها : عيسى بن الانسان ،وحديقة النبي ، ورمل وزبد ، والتائه ،..
                      جبران لخليل جبرانالأجنحة المتكسرة
                      1
                      توطئة

                      كنت في الثامنة عشرة من عمريعندما فتح الحب عينيَّ بأشعته السحرية، ولمس نفسي لأول مرة بأصابعه النارية. وكانتسلمى كرامة المرأة الأولى التي أيقظت روحي لمحاسنها، ومشت أمامي إلى جنة العواطفالعلوية حيث تمر الأيام كالأحلام وتنقضي الليالي كالأعراس.
                      سلمى كرامة هي التيعلمتني عبادة الجمال بجمالها، وأرتني خفايا الحب بانعطافها، وهي التي أنشدت علىمسمعي أول بيت من قصيدة الحياة المعنوية.
                      أي فتى لا يذكر الصبية الأولى التيأبدلت غفلة شبيبته بيقظة هائلة بلطفها، جارحة بعذوبتها، فتاكة بحلاوتها؟ من منا لايذوب حنيناً إلى تلك الساعة الغريبة التي إذا انتبه فيها فجأة رأى كليته قد انقلبتوتحولت، وأعماقه قد اتسعت وانبسطت وتبطنت بانفعالات لذيذة بطل ما فيها من مرارةالكتمان، مستحبة بكل ما يكتنفها من الدموع والشوق والسهاد.
                      لكل فتى سلمى تظهرعلى حين غفلة في ربيع حياته. وتجعل لانفراده معنى شعرياً وتبدل وحشة أيامه بالأنس،وسكينة لياليه بالأنغام.
                      كنت حائراً بين تأثيرات الطبيعة وموحيات الكتبوالأسفار عندما سمعت الحب يهمس بشفتي سلمى في آذان نفسي، وكانت حياتي خالية مقفرةباردة شبيهة بسبات آدم في الفردوس عندما رأيت سلمى منتصبة أمامي كعمود النور، فسلمىكرامة هي حواء هذا القلب المملوء بالأسرار والعجائب، هي التي أفهمته كنه هذا الوجودوأوقفته كالمرآة أمام هذه الأشباح. حواء الأولى أخرجت آدم من الفردوس بإرادتهاوانقياده، أما سلمى فأدخلتني إلى جنة الحب والطهر بحلاوتها واستعدادي، ولكن ما أصابالإنسان الأول قد أصابني، والسيف الناري الذي طرده من الفردوس هو كالسيف الذيأخافني بلمعان حده، وأبعدني كرهاً عن جنة المحبة قبل أن أخالف وصية، وقبل أن أذوقطعم ثمار الخير والشر.
                      واليوم، وقد مرت الأعوام المظلمة طامسة بأقدامها رسومتلك الأيام، لم يبقى لي من ذلك الحلم الجميل سوى ذكريات موجعة ترفرف كالأجنحة غيرالمنظرة حول رأسي، مثيرة تنهدات الأسى في أعماق صدري، مستقطرة دموع اليأس والأسف منأجفاني.. وسلمى ــ سلمى الجميلة العذبة قد ذهبت إلى ما وراء الشفق الأزرق ولم يبقمن آثارها في هذا العالم سوى غصات أليمة في قلبي، وقبر رخام منتصب في ظلال أشجارالسرو. فذلك القبر وهذا القلب هما كل ما بقي ليحدث الوجود عن سلمى كرامة. غير أنالسكينة التي تخفر القبور لا تفشي 1لك السر المصون الذي أخفته الآلهة في ظلماتالتابوت، والأغصان التي امتصت عناصر الجسد لا تبيح بحفيفها مكنونات الحفرة، أماغصات وأوجاع هذا القلب فهي التي تتكلم وهي التي تنسكب الآن مع قطرات الحبر السوداءمعلنة للنور أشباح تلك المأساة التي مثلها الحب والجمال والموت.
                      فيا أصدقاءشبيبتي المنتشرين في بيروت، إذا مررتم بتلك المقبرة القريبة من غابة الصنوبرادخلوها صامتين، وسيروا ببطء كيلا تزعج أقدامكم رفات الراقدين تحت أطباق الثرى،وقفوا متهيبين بجانب قبر سلمى وحيوا التراب الذي ضم جثمانها. ثم اذكروني بتنهدةقائلين في نفوسكم: ههنا دفنت آمال ذلك الفتى الذي نفته صروف الدهر إلى ما وراءالبحار، وههنا توارت أمانيه وانزوت أفراحه وغادرت دموعه واضمحلت ابتساماته، وبينهذه المدافن الخرساء تنمو كآبته مع أشجار السرو والصفصاف. وفوق هذا القبر ترفرفروحه كل ليلة مستأنسة بالذكرى، مرددة مع أشباح الوحشة ندابات الحزن والأسى، نائحةمع الغصون على صبية كانت بالأمس نغمة شجية بين شفتي الحياة فأصبحت اليوم سراًصامتاً في صدر الأرض.
                      أستحلفكم يا رفاق الصبا بالنساء اللواتي أحبتهن قلوبكم أنتضعوا أكاليل الأزهار على قبر المرأة التي أحبها قلبي ـ فرب زهرة تلقونها على ضريحمنسي تكون كقطرة الندى التي تسكبها أجفان الصباح بين أوراق الورود الذابلة.
                      - الكآبة الخرساء

                      أنتم أيها الناس تذكرون فجر الشبيبة فرحين باسترجاع رسومه،متأسفين على انقضائه، أما أنا فأذكره مثلما يذكر الحر المعتوق جدران سجنه وثقلقيوده. أنتم تدعون تلك السنين التي تجيء بين الطفولة والشباب عهداً ذهبياً يهزأبمتاعب الدهر وهواجسه ويطير مرفرفاً فوق رؤوس المشاعل والهموم مثلما تجتاز النحلةفوق المستنقعات الخبيثة، سائرة نحو البساتين المزهرة، أما أنا فلا أستطيع أن أدعوسني الصبا سوى عهد آلام خفية خرساء كانت تقطن قلبي وتثور كالعواصف في جوانبه،وتتكاثر نامية بنموه ولم تجد منفذاً تنصرف منه إلى عالم المعرفة حتى دخل إليه الحبوفتح أبوابه وأنار زواياه، فالحب قد عتق لساني فتكلمت ومزق أجفاني فبكيت وفتححنجرتي فتنهدت وشكوت.
                      أنتم أيها الناس تذكرون الحقول والبساتين والساحات وجوانبالشوارع التي رأت ألعابكم وسمعت همس طهركم، وأنا أيضاً أذكر تلك البقية الجميلة منشمال لبنان، فما أغمضت عينيّ عن هذا المحيط إلا ورأيت تلك الأودية المملوءة سحراًوهيبة، وتلك الجبال المتعالية بالمجد والعظمة نحو العلاء، ولا صممت أذني عن ضجة هذاالاجتماع إلا وسمعت خرير تلك السواقي وحفيف تلك الغصون, ولكن هذه المحاسن التيأذكرها الآن وأشوق إليها شوق الرضيع إلى ذراعي أمه هي التي كانت تعذب روحي المسجونةفي ظلمة الحداثة مثلما يتعذب البازي بين قضبان قفصه عندما يرى أسراب البزاة تسبححرة في الخلاء الوسيع ــ وهي التي كانت تملأ صدري بأوجاع التأمل ومرارة التفكير،وتنسج بأصابع الحيرة والالتباس نقاباً من اليأس والقنوط حول قلبي ــ فلم أذهب إلىالبرية إلا وعدت منها كئيباً جاهلاً أسباب الكآبة. ولا نظرت مساء إلى الغيومالمتلونة بأشعة الشمس إلا وشعرت بانقباض متلف ينمو لجهلي معاني الانقباض، ولا سمعتتغريدة الشحرور أو أغنية الغدير إلا وقفت حزيناً لجهلي موجبات الحزن.
                      يقولون إنالغباوة مهد الخلود والخلود مرقد الراحة ــ وقد يكون ذلك صحيحاً عند الذين يولدونأمواتاً ويعيشون كالأجساد الهامدة الباردة فوق التراب، ولكن إذا كانت الغباوةالعمياء قاطنة في جوار العواطف المستيقظة تكون الغباوة أقصى من الهاوية وأمر منالموت. والصبي الحساس الذي يشعر كثيراً ويعرف قليلاً هو أتعس المخلوقات أمام وجهالشمس لأن نفسه تظل واقفة بين قوتين هائلتين متباينتين: قوة خفية تحلق به السحابوتريه محاسن الكائنات من وراء ضباب الأحلام، وقوة ظاهرة تقيده بالأرض وتغمر بصيرتهبالغبار وتتركه ضائعاً خائفاً في ظلمة حالكة.
                      للكآبة آياد حريرية الملامس، قويةالأعصاب تقبض على القلوب وتؤلمها بالوحدة. فالوحدة حليفة الكآبة كما أنها أليفة كلحركة روحية. ونفس الصبي المنتصبة أمام عوامل الوحدة وتأثيرات الكآبة شبيهة بالزنبقةالبيضاء عند خروجها من الكمام ترتعش أمام النسيم، وتفتح قلبها لأشعة الفجر وتضمأوراقها بمرور خيالات المساء، فأن لم يكن للصبي من الملاهي ما يشغل فكرته، ومنالرفاق من يشاركه في الأميال، كانت الحياة أمامه كحبس ضيق لا يرى في جوانبه غيرأنوال العناكب ولا يسمع من زواياه سوى دبيب الحشرات.
                      أما تلك الكآبة التي اتبعتأيام حداثتي فلم تكن ناتجة عن حاجتي إلى الملاهي لأنها كانت متوفرة لدي، ولا عنافتقاري إلى الرفاق لأنني كنت أجدهم أينما ذهبت، بل هي من أعراض علة طبيعية فيالنفس كانت تحبب إليّ الوحدة والانفراد وتميت في روحي الأميال إلى الملاهيوالألعاب، وتخلع عن كتفيّ أجنحة الصبا وتجعلني أمام الوجود كحوض مياه بين الجباليعكس بهدوئه المحزن رسوم الأشباح وألوان الغيوم وخطوط الأغصان ولكنه لا يجد ممراًيسير فيه جدولاً مترنماً إلى البحر.
                      هكذا كانت حياتي قبل أن أبلغ الثامنة عشرة،فتلك السنة هي من ماضيّ بمقام القمة من الجبل، لأنها أوقفتني متأملاً تجاه هذاالعالم، وأرتني سبل البشر، ومروج أميالهم، وعقبات متاعبهم وكهوف شرائعهموتقاليدهم.
                      في تلك السنة ولدت ثانية والمرء إن لم تحبل به الكآبة ويتمحض بهاليأس، وتضعه المحبة في مهد الأحلام، تظل حياته كصفحة خالية بيضاء في كتاب الكيان.
                      في تلك السنة شاهدت ملائكة السماء تنظر إليّ من وراء أجفان امرأة جميلة، وفيهارأيت أبالسة الجحيم يضجون ويتراكضون في صدر رجل مجرم، ومن لا يشاهد الملائكةوالشياطين في محاسن الحياة ومكروهاتها يظل قلبه بعيداً عن المعرفة ونفسه فارغة منالعواطف.
                      - يد القضاء

                      كنت في بيروت في ربيع تلك السنة المملوءة بالغرائب وكان نيسانقد أنبت الأزهار والأعشاب فظهرت في بساتين المدينة كأنها أسرار تعلنها الأرضللسماء. وكانت أشجار اللوز والتفاح قد اكتست بحلل بيضاء معطرة فبانت بين المنازلكأنها حوريات بملابس ناصعة قد بعثت بهن الطبيعة عرائس وزوجات لأبناء الشعر والخيال.
                      الربيع جميل في كل مكان ولكنه أكثر من جميل في سوريا. الربيع روح إله غير معروفتتطوف في الأرض مسرعة. وعندما تبلغ سوريا تسير ببطء متلفتة إلى الوراء مستأنسةبأرواح الملوك والأنبياء الحائمة في الفضاء. مترنمة مع جداول اليهودية بأناشيدسليمان الخالدة. مرددة مع أرز لبنان تذكارات المجد القديم.
                      وبيروت في الربيعأجمل منها في ما بقي من الفصول. لأنها تخلو فيه من أحوال الشتاء وغبار الصيف وتصبحبين أمطار الأول وحرارة الثاني كصبية حسناء قد اغتسلت بمياه الغدير ثم جلست علىضفته تجفف جسدها بأشعة الشمس.
                      ففي يوم من تلك الأيام المفعمة بأنفاس نيسانالمسكرة وابتساماته المحيية، ذهبت لزيارة صديق يسكن بيتاً بعيداً عن ضجة الاجتماع. وبينما نحن نتحدث راسمين بالكلام خطوط آمالنا وأمانينا دخل علينا شيخ جليل فيالخامسة والستين من عمره تدل ملابسه البسيطة وملامحه المتجعدة على الهيبة والوقار،فوقفت احتراماً وقبيل أن أصافحه مسلماً تقدم صديقي وقال "حضرته فارس أفندي كرامة" ثم لفظ اسمي مشفوعاً بكلمة ثناء، فأحدق بي الشيخ هنيهة لامساً بأطراف أصابعه جبهتهالعالية المكللة بشعر أبيض كالثلج كأنه يريد أن يسترجع إلى ذاكرته صورة شيء قديممفقود، ثم ابتسم ابتسامة سرور وانعطاف واقترب مني قائلاً "أنت ابن صديق حبيب قديمصرفت ربيع العمر برفقته فما أعظم فرحي بمرآك وكم أنا مشتاق إلى لقاء أبيك بشخصك".
                      فتأثرت لكلامه وشعرت بجاذب خفي يدنيني إليه بطمأنينة، مثلما تقود الغريزةالعصفور إلى وكره قبيل مجيء العاصفة. ولما جلسنا أخذ يقص علينا أحاديث صداقتهلوالدي متذكراً أيام الشباب التي صرفها بقربه تالياً على مسامعنا أخبار أعوام قضتفكفنها الدهر بقلبه وقبرها في صدره.. إن الشيوخ يرجعون بالفكر إلى أيام شبابهم رجوعالغريب المشتاق إلى مسقط رأسه ويميل إلى سرد حكايات الصبا ميل الشاعر إلى تنغيمأبلغ قصائده فهم يعيشون بالروح في زوايا الماضي الغابر لأن الحاضر لا يمر بهم ولايلتفت والمستقبل يبدو لأعينهم متشحاً بضباب الزوال وظلمة القبر.
                      وبعد ساعة مرتبين الأحاديث والتذكارات مرور ظل الأغصان على الأعشاب، وقف فارس كرامة للانصرافولما دنوت منه مودعاً أخذ يدي بيمينه ووضع شماله على كتفي قائلاً: "أنا لم أر والدكمنذ عشرين سنة ولكنني أرجو أن أستعيض عن بعاده الطويل بزياراتك الكثيرة".
                      فانحنيت شاكراً واعداً بتتميم ما يجب على الابن نحو صديق أبيه.
                      ولما خرجفارس كرامة استزدت صاحبي من أخباره فقال بلهجة يساورها التحذر: "لا أعرف رجلاً سواهفي بيروت قد جعلته الثروة فاضلاً والفضيلة مثرياً. وهو واحد من القليلين الذينيجيئون هذا العالم ويغادرونه قبل أن يلامسوا بالأذى نفس مخلوق ــ ولكن هؤلاء الرجاليكونون غالباً تعساء مظلومين لأنهم يجهلون سبل الاحتيال التي تنقذهم من مكر الناسوخبثهم. ولفارس كرامة ابنة وحيدة تسكن معه منزلاً فخماً في ضاحية المدينة وهيتشابهه بالأخلاق وليس بين النساء من يماثلها جمالاً وهي أيضاً ستكون تاعسة لأن ثروةوالدها الطائلة توقفها الآن على شفير هاوية مظلمة مخيفة".
                      لفظ صديقي الكلماتالأخيرة وظهرت على محياه لوائح الغم والأسف ثم زاد قائلاً: " فارس كرامة شيخ شريفالقلب كريم الصفات ولكنه ضعيف الإرادة يقوده رياء الناس كالأعمى وتوقفه مطامعهمكالأخرس. أما ابنته فتخضع ممتثلة لإرادته الواهنة على رغم كل ما في روحها الكبيرةمن القوى والمواهب وهذا هو السر الكريه الكامن وراء حياة الوالد وابنته. وقد فهمهذا السر رجل يأتلف في شخصه الطمع بالرياء والخبث بالدهاء. وهذا الرجل هو مطرانتسير قبائحه بظل الإنجيل فتظهر للناس كالفضائل. وهو رئيس دين في بلاد الأديانوالمذاهب. تخافه الأرواح والأجساد وتخر لديه ساجدة مثلما تنحني رقاب الأنعام أمامالجزار. ولهذا المطران ابن أخ تتصارع في نفسه عناصر المفاسد والمكاره مثلما تنقلبالعقارب والأفاعي على جوانب الكهوف والمستنقعات. وليس بعيداً اليوم الذي ينتصب فيهالمطران بملابسه الحبرية جاعلاً ابن أخيه عن يمينه وابنة فارس كرامة عن شماله،رافعاً بيده الأثيمة إكليل الزواج فوق رأسيهما مقيداً بسلاسل التكهين والتعزيمجسداً طاهراً بجيفة منتنة، جامعاً في قبضة الشريعة الفاسدة روحاً سماوية بذاتترابية، واضعاً في صدر الليل.. هذا كل ما أستطيع أن أقوله لك الآن عن فارس كرامةوابنته فلا تسلني أكثر من ذلك لأن ذكر المصيبة يدنيها مثلما يقرب الموت الخوف منالموت.".
                      وحول صديقي وجهه ونظر من النافذة إلى الفضاء كأنه يبحث عن أسرار الأياموالليالي بين دقائق الأثير.
                      فقمت إذا ذاك من مكاني ولما أخذت يده مودعاً قلتله: "غداً أزور فارس كرامة قياماً بوعدي له واحتراماً للذكريات التي أبقتها صداقتهلوالدي".
                      فبهت بي الشاب دقيقة وقد تغيرت ملامحه كأن كلماتي القليلة البسيطة قدأوحت إليه فكراً جديداً هائلاً، ثم نظر في عيني نظرة طويلة غريبة ــ نظرة محبةوشفقة وخوف ــ نظرة نبي يرى في أعماق الأرواح ما لا تعرفه الأرواح، ثم ارتعشت شفتاهقليلاً ولكنه لم يقل شيئاً فتركته وسرت نحو الباب بأفكار متضعضعة، وقبيل أن ألتفتإلى الوراء رأيت عينيه ما زالتا تتبعانني بتلك النظرة الغريبة ــ تلك النظرة التيلم أفهم معانيها حتى عتقت نفسي من عالم المقاييس والكمية وطارت إلى مسارح الملأالأعلى حيث تتفاهم القلوب بالنظرات وتنمو الأرواح بالتفاهم.
                      - في باب الهيكل

