دبّ بفعل الثورات العربية المحتدمة شيء من الوئام بين المسيحيين والمسلمين، فلم نشهد منذ عقود، وربما منذ عصر الاستعمار البغيض، تلك اللحمة الصادقة والعفوية بين دينين شاءت الأقدار أن يترافقا معا في السرّاء والضرّاء، داخل حضارة جامعة وأرض واحدة. فحين علا ترتيل أمّ الكتاب في ميدان التحرير في مصر وعقبه تردّد الصلاة الربّانية، كان الحدث بشيرا بميلاد تعايش إسلامي مسيحي حقيقي افتقدته الجماهير.
ذلك أن المسيحية العربية، منذ مصادَرة ثروتها الدينية وتحويلها إلى وقف سلطاني غدت ديكورا لحاكم يحرص على عرضها رياء في المحافل والتجمّعات، بصولجاناتها وصلبانها، ويتغاضى عن قضاياها الأساسية، من نقص للحرية وغياب للديمقراطية. لقد كشف انحياز الجموع المسيحية إلى الثورات العربية، أن السلطات مهما انحرفت بمؤسّسات الدين عن دورها، وسلبتها حرّيتها وشوّهتها، على غرار ما فعلته مع المؤسسات الإسلامية، تارة بطلب الفتوى وأخرى بتلمّس شهادة زور منها، فإن الجموع المؤمنة مدركة لموقعها ورسالتها. حتى غدت المسيحية الرسمية كالإسلام الرسمي أداةً طيعةً بيد النظام يقلّبها حيث شاء وهي تطاوع. ولكن اليوم بات الإقرار، بالتساوي بين المسيحي والمسلم، بفساد تلك الأنظمة الحاكمة، وإن ادعت حماية الأوطان وزعمت الذود عن ذلك الجناح المهيض من الإرث الديني.
لقد مرّت المسيحية في ديارنا من نظام الملل إلى نظام المواطنة المنقوصة، ولم تبلغ تلك الدرجة العليّة التي بقيت مقصداً منشودا، يعي ذلك المسلم الصادق قبل أن يذكّره به المسيحي المغلوب. لكن حكام بلاد العرب الذين اُبتلي بهم الناس في زمننا الحديث، زعموا أنهم يسوسون الناس بالعدل والقسطاس المبين. اختلقوا ما شاءوا من المبرّرات، صونا لكراسيهم، حتى جعلوا الإسلام العظيم في مرمى الاتهام داخلا وخارجا. والحال أنه قد عبّر ذلك الدين مبكّرا عن جوهر تلك المواطنة الراقية والمساواة الأصيلة، على لسان أحد أعلامه، في قول الإمام علي (ك) لمالك ابن الأشتر حين ولاّه مصر، التي تعجّ بالنصارى عصرئذ: "فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدّين أو نظير لك في الخلق".
واليوم تتمرّغ المسيحية العربية في بلاد الشام في دمائها الزكية، في صمت، جنب من دانوا بدين الإسلام، أملا في رفع ذلك الغبن الذي عطّل حركة الشعوب، ولكن إخوة الدين في الغرب المسيحي واجمون. وكأن الدماء المسيحية حين تمتزج بالدماء الإسلامية وتتلمّس طريقها النضالي تغشى الغرب بهتة، ربما تلك ضريبة استعادة الهوية المصادَرة من الداخل ومن الخارج. فقد أيقن المسيحي العربي أن محافظة المسيحية على عروبتها لا يكون تحت ظلّ أنظمة قاهرة، تلك الأنظمة التي طالما كانت عاملا فاعلا في تلف ذلك الرصيد الهووي.
ساء بعضهم انخراط الأقباط بعفوية في ثورة مصر المجيدة، فاغتنموا وقوع التجاوزات، التي أتت جراء تراكمات وتعفّنات لم تطهّرها ريح الثورة بعد، لتعلو عقيرتهم بالتحذير والتشكيك. وكذلك تجري مقارنة بين عراق الأمس وشام اليوم، مخوّفين أتباع المسيح بأن كنائسهم عوْرة حيث يُخشى أن تلاقي المصير نفسه الذي شهدته في العراق، ضاربين المثل بأن تراجع أعداد المسيحيين هناك حصل عقب رحيل صدّام. وها هم اليوم ينفخون في ذاك الرهاب ناصحين: لا تنفروا مع الثائرين، قل لظى الدكتاتورية أشدّ حرّا لو كانوا يفقهون.
إذ ثمة تخويف للمسيحيين العرب من الثورات العربية وادعاء بأنها سوف تأتي بأنظمة أصولية، والحقيقة أن التاريخ العربي لم يعرف تشدّدا شبيها بتشدّد الأنظمة الدكتاتورية، وهو ما لا يطاولها فيه طاغية. فقد كان نظام زين العابدين بن علي وبالمثل نظام نظيره حسني مبارك أكثرها تطرّفا وفسادا في التضييق على دين الناس ومعاش الناس، حتى أوشكا أن يلغيا مفهوم الإيلاف لدينا، مع أننا لنا فيه باع طويل من التعايش السلمي بين عوائل دينية شتى، أساسه قول الحق: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين" (الممتحنة: 8). فما عادت المسيحية العربية تثق بجلاّديها، وقد بقيت حينا من الدهر مكرَهة على الصمت عن أنظمة الاستبداد العربية، وإن شُبّه للبعض أنها استظلت بظلّها ونعمت بفضائلها. لذلك ترمي المسيحية العربية اليوم لصنع الفضاء الديني الحر الديمقراطي، يد بيد مع المسلمين، بعد أن فشل النموذج السالب للحريات الذي طالما زُيِّن في أعيننا.
لقد ميزت مسار المسيحية العربية في العصر الحديث خاصيتان بارزتان: تظلّمات مستديمة من الواقع العربي الإسلامي بدعوى الدونية والاستضعاف، وارتماء يائس في أحضان الغرب، دفعاها للمراهنة عليه احتذاء وولاء علّه يغالبها على أكثرية مسلمة. وقد كانت في الحقيقة مناورة يائسة لم تكرّس سوى تعميق فرز المسيحية العربية وعزلها عن محيطها الحضاري. وهما مسألتان جوهريتان طالما أثّرتا غاية التأثير على واقع الديانة الثانية في البلاد العربية. وما كان ليحدث ذلك لو سلكت تلك الأنظمة مسلكا رشيدا، ينال فيه المسلم على غرار المسيحي، حقّه وحريته ومواطنته. إذ الحقيقة أن الوطأة التي يرزح تحت كاهلها المسيحي يقاسمه إياها المسلم، ففي واقعنا ثمة عطلٌ في الاشتغال الاجتماعي يتوزّع عطَبُه بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين.
لذلك أقدر أن الذين ما زالوا يراهنون على تغريب المسيحية العربية قد غفلوا عن التحولات التي دبت في الغرب، وبالمثل تخطّتهم مجريات الأمور التي يسير نحوها الشرق. إذ تنقص العديد تجربة عيش في الغرب لإدراك ما الذي يريده منهم، فلئن تبقى بعض الحظوة التي يلقاها المسيحي العربي، من حين إلى آخر، فهي حظوة مشروطة بقدر ما يتخلى فيها عن تميزاته الحضارية والدينية ويتحول إلى أداة طيعة بيد الغرب.
يأتي ملمح اكتشاف المسيحية العربية قدرها ثانية، ومن باب الثورات العربية، بعد تطواف طويل تبيّن لها فيه ألاّ ملجأ من الواقع العربي إلا إليه.