                      وبعد أيام وقد مللت الوحدة، وتعبت أجفاني من النظر إلى أوجهالكتب العابسة علوت مركبة طالباً منزل فارس كرامة، حتى إذا ما بلغت بي غابة الصنوبرحيث يذهب القوم للتنزه، حول السائق وجهة فرسيه عن الطريق العمومية فسار خبباً علىممر تظلله أشجار الصفصاف وتتمايل على جانبيه الأعشاب والدوالي المتعرشة وأزاهرنيسان المبتسمة بثغور حمراء كالياقوت وزرقاء كالزمرد وصفراء كالذهب.
                      وبعد دقيقةوقفت المركبة أمام منزل منفرد تحيط به حديقة مترامية الأطراف تتعانق في جوانبهاالأغصان وتعطر فضاءها رائحة الورد والفل والياسمين.
                      ما سرت بضع خطوات في تلكالحديقة حتى ظهر فارس كرامة في باب المنزل خارجاً للقائي كأن هدير المركبة في تلكالبقعة المنفردة قد أعلن له قدومي ــ فهشّ متأهلاً وقادني مترحباً إلى داخل الدارونظير والد مشتاق أجلسني بقربه يحدثني مستفسراً عن ماضيّ مستطلعاً مقاصدي فيمستقبلي.. فكنت أجيبه بتلك اللهجة المفعمة بنغمة الأحلام والأماني التي يترنم بهاالفتيان قبل أن تقذفهم أمواج الخيال إلى شاطئ العمل حيث الجهاد والنزاع.. للشبيبةأجنحة ذات ريش من الشعر وأعصاب من الأوهام ترتفع بالفتيان إلى ما وراء الغيوم فيرونالكيان مغموراً بأشعة متلونة بألوان قوس القزح ويسمعون الحياة مرتلة أغاني المجدوالعظمة، ولكن تلك الأجنحة الشعرية لا تلبث أن تمزقها عواصف الاختبار فيهبطون إلىعالم الحقيقة ــ وعالم الحقيقة مرآة غريبة يرى فيها المرء نفسه مصغرة مشوهة.
                      فيتلك الدقيقة ظهرت من ستائر الباب المخملية صبية ترتدي ثوباً من الحرير الأبيضالناعم ومشت نحوي ببطء، فوقفت ووقف الشيخ قائلاً: "هذه ابنتي سلمى" وبعد أن لفظاسمي شفعه بقوله: "إن ذاك الصديق القديم الذي حجبته عني الأيام قد عادت وأبانته ليبشخص ابنه فأنا أراه الآن ولا أراه" فتقدمت الصبية إليّ وأحدقت بعيني هنيهة كأنهاتريد أن تستنطقهما عن حقيقة أمري، وتعلم منهما أسباب مجيئي إلى ذلك المكان، ثم أخذتيدي بيد تضارع زنبقة الحقل بياضاً ونعومة، فأحسست عند ملامسة الأكف بعاطفة غريبةجديدة أشبه شيء بالفكر الشعري عند ابتداء تكوينه في مخيلة الكاتب.
                      جلسنا جميعاًساكتين كأن سلمى قد أدخلت معها إلى تلك الغرفة روحاً علوية توعز الصمت والتهيب،وكأنها شعرت بذلك فالتفتت نحوي وقالت مبتسمة: "كثيراً ما حدثني والدي عن أبيكمعيداً على مسمعي حكايات شبابهما، فإن كان والدك قد أسمعك بتلك الوقائع لا يكون هذااللقاء هو الأول بيننا".
                      فسر الشيخ بكلمات ابنته وانبسطت ملامحه ثم قال: "إنسلمى روحية الأميال والمذاهب فهي ترى جميع الأشياء سابحة في عالم النفس".
                      وهكذاعاد فارس كرامة إلى محادثتي باهتمام كلي، ورقة متناهية كأنه وجد فيّ سراً سحرياًيرجعه على أجنحة الذكرى إلى ربيع أيامه العابرة.
                      كان ذلك الشيخ يحدق بيمسترجعاً أشباح شبابه وأنا أتأمله حالماً بمستقبلي. كان ينظر إلي مثلما تخيم أغصانالشجرة العالية المملوءة بمآتي الفصول فوق غرسة صغيرة مفعمة بعزم هاجع وحياة عمياء. شجرة مسنة راسخة الأعراق قد اختبرت صيف العمر وشتاءه ووقفت أمام عواصف الدهروأنوائه. وغرسة ضعيفة لينة لم تر غير الربيع ولم ترتعش إلا بمرور نسيم الفجر.
                      أما سلمى فكانت ساكتة تنظر إلي تارة وطوراً إلى أبيها كأنها تقرأ في وجهينا أولفصل من رواية الحياة وآخر فصل منها.
                      قضى ذلك النهار متنهداً أنفاسه بين تلكالحدائق والبساتين، وغابت الشمس تاركة خيال قبلة صفراء على قمم لبنان المتعاليةقبالة ذلك المنزل، وفارس كرامة يتلو عليّ أخباره فيذهلني وأنا أترنم أمامه بأغانيشبيبتي فأطربه، وسلمى جالسة بقرب تلك النافذة تنظر إليها بعينيها الحزينتين ولاتتحرك، وتسمع أحاديثنا ولا تتكلم كأنها عرفت أن للجمال لغة سماوية تترفع عن الأصواتوالمقاطيع التي تحدثها الشفاه والألسنة. لغة خالدة تضم إليها جميع أنغام البشر،وتجعلها شعوراً صامتاً مثلما تجتذب البحيرة الهادئة أغاني السواقي إلى أعماقهاوتجعلها سكوتاً أبدياً. إن الجمال سر تفهمه أرواحنا وتفرح به وتنمو بتأثيراته، أماأفكارنا فتقف أمامه محتارة محاولة تحديده وتجسيده بالألفاظ ولكنها لا تستطيع ــ هوسيال خاف عن العين يتموج بين عواطف الناظر وحقيقة المنظور. الجمال الحقيقي هو أشعةتنبعث من قدس أقداس النفوس وتنير خارج الجسد مثلما تنبثق الحياة من أعماق النواةوتكسب الزهرة لوناً وعطراً ــ هو تفاهم كلي بين الرجل والمرأة يتم بلحظة وبلحظةيولد ذلك الميل المترفع عن جميع الأميال. ذلك الانعطاف الروحي ندعوه حباً. فهل فهمتروحي روح سلمى في عشية النهار فجعلني التفاهم أن أراها أجمل امرأة أمام الشمس، أمهي سكرة الشبيبة التي تجعلنا نتخيل رسوماً وأشباحاً لا حقيقة لها؟ هل أعمتني الفتوةفتوهمت الأشعة في عيني سلمى والحلاوة في ثغرها والرقة في قدها، أم هي تلك الأشعةوتلك الحلاوة وتلك الرقة التي فتحت عيني لتريني أفراح الحب وأحزانه؟ لا أدري ولكنيأعلم بأنني شعرت بعاطفة لم أشعر بها قبل تلك الساعة. عاطفة جديدة تمايلت حول قلبيبهدوء يشابه رفرفة الروح على وجه الغمر قبل أن تبتدئ الدهور. ومن تلك العاطفة قدتولدت سعادتي وتعاستي مثلما ظهرت وتنساخت الكائنات بإرادة ذلك الروح.
                      هكذاانقضت تلك الساعة التي جمعتني بسلمى للمرة الأولى وهكذا شاءت السماء وعتقتني علىحين غفلة من عبودية الحيرة والحداثة لأسير حراً في موكب المحبة، فالمحبة هي الحريةالوحيدة في هذا العالم لأنها ترفع النفس إلى مقام سام لا تبلغه شرائع البشروتقاليدهم، ولا تسود عليه نواميس الطبيعة وأحكامها.
                      ولما وقفت للانصراف اقتربمني فارس كرامة وقال بصوت تعانقه رنة الإخلاص: "الآن وقد عرفت الطريق إلى هذاالمنزل يجب أن تأتي إليه شاعراً بالثقة التي تقودك إلى بيت أبيك وأن تحتسبني وسلمىكوالد وأخت لك ــ أليس كذلك يا سلمى؟"
                      فأحنت سلمى رأسها إيجاباً ثم نظرت إليّنظرة غريب ضائع وجد رفيقاً يعرفه.
                      إن تلك الكلمات التي قالها لي فارس كرامة هيالنغمة الأولى التي أوقفتني بجانب ابنته أمام عرش المحبة. هي استهلال الأغنيةالسماوية التي انتهت بالندب والرثاء ــ هي القوة التي شجعت روحينا فاقتربنا منالنور والنار. هي الإناء الذي شربنا فيه الكوثر والعلقم.
                      وخرجت فشيعني الشيخإلى أطراف الحديقة فودعتهما وقلبي يخفق في داخلي مثلما ترتعش شفتا العطشان بملامسةحافة الكأس
                      -الشعلة البيضاء

                      وانقضى نيسان وأنا أزور منزل فارس كرامة وألتقي بسلمىوأجلس قبالها في تلك الحديقة متأملاً محاسنها، معجباً بمواهبها، مصغياً لسكينةكآبتها، شاعراً بوجود آياد خفية تجتذبني إليها. فكل زيارة كانت تبين لي معنى جديداًمن معاني جمالها وسراً علوياً من أسرار روحها حتى أصبحت أمام عينيّ كتاباً أقرأسطوره وأستظهر آياته وأترنم بنغمته ولا أستطيع الوصول إلى نهايته.
                      إن المرأةالتي تمنحها الآلهة جمال النفس مشفوعاً بجمال الجسد هي حقيقة ظاهرة غامضة نفهمهابالمحبة ونلمسها بالطهر، وعندما نحاول وصفها بالكلام تختفي عن بصائرنا وراء ضبابالحيرة والالتباس. وسلمى كرامة كانت جميلة النفس والجسد فكيف أصفها لمن لا يعرفها؟هل يستطيع الجالس في ظل أجنحة الموت أن يستحضر تغريدة البلبل وهمس الوردة وتنهدةالغدير؟ أيقدر الأثير المثقل بالقيود أن يلاحق هبوط نسمات الفجر؟ ولكن أليس السكوتأصعب من الكلام؟ وهل يمنعني التهيب عن إظهار خيال من خيالات سلمى بالألفاظ الواهيةإذا كنت لا أستطيع أن أرسم حقيقتها بخطوط من الذهب؟ إن الجائع السائر في الصحراء لايأبى أكل الخبز اليابس إذا كانت السماء لا تمطره المن والسلوى.
                      كانت سلمى نحيلةالجسم تظهر بملابسها البيضاء الحريرية كأشعة قمر دخلت من النافذة. وكانت حركاتهابطيئة متوازنة أشبه شيء بمقاطيع الألحان الأصفهانية، وصوتها منخفضاً حلواً تقطعهالتنهدات فينسكب من بين شفتيها القرمزيتين مثلما تتساقط قطرات الندى عن تيجانالزهور بمرور تموجات الهواء. ووجهها ــ ومن يا ترى يستطيع أن يصف وجه سلمى كرامة؟بأية ألفاظ نقدر أن نصور وجهاً حزيناً هادئاً محجوباً وليس محجوباً بنقاب منالاصفرار الشفاف؟ بأية لغة نقدر أن نتكلم عن ملامح تعلن في كل دقيقة سراً من أسرارالنفس الكبيرة المتألمة في داخل الجسد، وتذكر الناظرين إليها بعالم روحي بعيد عنهذا العالم؟ إن الجمال في وجه سلمى لم يكن منطبقاً على المقاييس التي وضعها البشرللجمال، بل كان غريباً كالحلم أو كالرؤيا أو كفكر علوي لا يقاس ولا يحد ولا يتسخبريشة المصور، ولا يتجسم برخام الحفار. جمال سلمى لم يكن في شعرها الذهبي بل فيهالة الطهر المحيطة به. ولم يكن في عينيها الكبيرتين بل في النور المنبعث منهما. ولا في شفتيها الورديتين بل في الحلاوة السائلة عليهما. ولا في عنقها العاجي بل فيكيفية انحنائه قليلاً إلى الأمام. جمال سلمى لم يكن في كمال جسدها بل في نبالةروحها الشبيهة بشعلة بيضاء متقدة سابحة بين الأرض واللانهاية. جمال سلمى كان نوعاًمن النبوغ الشعري الذي نشاهد أشباحه في القصائد السامية والرسوم والأنغام الخالدة،وأصحاب النبوغ تعساء مهما تسامت أرواحهم تظل مكتنفة بغلاف من الدموع.
                      وكانتسلمى كثيرة التفكير قليلة الكلام، ولكن سكوتها كان موسيقياً ينتقل بجليسها إلىمسارح الأحلام البعيدة، ويجعله أن يصغي لنبضات قلبه ويرى خيالات أفكاره وعواطفهمنتصبة أمام عينيه.
                      أما الصفة التي كانت تعانق مزايا سلمى وتساور أخلاقها فهيالكآبة العميقة الجارحة، فالكآبة كانت وشاحاً معنوياً ترتديه فتزيد محاسن جسدهاهيبة وغرابة، وتظهر أشعة نفسها من خلال خيوطه كخيوط شجرة مزهرة من وراء ضبابالصباح.
                      وقد أوجدت الكآبة بين روحي وروح سلمى صلة المشابهة فكان كلانا يرى فيوجه الثاني ما يشعر به قلبه ويسمع صوته صدى مخبآت صدره فكأن الآلهة قد جعلت كل واحدمنا نصفاً للآخر يلتصق به بالطهر فيصير إنساناً كاملاً، وينفصل عنه فيشعر بنقص موجعفي روحه.
                      إن النفس الحزينة المتألمة تجد راحة بانضمامها إلى نفس أخرى تماثلهابالشعور وتشاركها بالإحساس مثلما يستأنس الغريب بالغريب في أرض بعيدة عن وطنيهما ــفالقلوب التي تدنيها أوجاع الكآبة بعضها مع بعض لا تفرقها بهجة الأفراح وبهرجتها،فرابطة الحزن أقوى في النفوس من روابط الغبطة والسرور؛ والحب الذي تغسله العيونبدموعها يظل طاهراً وجميلاً وخالداً.
                      -العاصفة

                      وبعد أيام دعاني فارس كرامة إلى تناول العشاء في منزله، فذهبتونفسي جائعة إلى ذلك الخبز العلوي الذي وضعته السماء بين يدي سلمى ــ ذلك الخبزالروحي الذي نلتهمه بأفواه أفئدتنا فتزداد جوعاً ــ ذلك الخبز السحري الذي ذاق طعمهقيس العربي ودانتي الطلياني وسافو اليونانية فالتهبت أحشاؤهم وذابت قلوبهم ــ ذلكالخبز الذي عجنته الآلهة بحلاوة القبل ومرارة الدموع وأعدته مأكلاً للنفوس الحساسةالمستيقظة لتفرحها بطعمه وتعذبها بتأثيره.
                      ولما بلغت المنزل وجدت سلمى جالسةعلى مقعد خشبي في زاوية من الحديقة وقد أسندت رأسها إلى عمد شجرة، فبانت بثوبهاالأبيض كواحدة من عرائس الخيال تخفر ذلك المكان. فدنوت منها صامتاً وجلست بقربهاجلوس مجوسي متهيب أمام النار المقدسة. ولما حاولت الكلام وجدت لساني منعقداً وشفتيجامدتين فاستأنست بالسكوت لأن الشعور العميق غير المتناهي يفقد شيئاً من خاصتهالمعنوية عندما يتجسم بالألفاظ المحدودة. ولكنني شعرت بأن سلمى كانت تسمع فيالسكينة مناجاة قلبي المتواصلة، وتشاهد في عيني أشباح نفسي المرتعشة.
                      وبعدهنيهة خرج فارس كرامة إلى الحديقة ومشى نحونا مرحباً بي كعادته باسطاً يده إلي كأنهيريد أن يبارك بها ذلك السر الخفي الذي يربط روحي بروح ابنته ثم قال مبتسماً (هلمايا ولديّ إلى العشاء فالطعام ينتظرنا) فقمنا وتبعناه وسلمى تنظر إلى من وراء أجفانمكحولة بالرقة والانعطاف كأن لفظة "يا ولدي" قد أيقظت في داخلها شعوراً جديداًعذباً يكتنف محبتها لي مثلما تحتضن الأم طفلها.
                      جلسنا إلى المائدة نأكل ونشربونتحدث ــ جلسنا في تلك الغرفة نتلذذ بألوان الطعام الشهية وأنواع الخمور المعتقة،وأرواحنا تسبح على غير معرفة منا في عالم بعيد عن هذا العالم، وتحلم بمآتي المستقبلونتأهب للوقوف أمام مخاوفه وأهواله. ثلاثة أشخاص تختلف أفكارهم باختلاف مقاصدهم منالحياة وتتفق سرائرهم باتفاق قلوبهم بالمودة والمحبة، ثلاثة من الضعفاء الأبرياءيشعرون كثيراً ويعرفون قليلاً وهذه هي المأساة المستتبة على مرسح النفس. شيخ جليلشريف يحب ابنته ولا يحفل بغير سعادتها ــ وصبية في العشرين من عمرها ترى المستقبلقريباً بعيداً وتحدق به لترى ما يخبئ لها من الغبطة والشقاء ــ وفتى كثير الأحلاموالهواجس لم يذق بعد خمر الحياة ولا خلها. يحرك جناحيه ليطير سابحاً في فضاء المحبةوالمعرفة ولكنه لا يستطيع النهوض لضعفه. ثلاثة جالسون حول مائدة أنيقة في منزلمنفرد عن المدينة تخيم عليه سكينة الدجى وتحدق به عيون السماء. ثلاثة يأكلونويشربون وفي أعماق صحونهم وكؤوسهم قد أخفى القدر المرارة والأشواك.
                      ولم ننته منالعشاء حتى دخلت علينا إحدى الخادمات وخاطبت فارس كرامة قائلة: "في الباب رجل يطلبمقابلتك يا سيدي".
                      فسألها بسرعة "من هو هذا الرجل". فأجابت: "أظنه خادم المطرانيا سيدي". فسكت دقيقة وأحدق بعيني ابنته نظير نبي ينظر إلى وجه السماء ليرى ماتخبئه من الأسرار. ثم التفت نحو الخادمة وقال "دعيه يدخل".
                      فعادت الخادمة وبعدهنيهة ظهر رجل بأثواب مزركشة وشارب معكوف الطرفين فسلم منحنياً وخاطب فارس كرامةقائلاً "قد بعثني سيادة المطران بمركبته الخصوصية لأطلب إليك أن تتكرم بالذهاب إليهفهو يريد أن يباحثك بأمور ذات أهمية".
                      فانتصب الشيخ وقد تغيرت ملامحه وانحجبتبشاشة وجهه وراء نقاب من التأمل والتفكير ثم اقترب مني وقال بصوت تساوره الرقةوالحلاوة "أرجو أن أعود وألقاك هنا، فسلمى ستجد بك مؤنساً يبعد بأحاديثه وحشةالليل، ويزيل بأنغام نفسه تأثير الوحدة والانفراد" ثم التفت نحو ابنته وزاد مبتسماً "أليس كذلك يا سلمى؟".
                      فأحنت الصبية رأسها وقد توردت وجنتاها قليلاً وبصوت يضارعنغمة الناي رقة قالت "سوف أجهد النفس لكي أجعل ضيفنا مسروراً يا والدي".
                      وخرجالشيخ مصحوباً بخادم المطران، وظلت سلمى واقفة تنظر من النافذة نحو الطريق حتىاختفت المركبة عن بصرها وراء ستائر الظلام، واضمحل ارتجاج الدواليب بتباعد المسافةوتشرب السكون حرتقة سنابك الخيل ثم جلست قبالتي على مقعد موشى بنسيج من الحريرالأخضر فبانت بأثوابها الناصعة كزنبقة لوت قامتها نسمات الصباح على بساط منالأعشاب.
                      ومرت دقائق وكلانا صامت حائر مفتكر يترقب الآخر ليبدأ بالكلام. ولكنهل هو الكلام الذي يحدث التفاهم بين الأرواح المتحابة؟ هل هي الأصوات والمقاطيعالخارجة من الشفاه والألسنة التي تقرب بين القلوب والعقول؟ أفلا يوجد شيء أسمى مماتلده الأفواه وأطهر مما تهتز به أوتار الحناجر؟ أليست هي السكينة التي تحمل شعاعالنفس إلى النفس وتنقل همس القلب إلى القلب؟أليست هي السكينة التي تفصلنا عنذواتنا فنسبح في فضاء الروح غير المحدود مقتربين من الملأ الأعلى شاعرين بأنأجسادنا لا تفوق السجون الضيقة وهذا العالم لا يمتاز عن المنفى البعيد؟ونظرتسلمى إلي وقد باحت أجفانها بسرائر نفسها ثم قالت بهدوء سحري "تعال نخرج إلى الحديقةونجلس بين الأشجار لنرى القمر طالعاً من وراء الجبل".
                      فوقفت مطيعاً وقلت ممانعاً "أليس الأفضل أن نبقى ههنا يا سلمى حتى يطلع القمر وينير الحديقة؟ أما الآن فالظلاميحجب الأشجار والأزهار فلا نستطيع أن نرى شيئاً فأجابت "إذا حجب الظلام الأشجاروالرياحين عن العين فالظلام لا يحجب الحب عن النفس".
                      قالت هذه الكلمات بلهجةغريبة ثم حولت عينيها ونظرت نحو النافذة فبقيت أنا صامتاً مفكراً بكلماتها مورداًلكل مقطع معنى راسماً لكل معنى حقيقة. ثم عادت وأحدقت بي كأنها ندمت على ما قالتفحاولت استرجاع كلماتها من أذني بسحر أجفانها. ولكن سحر تلك الأجفان لم يسترجع تلكالألفاظ إلا ليعيدها إلى أعماق صدري أكثر وضوحاً وأشد تأثيراً وليبيقها هناك ملتصقةبقلبي متوجة مع عواطفي إلى آخر الحياة.
                      كل شيء عظيم وجميل في هذا العالم يتولدمن فكر واحد أو من حاسة واحدة في داخل الإنسان. كل ما نراه اليوم من أعمال الأجيالالغابرة كان قبل ظهوره فكراً في عاقلة رجل أو عاطفة لطيفة في صدر امرأة.. الثوراتالتي أجرت الدماء كالسواقي وجعلت الحرية تعبد كالآلهة كانت فكراً خيالياً مرتعشاًبين تلافيف دماغ رجل فرد عاش بين ألوف من الرجال. الحروب الموجعة التي ثلت العروشوخربت الممالك كانت خاطراً يتمايل في رأس رجل واحد. التعاليم السامية التي غيرتمسير الحياة البشرية كانت ميلاً شعرياً في نفس رجل واحد منفصل بنبوغه عن محيطه. فكرواحد أقام الأهرام وعاطفة واحدة خربت طروادة وخاطر واحد أوجد مجد الإسلام وكلمةواحدة أحرقت مكتبة الإسكندرية.

                      فكر واحد يجيئك في سكينة الليل ويسير بك إلىالمجد أو إلى الجنون. نظرة واحدة من أطراف أجفان امرأة تجعلك أسعد الناس أو أتعسهم. كلمة واحد تخرج من بين شفتي رجل تصيرك غنياً بعد الفقر أو فقيراً بعد الغنى.. كلمةواحد لفظتها سلمى كرامة في تلك الليلة الهادئة أوقفتني بين ماضيّ ومستقبلي وقوفسفينة بين لجة البحار وطبقات الفضاء. كلمة واحدة معنوية قد أيقظتني من سبات الحداثةوالخلو وسارت بأيامي على طريق جديدة إلى مسارح الحب حيث الحياة والموت.
                      خرجناإلى الحديقة وسرنا بين الأشجار شاعرين بأصابع النسيم الخفية تلامس وجهينا وقاماتالأزهار والأعشاب اللدنة تتمايل بين أقدامنا، حتى إذا ما بلغنا شجرة الياسمين جلسناصامتين على ذلك المقعد الخشبي نسمع تنفس الطبيعة النائمة ونكشف بحلاوة التنهد خفاياصدرينا أمام عيون السماء الناظرة إلينا من وراء زرقة السماء.
                      وطلع القمر إذاذاك من وراء صنين وغمر بنوره تلك الروابي والشواطئ فظهرت القرى على أكتاف الأوديةكأنها قد انبثقت من اللاشيء. وبات لبنان جميعه من تحت تلك الأشعة الفضية كأنه فتىمتكئ على ساعده تحت نقاب لطيف يخفي أعضاءه ولا يخفيها.
                      لبنان عند شعراء الغربمكان خيالي، قد اضمحلت حقيقته بذهاب داود وسليمان والأنبياء مثلما انحجبت جنة عدنبسقوط آدم وحواء. هو لفظة شعرية لا اسم لجبل ــ لفظة ترمز عن عاطفة في النفسوتستحضر إلى الفكر رسوم غابات من الأرز يفوح منها العطر والبخور، وأبراج النحاسوالرخام تتعالى بالمجد والعظمة، وأسراب من الغزلان تتهادى بين الطلول والأودية،وأنا قد رأيت لبنان في تلك الليلة مثل فكر شعري خيالي منتصب كالحلم بين اليقظةواليقظة.
                      كذا تتغير الأشياء أمام أعيننا بتغيير عواطفنا، وهكذا نتوهم الأشياءمتشحة بالسحر والجمال عندما لا يكون السحر والجمال إلا في نفوسنا.
                      والتفتت إليّسلمى وقد غمر نور القمر وجهها وعنقها ومعصميها فبانت كتمثال من العاج نحتته أصابعمتعبد لعشتروت ربة الحسن والمحبة "لماذا لا تتكلم ــ لماذا لا تحدثني عن ماضيحياتك؟".
                      فنظرت إلى عينيها المنيرتين ومثل أخرس فاجأ النطق شفتيه أجبتها قائلاً "ألم تسمعي متكلماً مذ جئت إلى هذا المكان ــ أو لم تسمعي كل ما قلته مذ خرجنا إلىالحديقة؟ إن نفسك التي تسمع همس الأزهار وأغاني السكينة تستطيع أن تسمع صراخ روحيوضجيج قبلي".
                      فحجبت وجهها بيديها ثم قالت بصوت متقطع "قد سمعتك. نعم سمعتك.. سمعت صوتاً صارخاً خارجاً من أحشاء الليل وضجة هائلة منبثقة من قلبالنهار".
                      فقلت بسرعة وقد نسيت ماضي حياتي ونسيت كياني ونسيت كل شيء ولم أعرف سوىسلمى ولا أشعر بغير وجودها "وأنا قد سمعتك يا سلمى ــ سمعت نغمة عظيمة محيية جارحةتتموج لها دقائق الفضاء وتهتز بارتعاشها أسس الأرض".
                      فأغمضت سلمى أجفانها وظهرعلى شفتيها القرمزيتين خيال ابتسامة محزنة ثم همست قائلة "قد عرفت الآن بأنه يوجدشيء أعلى من السماء، وأعمق من البحر، وأقوى من الحياة والموت والزمن. قد عرفت الآنما لم أكن أعرفه بالأمس ولا أحلم به".
                      منذ تلك الدقيقة صارت سلمى كرامة أعز منصديق وأقرب من الأخت وأحب من الحبيبة. صارت فكراً سامياً يتبع عاقلتي وعاطفة رقيقةتكتنف قلبي وحلماً جميلاً يجاور نفسي.
                      ما أجهل الناس الذين يتوهمون أن المحبةتتولد بالمعاشرة الطويلة والمرافقة المستمرة. إن المحبة الحقيقية هي ابنة التفاهمالروحي وإن لم يتم هذا التفاهم بلحظة واحدة لا يتم بعام ولا بجيل كامل.
                      ورفعتسلمى رأسها ونظرت نحو الأفق البعيد حيث تلتقي خطوط صنين بأذيال الفضاء ثم قالت "لقدكنت لي بالأمس مثل أخ اقترب منه مطمئنة وأجلس بجانبه في ظلال والدي. أما الآن فقدشعرت بوجود أقوى وأعذب من العلاقة الأخوية. قد شعرت بعاطفة غريبة مجردة من كلعلاقة. عاطفة قوية عميقة مخيفة لذيذة تملأ قلبي حزناً وفرحاً".
                      فأجبتها "أليستهذه العاطفة التي نخافها ونرتجف لمرورها في صدورنا جزءاً من الناموس الكلي الذييسيّر القمر حول الأرض والأرض حول الشمس والشمس وما يحيط بها حول الله؟".
                      فوضعتيدها على رأسي وغرست أصابعها بشعري وقد تهلل وجهها وترقرقت الدموع في عينيها مثلماتلمع قطرات الندى على أطراف أوراق النرجس ثم قالت "مَن من البشر يصدق حكايتنا ــمَن منهم يصدق بأننا في الساعة التي تجيء بين غروب الشمس وطلوع القمر قد قطعناالعقبات واجتزنا المعابر الكائنة بين الشك واليقين. مَن منهم يعتقد بأن نيسان الذيجمعنا لأول مرة هو الشهر الذي أوقفنا في قداس أقداس الحياة؟".
                      قالت هذه الكلماتويدها ما برحت على رأسي المنحني ولو تخيرت في تلك الدقيقة لما فضلت تيجان الملوكوأكاليل الغار على تلك اليد الحريرية المتلاعبة بشعري ــ ثم أجبتها قائلاً "إنالبشر لا يصدقون حكايتنا لأنهم لا يعلمون بأن المحبة هي الزهرة الوحيدة التي تنبتبغير معاونة الفصول. ولكن هل هو نيسان الذي جمعنا لأول مرة وهل هي هذه الساعة التيأوقفتنا في قدس أقداس الحياة؟ أما جمعت روحينا قبضة الله قبل أن تصيرنا الولادةأسيري الأيام والليالي؟ إن حياة الإنسان يا سلمى لا تبتدئ في الرحم كما أنها لاتنتهي أمام القبر، وهذا الفضاء الوسيع المملوء بأشعة القمر والكواكب لا يخلو منالأرواح المتعانقة بالمحبة والنفوس المتضامنة بالتفاهم".
                      ورفعت سلمى يدها بلطفعن رأسي تاركة بين مغارس الشعر تموجات كهربائية يتلاعب بها نسيم الليل فيزيدهانمواً وحراكاً. فأخذت تلك اليد براحتي نظير متعبد يتبرك بلثم المذبح ووضعتها علىشفتي الملتهبتين وقبلتها قبلة طويلة عميقة خرساء تذيب بحرارتها كل ما في القلبالبشري من الإحساس، وتنبه بعذوبتها كل ما في النفس الإلهية من الطهر.
                      ومرتعلينا ساعة كل دقيقة منها شغف ومحبة تساورنا سكينة الليل وتغمرنا أشعة القمر وتحيطبنا الأشجار والرياحين حتى إذا ما بلغنا تلك الحالة التي ينسى فيها الإنسان كل شيءسوى حقيقة الحب سمعنا وقع حوافر وهدير مركبة تقترب منا مسرعة فانتبهنا من تلكالغيبوبة اللذيذة وهبطت بنا اليقظة من عالم الأحلام إلى هذا العالم الواقف بمسيرهبين الحيرة والشقاء فعرفنا بأن الوالد الشيخ قد عاد من دار المطران فنهضنا وسرنابين الأشجار ننتظر وصوله.
                      وبلغت المركبة مدخل الحديقة فترجل فارس كرامة وسارنحونا منحني الرأس بطيء الحركة ونظير متعب رازح تحت حمل ثقيل تقدم نحو سلمى ووضعكلتا يديه على كتفيها وأحدق بوجهها طويلاً كأنه يخاف أن تغيب صورتها عن عينيهالضئيلتين. ثم انسكبت دموعه على وجنتيه المتجعدتين وارتجفت شفتاه بابتسامة محزنةوقال بصوت مخنوق "عما قريب يا سلمى، عما قريب تخرجين من بين ذراعي والدك إلى ذراعرجل آخر. عما قريب تسير بك سنة الله من هذا المنزل المفرد إلى ساحة العالم الوسيعفتصبح هذه الحديقة مشتاقة إلى وطء قدميك ويصير والدك غريباً عنك، لقد لفظ القدركلمته يا سلمى فلتباركك السماء وتحرسك".
                      سمعت سلمى هذه الكلمات فتغيرت ملامحهاوجمدت عيناها كأنها رأت شبح الموت منتصباً أمامها. ثم شهقت وتململت متوجعة كعصفوررماه الصياد فهبط على الحضيض مرتجفاً بآلامه ــ وبصوت تقطعه الغصات العميقة صرختقائلة "ماذا تقول؟ ماذا تعني؟ إلى أين تريد أن تبعث بي؟".
                      ثم شخصت به كأنها تريدأن تزيل بنظراتها الغلاف عن مخبآت صدره. وبعد دقيقة مثقلة بعوامل ذلك السكون الشبيهبصراخ القبور قالت متأوهة "قد فهمت الآن... قد عرفت كل شيء... إن المطران قد فرغ منحبك قضبان القفص الذي أعده لهذا الطائر المكسور الجناحين فهل هذه هي إرادتك ياوالدي؟".
                      فلم يجبها بغير التنهدات العميقة ثم أدخلها الدار وأشعة الحنو تنسكب منملامحه المضطربة. فبقيت أنا واقفاً بين الأشجار والحيرة تتلاعب بعواطفي مثلماتتلاعب العواصف بأوراق الخريف. ثم اتبعتهما إلى القاعة ــ وكي لا أظهر بمظهر طفيلييميل إلى استطلاع الخصوصيات أخذت يد الشيخ مودعاً ونظرت إلى سلمى نظرة غريق تلفتنحو نجم لامع في قبة الفلك. ثم خرجت دون أن يشعروا بخروجي ولكنني ما بلغت أطرافالحديقة حتى سمعت صوت الشيخ منادياً فالتفت وإذا به يتبعني فعدت إلى لقائه، ولمادنوت منه أمسك بيدي، وقال بصوت مرتعش "سامحني يا بني فقد جعلت ختام ليلتك مكتنفاًبالدموع، ولكنك سوف تجيء إليّ دائماً ــ أليس كذلك. ألا تزورني عندما يصير هذاالمكان خالياً إلا من الشيخوخة المحزنة؟ إن الشباب الغض لا يستأنس بالشيخوخةالذابلة كما أن الصباح لا يلتقي المساء ــ أما أنت فسوف تجيء إليّ لتذكرني بأيامالصبا التي صرفتها بقرب أبيك، وتعيد على مسمعي أخبار الحياة التي لم تعد تحسبني منأبنائها.. أليس كذلك؟ ألا تزورني عندما تذهب سلمى، وأصبح وحيداً منفرداً في هذاالمنزل البعيد عن المنازل؟"
                      لفظ الكلمات الأخيرة بصوت منخفض متقطع، ولما أخذتيده وهززتها صامتاً أحسست بقطرات الدموع السخينة قد تساقطت على يدي من أجفانه،فارتعشت نفسي في داخلي وشعرت نحوه بعاطفة بنوية عذبة محزنة تتمايل بين ضلوعيوتتصاعد كاللهاث إلى شفتي ثم تعود كالغصات إلى أعماق قلبي ــ ولما رفعت رأسي ورأىأن دموعه قد استدرت الدموع من أجفاني انحنى قليلاً ولمس بشفتيه المرتجفتين أعاليجبهتي، ثم قال محولاً وجهه نحو باب المنزل "مساء الخير .. مساء الخير يابني".
                      إن دمعة واحدة تتلمع عن وجنة شيخ متجعدة لهي أشد تأثيراً في النفس من كلما تهرقه أجفان الفتيان.
                      إن دموع الشباب الغزيرة هي مما يفيض من جوانب القلوبالمترعة. أما دموع الشيوخ فهي من فضلات العمر تنسكب من الأحداق. هي بقية الحياة فيالأجساد الواهنة، الدموع في أجفان الشبيبة كقطرات الندى على أوراق الوردة. أماالدموع على وجنة الشيخوخة فأشبه بأوراق الخريف المصفرة التي تنثرها الأرياح وتذريهاعندما يقترب شتاء الحياة.
                      واختفى فارس كرامة وراء مصارع الباب وخرجت أنا من تلكالحديقة وصوت سلمى يتموج في أذني وجمالها يسير كالخيال أمام عيني ودموع والدها تجفببطء على يدي. خرجت من ذلك المكان خروج آدم من الفردوس ولكن حواء هذا القلب لم تكنبجانبي لتجعل العالم كله فردوساً. . خرجت شاعراً بأن تلك الليلة التي ولدت فيهاثانية هي الليلة التي لمحت فيها وجه الموت لأول مرة.
                      - بحيرة النار

                      كل ما يفعله الإنسان سراً في ظلمة الليل يظهره الإنسان علناًفي نور النهار. الكلمات التي تهمسها شفاهنا في السكينة تصير على غير معرفة مناحديثاً عمومياً. الأعمال التي نحاول اليوم إخفاءها في زاويا المنازل تتجسم غداً،وتنتصب في منعطفات الشوارع.
                      كذا أعلنت أشباح الدجى مقاصد المطران بولس غالب مناجتماعه بفارس كرامة، وهكذا حملت دقائق الأثير أقواله وأحاديثه إلى أحياء المدينةالتي بلغت مسمعي.
                      ما طلب المطران بولس غالب مقابلة فارس كرامة في تلك الليلةالمقمرة ليفاوضه بشؤون الفقراء والمعوزين أو يخابره بأمور الأرامل والأيتام، بلأحضره بمركبته الخصوصية الفخمة ليطلب منه ابنته سلمى عروساً لابن أخيه منصور بكغالب.
                      كان فارس كرامة رجلاً غنياً ولم يكن له وريث سوى ابنته سلمى، وقد اختارهاالمطران زوجة لابن أخيه لا لجمال وجهها ونبالة روحها بل لأنها غنية موسرة تكفلبأموالها الطائلة مستقبل منصور بك، وتساعده بأملاكها الوسيعة على إيجاد مقام رفيعبين الخاصة والأشراف.
                      إن رؤساء الدين في الشرق لا يكتفون بما يحصلون عليه منالمجد والسؤدد بل يفعلون كل ما في وسعهم ليجعلوا أنسباءهم في مقدمة الشعب ومنالمستبدين به والمستدرين قواه وأمواله، إن مجد الأمير ينتقل بالإرث إلى ابنه البكربعد موته أما مجد الرئيس الديني فينتقل بالعدوى إلى الإخوة وأبناء الأخوة في حياته،وهكذا يصبح الإنسان كأفاعي البحر التي تقبض على الفريسة بمقابض كثيرة وتمتص دماءهابأفواه عديدة.
                      عندما طلب المطران بولس يد سلمى من والدها لم يجبه ذلك الشيخبغير السكوت العميق والدموع السخينة، وأي والد لا يشق عليه فراق ابنته حتى ولو كانتذاهبة إلى بيت جاره أو إلى قصر ملك، أي رجل لا ترتعش أعماق نفسه بالغصات عندمايفصله ناموس الطبيعة عن الابنة التي لاعبها طفلة وهذبها صبية ورافقها امرأة. إنكآبة الوالدين لزواج الابنة تضارع فرحهم بزواج الابن لأن هذا يكسب العائلة عضواًجديداً أما ذاك فيسلبها عضواً قديماً عزيزاً.
                      أجاب الشيخ طلب المطران مضطراًوانحنى أمام مشيئته قهراً عما في نفسه من الممانعة وكان قد اجتمع بابن أخيه منصوربك وسمع الناس يتحدثون عنه فعرف خشونته وطمعه وانحطاط أخلاقه، لكن أي مسيحي يقدر أنيقاوم أسقفاً في سوريا ويبقى محسوباً بين المؤمنين؟ أي رجل يخرج عن طائعة رئيس دينهفي الشرق ويظل كريماً بين الناس؟ أتعاند العين سهماً ولا تفقد أو تناضل اليد سيفاًولا تقطع؟ وهب أن ذلك الشيخ كان قادراً على مخالفة المطران بولس والوقوف أماممطامعه فهل تكون سمعة ابنته في مأمن من الظنون والتآويل، وهل يظل اسمها نقياً منأوساخ الشفاه والألسنة؟ أو ليست جميع العناقيد العالية حامضة في شرع بنات آوى.
                      هكذا قبض القدر على سلمى وقادها عبدة ذليلة في موكب النساء الشرقيات الناعسات. وهكذا سقطت تلك الروح النبيلة بالحبائل بينما كانت تسبح لأول مرة على أجنحة الحبالبيضاء في فضاء تملؤه أشعة القمر وتعطره رائحة الأزاهر.
                      إن أموال الآباء تكونفي أكثر المواطن مجلبة لشقاء البنين. تلك الخزائن الوسيعة التي يملؤها نشاط الوالدوحرص الأم تنقلب حبوساً ضيقة مظلمة لنفوس الورثة. ذلك الإله العظيم الذي يعبدهالناس بشكل الدينار ينقلب شيطاناً يعذب النفوس ويميت القلوب. وسلمى كرامة هيكالكثيرات من بنات جنسها اللواتي يذهبن ضحية ثروة الوالد وأماني العريس. فلو لم يكنفارس كرامة رجلاً غنياً لكانت سلمى اليوم حية تفرح مثلنا بنور الشمس.
                      مر أسبوعوحب سلمى يجالسني في المساء منشداً على مسمعي أغاني السعادة وينبهني عند الفجرليريني معاني الحياة وأسرار الكيان. حب علوي لا يعرف الحسد لأنه غني ولا يوجع الجسدلأنه في داخل الروح. ميل قوي يغمر النفس بالقناعة، مجاعة عميقة تملآ القلببالاكتفاء. عاطفة تولد الشوق ولكنها لا تثيره، فتون جعلني أرى الأرض نعيماً والعمرحلماً جميلاً. فكنت أسير صباحاً في الحقول وأرى في يقظة الطبيعة رمز الخلود، وأجلسعلى شاطئ البحر وأسمع من أمواجه أغاني الأبدية وأمشي في شوارع المدينة وأجد فيطلعات العابرين وحركات المشتغلين محاسن الحياة وبهجة العمران.
                      تلك الأيام مضتكالأشباح واضمحلت كالضباب ولم يبق لي منها سوى الذكرى الأليمة ــ فالعين التي كنتأرى بها جمال الربيع ويقظة الحقول لم تعد تحدق بغير غضب العواطف ويأس الشتاء. والأذن التي كنت أسمع بها أغنية الأمواج لم تعد تصغي لغير أنة الأعماق وعويلالهاوية. والنفس التي كانت تقف متهيبة أمام نشاط البشر ومجد العمران لم تعد تشعربغير شقاء الفقراء وتعاسة الساقطين. فما أحلى أيام الحب وما أعذب أحلامها، وما أمرّليالي الحزن وما أكثر مخاوفها. وفي نهاية الأسبوع وقد سكرت نفسي بخمرة عواطفي سرتمساء إلى منزل سلمى كرامة ــ ذلك الهيكل الذي أقامه الجمال وقدسه الحب لتسجد فيهالنفس مصلية ويركع القلب خاشعاً ــ ولما بلغته ودخلت إلى تلك الحديقة الهادئة أحسستبوجود قوة تستهويني وتستميلني وتبعدني عن هذا العالم وتدنيني ببطء إلى عالم سحريخال من العراك والجهاد، ومثل متصوف جذبته السماء إلى مسارح الرؤيا وجدتني سائراًبين تلك الأشجار المحتبكة والزهور المتعانقة، حتى إذا ما اقتربت من باب الدار التفتوإذا سلمى جالسة على ذلك المقعد بظلال شجرة الياسمين حيث جلسنا منذ أسبوع في تلكالليلة التي اختارتها الآلهة من بين الليالي وجعلتها بدء سعادتي وشقائي ــ فدنوتمنها صامتاً فلم تحترك ولم تتكلم كأنها علمت بقدومي قبل قدومي، ولما جلست بجانبهاأحدقت بعينيّ دقيقة وتنهدت تنهدة طويلة عميقة ثم عادت ونظرت إلى الشفق البعيد حيثتعبث أوائل الليل بأواخر النهار، وبعد هنيهة مملوءة بتلك السكينة السحرية التي تضمنفوسنا إلى مواكب الأرواح غير المنظورة، حولت سلمى وجهها نحوي وأخذت يدي بيد مرتعشةباردة، وبصوت يشابه تأوه جائع لا يقوى على الكلام قالت "أنظر إلى وجهي يا صديقي،أنظر إلى وجهي جيداً وتأمله طويلاً واقرأ فيه كل ما تريد أن تفهمه مني بالكلام... أنظر إلى وجهي يا حبيبي... أنظر جيداً يا أخي...".
                      فنظرت إلى وجهها ــ نظرتطويلاً فرأيت تلك الأجفان التي كانت منذ أيام قليلة تبتسم كالشفاه وتحترك كأجنحةالشحرور قد غارت وجمدت واكتحلت بخيالات التوجع والألم. رأيت تلك البشرة التي كانتبالأمس ثنايا الزنبقة البيضاء الفرحة بقبلات الشمس قد اصفرت وذبلت وتبرقعت بنقاطالقنوط. رأيت الشفتين اللتين كانتا كزهرة أقاح تسيل عليهما الحلاوة قد يبستا وصارتاكوردتين مرتجفتين أبقاهما الخريف على طرف الغصن، رأيت العنق الذي كان مرفوعاً كعمودالعاج قد انحنى إلى الأمام كأنه لم يعد قادراً على حمل ما يجول في تلافيف الرأس.
                      رأيت هذه الانقلابات الموجعة في ملامح سلمى: ــ رأيتها جميعها، ولكنها لم تكنفي نظري إلا كسحابة رقيقة توشح القمر فتزيد منظره حسناً وهيبة. إن الملامح التيتبيح أسرار الذات المعنوية تكسب الوجه جمالاً وملاحة مهما كانت تلك الأسرار موجعةوأليمة. أما الوجوه التي لا تتكلم بصمتها عن غوامض النفس وخفاياها فلا تكون جميلةمهما كانت متناسقة الخطوط متناسقة الأعضاء. إن الكؤوس لا تستميل شفاهنا حتى يشفبلورها عن لون الخمر، فسلمى كرامة كانت في عشية ذلك النهار كأس طافحة من خمرة علويةتمتزج بدقائقها مرارة العيش بحلاوة النفس ــ كانت تمثل على غير معرفة منها حياةالمرأة الشرقية التي لا تغادر منزل والدها المحبوب إلا لتضع عنقها تحت نير زوجهاالخشن. ولا تترك ذراعي أمها الرؤوف إلا لتعيش في عبودية والدة زوجها القاسية.
                      وبقيت محدقاً بوجه سلمى مصغياً لأنفاسها المتقطعة صامتاً مفكراً، شاعراًمتألماً معها ولها، حتى أحسست أن الزمن قد وقف عن مسيره والوجود قد انحجب واضمحلولم أعد أرى سوى عينين كبيرتين محدقتين بأعماقي، ولا أشعر بغير يد باردة مرتعشة تضميدي، ولم أفق من هذه الغيبوبة حتى سمعت سلمى تقول بهدوء "تعال نتحدث الآن يا صديقي. تعال نحاول تصوير المستقبل قبل أم يحمل علينا بمخاوفه وأهواله. لقد ذهب والدي إلىمنزل الرجل الذي سيكون رفيقاً لي حتى القبر ــ قد ذهب الرجل الذي اختارته السماءسبباً لوجودي ليلتقي بالرجل الذي انتقته الأرض سيداً على أيامي الآتية، ففي قلب هذهالمدينة يجتمع الآن الشيخ الذي رافق شبيبتي بالشاب الذي سيرافق ما بقي لي منالسنين، وفي هذه الليلة يتفق الوالد والخطيب على يوم القران الذي سيكون قريباً مهماجعلاه بعيداً فما أغرب هذه الساعة وما أشد تأثيرها... في مثل هذه الليلة من الأسبوعالغابر، وفي ظلال هذه الياسمينة قد عانق الحب روحي لأول مرة بينما كان القدر يخطأول كلمة من حكاية مستقبلي في دار المطران بولس غالب. وفي هذه الساعة وقد جلس والديوخطيبي ليضفرا إكليل زواجي أراك جالساً بجانبي وأشعر بنفسك متموجة حولي كطائر ظامئيحوم مرفرفاً فوق ينبوع ماء يخفره ثعبان جائع مخيف فما أظلم هذه الليلة وما أعمقأسرارها".
                      فأجبتها وقد تخيلت القنوط شبحاً مظلماً قابضاً على عنق حبنا ليميتهفي طفولته "سيظل هذا الطائر حائما مرفرفاً فوق الينبوع حتى يضنيه العطش فيرديه أويقبض عليه الثعبان المخيف فيمزقه ويلتهمه".
                      فقالت متأثرة وصوتها يرتجف كالأوتارالفضية "لا. لا يا صديقي فليبق هذا الطائر حياً. ليبق هذا البلبل مغرداً حتىالمساء، حتى ينتهي الربيع، حتى ينتهي العالم، حتى تنتهي الدهور لا تخرصه لأن صوتهيحييني ولا توقف جناحيه لأن حفيفهما يزيل الضباب عن قلبي".
                      فهمست متنهداً "الظمأيقتله يا سلمى والخوف يميته".
                      فأجابت والكلام يتدفق بسرعة من بين شفتيهاالمرتعشتين "إن ظمأ الروح أعذب من ارتواء المادة وخوف النفس أحب من طمأنينة الجسد. ولكن اسمع يا حبيبي ــ اسمعني جيداً ــ أنا واقفة الآن في باب حياة جديدة لا أعرفعنها شيئاً. أنا مثل عمياء تتلمس بيدها الجدران مخافة السقوط. أنا جارية أنزلني مالوالدي إلى ساحة النخاسين فابتاعني رجل من بين الرجال. أنا لا أحب هذا الرجل لأننيأجهله وأنت تعلم أن المحبة والجهالة لا تلتقيان ولكنني سوف أتعلم محبته، سوف أطيعهوأخدمه وأجعله سعيداً سوف أهبه كل ما تقدر المرأة الضعيفة أن تهب الرجل القوي، أماأنت فلم تزل في ربيع العمر. أمامك الحياة طريقاً وسيعة مفروشة بالأزهار والرياحين،سوف تخرج إلى ساحة العالم حاملا ً قلبك مشعلاً متقداً، سوف تفتكر بحرية، وبحريةتتكلم وتفعل سوف تكتب على وجه الحياة لأنك رجل، سوف تعيش سيداً لأن فاقة والدك لاتجعلك عبداً، وأمواله لا تنزل بك إلى سوق النخاسين حيث تباع البنات وتشترى، سوفتقترن بالصبية التي تختارها لنفسك من بين الصبايا فتسكنها صدرك قبل أن تسكنها منزلكوتشاركها بأفكارك قبل أن تساهمها الأيام والليالي.
                      وسكتت دقيقة كيما تسترجعأنفاسها ثم زادت بصوت تتابعه الغصات " ولكن أههنا تفرقنا سبل الحياة لتذهب بك إلىأمجاد الرجل وتسير بي إلى واجبات المرأة؟ أهكذا ينقضي الحلم الجميل وتندثر الحقيقةالعذبة؟ أهكذا تبتلع اللجة نغمة الشحرور وتنثر الرياح أوراق الوردة وتسحق الأقدامكأس الخمر؟ أباطلاً أوقفتنا تلك الليلة أمام وجه القمر وباطلاً ضمنا الروح في ظلالهذه الياسمينة؟ هل تسرعنا بالصعود نحو الكواكب فكلت أجنحتنا وهبطت بنا إلى الهاوية؟هل فاجأنا الحب نائماً فاستيقظ غاضباً ليعاقبنا أم هيجت أنفسنا نسمات الليل فانقلبتريحاً شديدة لتمزقنا وتجرفنا كالغبار إلى أعماق الوادي؟ لم نخالف وصية ولم نذقثمراً فكيف نخرج من هذه الجنة ــ لم نتآمر ولم نتمرد فلماذا نهبط إلى الجحيم.. لالا وألف لا ولا. إن الدقائق التي جمعتنا هي أعظم من الأجيال، والشعاع الذي أنارنفسينا هو أقوى من الظلام، فإن فرقتنا العاصفة على وجه هذا البحر الغضوب فالأمواجتجمعنا على ذلك الشاطئ الهادئ وإن قتلتنا هذه الحياة فذاك الموت يحيينا.... إن قلبالمرأة لا يتغير من الزمن ولا يتحول مع الفصول، قلب المرأة ينازع طويلاً ولكنه لايموت، قلب المرأة يشابه البرية التي يتخذها الإنسان ساحة لحروبه ومذابحه، فهو يقتلعأشجارها ويحرق أعشابها ويلطخ صخورها بالدماء ويغرس تربتها بالعظام والجماجم ولكنهاتبقى هادئة ساكنة مطمئنة، ويظل فيه الربيع ربيعاً والخريف خريفاً إلى نهايةالدهور... والآن قد قضي الأمر فماذا نفعل؟ قل ماذا نفعل وكيف نفترق وأين ومتىنلتقي؟ هل نحسب الحب ضيفاً غريباً أتى المساء وأبعده الصباح، أتحسب هذه العاطفةالنفسية حلماً أبانه الكرى ثم أخفته اليقظة؟ أتحسب هذا الأسبوع ساعة سكر ما لبثت أنقضت بالصحو والانتباه؟ ارفع رأسك لأرى عينيك يا حبيبي. افتح شفتيك لأسمع صوتك. تكلمأخبرني، حدثني هل تذكرني بعد أن تغرق العاصفة سفينتي أيامنا؟ هل تسمع حفيف أجنحتيفي سكينة الليل؟ هل تشعر بأنفاسي متموجة على وجهك وعنقك؟ هل تصغي لتنهداتي متصاعدةبالتوجع منخفضة بالمغصات؟ هل ترى خيالي قادماً مع خيالات الظلام مضمحلاً مع ضبابالصباح؟ قل لي يا حبيبي ــ قل لي ماذا تكون لي بعد أن كنت نوراً لعيني ونغمة لأذنيوجناحاً لروحي، ماذا تكون؟".
                      فأجبتها وحبات قلبي تذوب في عيني "سأكون يا سلمىمثلما تريدينني أن أكون".
                      فقالت "أريدك أن تحبني، أريد أن تحبني إلى نهايةأيامي. أريدك أن تحبني مثلما يحب الشاعر أفكاره المحزنة، أريدك أن تذكرني مثلمايذكر المسافر حوض ماء هادئ رأى فيه خيال وجهه قبل أن يشرب من مائه، وأريدك أنتذكرني مثلما تذكر الأم جنيناً مات في أحشائها قبل أن يرى النور. وأريدك أن تفتكربي مثلما يفكر الحاكم الرؤوف بسجين مات قبل أن يبلغه عفوه، أريدك أن تكون لي أخاًوصديقاً ورفيقاً وأريدك أن تزور والدي في وحدته وتعزيه في انفراده لأنني عما قريبسأتركه وأصير غريبة عنه".
                      فأجبتها "سأفعل كل ذلك يا سلمى، سوف أجعل روحي غلافاًلروحك وقلبي بيتاً لجمالك وصدري قبراً لأحزانك. سوف أحبك يا سلمى محبة الحقولللربيع وسوف أحيي بك حياة الأزاهر بحرارة الشمس، سوف أترنم باسمك مثلما يترنمالوادي بصدى رنين الأجراس المتمايلة فوق كنائس القرى؛ سأذكرك يا سلمى مثلما يذكرالغريب المستوحش وطنه المحبوب، والفقير الجائع مائدة الطعام الشهية، والملك المخلوعأيام عزه ومجده والأسير الكئيب ساعات الحرية والطمأنينة، سوف أفتكر بك مثلما يفكرالزارع بأغمار السنابل وغلة البيادر، والراعي الصالح بالمروج الخضراء والمناهلالعذبة".
                      كنت أتكلم وسلمى تنظر إلى أعماق الليل وتتأوه بين الآونة والأخرىونبضات قلبها تتسارع وتتهامل كأنها أمواج بحربين صعود وهبوط، ثم قالت "غداً تصيرالحقيقة خيالاً واليقظة حلماً فهل يكتفي المشتاق بعناق الخيال ويرتوي الظمآن منجداول الأحلام".
                      فأجبتها قائلاً "غداً يسير بك القدر إلى أحضان العائلة المملوءةبالراحة والهدوء. ويسير بي إلى ساحة العالم حيث الجهاد والقتال. أنت إلى منزل يسعدبجمالك وطهر نفسك. وأنا إلى مكامن أيام تعذبني بأحزانها وتخيفني بأشباحها. أنت إلىالحياة وأنا إلى النزاع. أنت إلى الأنس والألفة وأنا إلى الوحشة والانفراد. ولكننيسأرفع في وادي ظل الموت تمثالاً للحب وأعبده. سأتخذ الحب سميراً وأسمعه منشداًوأشربه خمراً وألبسه ثوباً. عند الفجر سينبهني الحب من رقادي ويسير أمامي إلىالبرية البعيدة. وعند الظهيرة سيقودني إلى ظل الأشجار فأربض مع العصافير المحتميةمن حرارة الشمس. وفي المساء سيوقفني أمام المغرب ويسمعني نغمة وداع الطبيعة للنورويريني أشباح السكينة سابحة في الفضاء. وفي الليل سيعانقني فأنام حالماً بالعوالمالعلوية حيث تقطن أرواح العشاق والشعراء. وفي الربيع سأمشي والحب جنباً لجنبمترنمين بين التلول والمنحدرات متبعين أثار أقدام الحياة المخططة بالبنفسجوالأقحوان، شاربين بقايا الأمطار بكؤوس النرجس والزنبق. وفي الصيف سأتكئ والحبساندين رأسينا إلى أغمار القش مفترشين الأعشاب ملتحفين السماء ساهرين مع القمروالنجوم. وفي الخريف سأذهب والحب إلى الكروم فنجلس بقرب المعاصر ناظرين إلى الأشجاروهي تخلع أثوابها المذهبة متأملين بأسرار الطيور الراحلة إلى ساحل. وفي الشتاءسأجلس والحب بقرب المواقد نحكي حكايات الأجيال مرددين أخبار الأمم والشعوب وفي أيامالشبيبة سيكون لي الحب مهذباً وفي الكهولة عضداً وفي الشيخوخة مؤنساً، سيظل معي ياسلمى إلى نهاية العمر، إلى أن يجيء الموت، إلى أن تجمعني بك قبضةالله".

                      كانت الألفاظ تتصاعد مسرعة من أعماق نفسي كأنها شعلات من نار تنمووتتطاير ثم تتبدد وتضمحل في زوايا تلك الحقيقة، وكانت سلمى مصغية والدموع تنهمر منعينيها كأن أجفانها شفاء تجيبني بالدموع على الكلام.
                      إن اللذين لم يهبهم الحبأجنحة لا يستطيعون أن يطيروا إلى ما وراء الغيوم ليروا ذلك العالم السحري الذي طافتفيه روحي وروح سلمى في تلك الساعة المحزنة بأفراحها المفرحة بأوجاعها. إن اللذين لميتخذهم الحب أتباعاً لا يسمعون الحب متكلماً. فهذه الحكاية لم تكتب لهم، فهم وإنفهموا معاني هذه الصفحات الضئيلة لا يمكنهم أن يروا ما يسيل بين سطورها من الأشباحوالخيالات التي لا تلبس الحبر ثوباً ولا تتخذ الورق مسكناً. ولكن أي بشري لم يرشفمن خمرة الحب في إحدى كاساته؟ أية نفس لم تقف متهيبة في ذلك الهيكل المنير المرصوفبحبات القلوب المسقوف بالأسرار والأحلام والعواطف؟ أي زهرة لم يسكب الصباح قطرة منالندى بين أوراقها، وأي ساقية تضل طريقها ولا تذهب إلى البحر؟ورفعت سلمى إذاذاك رأسها نحو السماء المزينة بالكواكب ومدت يديها إلى الأمام وكبرت عيناها وارتجفتشفتاها وظهر على وجهها المصفر كل ما في نفس المرأة المظلومة من الشكوى والقنوطوالألم. ثم صرخت قائلة: "ماذا فعلت المرأة يا رب فاستحقت غضبك. ماذا أتت من الذنوبليتبعها سخطك إلى آخر الدهور. هل اقترفت جرماً لا نهاية لفظاظته ليكون عقابك لهابغير نهاية؟ أنت قوي يا رب وهي ضعيفة فلماذا تبيدها بالأوجاع؟ أنت عظيم وهي تدب حولعرشك فلماذا تسحقها بقدميك؟ أنت عاصفة شديدة وهي كالغبار أمام وجهك فلماذا تذريهاعلى الثلوج؟ أنت جبار وهي بائسة فلماذا تحاربها؟ أنت بصير عليم وهي تائهة عمياءفلماذا تهلكها؟ أنت توجدها بالمحبة فكيف بالمحبة تفنيها؟ بيمينك ترفعها إليكوبشمالك تدفعها إلى الهاوية وهي جاهلة لا تدري أنّى ترفعها وكيف تدفعها. في فمهانسمة الحياة وفي قلبها تزرع بذور الموت. على سبل السعادة تسيرها راجلة ثم تبعثالشقاء فارساً ليصطادها. في حنجرتها تبث نغمة الفرح ثم تغلق شفتيها بالحزن وتربطلسانها بالكآبة. بأصابعك الخفية تمنطق باللذة أوجاعها وبأصابعك الظاهرة ترتسم هالاتالأوجاع حول ملذاتها، في مضجعها تخفي الراحة والسلامة وبجانب مضجعها تقيم المخاوفوالمتاعب. بإرادتك تحيي أميالها ومن أميالها تتولد عيوبها وذلاتها، بمشيئتك تريهامحاسن مخلوقاتك وبمشيئتك تنقلب محبتها للحسن مجاعة مهلكة، بشريعتك تزوج روحها منجسد جميل وبقضائك تجعل جسدها بعلا للضعف والهوان.. أنت تسقيها الحياة بكأس الموتوالموت بكأس الحياة. أنت تطهرها بدموعها وبدموعها تذيبها. أنت تملأ جوفها من خبزالرجل ثم تملأ حفنة الرجل من حبات صدرها. أنت أنت يا رب قد فتحت عيني بالمحبةوبالمحبة أعميتني. أنت قبلتني بشفتيك وبيدك القوية صفعتني. أنت زرعت في قلبي وردةبيضاء وحول هذه الوردة أنبت الأشواك والحسك، أنت أوثقت حاضري بروح فتى أحبه وبجسدرجل لا أعرفه قيدت أيامي، فساعدني لأكون قوية في هذا الصراع المميت، وأسعفني لأبقىأمينة وطاهرة حتى الموت.. لتكن مشيئتك يا رب. ليكن اسمك مباركاً إلىالنهاية".
                      وسكتت سلمى وظلت ملامحها تتكلم، ثم أحنت رأسها وأرخت ذراعيها وانخفضهيكلها كأن القوى الحيوية قد تركتها فبانت لناظري كغصن قصفته العاصفة وألقته إلىالحضيض ليجف ويندثر تحت أقدام الدهر. فأخذت يدها المثلجة بيدي الملتهبة وقبلتأصابعها بأجفاني وشفتي، ولما حاولت تعزيتها بالكلام وجدتني أحرى منها بالتعزيةوالشفقة فبقيت صامتاً حائراً متأملاً شاعراً بتلاعب الدقائق بعواطفي مصغياً لأنةقلبي في داخلي خائفاً من نفسي على نفسي.
                      ولم ينبس أحدنا ببنت شفة في ما بقي منتلك الليلة لأن اللوعة إذا عظمت تصير خرساء فبقينا ساكتين جامدين كعمودي رخامقبرهما الزلزال في التراب، ولم يعد أحدنا يريد أن يسمع الآخر متكلماً لأن خيوطقلبينا قد وهت حتى صار التنهد دون الكلام يقطعها.
                      انتصف الليل ونمت رهبة السكوتوطلع القمر ناقصاً من وراء صنين وبان بين النجوم كوجه ميت شاحب غارق في المساندالسوداء بين شموع ضئيلة تحيط بنعشه، وظهر لبنان كشيخ لوت ظهره الأعوام وأناخت هيكلهالأحزان وهجر أجفانه الرقاد فبات يساهي الدجى ويترقب الفجر كملك مخلوع جالس علىرماد عرشه بين خرائب قصره. إن الجبال والأشجار والأنهار تتبدد هيئاتها ومظاهرهابتقلب الحالات والأزمنة مثلما تتغير ملامح وجه الإنسان بتغيير أفكاره وعواطفه،فشجرة الحور التي تتعالى في النهار كعروس جميلة يلاعب النسيم أثوابها تظهر فيالمساء كعمود دخان يتصاعد نحو اللاشيء، والصخر الكبير الذي يجلس عند الظهيرة كجبارقوي يهزأ بعاديات الزمن يبدوا في الليل كفقير بائس يفترش الثرى ويلتحف الفضاء،والساقية التي نراها عند الصباح متلمعة كذوب اللجين ونسمعها مترنمة بأغنية الخلودنخالها في المساء مجرى دموع يتفجر من بين أضلع الوادي ونسمعها تندب وتنوح كالثكلى،ولبنان الذي ظهر منذ أسبوع بكل مظاهر الجلال والرونق عندما كان القمر بدراً والنفسراضية قد بان في تلك الليلة كئيباً منهوكاً مستوحشاً أمام قمر ضئيل ناقص هائم فيعرض السماء وقلب خافق معتل داخل صدر.
                      وقفنا للوداع وقد وقف بيننا الحب واليأسشبحين هائلين هذا باسط جناحية فوق رأسينا وذاك قابض بأظافره على عنقينا هذا يبكيمرتاعاً وذاك يضحك ساخراً؛ ولما أخذت يد سلمى ووضعتها على شفتي متبركاً دنت منيولثمت مفرق شعري ثم عادت وارتمت على المقعد الخشبي وأطبقت جفنها وهمست ببطء "أشفقيا رب وشدد جميع الأجنحة المتكسرة".
                      انفصلت عن سلمى وخرجت من تلك الحديقة شاعراًبنقاب كثيف يوشي مداركي الحسية مثلما يغمر الضباب وجه البحيرة وسرت وخيالات الأشجارالقائمة على جانبي الطريق تتحرك أمامي كأنها أشباح قد انبثقت من شقوق الأرض لتخيفنيوأشعة القمر الضعيفة ترتعش بين الغصون كأنها سهام دقيقة تريشها أرواح الجان السابحةفي الفضاء نحو صدري، السكينة العميقة تخيم علي كأنها أكف سوداء ثقيلة ألقتها الظلمةعلى جسدي. كل ما في الوجود وكل ما في الحياة وكل سر في النفس قد صار قبيحاً رهيباًهائلاً، فالنور المعنوي الذي أراني جمال العالم وبهجة الكائنات قد انقلب ناراً تحرقكبدي بلهيبها متستر نفسي بدخانها. والنغمة التي كانت تضم إليها أصوات المخلوقاتوتجعلها نشيداً علوياً قد استحالت في تلك الساعة إلى ضجيج أروع من زمجرة الأسدوأعمق من صراخ الهاوية.
                      بلغت غرفتي وارتميت على فراشي كطائر رماه الصياد فسقطبين السياج والسهم في قلبه. وظلت عاقلتي تترواح بين يقظة مخيفة ونوم مزعج وروحي فيداخلي تردد في الحالتين كلمات سلمى "أشفق يا رب وشدد جميع الأجنحة المتكسرة".
                      - أمام عرش الموت

                      إنما الزيجة في أيامنا هذه تجارة مضحكة مبكية يتولى أمورهاالفتيان وآباء الصبايا، الفتيان يربحون في أكثر المواطن والآباء يخسرون دائماً، أماالصبايا المتنقلات كالسلع من منزل إلى آخر فتزول بهجتهن ونظير الأمتعة العتيقة يصيرنصيبهن زاويا حيث الظلمة والفناء البطيء.
                      إن المدينة الحاضرة قد أنمت مداركالمرأة قليلاً ولكنها أكثرت أوجاعها بتعميم مطامع الرجل، كانت المرأة بالأمس خادمةسعيدة فصارت اليوم سيدة تعيسة، كانت بالأمس عمياء تسير في نور النهار فأصبحت مبصرةتسير في ظلمة الليل. كانت جميلة بجهلها فاضلة ببساطتها قوية بضعفها فصارت قبيحةبتفننها سطحية بمداركها بعيدة عن القلب بمعارفها، فهل يجيء يوم يجتمع في المرأةالجمال بالمعرفة والتفنن بالفضيلة وضعف الجسد بقوة النفس؟ أنا من القائلين إنالارتقاء الروحي سنّة في البشر والتقرب من الكمال شريعة بطيئة لكنها فعالة، فإذاكانت المرأة قد ارتقت بشيء وتأخرت بشيء آخر فلأن العقبات التي تبلغنا قمة الجبل لاتخلو من مكامن اللصوص وكهوف الذئاب؛ ففي هذا الجبل الشبيه بالغيبوبة التي تتقدماليقظة ــ في هذا الجبل القابض بكفيه على تراب الأجيال الغابرة وبذور الأجيالالآتية ــ في هذا الجبل الغريب بأمياله وأمانيه لا تخلو مدينة من امرأة ترمزبوجودها عن ابنة المستقبل، وسلمى كرامة كانت في بيروت رمز المرأة الشرقية العتيدة،ولكنها كالكثيرين الذين يعيشون قبل زمانهم قد ذهبت ضحية الزمن الحاضر ونظير زهرةاختطفتها تيار النهر قد سارت قهراً في مركب الحياة نحو الشقاء.
                      وتزوج منصور بكمن سلمى فسكنا معاً في منزل فخم قائم على شاطئ البحر في رأس بيروت حيث يقطن وجهاءالقوم والأغنياء، وبقي فارس كرامة وحده في ذلك البيت المنفرد بين الحدائق والبساتينانفراد الراعي بين أغنامه، ومضت أيام العرس وانقضت ليالي الأفراح ومر الشهر الذييدعوه الناس عسلاً تاركاً وراءه شهور الخل والعلقم مثلما تترك أمجاد الحروب جماجمالقتلى في البرية البعيدة، إن بهرجة الأعراس الشرقية تصعد بنفوس الفتيان والصباياصعود النسر إلى ما وراء الغيوم ثم تهبط بهم هبوط حجر الرحى إلى أعماق اليم، بل هيمثل آثار الأقدام على رمال الشاطئ لا تلبث أن تمحوها الأمواج.


                      وذهبالربيع وتلاه الصيف وجاء الخريف ومحبتي لسلمى تتدرج من شغف فتى في صباح العمربامرأة حسناء إلى نوع من تلك العبادة الخرساء التي يشعر بها الصبي اليتيم نحو روحأمه الساكنة في الأبدية، فالصبابة التي كانت تمتلك كليتي قد تحولت إلى كآبة عمياءلا ترى غير نفسها. والولع الذي كان يستدر الدموع من عيني قد انقلب ولهاً يستقطرالدم من قلبي. وأنه الحنين التي كانت تملأ ضلوعي أصبحت صلاة عميقة تقدمها روحي فيالسكينة أمام السماء مستمدة السعادة لسلمى والغبطة لبعلها والطمأنينة لولدها، ولكنباطلاً كنت أشفق وأبتهل وأصلي لأن تعاسة سلمى كانت علة في داخل النفس لا يشفيها سوىالموت، أما بعلها فكان من أولئك الرجال الذين يحصلون بغير تعب على كل ما يجعلالحياة هنيئة ولا يقنعون بل ويطمحون دائماً إلى ما ليس لهم وهكذا يظلون معذبينبمطامعهم إلى نهاية أيامهم؛ وباطلاً كنت أرجو الطمأنينة لفارس كرامة لأن صهره لميستلم يد ابنته ويحصل على أموالها حتى نسيه وهجره بل صار يطلب حتفه توصيلاً إلى مابقي من ثروته.
                      كان منصور بك شبيهاً بعمه المطران بولس غالب وكانت أخلاقه ونفسهصورة مصغرة لنفسه ولم يكن الفرق بينهما إلا بما يفرق الرياء عن الانحطاط، كانالمطران يبلغ أمانيه مستتراً بأثوابه البنفسجية وبشبع مطامعه محتمياً بالصليبالذهبي المعلق على صدره، أما ابن أخيه فكان يفعل كل ذلك جهراً وعنوة. كان المطرانيذهب إلى الكنيسة في الصباح ويصرف ما بقي من النهار منتزعاً الأموال من الأراملواليتامى وبسطاء القلب، أما منصور بك فكان يقضي النهار كله متبعاً ملذاته ملاحقاًشهواته في تلك الأزقة المظلمة حيث يختمر الهواء بأنفاس الفساد، كان المطران يقف يومالأحد أمام المذبح ويعظ المؤمنين بما لا يتعظ به ويصرف أيام الأسبوع مشتغلاً بسياسةالبلاد. أما ابن أخيه فكان يصرف جميع أيامه متاجراً بنفوذ عمه بين طالبي الوظائفومريدي الوجاهة. كان المطران يسير مختبئاً بستائر الليل، أما منصور بك فكان يمشيبشجاعة في نور النهار.
                      كذا تبيد الشعوب بين اللصوص والمحتالين مثلما تفنيالقطعان بين أنياب الذئاب وقواطع الجزارين، وهكذا تستسلم الأمم إلى ذوي النفوسالمعوجة والأخلاق الفاسدة فتتراجع إلى الوراء ثم تهبط إلى الحضيض فيمر الدهرويسحقها بأقدامه مثلما تسحق مطارق الحديد آنية الفخار...
                      وماذا يا ترى يجعلنيالآن أن أشغل هذه الصفحات بالكلام عن أمم بائسة يائسة وأنا قد خصصتها لتدوين حكايةامرأة تاعسة وتصوير خيالات قلب وجيع لم يلمسه الحب بأفراحه حتى صفعه بأحزانه؟ لماذاتراود الدموع أجفاني لذكر شعوب خاملة ومظلومة وأنا قد وقفت دموعي على ذكرى أيامامرأة ضعيفة لم تعانق الحياة حتى احتضنها الموت ولكن أليست المرأة الضعيفة هي رمزالأمة المظلومة؟ أليست المرأة المتوجعة بين أميال نفسها وقيود جسدها هي كالأمةالمتعذبة بين حكامها وكهانها. أوليست العواطف الخفية التي تذهب بالصبية الجميلة إلىظلمة القبر هي كالعواطف الشديدة التي تغمر حياة الشعوب بالتراب؟ إن المرأة من الأمةبمنزلة الشعاع من السراج وهل يكون شعاع السراج ضئيلاً إذا لم يكن زيتهشحيحاً.
                      مضت أيام الخريف وعرت الرياح الأشجار متلاعبة بأوراقها الصفراء مثلماتداعب الأنواء زبد البحر، وجاء الشتاء باكياً وأنا في بيروت ولا رفيق لي سوى أحلامتتصاعد بنفسي تارة فتبلغها الكواكب وتنخفض بقلبي طوراً فتلحده بجوف الأرض.
                      إنالنفس الكئيبة تجد راحة بالعزلة والانفراد فتهجر الناس مثلما يبتعد الغزال الجريحعن سربه ويتوارى في كهفه حتى يبرأ أو يموت...
                      ففي ذات يوم سمعت باعتلال فارسكرامة، تركت وحدتي وذهبت لعيادته ماشياً على ممر منفرد بين أشجار الزيتون المتلمعةأوراقها الرصاصية بقطرات المطر، متنحياً عن الطريق العمومية حيث تزعج ضجة المركباتسكينة الفضاء.
                      بلغت منزل الشيخ ودخلت عليه فوجدته ملقى على فراشه مضنى الجسد،شاحب الوجه أصفر اللون، وقد غرقت عيناه تحت حاجبيه فباتتا كهوتين عميقتين مظلمتينتجول فيهما أشباح السقم والألم، فالملامح التي كانت بالأمس عنوان البشاشة والانبساطقد تقلصت واكفهرت وأصبحت كصحيفة رمادية متجعدة تكتب عليها العلة سطوراً غريبةملتبسة. واليدان اللتان كانتا مغلفتين باللطف واللدانة قد نحلتا حتى بدت عظامأصابعهما من تحت الجلد كقضبان عارية ترتعش أمام العاصفة.
                      ولما دنوت منه سائلاًعن حاله، حوّل وجهه المهزول نحوي وظهر على شفتيه المرتجفتين خيال ابتسامة محزنة،وبصوت ضعيف خافت خلته آتياً من وراء الجدران قال "اذهب ــ اذهب يا بني إلى تلكالغرفة وامسح دموع سلمى وسكّن روعها ثم عد بها إليّ لتجلس بجانب فراشي".
                      دخلتالغرفة المحاذية فوجدت سلمى منطرحة على مقعد وقد غمرت رأسها بزنديها وأغرقت وجههابالمساند وأمسكت أنفاسها كيلا يسمع والدها نحيبها، فاقتربت منها ببطء ولفظت اسمهابصوت أقرب إلى التنهد منه إلى الهمس فاحتركت مضطربة ونظرت إلي بعينين شاخصتينجامدتين كأنها رأت شبحاً في عالم الرؤيا ولا تصدق حقيقة وجودي في ذلك المكان.
                      وبعد سكوت عميق أرجعنا بتأثراته السحرية إلى تلك الساعات التي سكرنا فيها منخمرة الآلهة مسحت سلمى دموعاً بأطراف بنانها وقالت متحسرة "أرأيت كيف تبدلت الأيام؟أرأيت كيف أضلنا الدهر فسرنا مسرعين إلى هذه الكهوف المفزعة؟ في هذا المكان جمعناالربيع في قبضة الحب وفي هذا المكان يجعلنا الآن الشتاء أمام عرش الموت فما أبهىذلك النهار وما أشد ظلمة هذا الليل".
                      قالت هذه الكلمات وقد ابتلعت الغصاتأواخرها ثم عادت وسترت وجهها بيديها كأن ذكرى الماضي قد تجسدت ووقفت أمامها فلم تشأأن تراها، فوضعت يدي على شعرها قائلاً "تعالي يا سلمى ــ تعالي ننتصب كالأبراج أمامالزوبعة. هلمي نقف كالجنود أمام الأعداء متلقين شفار السيوف بصدورنا لا بظهورنا. فإن صرعنا نموت كالشهداء وإن تغلبنا نعيش كالأبطال... إن عذاب النفس بثبات أمامالمصاعب والمتاعب لهو أشرف من تقهقرها إلى حيث الأمن والطمأنينة فالفراشة التي تظلمرفرفة حول السراج حتى تحترق هي أسمى من الخلد الذي يعيش براحة وسلامة في نفقهالمظلم. والنواة التي لا تحتمل برد الشتاء وثورات العناصر لا تقوى على شق الأرض ولنتفرح بجمال نيسان... هلمي نسير يا سلمى بقدم ثابتة على هذه الطريق الوعرة رافعينأعيننا نحو الشمس كيلا نرى الجماجم المطروحة بين الصخور، والأفاعي المنسابة بينالأشواك، فإن أوقفنا الخوف في منتصف الطريق أسمعتنا أشباح الليل صراخ الاستهزاءوالسخرية، وإن بلغنا قمة الجبل بشجاعة فترنم معنا أرواح الفضاء بأنشودة النصروالاستظهار. خففي عنك يا سلمى وجففي دموعك واخفي هذه الكآبة الظاهرة على محياكوقومي نجلس بجانب فراش والدك لأن حياته من حياتك وشفاءه بابتسامتك.
                      فنظرت إليّنظرة ملؤها الحنان والرأفة والانعطاف ثم قالت "أتطلب مني الصبر والتجلد وفي عينيكمعنى اليأس والقنوط؟ أيعطي الفقير الجائع خبزه إلى الجائع الفقير أو يصف العليلدواء لعليل آخر وهو أحرى بالدواء؟".
                      ثم وقفت وسارت أمامي منحنية الرأس إلى غرفةوالدها.
                      جلسنا أمام مضجع الشيخ العليل وسلمى تتكلف الابتسام وهدوء البال وهويتكلف الراحة والقوة، وكل منهما شاعر بلوعة الآخر عالم بضعفه سامع غصات قلبه. فكانامثل قوتين متضارعتين تفنيان بعضهم بعضاً في السكينة، والد دنف يذوب ضنى لتعاسةابنته وابنة محبة متوجعة بعلة والدها. نفس راحلة ونفس يائسة تتعانقان أمام الحبوالموت وأنا بينهما أتحمل ما بي وأقاسي ما بهما؛ ثلاثة جمعتهم يد القضاء ثم قبضتعليهم بشدة حتى سحقتهم؛ شيخ يمثل بيتاً قديماً هدمه الطوفان وصبية تحاكي زنبقة قطععنقها حد المنجل، وفتى يشابه غرسة ضعيفة لوت قامتها الثلوج، وجميعنا مثل ألعوبة بينأصابع الدهر.
                      وتحرك الشيخ إذا ذاك بين اللحف ومد يده النحيلة نحو سلمى وبصوتأودعه كل ما في قلب الأب من الرقة والرأفة وكل ما في صدر العليل من السقم والألمقال: "ضعي يدك في يدي يا سلمى".
                      فمدت يدها وألقتها بين أصابعه فضمها بلطف ثم زادقائلاً "لقد شبعت من السنين يا ولدي. قد عشت طويلاً وتلذذت بكل ما تثمره الفصولوتمتعت بكل ما تبرزه الأيام والليالي. قد لاحقت الفراش صبياً وعانقت الحب فتىًوجمعت المال كهلاً وكنت في هذه الأدوار سعيداً مغبوطاً... فقدت أمك يا سلمى قبل أنتبلغي الثالثة ولكنها أبقتك لي كنزاً ثميناً فكنت تنمين بسرعة نمو الهلال، وتنعكسعلى وجهك ملامح أمك مثلما تنعكس أشعة النجوم في حوض ماء هادئ، وتظهر أخلاقهاومزاياها بأعمالك وأقوالك ظهور الحلي الذهبية من وراء النقاب الرقيق، فتعزيت بك ياولدي لأنك كنت مثلها جميلة وحكيمة... والآن قد صرت شيخاً طاعناً وراحة الشيوخ بينأجنحة الموت الناعمة، فتعزي يا ولدي لأنني بقيت لأراك امرأة كاملة وافرحي لأنيسأبقى بك حياً بعد موتي. إن ذهابي الآن مثل ذهابي غداً أو بعده، لأن أيامنا مثلأوراق الخريف تتساقط وتتبدد أمام وجه الشمس، فإن أسرعت بي إلى الأبدية فلأنها علمتبأن روحي قد اشتاقت إلى لقاء أمك..".
                      لفظ الكلمات الأخيرة بنغمة مفعمة بحلاوةالحنين والرجاء ولاحت على وجهه المنقبض أشعة شبيهة بذلك النور الذي ينبثق من أجفانالأطفال. ثم مد يده بين المساند المحيطة برأسه وانتشل صورة صغيرة قديمة يمنطقهاإطار من الذهب قد نعمت حدوده ملامس الأيدي ومحت نقوشه قبل الشفاه. ثم قال بدون أنيحول عينيه عن الرسم "اقتربي يا سلمى اقتربي مني يا ولدي لأريك خيال أمك، تعاليوانظري ظلها على صفحة من الورق".
                      فدنت سلمى ماسحة الدموع من مقلتيها كيلا تحولبين ناظرها والرسم الضئيل، وبعد أن أحدقت به طويلاً كأنه مرآة تعكس معانيها وشكلوجهها، قربته من شفتيها وقبلته بلهفة مراراً متوالية ثم صرخت قائلة "يا أماه، ياأماه، يا أماه" ولم تزد على هذه الكلمة بل عادت ووضعت الرسم على شفتيها المرتعشتينكأنها تريد أن تثبت فيه الحياة بأنفاسها الحارة.
                      إن أعذب ما تحدثه الشفاهالبشرية هو لفظة (الأم) وأجمل مناداة هي (يا أمي) كلمة صغيرة كبيرة مملوءة بالأملوالحب والانعطاف وكل ما في القلب البشري من الرقة والحلاوة والعذوبة. الأم هي كلشيء في هذه الحياة، هي التعزية في الحزن، والرجاء في اليأس، والقوة في الضعف، هيينبوع الحنو والرأفة والشفقة والغفران، فالذي يفقد أمه يفقد صدراً يسند إليه رأسهويداً تباركه وعيناً تحرسه.
                      كل شيء يرمز ويتكلم عن الأمومة فالشمس هي أم هذهالأرض ترضعها حرارتها وتحضنها بنورها ولا تغادرها عند المساء إلا بعد أن تنومها علىنغمات أمواج البحر وترنيمة العصافير والسواقي، وهذه الأرض هي أم للأشجار والأزهارتلدها وترضعها ثم تفطمها والأشجار والأزهار تصير بدورها أمهات حنونات للأثمارالشهية والبذور الحية. وأم كل شيء في الكيان هو الروح الكلية الأزلية الأبديةالمملوءة بالجمال والمحبة.
                      وسلمى كرامة لم تكن تعرف أمها لأنها ماتت وهي طفلةوقد شهقت متأثرة عندما رأت رسمها ونادتها "يا أماه" أسرت إرادتها لأن لفظة الأمتختبئ في قلوبنا مثلما تختبئ النواة في قلب الأرض وتنبثق من بين شفاهنا في ساعاتالحزن والفرح كما يتصاعد العطر من قلب الوردة في الفضاء الصافي الممطر.
                      كانتسلمى تحدق برسم أمها ثم تقبله بلهفة ثم تلزه صدرها الخفوق ثم تتأوه متنهدة ومع كلتنهدة تفقد جزءاً من قواها حتى إذا ماوهت الحياة في جسدها النحيل هوت وسقطت بجانبسرير أبيها. فوضع كلتا يديه على رأسها قائلاً "قد أريتك يا ولدي شبح أمك على صفحةمن الورق فاصغي إلي لآسمعك أقوالها".
                      فرفعت سلمى رأسها مثلما تفعل الفراخ فيالعش عندما تسمع حفيف أجنحة العصفورة بين القضبان، ونظرت إليه مصغية صاغرة كأنذاتها المعنوية قد استحالت إلى أعين محدقة وآذان واعية.
                      فقال والدها "كنت طفلةرضيعة عندما فقدت أمك والدها الشيخ فحزنت لفقده وبكت بكاء حكيم متجلد ولكنها لم تعدمن جانب قبره حتى جلست بجانبي في هذه الغرفة وأخذت يدي براحتيها وقالت (قد ماتوالدي يا فارس وأنت باقي لي وهذه هي تعزيتي. إن القلب بعواطفه المتشبعة يماثلالأرزة بأغصانها المتفرقة فإذا ما فقدت شجرة الأرز غصناً قوياً تتألم ولكنها لاتموت بل تحوّل قواها الحيوية إلى الغصن المجاور لينمو ويتعالى ويملأ بفروعه الغضةمكان الغصن المقطوع). هذا ما قالته والدتك يا سلمى عندما مات أبوها وهذا ما يجبعليك أن تقوليه عندما يأخذ الموت جسدي إلى راحة القبر وروحي إلى ظل الله".
                      فأجابت سلمى متفجعة "فقدت أمي والدها فبقيت أنت لها فمن يبقى لي إذا فقدتك ياوالدي؟ مات والدها وهي في ظلال زوج محب فاضل أمين ــ مات والدها فبقيت لها طفلةتغمر رأسها الصغير بثدييها وتطوق عنقها بذراعيها فمن يبقى لي إذا فقدتك يا والدي؟أنت أبي وأمي ورفيق حداثتي ومهذب شبيبتي فبمن أستعيض إذا ما ذهبت عني؟".
                      قالتهذا وحولت عينيها الدامعتين نحوي وأمسكت بيمينها طرف ثوبي وقالت "ليس لي غير هذاالصديق يا والدي ولن يبقى لي سواه إذا ما تركتني. فهل أتعزى به وهو متعذب مثلي؟ هليتعزى كسير القلب بالقلب الكسير؟ إن الحزينة لا تتصبر بحزن جارتها كما أن الحمامةلا تطير بأجنحة مكسورة.. هو رفيق لنفسي ولكنني قد أثقلت عاتقه بأشجاني حتى لويتظهره وسملت عينيه بعبراتي فلم يعد يرى غير الظلمة. هو أخ أحبه ويحبني مثل جميعالأخوة يشترك بالمصيبة ولا يخففها ويساعد بالبكاء فيزيد الدمع مرارة والقلباحتراقاً".
                      كنت أسمع سلمى متكلمة وعواطفي تنمو وصدري يضيق حتى شعرت بأن أضلعيتكاد تتفجر حناجر وفوهات. أما الشيخ فكان ينظر إليها وجسده المهزول يهبط ببطء بينالوسائد والمساند ونفسه المتعبة ترتجف كشعلة السراج أمام الريح. ثم بسط ذراعيه وقالبهدوء "دعيني أذهب بسلام يا ولدي. لقد لمحت عيناي ما وراء الغيوم فلن أحولهما نحوهذه الكهوف.. دعيني أطير فقد كسرت بأجنحتي قضبان هذا القفص. لقد نادتني أمك يا سلمىفلا توقفيني.. ها قد طاب الريح وتبدد الضباب عن وجه البحر فرفعت السفينة شراعهاوتأهبت للمسير فلا توقيفها ولا تنزعي دفتها.. دعي جسدي يرقد مع الذين رقدوا، ودعيروحي تستيقظ لأن الفجر قد لاح والحلم قد انتهى.. قبليني قبلة رجاء وأمل.. ولا تسكبيقطرة من مرارة الحزن على جسدي لئلا تمنع الأعشاب والأزهار عن امتصاص عناصره.. ولاتذرفي دموع اليأس على يدي لأنها تنبت شوكاً على قبري. ولا ترسمي بزفرات الأسى سطراًعلى جبهتي لأن نسيم البحر يمر ويقرؤه فلا يجمل غبار عظامي إلى المروج الخضراء... قدأحببتك بالحياة يا ولدي وسوف أحبك بالموت فتظل روحي قريبة منك لتحميكوترعاك".
                      والتفت الشيخ إليّ وقد انطبقت أجفانه قليلاً فلم أعد أرى سوى خطينرماديين مكان عينيه ثم قال وسكينة الفناء تسترق ألفاظه "أما أنت يا بني فكن أخاًلسلمى مثلما كان والدك لي. كن قريباً منها في ساعات الشدة وكن صديقاً لها حتىالنهاية. ولا تدعها تحزن لأن الحزن على الأموات غلطة من غلطات الأجيال العابرة. بلأتل على مسمعيها أحاديث الفرح وأنشدها أغاني الحياة فتسلوا وتتناسى.. قل لأبيك أنيذكرني.. سله فيخبرك عن مآتي أيامي عندما كان الشباب يحلق بنا الغيوم.. فقل له إننيأحببته بشخص ابنه في آخر ساعة من حياتي..".
                      وسكت دقيقة وظلت أشباح ألفاظه تدبعلى جدران الغرفة ثم عاد فنظر إلي وإلى سلمى بوقت واحد وقال همساً "لا تدعوا طبيباًليطيل بمساحيقه ساعات سجني لأن أيام العبودية قد مضت فطلبت روحي حرية الفضاء... ولاتدعوا كاهناً إلى جانب فراشي لأن "تعازيمه" لا تكفر عني ذنوبي إن كنت خاطئاً ولاتسرع بي إلى الجنة إن كنت باراً... إن إرادة البشر لا تغير مشيئة الله كما أنالمنجمين لا يحولون مسير النجوم ... أما بعد الموت فليفعل الأطباء والكهان ما شاؤوافاللجة تنادي اللجة أما السفينة فتظل سائرة حتى تبلغ الساحل..".
                      عندما انتصفالليل المخيف فتح فارس كرامة عينيه الغارقتين في ظلمة النزاع ــ فتحها لآخر مرة ــوحولهما نحو ابنته الجاثية بجانب مضجعه، ثم حاول الكلام فلم يستطع لأن الموت كان قدتشرب صوته فخرجت هذه الألفاظ لهاثاً عميقاً من بين شفتيه "ها قد ذهب الليل.. وجاءالصباح.. يا سلمى .. يا.. سلمى..".
                      ثم نكس رأسه وابيضّ وجهه وابتسمت شفتاه واسلمالروح.
                      ومدت سلمى يدها ولمست يد والدها فوجدتها باردة كالثلج فرفعت رأسها ونظرتإليه فرأت وجهه مبرقعاً بنقاب الموت فجمدت الحياة فيجسدها وجفت الدموع في محاجرهافلم تتحرك ولم تصرخ ولم تتأوه بل بقيت محدقة به بعينين جامدتين كعيني التمثال، ثمتراخت أعضاؤها مثلما تتراخى طيات الثوب البليل، وهبطت حتى لمست جبهتها الأرض ثمقالت بهدوء "أشفق يا رب وشدد جميع الأجنحة المتكسرة".
                      مات فارس كرامة وعانقتالأبدية روحه واسترجع التراب جسده واستولى منصور بك على أمواله وظلت ابنته أسيرةتعاستها ترى الحياة مأساة تمثلها المخاوف أمام عينيها.
                      أما أنا فكنت ضائعاً بينأحلامي وهواجسي، تتناوبني الأيام والليالي مثلما تتناوب النسور والعقبان لحمالفريسة، فكم حاولت أن أفقد ذاتي بين صفحات الكتب لعلني استأنس بخيالات الذين طواهمالدهر، وكم جربت أن أنسى حاضري لأعود بقراءة الأسفار إلى مسارح الأجيال الغابرة فلميجدني كل ذلك نفعاً بل كنت كمن يحاول إخماد النار بالزيت، لأنني لم أكن أرى منمواكب سوى أشباحها السوداء ولا أسمع من أنغام الأمم غير الندب والنواح، فسفر أيوبكان عندي أجمل من مزامير داود، ومراثي أرميا كان أحب لدي من نشيد سليمان ونكبةالبرامكة أشد وقعاً في نفسي من عظمة العباسيين وقصيدة ابن زريق تأثيراً من رباعياتالخيام ورواية هملت أقرب إلى قلبي من كل ما كتبه الإفرنج.
                      كذا يضعف القنوطبصيرتنا فلا نرى غير أشباحنا الرهيبة وهكذا يصم اليأس آذاننا فلا نسمع غير طرقاتقلوبنا المضطربة.
                      - بين عشتروت والمسيح

                      بين تلك البساتين والتلول التي تصل أطراف بيروت بأذياللبنان يوجد معبد صغير قديم محفور في قلب صخرة بيضاء قائمة بين أشجار الزيتون واللوزوالصفصاف ومع أن هذا المعبد لا يبعد أكثر من نصف ميل عن طريق المركبات فقد قل منعرفه من محبي الآثار والخرائب القديمة، فكأن الإهمال قد أبقاه محجوباً عن عيونالآثريين ليجعله خلوة لنفوس المتعبين ومزاراً للمحبين والمستوحشين.
                      والداخل إلىهذا المعبد العجيب يرى على الجدار الشرقي منه صورة فينيقية الشواهد والبيئات محفورةفي الصخر قد محت أصابع الدهر بعض خطوطها ولونت الفصول معالمها. وهي تمثل عشتروت ربةالحب والجمال جالسة على عرش فخم ومن حولها 7 عذارى عاريات واقفات بهيئات مختلفة،فالواحدة منهن تحمل مشعالاً والثانية قيثارة والثالثة مبخرة والرابعة جرة من الخمروالخامسة غصناً من الورد والسادسة إكليلاً من الغار والسابعة قوساً وسهاماً وجميعهنناظرات إلى عشتروت وعلى وجوههن سيماء الخضوع والامتثال.
                      وعلى الجدار الثانيصورة أخرى أحدث عهداً وأكثر ظهوراً تمثل يسوع الناصري مصلوباً وإلى جانبه أمهالحزينة مريم المجدلية وامرأتان ثانيتان تنتحبان. وهذه الصورة البيزنطية الأسلوبوالقرائن تدل على كونها حفرت في القرن الخامس أو السادس للمسيح.
                      وفي الجدارالغربي كوتان مستديرتان يدخل منهما شعاع الشمس عند أصيل النهار وينسكب على الصورتينكأنهما طليتا بماء الذهب.
                      وفي وسط المعبد حجر من الرخام مربع الشكل على جوانبهنقوش ووسامات قديمة الطراز قد انحجب بعضها تحت كتلات متحجرة من الدماء تدل على أنالأقدمين كانوا ينحرون ذبائحهم على هذا الحجر ويصبون فوقه قرابين الخمر والعطروالزيت.
                      ولم يكن في هذا المعبد الصغير شيء آخر سوى سكينة عميقة تعانق النفسوهيبة سحرية تبيح بتموجاتها أسرار الآلهة وتتكلم بلا نطق عن مآتي الأجيال الغابرةومسير الشعوب من حالة إلى حالة ومن دين إلى دين. وتستميل الشاعر إلى عالم بعيد عنهذا العالم وتقنع الفيلسوف بأن الإنسان مخلوق ديّن يشعر بما لا يراه ويتخيل ما لاتقع عليه حواسه فيرسم لشعوره رموزاً تدل بمعانيها على خفايا نفسه ويجسم خيالهبالكلام والأنغام والصور والتماثيل التي تظهر بأشكالها أقداس أمياله في الحياةوأجمل مشتهياته بعد الموت.
                      في هذا الهيكل المجهول كنت ألتقي بسلمى كرامة مرة فيالشهر فنصرف الساعات الطوال ناظرين إلى الصورتين الغريبتين مفكرين بفتى الأجيالالمصلوب فوق الجلجلة، مستحضرين إلى مخيلتينا أشباح الفتيان والصبايا الفينيقيينالذين عاشوا وعشقوا وعبدوا الجمال بشخص عشتروت فحرقوا البخور أمام تماثيلها وهرقواالطيوب على مذابحها ثم طوتهم الأرض فلم يبقى منهم سوى اسم تردده الأيام أمام وجهالأبدية.
                      كم يصعب عليّ الآن أن أدوّن بالكلام ذكرى تلك الساعات التي كانتتجمعني بسلمى ــ تلك الساعات العلوية المكتنفة باللذة والألم والفرح والحزن والأملواليأس وكل ما يجعل الإنسان إنساناً والحياة لغزاً أبدياً. ولكن كم يصعب عليّ أنأذكرها ولأرسم بالكلام الضئيل خيالاً من خيالاتها ليبقى مثلاً لأبناء الحب والكآبة.
                      كنا نختلي في ذلك الهيكل القديم فنجلس في بابه ساندين ظهرينا إلى جداره مرددينصدى ماضينا مستقصيين مآتي حاضرنا خائفين مستقبلنا. ثم نتدرج إلى إظهار ما في أعماقنفسينا فيشكو كل منا لوعته وحرقة قلبه وما يقاسيه من الجزع والحسرة، ثم يصبّرواحدنا الآخر باسطاً أمامه كل ما في جيوب الأمل من الأوهام المفرحة والأحلام العذبةفيهدأ روعنا وتجف دموعنا وتنفرج ملامحنا ثم نبتسم متناسيين كل شيء سوى الحب وأفراحهمنصرفين عن كل أمر إلا النفس وأميالها. ثم نتعانق فنذوب شغفاً وهياماً. ثم تقبلسلمى مفرق شعري بطهر وانعطاف فتملأ قلبي شعاعاً وأقبل أطراف أصابعها البيضاء فتغمضعينيها وتلوي عنقها العاجي وتتورد وجنتاها باحمرار لطيف يشابه الأشعة الأولى يلقيهاالفجر على جباه الروابي. ثم نسكت وننظر طويلاً نحو الشفق البعيد حيث الغيومالمتلونة بأنوار المغرب البرتقالية.
                      ولم تكن اجتماعاتنا مقتصرة على مبادلةالعواطف وبث الشكوى بل كنا ننتقل على غير معرفة بنا إلى العموميات فنتبادل الآراءوالأفكار في شؤون هذا العالم الغريب ونتباحث في مرامي الكتب التي كنا نقرؤها ذاكرينحسناتها وسيئاتها وما تنطوي عليه من الصور الخيالية والمبادئ الاجتماعية، فتتكلمسلمى عن منزلة المرأة في الجامعة البشرية وعن تأثير الأجيال الغابرة على أخلاقهاوميولها وعن العلاقة الزوجية في أيامنا هذه وما يحيط بها من الأمراض والمفاسد وإنيأذكر قولها مرة "إن الكتّاب والشعراء يحاولون إدراك حقيقة المرأة ولكنهم للآن لميفهموا أسرار قلبها ومخبآت صدرها لأنهم ينظرون إليها من وراء نقاب الشهوات فلا يرونغير خطوط جسدها أو يضعونها تحت مكبرات الكره فلا يجدون فيها غير الضعف والاستسلام".
                      وقولها لي مرة أخرى وقد أشارت بيدها إلى الرسمين المحفورين على جدران الهيكل "في قلب هذه الصخرة قد نقشت الأجيال رمزين يظهران خلاصة أميال المرأة ويستجليانغوامض نفسها المتراوحة بين الحب والحزن ــ بين الانعطاف والتضحية ــ بين عشتروتالجالسة على العرش ومريم الواقفة أمام الصليب. إن الرجل يشتري المجد والعظمةوالشهرة ولكن هي المرأة التي تدفع الثمن".
                      ولم يدر باجتماعاتنا السرية أحد سوىالله وأسراب العصافير المتطايرة بين تلك البساتين، فسلمى كانت تجيء بمركبتها إلىالمكان المدعو بحديقة الباشا ثم تسير الهوينى على الممرات المنفردة حتى تبلغ المعبدالصغير فتدخله مستندة على مظلتها وعلى وجهها لوائح الأمن والطمأنينة فتجدني منتظراًمترقباً مشتاقاً بكل ما في الشوق من الجوع والعطش.
                      ولم نخف قط عين الرقيب ولاشعرنا بوخز الضمير لأن النفس إذا تطهرت بالنار واغتسلت بالدموع تترفع عما يدعوهالناس عيباً وعاراً وتتحرر من عبودية الشرائع والنواميس التي سنتها التقاليد لعواطفالقلب البشري وتقف برأس مرفوع أمام عروس الآلهة.
                      إن الجامعة البشرية قد استسلمتسبعين قرناً إلى الشرائع الفاسدة فلم تعد قادرة على إدراك معاني النواميس العلويةالأولية الخالدة، قد تعودت بصيرة الإنسان النظر إلى ضوء الشموع الضئيلة فلم تعدتستطيع أن تحدق بنور الشمس. لقد توارثت الأجيال الأمراض والعاهات النفسية بعضها عنبعض حتى أصبحت عمومية بل صارت من الصفات الملازمة للإنسان فلم يعد الناس ينظرونإليها كعاهات وأمراض بل يعتبرونها كخلال طبيعية نبيلة أنزلها الله على آدم فإذا ماظهر بينهم فرد خال منها ظنوه ناقصاً محروماً من الكمالات الروحية.
                      أما الذينسيعيبون سلمى كرامة محاولين تلويث اسمها لأنها كانت تترك منزل زوجها الشرعي لتختليبرجل آخر فهم السقماء الضعفاء الذين يحسبون الأصحاء مجرمين وكبار النفوس متمردين. بل هم كالحشرات التي تدب في الظلمة وتخشى الخروج إلى نور النهار كيلا تدوسها أقدامالعابرين.
                      إن السجين المظلوم الذي يستطيع أن يهدم جدران سجنه ولا يفعل يكونجباناً وسلمى كرامة كانت سجينة مظلومة ولم تستطع الانعتاق فهل تلام لأنها كانت تنظرمن وراء نافذة السجن إلى الحقول الخضراء والفضاء الوسيع، هل يحسبها الناس خائنةلأنها كانت تجيء من منزل منصور بك غالب لتجلس بجانبي بين عشتروت المقدسة والجبارالمصلوب؟ ليقل الناس ما شاؤوا فسلمى قد اجتازت المستنقعات التي تغمر أرواحهم الذئابوبلغت ذلك العالم الذي لا يبلغه عوي الذئاب وفحيح الأفاعي. وليقل الناس ما أرادواعني فالنفس التي شاهدت وجه الموت لا تذعرها وجوه اللصوص، والجندي الذي رأى السيوفمحتبكة فوق رأسه وسواقي الدماء تحت قدميه لا يحفل بالحجارة التي يرشقه بها صبيانالأزقة.
                      - التضحية

                      ففي يوم من أواخر حزيران وقد ثقلت وطأة الحر في السواحل وطلبالناس أعالي الجبال سرت كعادتي نحو ذلك المعبد واعداً نفسي بلقاء سلمى حاملاً بيديكتاباً صغيراً من الموشحات الأندلسية التي كانت في ذلك العهد ولم تزل إلى الآنتستميل روحي.
                      بلغت المعبد عند الأصيل فجلست أرقب الطريق المناسبة بين أشجارالليمون والصفصاف، وأنظر من وقت إلى آخر إلى وجه كتابي هامساً في مسامع الأثيرأبيات الموشحات التي تستهوي القلب برشاقة تراكيبها ورنة أوزانها وتعيد إلى النفسذكرى أمجاد الملوك والشعراء والفرسان الذين ودعوا غرناطة وقرطبة وأشبيلية تاركين فيقصورها ومعاهدها وحدائقها كل ما في أرواحهم من الآمال والأميال ثم تواروا وراء حجبالدهر والدمع في أجفانهم والحسرة في أكبادهم.
                      وبعد ساعة التفت فإذا بسلمى تميسبقدها النحيل بين الأشجار المحتبكة وتقترب نحوي مستندة على مظلتها كأنها تحمل كل مافي العالم من الهموم والمتاعب ولما بلغت باب الهيكل وجلست بقربي نظرت إلى عينيهاالكبيرتين فرأيت فيهما معاني وأسراراً جديدة غريبة توحي التحذر والانتباه وتثير حبالاستطلاع والاستقصاء.
                      وشعرت سلمى بما يجول في خاطري فلم تشأ أن يطول الصراع بينظنوني وهواجسي فوضعت يدها على شعري وقالت "اقترب مني، اقترب مني يا حبيبي اقتربودعني أزود نفسي منك فقد دنت الساعة التي تفرقنا إلى الأبد".
                      فصرخت قائلاً "ماذاتقولين يا سلمى وأية قوة تستطيع أن تفرقنا إلى الأبد؟.
                      فأجابت "إن القوة العمياءالتي فرقتنا بالأمس ستفرقنا اليوم. القوة الخرساء التي تتخذ الشريعة البشريةترجماناً عنها قد بنت بأيدي عبيد الحياة حاجزاً منيعاً بيني وبينك.
                      القوة التيأوجدت الشياطين وأقامتهم أولياء على أرواح الناس قد حتمت عليّ، أن لا أخرج من ذلكالمنزل المبني من العظام والجماجم".
                      فسألتها قائلاً "هل علم زوجك باجتماعاتنافصرت تخشين غضبه وانتقامه؟".
                      فأجابت "إن زوجي لا يحفل بي ولا يدري كيف أصرفأيامي فهو مشغول عني بأولئك الصبايا المسكينات اللواتي تقودهن الفاقة إلى أسوقالنخاسين فيتعطرن ويتكحلن ليبعن أجسادهن بالخبز المعجون بالدماء والدموع".
                      فقلتإذاً ما يصدك عن المجيء إلى هذا المعبد والجلوس بجانبي أمام هيبة الله وأشباحالأجيال؟ هل مللت النظر إلى خفايا نفسي فطلبت روحك الوداع والتفريق؟".
                      فأجابت ــوالدمع يراود أجفانها ــ "لا يا حبيبي إن روحي لم تطلب فراقك لأنك شطرها ولا ملتعيناي النظر إليك لأنك نورهما. ولقد إذا كان القضاء قد حكم عليّ أن أسير على عقباتالحياة مثقلة بالقيود والسلاسل فهل أرضى بأن يكون نصيبك من القضاء مثلنصيبي؟".
                      فقلت "تكلمي يا سلمى وأخبريني عن كل شيء ولا تتركيني ضائعاً بين هذهالمعميات".
                      فأجابت " لا أقدر أن أقول كل شيء لأن اللسان الذي أخرسته الأوجاع لايتكلم، والشفاه التي ختم عليها اليأس لا تتحرك وكل ما أقدر أن أقوله لك هو أني أخافعليك من الوقوع في شرك الذين نصبوا لي الحبائل واصطادوني".
                      فقلت "ماذا تعنين ياسلمى ومن هم الذين تخافين عليّ منهم".
                      فسترت وجهها بيدها وتأوهت ملتاعة ثم قالتمترددة "إن المطران بولس غالب قد صار يعلم بأنني أخرج مرة في الشهر من القبر الذيوضعني فيه".
                      فقلت "وهل علم المطران بأنك تلتقين بي في هذا المكان".
                      فأجابت "لو علم بذلك لما رأيتني الآن جالسة بقربك" ولكن الشكوك تخامره والظنون تتلاعببأفكاره وقد بث عليّ العيون لترقبني وأوعز إلى خدمه ليتجسسوا حركاتي حتى صرت أشعربأن للمنزل الذي أسكنه والطرقات التي أسير عليها نواظر تحدق بي وأصابع تشير إليّوآذاناً تسمع همس أفكاري".
                      وأطرقت هنيهة ثم زادت والدمع ينسكب على وجنتيها "أنالا أخاف على نفسي لأن الغريق لا يخشى البلل، ولكنني أخاف عليك وأنت حر كنور الشمسأن تقع مثلي في أشراكه فيقبض عليك بأظافره وينهشك بأنيابه.. أنا لا أخاف من الدهرلأنه أفرغ جميع سهامه في صدري. ولكنني أخاف عليك وأنت في ربيع العمر أن تلسع الأفعىقدميك وتوقفك عن المسير نحو قمة الجبل حيث ينتظرك المستقبل بأفراحهوأمجاده".
                      فقلت "إن من لا تلسعه أفاعي الأيام وتنهشه ذئاب الليل يظل مغروراًبالأيام والليالي. ولكن اسمعي يا سلمى، اسمعيني جيداً، أليس أمامنا غير الفراقلنتقي صغارة الناس وشرورهم؟ هل سدت أمامنا سبل الحب والحياة والحرية فلم يبق غيرالاستسلام إلى مشيئة عبيد الموت؟"
                      فأجابت بلهجة يساورها القنوط والحسرة "لم يبقأمامنا غير الوداع والتفرق".
                      فأخذت يدها وقد تمردت روحي في داخلي وتبدد الدخانعن شعلة فتوتي فقلت متهيجاً " لقد استسلمنا طويلاً إلى أهواء الناس يا سلمى.. منذتلك الساعة التي جمعتنا حتى الآن ونحن ننقاد إلى العميان ونركع أمام أصنامهم. منذعرفتك ونحن في يد المطران بولس غالب مثل كرتين يلعب بنا كيفما أراد ويقذفنا حيثماشاء فهل نبقى خاضعين لديه محدقين بظلمة نفسه حتى يلوكنا القبر وتبتلعنا الأرض؟ هلوهبنا الله نسمة الحياة لنضعها تحت أقدام الموت؟ وأعطانا الحرية لنجعلها ظلاًللاستعباد؟ إن من يخمد نار نفسه بيده يكون كافراً بالسماء التي أوقدتها. ومن يصبرعلى الضيم ولا يتمرد على الظلم يكون حليف الباطل على الحق وشريك السفاحين بقتلالأبرياء. وقد أحببتك يا سلمى وأحببتني والحب كنز ثمين يودعه الله النفس الكبيرةالحساسة. فهل نرمي بكنزنا إلى حظائر الخنازير لتبعثره بأنوفها وتذريه بأرجلها؟أمامنا العالم مسرحاً وسيعاً مملوءاً بالمحاسن والغرائب فلماذا نسكن في هذا النفقالضيق الذي حفزه المطران وأعوانه؟ أمامنا الحياة من الحرية وما في الحرية من الغبطةوالسعادة فلماذا لا نخلع النير الثقيل عن عاتقينا ونكسر القيود الموثوقة بأرجلناونسير إلى حيث الراحة والطمأنينة؟ قومي يا سلمى نذهب من هذا المعبد الصغير إلى هيكلالله الأعظم هلمي نرحل من هذه البلاد وما فيها من العبودية والغباوة إلى بلاد بعيدةلا تصل إليها أيدي اللصوص ولا تبلغها لهات الأبالسة. تعالي نسرع إلى الشاطئ مستترينبوشاح الليل فنعتلي سفينة تقلنا إلى ما وراء البحار وهناك نحيا حياة مكتنفة بالطهروالتفاهم، فلا تنفثنا الثعابين بأنفاسها ولا تدوسنا الطوارئ بأقدامها. لا تترددي ياسلمى فهذه الدقائق أثمن من تيجان الملوك وأسمى من سرائر الملائكة. قومي نتبع عمودالنور فيقودنا من هذه الصحراء القاحلة إلى حقول تنبت الأزاهر والرياحين".
                      فهزترأسها وقد شخصت عيناها بشيء غير منظور في فضاء ذلك الهيكل، وسالت على شفتيهاابتسامة محزنة تعلن ما في داخل نفسها من الشدة والألم، ثم قالت بهدوء "لا لا ياحبيبي، إن السماء قد وضعت في يدي كأساً مفعمة بالخل والعلقم وقد تجرعتها صرفاً ولميبق فيها غير قطرات قليلة سوف أشربها متجلدة لأرى ما في قاع الكأس من الأسرار فأنالا أستحقها ولا أقوى على احتمال أفراحها وملذاتها، لأن الطائر المكسور الجناحين يدبمتنقلاً بين الصخور ولكنه لا يستطيع أن يسبح محلقاً في الفضاء، والعيون الرمداءتحدق بالأشياء الضئيلة ولكنها لا تقوى على النظر إلى الأنوار الساطعة، فلا تحدثنيعن السعادة لأن ذكرها يؤلمني كالتعاسة، ولا تصور لي الهناء لأن ظله يخيفنيكالشقاء.. ولكن انظر رماد صدري.. أنت تعلم بأنني أحبك محبة الأم وحيدها وهي المحبةالتي علمتني أن أحميك حتى ومن نفسي. هي المحبة المطهرة بالنار التي توقفني الآن عناتباعك إلى أقاصي الأرض وتجعلني أن أميت عواطفي وأميالي لكي تحيا أنت حراً نزيهاًوتظل في مأمن من لوم الناس وتقولاتهم الفاسدة. إن المحبة المحدودة تطلب امتلاكالمحبوب، أما المحبة غير المتناهية فلا تطلب غير ذاتها.. المحبة التي تجيء بين يقظةالشباب وغفلته تستكفي باللقاء وتقنع بالوصل وتنمو بالقبل والأعناق، أما المحبة التيتولد في أحضان اللانهاية وتهبط مع أسرار الليل فلا تقنع بغير الأبدية ولا تستكفيبغير الخلود ولا تقف متهيبة أمام شيء سوى الألوهية.. عندما عرفت بالأمس أن المطرانبولس غالب يريد أن يمنعني عن الخروج من منزل ابن أخيه ويسلبني اللذة الوحيدة التيعرفتها منذ تزوجت، وقفت أمام نافذة غرفتي ونظرت نحو البحر مفكرة بما وراءه منالبلاد الوسيعة والحرية المعنوية والاستقلال الشخصي، وتخيلت نفسي عائشة بقربك محاطةبخيالات روحك، مغمورة بانعطافك، ولكن هذه الأحلام التي تنير صدور النساء المظلوماتوتجعلهن يتمردن على التقاليد الباطلة ليعشن في ظل الحق والحرية لم تمر في خاطري حتىجعلتني أستصغر نفسي وأستضعفها وأرى محبتنا واهية محددة لا تستطيع الوقوف أمام وجهالشمس. فبكيت بكاء ملك أضاع ملكه وغني فقد كنزه، ولكني ما لبثت أن رأيت وجهك منخلال دموعي وأبصرت عينيك محدقتين بي فتذكرت ما قلته لي مرة وهو (هلمي يا سلمى نقفأمام الأعداء متلقين شفار السيوف بصدورنا فإن صرعنا نمنا كالشهداء وإن تغلبنا نعشكالأبطال، لأن عذاب النفس بثباتها أمام المصاعب والمتاعب هو أشرف من تقهقرها إلىحيث الأمن والطمأنينة).. هذه الكلمات قلتها لي يا حبيبي عندما كانت أجنحة الموتترفرف حول مضجع والدي، وقد ذكرتها بالأمس وقد كانت أجنحة اليأس تصفق حول رأسي،فتقويت وتشجعت وشعرت وأنا في ظلمة السجن بنوع من الحرية النفسية التي تستهونالشدائد وتستصغر الأحزان، ورأيت حبنا عميقاً كالبحر، عالياً كالنجوم، متسعاًكالفضاء، وقد جئت اليوم إليك وفي نفسي المتوجعة المنهوكة قوة جديدة وهي المقدرة علىالأمر العظيم للحصول على أمر أعظم ــ تضحية سعادتي بقربك لكي تبقى أنت شريفاً بعرفالناس بعيداً عن غدرهم واضطهادهم.. كنت أجيء بالأمس إلى هذا المكان والقيود الثقيلةتغل قدميّ الضعيفتين، أما اليوم فقد جئت شاعرة بعزم يهزأ بثقل القيود ويستقصرالطريق. كنت أجيء مثل طيف طارق خائف أما اليوم فقد جئت مثل امرأة حية تشعر بوجوبالتضحية وتعرف قيمة الأوجاع وتريد أن تحمي من تحب من الناس والأغبياء ومن نفسهاالجائعة. كنت أجلس حذاءك مثل ظل مرتجف وقد أتيت اليوم لأريك حقيقتي أمام عشتروتالمقدسة ويسوع المصلوب. أنا شجرة نابتة في الظل وقد مددت أغصاني اليوم لكي تنتعشساعة النهار. وقد جئت لأودعك يا حبيبي فليكن وداعنا عظيماً وهائلاً مثل حبنا ــليكن وداعنا كالنار التي تصهر الذهب لتجعله أشد لمعاناً".
                      ولم تترك لي سلمىمجالاً للكلام والاحتجاج بل نظرت إليّ وقد أبرقت عيناها فأحاطت أشعتها بوجدانيواتشحت ملامح وجهها بنقاب من الهيبة والجلال فبانت كمليكة توحي الصمت والتخشع. ثمارتمت على صدري بانعطاف كل ما عهدته فيها قبل الساعة وطوقت عنقي بزندها الأمس وقبلتشفتي قبلة طويلة عميقة محرقة أيقظت الحياة في جسدي وأثارت الأسرار الخفية في نفسيوجعلت الذات الوضعية التي أدعوها (أنا) أن تتمرد على العالم بأسره لتخضع صامتة أمامالناموس العلوي الذي اتخذ صدر سلمى هيكلاً ونفسها مذبحاً.
                      ولما غربت الشمس ولمحتأشعتها الأخيرة تبعد عن تلك الحدائق والبساتين انتفضت سلمى ووقفت في وسط الهيكلونظرت طويلاً إلى جدرانه وزواياه كأنها تريد أن تسكب نور عينيها على رسومه ورموزهثم تقدمت قليلاً وجثت خاضعة أمام صورة يسوع وقبلت قدميه المكلومتين مرات متوالية ثمهمست قائلة "ها قد اخترت صليبك يا يسوع الناصري وتركت مسرات عشتروت وأفراحها؛ قدكللت رأسي بالأشواك بدلاً من الغار، واغتسلت بدمي ودموعي بدلاً من العطور والطيوبوتجرعت الخل والعلقم بالكأس التي صنعت للخمر والكوثر، فاقبلني بين تابعيك الأقوياءبضعفهم وسيرني نحو الجلجلة برفقة مختاريك المستكفين بأوجاعهم المغبوطين على كآبةقلوبهم".
                      ثم انتصبت والتفتت نحوي قائلة "سأعود الآن فرحة إلى الكهف المظلم حيثتتراكض الأشباح المخيفة فلا تشفق عليّ يا حبيبي ولا تحزن من أجلي لأن النفس التيترى ظل الله مرة لا تخشى بعد ذلك أشباح الأبالسة، والعين التي تكتحل بلمحة واحدة منالملأ الأعلى لا تغمضها أوجاع العالم".
                      وخرجت سلمى من ذاك المعبد ملتفة بملابسهاالحريرية وتركتني حائراً ضائعاً مفكراً مجذوباً إلى مسارح الرؤيا حيث تجلس الآلهةعلى العروش وتدون الملائكة أعمال البشر وتتلو الأرواح مأساة الحياة وتترنم عرائسالخيال بأناشيد الحب والحزن والخلود.
                      ولما صحوت من هذه السكرة وكان الليل قدغمر الوجود بأمواجه القاتمة، وجدتني هائماً بين تلك البساتين مسترجعاً إلى حافظتيصدى كل كلمة لفظتها سلمى، معيداً إلى نفسي حركاتها وسكناتها وملامح وجهها وملامسيديها، حتى إذا ما اتضحت لي حقيقة الوداع وما سيجيء من ألم الوحشة ومرارة الشوقجمدت فكرتي وتراخت خيوط قلبي وعلمت للمرة الأولى بأن الإنسان وإن ولد حراً يظلعبداً لقساوة الشرائع التي سنها آباؤه وأجداده، وأن القضاء الذي نتوهمه سراً علوياًلهو استسلام اليوم إلى مآتي الأمس، وخضوع الغد إلى أميال اليوم. وكم مرة فكرت منذتلك الليلة إلى هذه الساعة بالنواميس النفسية التي جعلت سلمى تختار الموت بدلاً منالحياة. وكم مرة وضعت نبالة التضحية بجانب سعادة المتمردين لأرى أيهما أجل وأجملولكنني للآن لم أفهم سوى حقيقة واحدة وهي أن الإخلاص يجعل جميع الأعمال حسنةوشريفة، وسلمى كرامة كانت الإخلاص متأنساً وصحة الاعتقاد متجسدة.
                      - المنقذ

                      ومرت خمسة أعوام على زواج سلمى ولم ترزق ولداً ليوجد بكيانهالعلاقة الروحية بينها وبين بعلها ويقرب بابتسامته نفسيهما المتنافرتين مثلما يجمعالفجر بين أواخر الليل وأوائل النهار.
                      والمرأة العاقر مكروهة في كل مكان لأنالأنانية تصور لأكثر الرجال دوام الحياة في أجساد الأبناء فيطلبون النسل ليظلواخالدين على الأرض.
                      إن الرجل المادي ينظر إلى زوجته العاقر بالعين التي يرى بهاالانتحار البطيء فيمقتها ويهجرها ويطلب حتفها كأنها عدو غدار يريد الفتك به، ومنصوربك غالب كان مادياً كالتراب وقاسياً كالفولاذ وطامعاً كالمقبرة وكانت رغبته بابنيرث اسمه وسؤدده تكرهه بسلمى المسكينة وتحوّل محاسنها في عينيه إلى عيوبجهنمية..
                      إن الشجرة التي تنبت في الكهف لا تعطي ثمراً، وسلمى كرامة كانت في ظلالحياة فلم تثمر أطفالاً؛ إن البلبل لا يحوك عشاً في القفص كيلا يورث العبوديةلفراخه. وسلمى كرامة كانت سجينة الشقاء فلم تقسم السماء حياتها إلى أسيرين؛ إنأزاهر الأودية هي أطفال يلدها الحب والحنو، فسلمى كرامة لم تشعر قط بأنفاس الحنووملامس الانعطاف في ذلك المنزل الفخم النائم على شاطئ البحر في رأس بيروت، ولكنهاكانت تصلي في سكينة الليالي ضارعة أمام السماء لتبعث إليها بطفل يجفف بأصابعهالوردية دموعها ويزيل بنور عينيه خيال الموت من قلبها.
                      وقد صلت سلمى متوجعة حتىملأت الفضاء صلاة وابتهالاً وتضرعت مستغيثة حتى بدّد صراخها الغيوم، فسمعت السماءندائها وبثت في أحشائها نغمة مختمرة بالحلاوة والعذوبة وأعدتها بعد خمسة أعوام منزواجها لتصيّرها أما وتمحو ذلها وعارها.
                      الشجرة النابتة في الكهف قد أزهرتلتثمر.
                      البلبل المسجون في القفص قد هم ليحوك عشاً من ريش جناحيه.
                      القيثارةالتي طرحت تحت الأقدام قد وضعت في مهب نسيم المشرق ليحرك بأمواجه ما بقي منأوتارها.
                      سلمى كرامة المسكينة قد مدت ذراعيها المكبلتين بالسلاسل لتقبل موهبةالسماء.
                      وليس بين أفراح الحياة ما يضارع فرح المرأة العاقر عندما تهيئهاالنواميس الأزلية لتصيرها أما، كل ما في يقظة الربيع من الجمال، وكل ما في مجيءالفجر من المسرة يجتمع بين أضلع المرأة التي أحرمها الله ثم أعطاها.
                      لا يوجد نورأشد سطوعاً وأكثر لمعاناً من الأشعة التي يبعثها الجنين السجين في ظلمة الأحشاء.
                      وكان نيسان قد جاء متنقلاً بين الروابي والمنحدرات عندما تمت أيام سلمى لتلدبكرها، وكأن الطبيعة قد وافقتها وعاهدتها فأخذت تضع حمل أزاهرها وتلف بأقمطةالحرارة أطفال الأعشاب والرياحين.
                      مضت شهور الانتظار وسلمى تترقب الخلاص مثلمايترقب المسافر طلوع كوكب الصباح، وتنظر إلى المستقبل من وراء دموعها فتراه مشعشعاًوقد طالما ظهرت الأشياء القاتمة متلمعة من خلال الدموع.
                      ففي ليلة وقد طافتأشباح الظلام بين تلك المنازل في رأس بيروت، انطرحت سلمى على مضجع المخاض والأوجاعفانتصب الموت والحياة يتصارعان بجانب فراشها، ووقف الطبيب والقابلة ليقدما إلى هذاالعالم ضيفاً جديداً، وسكنت حركة عابري الطريق وانخفضت نغمة أمواج البحر ولم يعديسمع في ذلك الحي سوى صراخ هائل يتصاعد من نوافذ منزل منصور بك غالب.. صراخ انفصالالحياة من الحياة.. صراخ محبة البقاء في فضاء اللاشيء والعدم.. صراخ قوة الإنسانالمحدودة أمام سكينة القوى غير المتناهية. صراخ سلمى الضعيفة المنطرحة تحت أقدامجبارين: الموت والحياة.
                      عندما لاح الفجر ولدت سلمى ابناً، ولما سمعت إهلالهفتحت عينيها المغلقتين بالألم ونظرت حواليها فرأت الأوجه متهللة في جوانب تلكالغرفة.. ولما نظرت ثانية رأت الحياة والموت ما زالا يتصارعان بقرب مضجعها فعادتوأغمضت عينيها وصرخت لأول مرة "يا ولدي". ولفت القابلة الطفل بالأقمطة ووضعته حذاءأمه، أما الطبيب فظل ينظر بعينين حزينتين نحو سلمى ويهز رأسه صامتاً بين الدقيقةوالأخرى.
                      وأيقظت نغمة الفرح بعض الجيران فجاؤوا بملابس النوم ليهنئوا الوالدبولده، أما الطبيب فبقي ينظر بعينين كئيبتين نحو الوالدة وطفلها.
                      وأسرع الخدمنحو منصور بك ليبشروه بقدوم وريثه ويملؤوا أيديهم من عطاياه أما الطبيب فلبث واقفاًينظر بعينين يائستين إلى سلمى وابنها.
                      ولما طلعت الشمس قربت سلمى ولدها منثديها ففتح عينيه لأول مرة ونظر في عينها ثم اختلج وأغمضها لآخر مرة. فدنا الطبيبوأخذه من بين ذراعيها وانسكبت على وجنتيه دمعتان كبيرتان ثم همس في سره قائلاً "هوزائر راحل؟"
                      مات الطفل وسكان الحي يفرحون مع الوالد في القاعة الكبرى ويشربوننخبه ليعيش طويلاً، وسلمى المسكينة تحدق بالطبيب وتصرخ قائلة "أعطني ولدي لأضمه" ثمتحدق ثانية فترى الموت والحياة يتصارعان بجانب سريرها.
                      مات الطفل ورنة الكؤوستنمو بين أيدي الفرحين بمجيئه.
                      ولد مع الفجر ومات عند طلوع الشمس...
                      ولد معالفجر ومات عند طلوع الشمس، فأي بشري يستطيع أن يقيس الزمن ليخبرنا ماذا كانتالساعة التي تمر بين مجيء الفجر وطلوع الشمس. هي أقصر من الدهر الذي يمر بين ظهورالأمم وتواريها.
                      ولد كالفكر ومات كالتنهدة واختفى كالظل فأذاق سلمى كرامة طعمالأمومة ولكنه لم يبق ليسعدها ويزيل يد الموت عن قلبها..
                      حياة قصيرة ابتدأتبنهاية الليل وانقضت بابتداء النهار فكانت مثل قطرة الندى التي تسكبها أجفان الظلامثم تجفهها ملامس النور.
                      كلمة لفظتها النواميس الأزلية ثم ندمت عليها وأعادتهاإلى سكينة الأبدية.
                      لؤلؤة قذفها المد إلى الشاطئ ثم جرفها الجزر إلىالأعماق.
                      زنبقة ما انبثقت من كمام الحياة حتى انسحقت تحت أقدام الموت.
                      ضيفعزيز ترقبت سلمى قدومه ولكنه ما حل حتى ارتحل وما فتح مصراعي الباب حتىاختفى.
                      جنين ما صار طفلاً حتى صار تراباً: وهذه حياة الإنسان بل حياة الشعوب، بلحياة الشموس والأقمار والكواكب..
                      وحولت سلمى عينيها نحو الطبيب وتنهدت بشوق جارحثم صرخت قائلة "أعطني ابني لأضمه بذراعي... أعطني ولدي لأرضعه.."
                      فنكس الطبيبرأسه وقال والغصات تخرسه "قد مات طفلك يا سيدتي فتجلدي وتصبري لكي تعيشيبعده".
                      فصرخت سلمى بصوت هائل ثم سكتت هنيهة، ثم ابتسمت ابتسامة فرح ومسرة، ثمتهلل وجهها وكأنها عرفت شيئاً لم تكن تعرفه وقالت بهدوء "أعطني جثة ولدي، قربه منيميتاً".
                      فحمل الطبيب الطفل الميت ووضعه بين ذراعيها فضمته إلى صدرها وحولت وجههانحو الحائط وقالت تخاطبه "قد جئت لتأخذني يا ولدي، قد جئت لتدلني على الطريقالمؤدية إلى الساحل، ها أنذا يا ولدي فسر أمامي لنذهب من هذا الكهفالمظلم".
                      وبعد دقيقة دخلت أشعة الشمس من بين ستائر النافذة وانسكبت على جسدينهامدين منطرحين على مضجع تخفره هيبة الأمومة وتظلله أجنحة الموت.
                      فخرج الطبيبباكياً من تلك الغرفة، ولما بلغ القاعة الكبرى تبدلت تهاليل المهنئين بالصراخوالعويل، أما منصور بك غالب فلم يصرخ ولم يتنهد ولم يذرف دمعة ولم يفه بكلمة بل لبثجامداً منتصباً كالصنم قابضاً بيمينه على كأس الشراب.

                      وفي اليوم التالي كفنتسلمى بأثواب عرسها البيضاء ووضعت في تابوت موشى بالمخمل الناصع، أما طفلها فكانتأقمطة أكفانه وتابوته ذراعي أمه وقبره صدرها الهادئ.
                      حملوا الجثتين في نعش واحدمشوا ببطء متلف يشابه طرقات القلوب في صدور المنازعين فسار المشيعون وسرت بينهم وهملا يعرفونني ولا يدرون ما بي.
                      بلغوا المقبرة فانتصب المطران بولس غالب يرتلويعزم ووقف الكهان حوله ينغمون ويسبحون.
                      ولما أنزلوا التابوت إلى أعماق الحفرةهمس أحد الواقفين: قائلاً: هذه أول مرة رأيت فيها جسدين يضمهما تابوتواحد".
                      وقال آخر:
                      "
                      تأملوا بوجه منصور بك فهو ينظر إلى الفضاء بعينين زجاجيتينكأنه لم يفقد زوجته وطفله في يوم واحد".
                      وظل الكهان يرتلون ويسبحون حتى فرغ حفارالقبور من ردم الحفرة فأخذ المشيعون إذ ذاك يقتربون واحداً واحداً من المطران وابنأخيه يصبرونهما ويواسونهما بمستعذبات الكلام.
                      أما أنا فبقيت واقفاً منفرداً وحديوليس من يعزيني على مصيبتي كأن سلمى وطفلها لم يكونا أقرب الناس إليّ.
                      عادالمشيعون وبقي حفار القبور منتصباً بجانب القبر الجديد وفي يده رفشه ومحفره، فدنوتمنه وسألته قائلاً:
                      "
                      أتذكر أين قبر فارس كرامة؟فنظر إلي طويلاً ثم أشار نحوقبر "سلمى" وقال:
                      "
                      في هذه الحفرة قد مددت ابنته على صدره، وعلى صدر ابنته مددتطفلها وفوق الجميع قد وضعت التراب بهذا الرفش".
                      فأجبته:
                      "
                      وفي هذه الحفرةأيضاً قد دفنت قلبي أيها الرجل... فما أقوى ساعديك".
                      ولما توارى حفار القبوروراء أشجار السرو...
                      خانني الصبر والتجلدفارتميت على قبر "سلمى"
                      أبكيها...
                      وأرثيها
                      Attached Files

                      من هنا مررت........

                      Comment


                      • #12
                        الله يعطيكم الف الف الف عافيه
                        مشكوورين على المعلومات الحلوه
                        واحلى بريف واغلى كلوود
                        مع تحياتي.........
                        THE LOVE FOR EVER
                        الفرقة صعبة كتير يابا

                        مش قادر اصبر ع غيابا

                        Comment


                        • #13
                          شو بريف حاكم صار الموضوع غني و حلويسلم دياتك يا غالي
                          بما أنّكِ جعلتِ اهتمامَكِ ملائمًا لتسميتِكِ أحرزتِ الإيمان القويم مسكناً،


                          فلذلك يا لابسة الجهاد تفيضين الأشفية وتتشفعين من أجل نفوسنا


                          يا باراسكيفي المطابقة لاسمِها.




                          best friends
                          Infinity and eternity


                          Comment


                          • #14
                            مشكور شيرو عالاهتمام يا غالي
                            بما أنّكِ جعلتِ اهتمامَكِ ملائمًا لتسميتِكِ أحرزتِ الإيمان القويم مسكناً،


                            فلذلك يا لابسة الجهاد تفيضين الأشفية وتتشفعين من أجل نفوسنا


                            يا باراسكيفي المطابقة لاسمِها.




                            best friends
                            Infinity and eternity


                            Comment


                            • #15
                              رد: أعمال أديب وشاعر "الأجنحة المتكسرة"..جبران خليل جبران

                              بصراحة ياجماعة
                              شغلكن رررررررررررررررررررررررررررررائع كلكن كلكن
                              يسلموا ايديكن كلكن كلكن
                              والله يسلمكن كلكن كلكن
                              1000 ×

                              Comment


                              • #16
                                رد: أعمال أديب وشاعر "الأجنحة المتكسرة"..جبران خليل جبران

                                روعة..تسلم دياتكن
                                معَ اللهْ.. وَ بقدرتِهْ .. قادرة على فعلْ كُل شيءْ ..!
                                BRAVEHEART,in our Hearts
                                ترنيم..اشتقنا إليكِ..

                                Comment

                                Working...
                                X